لك حبي

أقف بين أبي وأخي في الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبري. وقفت أمي وأختي للفرجة في نافذة غرفة النوم المجاورة. الشاحنات الإنجليزية القادمة من رأس التين، أو من داخل الدائرة الجمركية، في طريقها إلى خارج الإسكندرية. الناس وقوف على الأرصفة وأبواب الدكاكين والمقاهي، ويُطلُّون من الشرفات والنوافذ والأسطح.

قال أبي: ليست نتائج معاهدة ١٩٣٦م سيئة كلها، ها هم الإنجليز يخرجون.

الأيدي مدلاة على الجانبين، والأفواه صامتة، فلا تعبير عن الوداع، أو حتى إبداء الفرحة بخروج قوات الاحتلال. الصمت السادر ينعكس في الملامح، حيادية متوترة، فيما عدا تعليقات أو شتائم هامسة، ربما خوفًا من أن يبوظ الفرح، مع أن عساكر الإنجليز لا يعرفون العربية.

يعلو صوتٌ من داخل دكان الرويعي الترزي:

بلادي بلادي بلادي … لك حبي وفؤادي.

يكرر الصوت الكلمات بمفرده. يرددها الواقفون من حوله. يمتد انفراج الشفاه بالكلمات، يتسع، تتحرك الأيدي تعبيرًا عن المعنى. يغيب الفهم عن الجنود، وإن انعكس التحول في ارتباكهم. يتبادلون النظرات المتسائلة، القلقة، تتقلص أيديهم على البنادق في توقعٍ لا يدركون بواعثه.

لم يُحدث التصرف رد فعل بين الآلاف على الجانبين. ظلوا حيث هم في النوافذ والشرفات والأسطح، وفي الطريق، وإن لم تَخفُت أصواتهم بالنشيد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤