ألوان

أبيض غار النهار منه …

أتفاءل بالعبارة، يعلو بها صوت محمد عبد الوهاب، في جهاز الكاسيت بسيارة الدكتور جمال الدين (نسيت بقية الاسم).

كنت أجلس إلى جواره، من خلفي اثنان من مؤيدي الدكتور في حملته الانتخابية. جو الصباح الباكر يحيط بنا. معظم النوافذ مغلقة، والمارة قليلون، وعربات الفول على نواصي الشوارع يلتف حولها عمال وصيادون وتلاميذ.

لم تكن لي بالدكتور جمال الدين سابق معرفة، هو أستاذ بكلية العلوم، رشح نفسه لانتخابات مجلس الأمة، ودعا مثقفي بحري إلى تأييده. ولأني وجدت في نفسي مثقفًا يسعى إلى التحقق، فقد اعتبرت مساندة المرشح المثقف وسيلة لإثبات الذات، وأيضًا لتأكيد موقفي، وأن لي توجهًا سياسيًّا.

أمضيت غالبية أيام الحملة الانتخابية في مقر الدكتور جمال الدين؛ شقة بالطابق الأول من بيت في شارع حسن باشا عاصم، بالقرب من قهوة فاروق، خصصها لحفظ كتبه وأدواته العلمية. جعل من إحدى الغرف مخزنًا للمكتب والكتب والأدوات، بينما فُرشت الصالة والغرفتان الباقيتان بالكراسي، ليجلس عليها مؤيدو الدكتور.

أقنعنا الأستاذ الجامعي — وكان يعاني الخجل والارتباك — بأن الانتخابات لها وسائلها التي يجب أن نُعنَى بها. خرجنا في ثلاث مظاهرات على مدى عشرة أيام. أعداد قليلة من المتعلمين، زادت بالأولاد والمتسكعين في شوارع السيالة وحواريها. رددنا هتافًا واحدًا: «إن جيت للحق … جمال أحق». لا أذكر أننا بدَّلنا الهتاف. اكتفينا بترديده كشريط «الأنسر» الذي يخاطب الطالبين بكلمات محددة.

في صبيحة يوم الانتخاب، صحبنا الدكتور جمال الدين في سيارته إلى مراكز الانتخاب. أدار جهاز الكاسيت، فعلا صوت عبد الوهاب بأغنيته الجميلة.

مع أني لا أومن بالسحر، ولا التنجيم، ولا الأعمال التي تقرِّب وتبعد، فإني ورثت عن أبي ميلًا إلى التفاؤل والتشاؤم. إذا ظل الضوء الأخضر، قبل أن أصل بسيارتي إلى الإشارة، فهو يوم طيب. إذا علا صراخ أو صوات من موضع قريب، فذلك أدعى للتشاؤم … وهكذا.

كان عبد الوهاب يقلِّب الألوان في أغنيته.

داخلني يقين بأن اللون الذي ستقف به السيارة أمام أول مركز انتخابي هو الذي سيحدد حظ الدكتور من أصوات الناخبين. ارتحت للون الأبيض. ضايقني اللون الأصفر. عاودتني الراحة في الأحمر … ثم اختلط قلقي وتوقعي بتعليمات الدكتور لنا فيما يجب أن نفعله.

في اليوم التالي، أُعلنَت نتيجة الانتخاب.

تصورت أن اللون الذي أغلق عليه الدكتور جهاز الكاسيت يرفض التفاؤل، ويرفض التشاؤم كذلك. خسر الرجل، وفاز من يمتلكون النفوذ والأموال، وإن استطاع — وهو ما اعتبره أبناء بحري مفاجأة — أن يستعيد تأمينه الانتخابي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤