دمعة

أتابع أبي وهو يعيد وضع كنكة البن على السبرتاية. لم يعد لتناول القهوة موعد محدد، إنما هي سلسلة متصلة الحلقات. يعيد كوب القهوة إلى الطاولة بجواره، ليبدأ في إعداد كوب جديد. يطيل وقفته في الشرفة المطلة على المينا الشرقية. يمضي إلى المطبخ بخطوات متباطئة. يلقي نظرة دون أن يفعل شيئًا، ويعود. يضيع وقتًا في إدارة مؤشر الراديو، ثم يغلقه. يتنقل بيننا حيث نجلس، أو ننام.

أعرف أنه يعاني ما صرنا إليه.

كانت شقتنا أشبه بفندق للكثيرين من عائلتَي أبي وأمي، هم دائمو التردد عليها، وقضاء الأيام الطويلة معنا، كأن أفراد الأسرة الخمسة قد أصبحوا عشرة، أو أكثر. وكانوا يملَئون البيت بالونس والحياة، ويدخلون مع أبي في مناقشات، ويُظهرون له عظيم الاحترام.

فقد أبي — بتأثير المرض — وظائفه في الشركات الثلاث التي كان يعمل فيها. لم يعد يترك البيت إلا لزيارة الأطباء، وتقلصت موارده المادية إلى حد الندرة. إنما هي رسائل قليلة، يترجمها من لغة إلى أخرى، أنقلها من الشركات إليه، ومنه إلى الشركات، وأعود بقيمة المكافأة في أظرف مغلقة.

تبدَّل الحال.

مشاركاتنا مع الأقارب في صنع الحياة داخل الشقة شحبت تمامًا، كأن إيقاع الحياة لا يعلو إلا بوجودهم. انطوى كلٌّ منا على نفسه، يذاكر، أو يقرأ، أو يتشاغل بما يجده بين يديه، وخلا أبي — مضطرًا — إلى نفسه، لا يجد ما يفعله. يطالع قواميس اللغة للاستزادة — كما كان ينصحنا — من المفردات، يهب وقتًا أطول في قراءة الصحيفة الوحيدة التي استبدلها بالصحف الخمس، ما بين عربية وأجنبية. يعاوده الخوف من تصور الأذى على أيدي من لا نعرفهم، أو لا نصدق أنهم يفعلون ذلك. يعروه الملل، فيفعل ما يدفعنا إلى متابعته بقلق. إذا عرضنا عليه مشكلة تتصل بأحدنا، أو بالبيت، اكتفى بالقول: اتصرفوا. وكان يُظهِر التململ، ويثور بلا مناسبة، فنتركه في حاله — والتعبير له — ونخلو إلى ما ننشغل به. حتى الأغنيات التي كان يتذوقها في الأيام الخوالي، كنا نستمع إليه وهو يدندن بها بصوت متعَب.

مسحت شقيقتي دمعة من عينها، وهي تنصت — في إشفاق — إلى استعادته أغنية صالح عبد الحي:

ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين.

لماذا هذه الأغنية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤