ظالم

وافقت — بلا تردد — على دعوة صديقي — مضى ما يزيد عن الستين عامًا، فنسيت اسمه — إلى حفل غنائي للمطرب الجديد عبد الحليم حافظ في أرض كوتة بالأزاريطة.

أحببت عبد الحليم في أغنياته الأولى: قصيدة صلاح عبد الصبور «منذ عامين التقينا ها هنا»، والأغنيات التي تلتها من كلمات سمير محبوب وألحان محمد الموجي، بالإضافة إلى أغنية «يا تبر سايل بين شطين» — حدثتك عنها — وأغنية «القرنفل» لحن على فراج.

أخذتني المفاجأة عند تقديم مطرب الحفل باستبداله. قدم «المذيع» المطرب القديم كارم محمود.

ما كاد الجمهور يبدي تذمره، حتى اندفعت إلى المسرح الراقصة هيرمين، تبعها كارم محمود، غنى لها «سمرة يا سمرة»، ومع أن هيرمين شقراء، فقد وجد الجمهور في امتزاج الغناء بالرقص ما يمتعه، وعلت التصفيقات المنغَّمة.

عرفت — في اليوم التالي — أن متعهد الحفلات الحاج صدِّيق هو الذي نصح عبد الحليم بالعودة إلى القاهرة. لم تستهوه أغنية «ظالم»، قال إنها تذكره بأغنية محمد عبد الوهاب «أيها الراقدون تحت التراب».

أحب — وما زلت — صوت كارم محمود. دعك من رأي زكريا أحمد بأن صوته مثل الزواج الحلال! تعرفت إليه منذ طفولتي في فيلم «تاكسي حنطور» الذي شاهدته — مع خالي عبد المنعم شمة — في سينما البلدية بدمنهور.

تابعت حفلات يوليو التي قدم يوسف وهبي فقراتها. غنَّى عبد الحليم «صافيني مَرَّة»، و«بتقولِّي بكرة»، و«يا مواعدني بكرة»، وغنَّى «ظالم». لقي تجاوبًا رائعًا مهد لنجاحه في أول فيلمين من بطولته: «أيامنا الحلوة»، و«لحن الوفاء».

إذا كان رأي الحاج صدِّيق قد منع استمتاعي بصوت عبد الحليم في حفل كوتة، فإن أجمل الأصوات ظل في وجداني، لم يذهب عبد الحليم من بالي. اعتبرته مطربي المفضل.

دخلت السينما لمشاهدة فيلم «لحن الوفاء» بطولة عبد الحليم وشادية. وجدت في تصفيق رواد السينما لمقدمة أغنية «على قد الشوق»، كأنه موجه لي. هذا هو المطرب الذي أشفقت عليه لما طرده متعهد الحفلات من الأزاريطة، ثم أثبت أنه أجمل الأصوات.

أثمرت متابعتي لمشوار عبد الحليم الحياتي والفني، دراسة مطولة نشرتها في «الخليج» الإماراتية عن شاب مصري، شكلت حياته — منذ الميلاد إلى الممات — مأساة كاملة، شكلت — فيما بعد — فصلًا في كتابي «ملامح مصرية».

ظللت متابعًا لعبد الحليم، سيرة فنية وحياتية، حتى قرأت نبأ وفاته على وكالات الأنباء.

كنت — أيامها — أحرر جريدة «الوطن» العمانية، وكانت أغنيات عبد الحليم ممنوعة من الإذاعة والتليفزيون. عرفت أن المسئولين في السلطنة عرضوا عليه أن يغني في عيد ميلاد السلطان، فاعتذر. عاقبوه بمنع أغنياته!

اتصلت بمكتب وزير الإعلام. من السخف أن أهمل نبأ وفاة مطرب في قامة عبد الحليم. تلقيت الموافقة قبل أن أرسل مواد الجريدة إلى المطبعة بدقائق: فلتكن المرة الأولى والأخيرة.

لكن التحقيق، الذي أفردت له الصفحة الأخيرة، كان انفراجة الباب. ثم أصبح عبد الحليم حافظ مادة ثابتة في وسائل الإعلام العمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤