الحياة

أول أيام العيد …

أشعة الشمس تغيب — في ذلك الصباح الباكر — وراء البنايات المحيطة بالمكان، وتغيب الملامح الحقيقية. في مواجهة محطة الترام مستشفى دار إسماعيل للولادة، تلاصقها مقابر العامود.

الحياة تجاور الموت.

جهاز الراديو في دكان بائع العصير، على ناصية الميدان، يضعنا — بالأغنيات التي يعلو بها — في قلب المناسبة. ليست أغنيات بذاتها، لكنها عن العيد، وللعيد: القرنفل لعبد الحليم حافظ وفاطمة علي … الحلوة دي قامت تعجن م البدرية لشافية أحمد … الورد جميل لأم كلثوم … يا صباح الخير ياللي معانا لأم كلثوم أيضًا … أغنيات اعتادت الإذاعة تقديمها في صباح ذلك اليوم، وألفتها — في ترددي على مقابر العامود — على مدى ثلاثة أعوام، أو أربعة.

يمسك أبي برُسْغينا — أخي وأنا — ويمضي إلي داخل المقابر. رائحة التراب تتصاعد بحركة أقدامنا، وعلى الجانبين أحواش مفتوحة، ومغلقة، وشواهد رخامية، ونبات صبار، وقارئو قرآن، ومتسولون.

يقف أبي أمام باب منزوع المصراعين، عليه لافتة: مدفن حسن جبريل.

يلقي أبي السلام على الصمت، ويدخل.

الفناء الصغير أشبه بصالة مكشوفة، والجدران تساقط طلاؤها، وتآكلت بتأثير ملوحة البحر القريب، وموضع النافذة خلا إلا من الحلق الخشبي. الشاهد الحجري — أعرف أن أمي ترقد تحته — يتوسط الفناء. يدور أبي من حوله وهو يردد الفاتحة وقصار السور، ونحن نكتفي بالتطلع الساكن.

يتجه أبي ناحية الباب. يطيل الوقوف في المساحة الصغيرة على يمين المدخل. يعيد ترتيب قطع الحجارة التي سجي جثمان أخي الأصغر تحتها، ثم يقرأ الفاتحة وقصار السور.

تبحث يدا أبي عن رُسغينا، ويمضي نحو الباب الخارجي.

يطالعنا الميدان بزحامه، وصخبه، والأغنيات التي يذيعها الراديو، تنقلنا إلى فرحة العيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤