هناك

الشجرة الهائلة — لا أعرف اسمها — تعلو تشابكات أغصانها إلى مستوى النافذة في بيت عمتي بالمنيرة. يترامى — من موضع لا أتبينه — صوت تواشيح دينية وابتهالات.

— هل يوجد مسجد قريب؟

قالت عمتي: هذا مسجل في بيت الشيخ محمد رفعت.

— هل هو جاركم؟

— مسكين … يعاني مرض «الزغطة»، ويسلي وقته بسماع القرآن والتواشيح والابتهالات.

كانت أول مرة أسافر فيها إلى القاهرة بمفردي. لزمت موضعي في المقعد الخشبي بقطار الدرجة الثالثة، أعاني الهواء المحمل بالسخونة من النوافذ المكسورة، والأقدام المدلاة من الأرفف، واختلاط النداءات والصيحات، وزحام الركاب داخل العربة المزدحمة، ورائحة العطن، وأرقب الخضرة المترامية على الجانبين، والبيوت الصغيرة المتناثرة (لم يكن المصريون الخليجيون قد بدأوا في التهام بلادهم بالتبوير والتجريف!) وأعمدة التلغراف المتراجعة.

قالت لي عمتي، وهي تلحظ نظرتي التي تبدو متأملة للشجرة: واضح أن هذه الغرفة أعجبتك.

أردفت، دون أن تنتظر ردًّا: خلاص … هذه هي غرفتك!

أصارحك بأني لم أكن أتأمل الشجرة، ولا أخذت بالي من الغرفة، ولا على ماذا تطل، ولا ماذا تضم من أثاث. كأنها انبثقت في حلم ضبابي غابت تفصيلاته.

كانت مخيلتي هناك، في بحري، مع أبي وإخوتي.

وكان الشعور بالافتقاد يمضني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤