الفصل الأول

تجاوز علم الجمال: الشعر عند هيدجر

على الرغم من أن التصنيف الجمالي ﻟ «الأدب» تصنيف حديث نسبيًّا، «فمن الحق أن تاريخ تفسير فنون الأدب، بأكمله، قد تحرك وتحول في نطاق الاحتمالات المنطقية المتنوعة التي فتحها مفهوم المحاكاة» (Derrida, Dissemination, p. 187). إن الأدبيَّ محاكاةُ  mimesis (imitation) شيءٍ يبدو واضحًا بذاته، سواء أكان محاكاةَ «واقعٍ»، أم «أفكار»، أم «انفعالات»، أم حتى محاكاة «نفسه» على الطريقة الشكلية.
وقبل البدء في فحص طبيعة هذا التصور وحدوده، لا بد من إيضاح بعض الفروق الأولية. أولًا، المحاكاة و«التمثيل» representation لا يمكن أن يَتَطابَقَا بسهولة. فمناقشة هيدجر اللاحقة التي يهتم فيها بمفهوم المحاكاة، لم يَعد ممكنًا معها ترجمة الكلمة اليونانية mimesis إلى imitation [= تقليد] أو إلى re-presentation [= إعادة تقديم]. وثانيًا، مفهوم «التمثيل» هو نفسه ليس أحادي المعنى. ولأغراض المناقشة الحالية، لعله يمكن التمييز بين معنيين ﻟ «التمثيل».
ونقطة البداية المفيدة تتبع تحليل هيدجر لمصطلح التمثيل في كتاب ديكارت Descartes «التأملات» Meditations، وتأسيسه مبدأ أنا أفكر وأعرف أني أفكر حين أفكر   cogito me cogitare بوصفه أساس الميتافيزيقا الحديثة.
يجري الوصف التقليدي لكتاب «التأملات» على نحو يشبه السطور الآتية: حاول ديكارت أن يقيم المعرفة على أساس يقيني في مقابل هيمنة النزعة الدوجماطيقية والتحيز، ولكي يحقق هذا أَسْلَمَ نفسَه إلى تيار من الشك الراديكالي. وكان السؤال الذي أثاره: هل يوجد أي شيء لا يمكنني أن أشك فيه، ويمكنه أن يعمل بوصفه أساسًا صلبًا راسخًا للمعرفة والحقيقة الواجبة؟ وبعد أن أخْلَى ديكارت نفسَه من اليقينيات الظاهرة على اختلافها (وجود العالم الخارجي، بل حتى حقائق الرياضيات)، اكتشف مُسَلَّمَتَه الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود  cogito ergo sum بوصفها المُسَلَّمَة الوحيدة الثابتة غير القابلة للشك. فمهما يكن ما أشك فيه، فأنا واعٍ بنفسي وهي تشك: أنا أفكر، ولهذا السبب فوجودي أكيد. والحق إنه بقدر ما تكون عملية الشك — من أولها إلى آخرها — طريقة تفكير، فلن تستطيع أي نزعة شكية أن تهز الكوجيتو. وحتى إذا اعتراني جنون مُطبِقٌ فسأظل أفكر، ولا بد أني أوجد. ويخلص ديكارت إلى أنه إذا كان العلم سيُقام على طريقِ يقينٍ مضمون، فيجب أن تحقق كل فرضياته وقضاياه الدليلَ نفسَه غير القابل للشك، بوصفه نقطة البداية البدهية تلك.
وتُعد قراءة هيدجر الأدق (وإن كانت قابلة للتحدي) أكثر تَرَوِّيًا من الملخص المعتاد لديكارت. ويمكن إجمال تحليله تخطيطيًّا استنادًا إلى كتابه «نيتشه: العدمية» Nietzsche: Nihilism، المجلد الرابع من أعماله الكاملة، في أربع نقاط على النحو الآتي:
  • أولاً: الكوجيتو عملية تمثيل مفهومة بشكل صحيح. ولا يمكن ترجمته وتعريفه تعريفًا محدودًا بأنه «تفكير»، حتى بالطريقة التي يمكن بها النظر عادةً إلى ديكارت بوصفه «عقلانيًّا» في تواريخ الفلسفة، يختزل كل المدركات الحسية والمشاعر … إلخ، إلى طرائق تفكير. يقول هيدجر: «في فقرات مهمة، يقوم ديكارت بإحلال تعبير المعرفة أو الفَهْم من خلال  percipere (per-capio) محل تعبير معرفتي بأني أفكر حين أفكر  cogitare، حتى يمتلك الشيءَ أو يستولي عليه، بمعنى أن يقدمه إلى نفسه بإحضاره أمام نفسه: تمثيله» (Nietzsche: vol. Four: Nihilism, pp. 104-5).
  • ثانيًا: ومن ثَم، لا تعني معرفتي بأني أفكر حين أفكر «تفكيرًا» فقط، وإنما تعني «أن أُقدِّم لنفسي ما يمكن تقديمه» (Nietzsche: vol. Four: Nihilism, p. 105)، أيضًا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعرفتي بأني أفكر حين أفكر/فعل التمثيل cogitare/representing هي نفسها الأمر الأحق، عندما يكون التقديم مضمونًا من وراء الشك: «معرفتي بأني أفكر حين أفكر هي دائمًا «تفكير» بمعنى «التروِّي»، ويسمح التروِّي — الذي يفكر على هذا النحو — بأن يَدَعَ ما لا يقبل الشك فقط، لكي يمر بوصفه الثابت المحكم المُمثَّل تمثيلًا صحيحًا» (Nietzsche: vol. Four: Nihilism, p. 105-6) ولذا، يُعد فعل الشك، من حيث هو مظهر مألوف في التأمل الديكارتي، أصيلًا في التمثيل بوصفه إجراءً آمنًا واستيعابًا. ويُوجَّه التفكير المتروِّي نحو الثابت الذي لا يقبل الشك. والتمثيل — من حيث هو معرفتي بأني أفكر حين أفكر — لا يمنح شيئًا صفةَ الحقيقة وهو لا يحظى بمنزلة اليقين عند إدراكه أو قياسه. وتجد مظاهرُ منهجية العلم الحديث الرئيسية أساسَها الفكري هنا.
  • ثالثًا: كل تمثيل لأي شيء هو في الأصل تمثيل ﻟ «نفسي»؛ فمعرفتي بأني أفكر حين أفكر هي معرفتي أنا بأني أفكر حين أفكر  cogitare is cogitare me cogitare. التمثيل هو في الأساس «تمثيل-«الذات»». لكن «الذات» لا يجري تمثيلها أساسًا على نحو ما يجري تمثيل موضوع كالمائدة أو الكرسي. فعلى خلاف المائدة أو الكرسي (ويضرب هيدجر مثلًا بكاتدرائية فرايبورج Freiburg)، ليست الذاتُ موضوعًا ينتصب مواجهًا في عملية التمثيل (a Gegenstand). فاﻟ «أنا» منسجمة انسجامًا جوهريًّا:
    «في الحدس المباشر لشيء، عند كل إحضار، عند كل تذكُّر، عند كل توقُّع، ما يُمثَّل بهذه الطريقة عبر التمثيل يُمثَّل لي، موضوعًا أمامي، وبهذه الطريقة لا أصبح أنا نفسي — في واقع الحال — موضوعَ فعل التمثيل بل أكون حاضرًا «إلى نفسي» في فعل التمثيل الموضوعي، والحق إنه في هذا الفعل وحده أحضر إلى نفسي» (Nietzsche: vol. Four: Nihilism, p. 107).
    وإذا كان هيدجر لا يستعمل مصطلح «انعكاسي» reflexive ليشير إلى محايثة اﻟ أنا  ego في التمثيل؛ فلأن اﻟ أنا يُمثل على نحو مشترك بطريقة متميزة. اﻟ أنا متضمنة «سلفًا، لا نتيجة لاحقة»، بوصفها شرط التمثيل. الوعي بالموضوع وعي بالذات على نحو أصيل والوعي بالذات هو الأساس الفعلي لكل عملية تمثيل. هكذا، تظهر الأنا بوصفها ذاتَ  subject فعلِ التمثيل: الذات فاعل  (Nietzsche: vol. Four: Nihilism, p. 108). ويلحظ هيدجر أن هذه «الذات» — بوصفها ترجمة لكلمة hypo-keimenon [= الجوهر الأساسي] — لا تنطوي على علاقة أصيلة بالوعي الإنساني. ويُقصَد بها في الأصل «ما يستتر ويَبقى عند الأساس، ما يكمن أمام نفسِه» (Nietzsche: Vol. Four: Nihilism, p. 96)، ذلك الذي يحتفظ بهُويته خلف سماته المختلفة مهما كان. وقد تحققت هذه الوظيفة التأسيسية عبر تصورات متباينة سابقة على الميتافيزيقا الحديثة؛ فمن منظور أرسطو، الذات جوهر. ولو جاز التوسع بعد ديكارت لقلنا إن الوعي و«الذات» أصبَحَا مترادفين.
  • رابعًا: يشتمل الكوجيتو بما هو تمثيل على «الشعور» و«الإحساس» و«الخيال» … إلخ. وهذه التصورات أصيلة كلها في الميتافيزيقا الديكارتية، بقدر ما يتناسب كلٌّ منها مع نوع الموضوع الذي يظهر إلى الذات (واقعي، مثالي، نفسي). ويبدو التعارض المفترَض بين التجريبية والعقلانية تعارضًا سطحيًّا حين يوضع جنبًا إلى جنبِ تعريفٍ دقيق ﻟ التمثيل، يشرحها جميعًا. ومن ثَم، سيكون «الانفعال» و«التخيل» و«التلقي الجمالي» كله طرائق تمثيل.

ويمكن استخلاص تعريف التمثيل هذا، باقتباس موجز من هيدجر:

«معرفتي بأني أفكر حين أفكر هي فعل تمثيل بالمعنى الأتم الأكمل … ويجب أن نجمع في الفكر الأساسيات الآتية: العلاقة بما يُمثَّل، والتقديم الذاتي لما يُمثَّل، والوصول إلى المشهد، ومشاركة مَن يُمثِّل مع ما يُمثَّل في التمثيل ومن خلاله» (Nietzsche: Vol. Four: Nihilism, p. 109).
ولعله من المناسب، الآن، الانتقال إلى التمثيل بمعناه الشائع الأعم.
من الممكن تلخيص مشكلات «التمثيل» — بمعناه غير التخصصي — في حِزَم فلسفية من قبيل: «كيف تعكس اللغةُ الواقعَ؟» أو «كيف يربط الفكر بين العالم والوعي البشري؟» فالتمثيل يشير إلى مشكلة علاقة الذات بالموضوع والتوفيق بين ما يُفهَم على أنه طرائق وجود متعارضة (مثلًا، «الوعي» من جهة، و«الأشياء المادية» من جهة أخرى). ومن الواضح أن التمثيل بهذا المعنى ظاهرة مصاحبة لتصوُّرٍ أعقد.
وعلى هذا، لا يمكن تقديم عمل هيدجر عن اللغة الشعرية بوصفه عملًا يثير تساؤلات عن المرجعية أو «الخيال» أو «تمثيل الواقع» أو غيرها من «مشكلات في نظرية الأدبي». فهو عمل ينشغل ﺑ التمثيل، في معناه الدقيق بالأحرى، انشغالًا يَتقوَّض بمقتضاه أي أساس عام واضح يمكن أن تقوم عليه مناقشة عن التمثيل بمعناه الشائع الأعم. وإن إحدى النتائج المترتبة على ذلك، أن يصبح الشعر  Dichtung عند هيدجر جانبًا من التفكر ضد علم الجمال نفسه لا جانبًا من التفكر «في» علم الجمال.
في المجلد الأول من أعمال هيدجر الكاملة وعنوانه «نيتشه: إرادة القوة بوصفها فنًّا» (Nietzsche: Vol. One: The Will to Power as Art)، تتضح من القسم المعنون ﺑ «ستة تطورات رئيسية في تاريخ علم الجمال» (Six Basic Developments in the History of Aesthetics)، أسبابُ ضرورة أن يكون الأمر كذلك:
«والآن، فبما أن العمل الفني يُعرَّف — في النظر الجمالي إلى الفن — بأنه الجميل الذي يُنتَج في الفن، فإنه يُمثَّل بوصفه حامل الجميل ومثيرًا له في علاقته بحالتنا الشعورية. يتموضع العمل الفني بوصفه «موضوعًا» ﻟ «الذات»؛ والحاسم في النظر الجمالي هو علاقة الذات/الموضوع بوصفها علاقة شعورية في حقيقة الأمر» (Nietzsche: Vol. One: The Will to Power as Art, p. 78).
ولكي يؤسِّس الشعر تجاوزًا لعلم الجمال، لا بد أن يشتمل على الخصائص الآتية: (١) عليه أن يكون شيئًا آخر سوى أن يكون موضوعًا للوعي. ومن ثَم (٢) لا يُوجِّه نفسَه إلى الذات بالمعنى ما بعد الديكارتي. و(٣) لا يصدر عن فعل تقوم به أي ذات. ولسنا في حاجة إلى القول إن هذه المطالب ثقيلة.
لقد ألحق هيدجر على نحو كلاسيكي نسبيًّا (يمكن مقارنته بمناقشات هيجل Hegel في كتابه عن «علم الجمال» Aesthetics)١ سؤالَ «الفن» بسؤال «الحقيقة» وجعله تابعًا له. وتعمل هذه العلاقة القديمة بين الفن والحقيقة على فصل الفن عن تصورات «الشعور» و«العبقرية المبدعة» و«الوعي الجمالي»، وهي التصورات الاختزالية السائدة في تراث علم الجمال الكانطي الجديد. فوَصَف هيدجر الشعر بأنه الطريقة التي «تحدُث» بها الحقيقة.
وهذا الكلام عن «حدوث» الحقيقة سيكون كلامًا بلا معنى، لو فهم أحدنا «الحقيقة» على أنها تطابق عبارة خبرية مع شيء موجود في الواقع، فعبارة «القطة على السجادة» تكون إما صادقة أو كاذبة (داخل السياق الذي تُقال فيه)؛ فهي لا تعبر عن حدث من أي نوع. ولكن تصوُّر الحقيقة هذا — بما هي صحة القول — يمكن فَهْمه من حيث هو وظيفة التمثيل بمعناه الدقيق. وفي هذا التصور، يَتخفَّى — هكذا يقول هيدجر — تصوُّرٌ أشد أصالة عن «الحقيقة» يتضح من الكلمة اليونانية أليثيا  aletheia، وتُعد كلمة truth [= حقيقة] الترجمة المقبولة لها. ولكن حرف الألفا [أول حروف الهجاء اليونانية] في كلمة «أ–ليثيا  A-letheia» يقترح ترجمة بديلة هي unconcealment [= «عدم الخفاء»] أو dis-closure [= «الكشف»]، وليس truth [= «الحقيقة»] بوصفها صحة التمثيل، بل (lethe) absence of concealment [= «غياب الخفاء»]. إذا لم يُظهِر الشيءُ نفسَه أو يكشفها بما هي عليه، فلن يصبح موضوعًا لأي تمثيل ومن ثَم شيئًا «حقيقيًّا» بمعنى الصحة.
واهتداءً بتحليل هيدجر للكلمتين الألمانيتين schein [= الظاهر، المظهر الخارجي] وscheinen [= الظهور، البُدُو] في كتابيه «الوجود والزمان» (Being and Time, pp. 51–5) (١٩٢٧م)، و«مقدمة إلى الميتافيزيقا» (١٩٥٣م)،٢ قد تجلو الكلمةُ الإنجليزية appearance [= ظهور]، جلاءً وافيًا، هذا التفرعَ الثنائي إلى «الحقيقة» و«الأليثيا». قد يعني «الظهورُ» (١) «ظهورًا»، شيئًا يظهر، كائنًا أو ظاهرة. وقد يعني (٢) «المظهرَ الخارجي» semblance بمعنى الصورة الخادعة، أي الشيء الذي يَتخفَّى أو يخدع، ويمكنه التمثُّل والظهور بمظهر زائف. ولكنَّ هذين المعنيين لا يوجدان إلا على أساس معنى ثالث، (٣) ألا وهو «الظهور» (أو «فعل الظهور») بمعنى العرْض أو الظهور بوجه عام. وتعني كلمة phaenomenon في اليونانية «ذلك الذي يعْرض نفسَه ويُظهرها». وإذا لم يوجد ظهور/عرْض بوجه عام فليس من الممكن التفكير في أي ظواهر، ويقينًا لا توجد ظواهر وهمية. فالأمر أمر عرْض غير محدَّد نسبيًّا، يتساوى فيه «المظهر الخارجي» و«الموضوعية» بقدر ما يظهر كلاهما فحسب. ويُعد هذا الحقل السيَّال شرطًا سابقًا للإدراك الحسي والتمثيل، ويتحدَّى الطريقة التي يغدو معها «الواقعُ» — بعد ديكارت — مرادفًا لليقين. وهذا المعنى الثالث للظهور أقرب إلى الأليثيا في تفسير هيدجر علمَ الظهور phenomenology الكامن في اللغة اليونانية القديمة. وعن الكلمة اليونانية phainesthai [= يبدو بُدُوًّا]، يلاحظ أحد المتحاورين، في «محاورة عن اللغة» A Dialogue on Language (١٩٥٩م) (On the Way to Language, pp. 1–54):
«أن اليونانيين أولُ مَن جربوا الظواهر  phainomena وفكروا فيها بوصفها ظواهر phenomena. وكان من الغريب على اليونانيين غرابة تامة، في تلك التجربة، أن يجعلوا من الموجودات الحاضرة كيانات موضوعية تنتصب مقابلةً لهم؛ إذ تعني كلمة phainesthai عندهم أن كائنًا يُشرق ويَسطع. وبذلك الإشراق والسطوع يظهر ويبدو. ويظل هذا الظهور السمة الأساسية لكل الموجودات الحاضرة، فهي تُسفِر عن نفسها بزوال احتجابها» (On the Way to Language, p. 38).
وبالقدر نفسه، لعله من الزيف نقل المشكلات الحديثة في فلسفة الإدراك الحسي أو التمثيل إلى الفكر اليوناني القديم. ففي ذلك الفكر، لا يواجه الإنسانُ العالمَ، بل الأصح أن الظواهر نفسها تلقاه بانكشافها له وزوال احتجابها.
ويلاحظ دريدا، أيضًا، أنه لا يوجد في اليونانية القديمة كلمة تعادل كلمة representation [= التمثيل] بمعناها الحديث.٣ ومع ذلك، ليس الغرض الضمني في هذه المحاورة العودة إلى اليونانيين؛ فالمحاورة تتحدث عن التفكير في «ما كان يفكر فيه اليونانيون بطريقتهم اليونانية المميِّزة لهم» (p. 39). وينطبق الحال نفسه — مثلًا — على الكلمة اليونانية المهمة mimesis [= المحاكاة]، وهي الكلمة التي ننتقل إلى الحديث عنها الآن من حيث إنها حاملة تصور يعارض التصور الذي تحمله كلمة التمثيل،٤ بل الأكثر أنها تحدد سياق التمثيل نفسه.
في بدايات مقال «جلسة مزدوجة» The Double Session، يقدم دريدا خلاصة موجزة لوصف هيدجر لتاريخ مفهوم المحاكاة  mimesis ومعناها، من حيث هي الإطار الذي كان يجري على أساسه، وضمنه، تحديد تصور الأدب باستمرار. أولًا، يلخص دريدا مفهوم المحاكاة الذي أعطاه هيدجر امتيازًا في تفسيره الفينومينولوجي لليونانية القديمة:
«حتى قبل أن تُترجَم كلمة mimesis إلى imitation، كانت تدل على تقديم الشيء نفسه وعرْضه، تقديم الطبيعة nature وعرْضها، تقديم الفيزيس [الطبيعة] physis التي تُسفِر عن نفسها، وتولد نفسَها بنفسها، وتَظهر (إلى نفسها) على النحو الذي هي عليه في الواقع، بحضورها إلى صورتها ومظهرها المرئي ووجهها» (Dissemination, p. 193).
وتتطابق المحاكاة، المعتبرة على هذا النحو، مع تصور الحقيقة بوصفها أليثيا: إزالة غطاء، فعل ظهور بسيط لما يحضر في ظهوره. والحق إن هذه البساطة — كما يبين هيدجر — ليست بسيطة (انظر أدناه). وثانيًا، يشير دريدا إلى معنى المحاكاة  mimesis الأكثر اعتيادًا، ألا وهو التقليد imitation. وبقدر ما يكون المعنى الضمني في هذا التصور هو التقليد — أو إعادة تقديم re-presentation شيء موجود سلفًا بطريقة ظاهرة — فلن يمكن التفكير في معنى المحاكاة التقليدي إلا على الأساس الكامن في المحاكاة بوصفها ظهورًا.
ولتوظيف هذه الاستراتيجية التي ستغدو أمرًا حتميًّا كلما تقدمت هذه الدراسة، من الأفضل المضي قدمًا في تحليل هيدجر بالرجوع إلى فعل التفكير وتأمله الذي عرضنا له في الفقرات السابقة، لا بدافع تأكيد ما ينطوي عليه من نتائج، بل بدافع الانتباه إلى المضمَرات الأخرى الفاعلة في عملية التفكير، على نحو يُمكِّننا من الإمساك بها. حين يستعمل دريدا كلمة واحدة على سبيل التورية أو على سبيل ازدواج المعنى (mimesis/mimesis)، فهو يُحاكي شيئًا شبيهًا بممارسة هيدجر ﻟ «الانعطاف» خارج الفكر التمثيلي، أقصد بذلك التأمل العميق في كلمة «المحاكاة» mimesis على نحو يؤدي إلى استنباط معنيين منها (على الأقل)، ينشأ أولهما (ألا وهو المحاكاة من حيث هي ظهور apparentness) بوصفه فرضًا قبليًّا محجوبًا في المفهوم الآخر عينه (ألا وهو المحاكاة من حيث هي تقليد imitation)، كما لو أن مصطلحَي الظهور والتقليد يحمل أحدهما للآخر علاقة المظهر figure والأساس ground، والغريب هنا أن الأساس يختفي بوصفه مقدمة المظهر. وكما سنرى أدناه، يحرص هيدجر على هذه البنية المزدوِجة المؤلفة من المظهر والأساس، والمظهر بوصفه أساسًا، في تصوره عن اللغة نفسها.
ويرتبط سؤال ماهية اللغة ارتباطًا وثيقًا بما يُسمَّى المنعطف، أو التحول، في فكر هيدجر بعد كتابه «الوجود والزمان» (١٩٢٧م).٥ ففي هذا الكتاب يعالج هيدجر سؤال الوجود عبر تحليل اقتراب الدازاين قبل الانعكاسي من العالم. إذ من خلال أحوال الدازاين واهتماماته المتنوعة يُنار العالمُ وتَظهر الأشياء على ما هي عليه. ولكن مثل هذه الفلسفة، برغم قوتها الراديكالية، لا تنفصل عن النزعة الذاتية الديكارتية كما قد يبدو للوهلة الأولى. فلا يزال الفَهْم قبل الانعكاسي لدى الدازاين جزءًا من الميتافيزيقا المتمركزة حول الذات.٦ إذ يظل «الوجود» يُفهَم على أساس موقف الإنسان من الموجودات (على نحو ما تُعرِّيها اهتماماتنا من تحجُّبها، سواء كانت عملية أو نظرية). ومع ذلك، يَتعيَّن على السؤال الأكثر تأسيسيةً أن يزيح الدازاين عن هذا الموقع المركزي، ويعتني بذلك الانفتاح، أو الانفراج الساطع clearing، الذي من خلاله تَعْرض الموجوداتُ نفسَها، حيث يُوهَب الدازاين عالمًا، فيظهر إلى نفسه على أساس ذلك العالم.
ومع المنعطف، لم يَعد سؤال الوجود والعالَم يتناول الدازاين بوصفه نقطة المرجع المركزية؛ فمقالات هيدجر تشغل نفسَها بانتقال الوجود إلى عالَمٍ عبر اللغة التي لا تُعد في جوهرها أداة بشرية، ولكن الأكثر من هذا أن هيدجر لا يعني ﺑ اللغة  Sprache — من حيث هي «القول» الأصلي — ذلك الحقل الذي هو في العادة موضوع علم اللغة. يقول كوكلمانس:
«يعني هيدجر ﺑ اللغة كل ما [يَحْضُر] من خلاله المعنى إلى دائرة الضوء بطريقة إفصاحية، بِغَضِّ النظر عما إذا كان ذلك يحدث بشكل مادي، بواسطة عبارات اللغة بالمعنى الضيق للمصطلح، أو بواسطة عمل فني، أو مؤسسة اجتماعية أو دينية، وهَلُمَّ جرًّا».٧
إن «العالَم» — المفهوم بوصفه كلية المرجعيات والمعاني الممكنة السارية في ثقافة من الثقافات — لَهو أساسًا وظيفةُ «اللغة» بالمعنى الهيدجري: «فالإنسان والشيء لا يمكن أن «يَرتَبِطَا» ارتباطًا ذا مغزى إلا ضمن حدود العالم الذي يقدم نفسَه إلينا في اللغة ومن خلالها».٨
ويبدو زعم هيدجر بأن «اللغة تتكلم»، لا الإنسان، زعمًا غير معقول للوهلة الأولى. وما من شك في أن هيدجر يزعم أن اللغة يمكن أن تظل بطريقة ما، أو تكون، فعالةً من دون كلام بشري. ومع ذلك، فهي «ليست مجرد نتاج فعل الكلام البشري وثمرته».٩
إن اللغة بوصفها انفراجًا ساطعًا وكشفًا لعالَمٍ هي التي تغزل ضفيرة الوجود والإنسان وكذلك إفصاح الأشياء في عالَمٍ. لذا، تحتل اللغة منزلة متعالية. اللغة هي قول ولغة  Sprache and Sprache (قول وشرط القول؛ مظهر وأساس). ولكن هذه المنزلة «المتعالية» التي تحتلها اللغة مركبة في حد ذاتها، وفي الوقت نفسه موضع شك من بعض النواحي فيما يقول ليفيناس وبلانشو وآخرون. وتُعد طبيعةُ هذه العلاقة بين التجريبي والمتعالي، بين الكلام البشري واللغة المفترض أنها «أصلية»، القضيةَ الرئيسية على امتداد هذه الدراسة بين يدي القارئ.
وعند المجازفة بتبسيط كبير، يمكننا المغامرة بأن العلاقة بين ما يُطلق عليه هيدجر الشعر واللغة — التي تُعد بالمعنى الأعم تمثيلًا؛ هي علاقة «أساس» ﺑ «مظهر»، على شاكلة العلاقة بين شكلَي المحاكاة الأول والثاني، أو شكلَي القول. فمن ناحية أولى، توجد اللغة التي يُنظَر إليها ببساطة على أنها لغة مقلِّدة لما يوجد سلفًا، أو دالة على ما يُوجَد سلفًا، وذلك ضرب من اللغة التي لا تسمح سوى بالاختصار أو الترجمة إلى منطق شكلي. ومن ناحية ثانية، يوجد — فيما يزعم هيدجر — عنصر «شعري» في اللغة يجلب إلى الحضور ما تُسميه اللغةُ قوةً تجلب الظاهر إلى نفسه حتى ينتصب أمامنا من دون احتجاب أو خفاء. والأكثر من هذا أن الناحية الأولى تُعد ثانوية لأنها طريقة اختزالية للناحية الثانية. يقول هيدجر في مقاله «الشيء» The Thing (١٩٥١م) (Poetry, Language, Thought, pp. 165–86): «لا يقدر الإنسان إلا على تمثيل ما قد ظهر من تلقاء نفسه سابقًا، وأظهر نفسَه له في الضوء الذي جلبه معه، وذلك بِغَضِّ النظر عن الكيفية» (Poetry, Language, Thought, p. 171) ولا تُفهَم اللغة أو تُتَصوَّر بوصفها موضوعًا (كما يجري في التصور التمثيلي للغة)، لأنه من خلال اللغة على وجه التحديد تظهر الموضوعات وتقف في انفتاح الحضور. وحين يُنظَر إلى اللغة طبقًا للمعنى الفينومينولوجي (أو اليوناني) للحقيقة من حيث هي أليثيا (كشف) (بما يعارض الحقيقة من حيث هي كفاية التمثيل وملاءمته وتطابقه)؛ لن تدل اللغة كثيرًا بوصفها عرْضًا،١٠ أو بالأحرى بوصفها تَهبُ الظهورَ:
«تتحدث اللغة، بوصفها عرْضًا، حين تُوغِل في كل جوانب الحضور وأشكاله، فتستدعي منها ما يكون حاضرًا لكي يظهر ولكي يخبو. وعلى هذا الأساس، نصغي إلى اللغة بهذه الطريقة، فنتركها تقول قولها saying [Sage] لنا» (On the Way to Language, p. 124).
تستند اللغة التي تُعد إعادة تقديم إلى اللغة بما هي طريقة في الانتماء المتبادل وتُواريها في آنٍ، فتُحْضِر الأشياءَ إلى الوجود، والوجودَ إلى الأشياء. فهي غير مستقلة بنفسها؛ لأنه من دون المظاهر الناتجة عن الاستحضار الأكثر أوليةً لا شيء يمكنه أن يظهر ليصبح — لاحقًا — موضوعَ أي تمثيل. وهي تُواري، ما ظل التصورُ الأداتي للغة بوصفها وسيلة تواصل، لا بمعنى الوهم باستقلالها عن تقديمٍ أكثر أصالةً فحسب، وإنما بمعنى الانقسام الثنائي إلى ذات وموضوع أيضًا، وهو تعارض ينمحي أساسه في «مُكَوِّن» عام (ألا وهو الظهور بوجه عام، إذا جاز التعبير). وإذا استعملنا مجازًا قَلَّ أن يستعمله هيدجر، برغم فائدته، لن تكون اللغة مجرد كيان على مسرح العالم، بل هي نفسها ذلك المسرح، فهي «الفضاء» الذي فيه وحده تصبح الأشياء ظاهرةً. ومن ثَم، تكون «طبيعة» اللغة هي إحداث تقاطع أو تشابك متميز بين ما يتعلق بالموجودات في تَحقُّقها العيني [موجودية الكائنات] ontic وما يتعلق بالوجود  ontological.
ولْنعُد، الآن، إلى الشعر نفسه في تصوُّر هيدجر، الذي يُعد طريقة في اللغة يربطها هيدجر ربطًا حميمًا — مع أشكال بعينها من الفكر — بقوة أساسية في اللغة من حيث هي قول لا يرتبط ارتباطًا بسيطًا، من ثَم، ﺑ «الخيال» fiction أو «الشعر» poetry. كيف يميز هيدجر بين الشعر ومجال الفن والآداب بوجه عام؟ الشعر  Dichtung عند هيدجر أبعد من أن يكون «الشعر» poetry بالمعنى المتعارف عليه، بل هو بالأحرى تصوُّر جديد للشعري يُحوِّل وجودَ اللغة: «اللغة نفسها هي شعر في معناها الأساسي».١١
ويُقِيم هيدجر في محاضراته عن الشعر والفن تسلسلًا هرميًّا ضمنيًّا، بحجة أن طرائق الحضور في غيرهما من الفنون والعمارة والتكنولوجيا يُحددها الكشف الحاصل في اللغة أساسًا. ولعل ما يمكن الإشارة إليه أولًا هنا تلك الأعمال (الحِرَفية أو الأدبية) التي لا تجسد إلا سيادة التشييء في الميتافيزيقا الحديثة: الأعمال التي يُظهِر فيها الوجودُ نفسَه بوصفه «واقعًا»، بوصفه موضوع تمثيل سميوطيقي … إلخ. ففي هذا السياق، يظهر قدْح هيدجر فيما يدعوه «الأدب» في مقاله «ما يُسمى التفكير» What is Called Thinking (١٩٥٤م)، وكذلك قدْحه في الكثير من أعمال الفن الحديث، في غير هذا المقال:١٢
«الناس في كل مكان، تقتفي انحطاط العالم ودماره وزواله الوشيك، وتسجل ذلك. فتنهال علينا روايات تقريرية لا تقدم شيئًا سوى الإغراق في هذا التدهور والانحطاط ومسايرته. هذا النوع من الأدب أيسر من الأدب الذي يقول شيئًا أساسيًّا ويتعمق في التفكير الحقيقي، ناهيك عن أنه أدب يثير الملل حقًّا» (What is Called Thinking, p. 29).
وليس «الأدب» من ذلك النوع سوى إظهار آخر لسيادة ميتافيزيقا الذات، فلا يقدم إلا تمثيلات ورؤى للعالم متنوعة. كما تُعد الطريقة السائدة في قراءة النصوص بوصفها تعبيرًا عن آراء المؤلف ومكانته التاريخية، إنْ لم تكن مغلوطة أو غير مهمة، فيما يرى هيدجر، فهي على الأقل «غير جوهرية». وهيدجر إذ ينتقد الفَهْم التقني أو الأداتي للغة (وهو الفَهْم الذي يجعلها جزءًا من تكنولوجيا الاتصال) ينتقد ضمنًا كذلك علوم اللغة والسيبرنطيقا والذكاء الاصطناعي … إلخ. فهذه المجالات النطاقية — حالها من حال الميتافيزيقا الديكارتية بوجه عام — تُعد مستحيلة من دون المجال الأكثر أوليةً، السابق على الانعكاس، الذي يُربَط به الشعر ربطًا أصيلًا. هذا المجال هو اللغة التي تفتتح «العالم»، وتعطي الأشياءَ مظهرها ومعناها:
«هوميروس Homer، صافو Sappho، بندار Pindar، سوفوكليس Sophocles، هل ما يقدمونه أدب؟ كلا! غير أن تلك هي الطريقة التي يظهرون بها لنا، الطريقة الوحيدة، حتى عندما ننخرط — من خلال التاريخ الأدبي — في إثبات أن هذه الأعمال الشعرية ليست في حقيقة أمرها أدبًا» (What is Called Thinking, p. 29).١٣
ولْنَعُد، الآن، إلى قراءة هيدجر لقصيدة محددة، هي قصيدة جورج تراكل Georg Trakl «مساء شتوي A Winter Evening»، (“Language” (1959), Poetry, Language, Thought, pp. 189–230). في هذه القراءة، يعتني هيدجر اعتناءً بالسطرين الشعريين الآتيين: «اكتست النافذة بندف الثلج المتساقط/وَدَقَّ ناقوس الكنيسة طويلًا يعلن عن صلاة المساء»، فيقول الآتي:
«يُسمِّي الكلامُ وقتَ المساء في الشتاء، فما هذه التسمية؟ هل هي مجرد زخرفة أدبية لموضوعات وأحداث يعرفها كل الناس ويمكن تصويرها بكلمات اللغة: الثلج، الناقوس، النافذة، تساقط المطر، قرع الناقوس؟» (Poetry, Language, Thought, p. 198).

«كلا» بكل تأكيد، فهيدجر يلح على إعطاء اللغة مكانة أنطولوجية:

«فهذه التسمية لا توزِّع نعوتًا، لا ولا هي تعني استعمال كلمات، بل هي دعوة إلى الكلمة. التسمية تدعو وتنادي. والنداء يجعل ما يناديه أقرب. ولكن هذا التقريب لا يجلب ما يناديه ليجعله أقرب إلى ما هو حاضر، فيُوجِد له مكانًا فحسب. الحق أن النداء ينادي. وبذلك يجلب الحضورَ إلى ما لم يكن مدعوًّا من قبل إلى مقام القرب» (Poetry, Language, Thought, p. 198).
من الواضح أن المنادَى لن يصبح حاضرًا على الشاكلة التي تكون بها الأشياء في الغرفة حاضرة في متناول اليد. إذ يلح هيدجر على أن القصيدة لا تصف مساءً شتويًّا يوجد فعليًّا بطريقة من الطرق، لا ولا هي «تحاول أن تبرز المظهر الخارجي لحضور المساء الشتوي فتترك انطباعًا عنه حيث لا يوجد مثل هذا المساء الشتوي» (Poetry, Language, Thought, p. 197). فما نطلق عليه، تقليديًّا، الحالة التخييلية في هذه اللغة، قد آلَ عند هيدجر إلى تصور مستغرب عن «دعوة» و«نداء» إلى «الدُّنُوِّ» و«القرب».
وإذا تحدثنا بطريقة بسيطة، يُسمِّي «القربُ» متضمَّنًا سابقًا على التفكير النظري يشمل الدازاين والعالم، كما وُصِفَا في المقدمة. وبهذه الطريقة، يضطلع الشعر بإحضار الأشياء إلى العالم، والعالم إلى الأشياء: نداء الشعر «يدعو الشيءَ، على نحو يحمل به الشيءُ الإنسانَ على النظر إليه بوصفه شيئًا … فالشيء يكشف الحجاب عن العالم الذي يقيم فيه الشيء» (Poetry, Language, Thought, pp. 199-200). وفي الشعر تفعل الأشياء فعْلَها فينا، لا بوصفها موضوعات تبدو للوعي بل بوصفها مدعوَّة — مؤقتًا — إلى «معناها»،١٤ فنفهمها بوصفها إرهاصًا بالرابطة الكلية — نسبيًّا — الأصيلة في عالمٍ يكتسب فيه أي شيء تفرده بمشاركته فيه. ومن ثَم، لا يتعلق هذا «القرب» بمسافة مكانية أو زمنية يمكن قياسها بالياردات أو الساعات. فبمقدور منجزات وسائل الاتصال عن بُعْد الحديثة تقليص المسافة من القارات وإليها على ظهر هذا الكوكب، ولكن هذا التواصل السريع يفتقر إلى معنى «القرب». فليس القرب تصورًا للموجودية بالمرة، يُعيِّن هذا أو ذاك من الموجودات أو العلاقة بينها. إن تعبير القرب تعبير أنطولوجي يتعلق بالوجود، ويُسمِّي — على نحو ينطوي على مفارقة — شيئًا هو الأبعد وقَل أن يُلاحَظ من جهة موجوديته. ولكن هذا بالنسبة إلى هيدجر، يؤسس ما يشكل تعريفًا أساسيًّا للإنسان بوصفه دازاين. وتلخص ملاحظة كوكلمانس تعقيد الأمر، فيقول: «لسنا نحن الذين نفترض سلفًا عدم خفاء الموجودات، بل إن عدم خفاء الموجودات (أي الوجود) يضعنا في حالة تظل معها كل عباراتنا التقريرية ضمن حدود عدم الخفاء».١٥ والقرب الذي به يُوهَب حدثُ عدم الخفاء في العالم هو، على وجه التحديد، «نطاق منفتح» يجب على التمثيل الديكارتي (وبدرجة ما، الدازاين كما أوضحه كتاب «الوجود والزمان») أن يفترضه سلفًا: «يضع التمثيلُ نفسَه في نطاق منفتح يمر من خلاله التمثيل بوصفه تمثيلًا» (Nietzsche: Vol. Four: Nihilism, p. 109). والأكثر من هذا، لا يعني ذلك الافتراضُ القبْلي فرضًا سابقًا لأي مفهوم، بل هو نفسه شرط التمثيل السابق على التمثيل، المُتجاهَل في التمثيل.
ولعل الأكثر استعصاءً في مناقشات هيدجر عن الشعر — لا سيما عند وضع السياق الأنجلوسكسوني في الحسبان — إغراؤها بالتشابه مع صيغ بعينها في الفكر التجريبي. فيُظَن أن هيدجر يرفض الفكر التمثيلي المفاهيمي لصالح العناية بالفكر أو اللغة بوصفهما تجربة؛ إلى درجة أن مُتَرْجِمَ هيدجر، ديفيد كريل، وهو يناقش هيدجر بشأن «الإيقاع»، يبدو منجذبًا إلى هذا التثمين التقليدي ﻟ «العيني» أو «الحي» على حساب «المجرد» أو «المشتق»، وفي مقابله.١٦ والحق إن بعض وصف كريل يبدو انحرافًا بهيدجر إلى مجرد ميتافيزيقا «التجسد» [في المسيحية]؛ وذلكم ما يطلق عليه دريدا «إعادة مواءمة ميتافيزيقية للكتابة في أشد حالاتها نمطيةً وجاذبيةً» (Dissemination, p. 206). وباختصار، القصيدة بوصفها تمثيلًا تفسح المجال للقصيدة بوصفها أداءً. لذا، يستشهد كريل بقول ماكليش MacLeish الشائع: «القصيدة لا تعني/بل تُوجَد»، من دون اعتراف بأن تلك صيغة معروفة في الجماليات الرومانسية. ويواصل كريل قائلًا: «إن المقاطع الشعرية الأولى في قصيدة ماكليش، التي تؤدي وجودَ القصيدة، تُحرض من ثَم على التفكير أكثر مما تُقر نتيجة جازمة!» (p. 31). ويُعد كريل، هنا، نموذجًا على نهج يُسيء — غالبًا — مواءمة هيدجر. ولعل فحص القضية المثارة في عدد مجلة «الحد» Boundary (١٩٧٦م) المكرَّس لهيدجر يثبت ذلك. فمثلًا، بينما يشير آلفين إتش روزنفيلد إلى الخطوات الأولية في رؤية هيدجر للغة، سرعان ما ينتقل إلى وصف شعر دينيس ليفيرتوف Denise Levertov؛ فيؤكد سهولة الدمج بين الصورة الشعرية والوجود. وعن قصيدة ليفيرتوف «تعلُّم الأبجدية من جديد» Relearning the Alphapet (١٩٧٠م)، يقول روزنفيلد «إنها تسجل التجربة الأولى وتبرزها في لحظة الذروة».١٧ وهذا القول أقرب إلى كتاب كولريدج «السيرة الأدبية» Biographia literaria (١٨١٧م) منه إلى مارتن هيدجر. فبينما يؤكد هيدجر الاختلاف بين الموجودي والوجودي، يتغنى روزنفيلد بالوحدة والاندماج:
«بين اللغة والوجود حدود مشتركة: «وجود اللغة» و«لغة الوجود» يندمجان. والشعر هو الذي يوحدهما، فيُقدِّس الوحدة ويحتفي بها، ثم ينسحب من العالم إلى حيث يهجع، حتى يأتي أورفيوس جديد يستدعيه مرة أخرى من مرقده» (p. 546).

وقد كان هذا النوع من تلقي قراءة هيدجر للشعر سببًا رئيسيًّا في عدم استكشاف التقارب بين رؤيتي هيدجر ودريدا للأدبي، حتى سنوات قليلة ماضية. وقد غدا ضروريًّا تأكيد المضامين الراديكالية في عمل هيدجر لمواجهة هذا النوع من التلقي.

كان محور مناقشة هيدجر للميتافيزيقا هو عجزها عن التفكير في الاختلاف بين الوجود والموجود. وعلى نحو أدق، لم يُنظَر إلى وجود الموجود، الذي به تَظهر الأشياءُ، إلا طبقًا لنموذج موجود آخر أو أعلى، مثلًا جوهر وعلة أولى أعلى وجودًا، كما لو كان للعالم طريقة وجود شيء نصادفه في العالم. هكذا، سقط الاختلاف بين الوجود والموجود في غياهب النسيان.

بنية الاختلاف بين الموجودي والوجودي هي بالضرورة بنية أشد تميزًا؛ فالفرق بين الوردة ووجود/ها يثير مشكلة تختلف اختلافًا كليًّا واضحًا عن المشكلة التي يثيرها الاختلاف بين وردة وأخرى، أو بين أي موجودين آخرين، وتنشأ بنية هذا الاختلاف عن الاعتبارات الآتية: أولًا، (في) الوجود وحده، وبه، يمكن أن تحضر الموجودات أو تُوجَد. ثانيًا، الوجود، الذي يُفكر فيه بصرامة على أساس اختلافه عن أي موجود، هو لا شيء، ولا نتمكن من إدراكه على نحو ما ندرك أي موجود. فالكل، إذا جاز التعبير، شيء آخر غير مجموع أجزائه، ولكنه لا يوجد منفصلًا عنها.

وقد أوضح دريدا في الأقسام الأولى من مقالِه «جلسة مزدوجة» ذلك التفاعل الغريب بوصفه «التباسًا أو ازدواجًا في حضور الحاضر ومظهره — ذلك الذي يظهر و إظهاره — في طَية  fold اسم الفاعل» (Dissemination, p. 192). فالوجود بوصفه إظهارًا (بوصفه يختلف عن الموجود الذي يصبح ظاهرًا)، يختفي بالضرورة في انكشاف ذلك الذي يجعله الوجودُ حاضرًا. ينسحب الوجود فلا يصبح حاضرًا، على الرغم من أن بنية الحضور الماثلة أمامنا هو الذي أحدثها. وتلكم، إذن، بنية التصور البسيط المخادع ﻟ المحاكاة  mimesis بوصفها مجيئًا — إلى — انفتاح ذلك الذي يكون ظاهرًا. وترتيبًا على تحليل هيدجر الكلمة اليونانية فوزيس Phusis المرادفة لكلمة الوجود being، لا بد أن يُمرِّر المرءُ، خفيةً، طَيةَ اسم الفاعل إلى مشهد المحاكاة الأول:
«ومن ثَم، المحاكاة هي حركة الفوزيس، حركة طبيعية على نحو ما (بالمعنى غير الاشتقاقي لهذه الكلمة)، لا بد أن يتضاعف من خلالها الفوزيس، بلا خارج وبلا آخر، حتى يقدم ظهوره، حتى يظهر (لنفسه)، حتى يبرز (نفسَه)، حتى يكشف (نفسَه)؛ لكي يظهر من الخفاء الذي يؤثِر به نفسَه؛ لكي يشرق في كشفه» (Dissemination, p. 193).
وكما توحي الأقواس السابقة، فالوجود بصفته كشفًا هو — على وجه التحديد — ذلك الذي لا يظهر في ذلك الذي ينكشف (الموجودات). ومن ثَم، ينطوي الحضور أو الكشف — بمفارقةٍ — على بنية انسحاب. ﻓ فيما ينكشف يُمْحَى الكشفُ نفسُه.
وعلى هذا النحو، تشارك اللغة — التي تُعد طريقة في تمرير الوجود إلى الموجودات — في بنية الكشف أو الإظهار التي لن تغدو هي نفسها شيئًا. وعلى وجه التحديد، في كشف شيء مادي يُمحَى فعلُ الإظهار فيما يصبح ظاهرًا. ولن تصبح اللغة — بوصفها طريقة في الحضور — موضوع تمثيل بسيط. إنها أفق متعالٍ. ولذا، نظل — فيما يقول هيدجر في مقالِه «طريق اللغة» (١٩٥٩م) (The Way of Language, pp. 111–36) — «موكولين إلى الوجود في اللغة، وضمن حدودها، فلا نقدر على الخطو خارجها والنظر إليها من أي موضع آخر سواها» (The Way of Language, p. 134) وبالإضافة إلى ذلك، يُعد «نداء» الشعر و«أمْره» — بوصفه ندائيًّا آمِرًا – طريقتين في اللغة تتأبَّيان على المعالجة الفلسفية الشاملة — تقريبًا — التي ترى اللغةَ كما لو أن طبيعتها وصفية تقريرية فحسب. فماهية اللغة ليست شكلًا تقريريًّا، بل انفتاح على رنين وشيجة من العلاقات والمعاني التي تظهر من «الواقع» و«الإنسان». تضطلع اللغة بالاختلاف بين الموجودي والوجودي الذي فيه تنتصب الأشياء منكشفةً في وجودها عبر اللغة. ولكن كلمة «منكشفة» هي بالضرورة كلمة معقدة إلى حد كبير. وإذا استعملنا مصطلحات دريدا في مقاله «جلسة مزدوجة» لأمكننا وصف بنية الاختلاف بين الموجودي والوجودي بأنها «طَية». يصبح الموجود ظاهرًا في الظهور (الوجود) الذي ينسحب في بنية المحو بوصفها رجوعًا عن الطي. واللغة نفسها طَية هذه البنية التي فيها تَسحب نفسَها فلا تَظهر بوصفها موضوعًا وهي تحمل موجودًا على المجيء إلى الحضور. ويخبرنا مقال «طبيعة اللغة» The Nature of Language (١٩٥٩م) (The Way of Language, pp. 57–108) بالآتي:
«يوجد دليل على أن الطبيعة الجوهرية للغة تتأبَّى بشكل قاطع على التعبير عن نفسها بالكلمات: في اللغة، أي بالعبارات التي نستعملها في الحديث عن اللغة. وما دامت اللغة تحجب طبيعتها، بهذا المعنى، في كل مرة، فإن هذا الحجب من طبيعة اللغة حقًّا» (The Way of Language, p. 81).
ولذا، فإن أي اهتمام مفاهيميٍّ باللغة يجب التخلي عنه منذ البداية؛ «فنحن لا نتحدث اللغة وكفى، بل نتحدث بطريقتها» (The Way of Language, p. 81). والسؤال الأهم: إلى أين تفضي بنا هذه «الانعطافة» خارج الفكر التمثيلي؟ وما طرائق التماسك الأخرى، «الأعمق»، التي تحكم الفكر، ما إن نتجاوز الأشكال النسقية المنطقية؟ يكمن اقتراح هيدجر في أن الأمر كله يتعلق، في المقام الأول، بتحويل اللغة نفسها وتحويل علاقتنا بها؛ على أنه من الضروري — قبل كل شيء — أن نتعلم عدم محاولة جَعْل اللغة موضوعًا أو شيئًا، وأن نتعلم طريقة الانتباه الفينومينولوجي اليقظ لها: تَرْك اللغة تُوجَد:
«بدلًا من تفسير اللغة وإيضاحها بوصفها هذا الشيء أو ذاك، فنبتعد حينئذٍ عنها، يحملنا الطريقُ إلى اللغة على تَرْك اللغة أن نجربها من حيث هي لغة. وليكن معلومًا أنه من الممكن، في طبيعة اللغة، إدراك اللغة نفسها من الناحية المفاهيمية، لكن ما سندركه شيء آخر غير اللغة نفسها» (The Way of Language, p. 119).
والانتباه إلى اللغة، بهذا المعنى، هو الإصغاء إلى ندائها أو أمْرها؛ إلى قولها عن الاختلاف الذي به يُحمَل العالمُ والشيءُ أحدهما إلى الآخر، ويُجْعَل به أحدهما منتميًا إلى الآخر في حركة الكشف بوصفه انسحابًا. ومن ثَم، يفترض هيدجر أن الشعر طريقة في اللغة لا نستطيع اختراعها بأنفسنا، وإنما بمستطاعنا الإصغاء إليه بوصفه تَرْك اللغة تُوجَد، وبوصفه أيضًا ترك الوجود يجيء أو العالم، وذلكم هو الانفتاح الذي يجد الوعيُ نفسَه داخله.
وهذا التفسير للغة الشعرية بوصفها طريقة في إحضار العالم إلى الكشف هو الذي يقال دائمًا تقريبًا عند الحديث عن هيدجر والشعر. ولكن بالرجوع إلى العديد من مقالات هيدجر عن الشعراء، بعد قراءة — لنقل — الحديث عن الشعر في «أصل العمل الفني» The Origin of the Work of Art (محاضرة عام ١٩٣٥م)، نجد شيئًا غير متوقع. فغالبًا لا نجد وصفًا تفصيليًّا لطريقة انبساط العالم في الشعر أو من خلاله (كما نرى في وصفه المساء الشتوي في قصيدة تراكل). فعِوضًا عن ذلك، يقرأ هيدجر القصيدة على نحو يؤسِّس شكلًا من التأويل الانعكاسي، أعني من جهة ما تؤديه القصيدة للشعر نفسه. فَهَمُّه الشاغل حركةُ الانتماء المتبادل في الشعر، وليس أي عالم يُجلَب إليه.
في مقالِه عن قصيدة شتيفان جورجه Stefan George، وعنوانها «الكلمة» The Word، (“Words” 1959, The Way of Language, pp. 139–56)، يروي هيدجر تجربة معاناة جورجه مع اللغة، تجربةً تَعلمَ فيها «التخلي» بوصفه موقفًا أصيلًا يقفه الشاعر. ويتبين أن «الكنز» الذي يبحث عنه الشاعر داخل القصيدة ليس شيئًا سوى الكلمة أو الشعر نفسه. وبشكل ينطوي على مفارقة، لا يكون هذا الكنز ثمينًا إلا بقدر تخلي الشاعر عن أي محاولة لامتلاكه، عن وضع «الكلمات تحت تصرفه بوصفها أسماء تُصور ما هو مُقدر سلفًا» (The Way of Language, p. 147). والحق إن جورجه يتعلم قوة — وضرورة — «الانعطاف» إلى نداء اللغة نفسها: «وحدها الكلمة التي تحت تصرفنا تهب الشيءَ وجودًا» (The Way of Language, p. 141). وفيما يقول هيدجر، يشهد على فعالية هذا التخلي قوةُ قصيدة جورجه نفسها، فهي ليست قصيدة عن اللغة التي يجب التخلي عنها، وإنما هي غنائية أيضًا، غنائية حركة التخلي نفسها:
«لا بد أن تعاني العلاقة بالكلمة أيضًا تحويلًا. فالقول يحقق إفصاحًا مختلفًا، لحنًا مختلفًا، نغمة مختلفة. والقصيدة نفسها التي تتحدث عن التخلي تشهد على أن الشاعر يجرب التخلي بهذا المعنى: عبر التغني بالتخلي. لذا، فهذه القصيدة غنائية» (The Way of Language, p. 147).
ويرجع افتتان هيدجر الشديد بهولدرلن Hölderlin إلى فَهْمه شعرَ هولدرلن بوصفه طريقة في التخلي بما هو غنائية. يفضل هيدجر هولدرلن، لأن شعره يتناسب تناسبًا فريدًا مع التفكير العميق في ماهية الشعر، لا بوصفه مسألة في علم الشعر، بل بوصفه قولًا شعريًّا عن ماهية الشعر، فذلكم — على وجه التحديد — هَم هولدرلن من الشعر. وبالمثل، فلعل أحد أسباب أن كلمة شعر عند هيدجر كلمة مراوغة على هذا النحو، راجع غالبًا إلى أنها تُفسَّر تفسيرًا دقيقًا على أنها شعر الشعر   Dichtung of Dichtung؛ كما هو الحال حين يقيم هيدجر هولدرلن على أنه شاعر الشعراء المفترَض، الذي يتحدث شعريًّا عن ماهية الشعر (لاحِظْ تكرار صيغة المضاف إليه). وعلى فرض أن الشعر لا يمكن تصوُّره مفاهيميًّا من دون اختزاله إلى ما يجعله ممكنًا، فإن هذه الاستراتيجية — التي يظهر للوهلة الأولى أنها مميزة — تبدو الخيار الأصيل الوحيد عندما يكون التفكير مدخلًا إلى الشعر.
يُسمِّي الشعرُ شيئًا لا يمكن وصفه من دون اللجوء المستمر إلى صيغ النفي؛ فهو ليس لغة وظيفية بالمعنى التصويري أو التمثيلي من أي نوع كان، لا ولا هو منطوق أي مؤلف كان. وحتى لو سلَّمَ أحدنا بأن الإنسان مخترع اللغة، فلا يمكن وصفه بأنه مخترع طبيعة اللغة. «اللغة الشعرية لغة تتحدث بنفسها، لكيلا تقول شيئًا سوى قول اللغة نفسها».١٨
من المفهوم أن يكون كل الشعراء الذين يناقشهم هيدجر يكتبون بالألمانية. ولكن مع الاعتراف بأن هيدجر يشير، أيضًا، إلى صافو Sappho وكُتَّاب يونانيين آخرين فيما يتعلق بالشعر، فإن هذا الامتياز الذي يمنحه هيدجر للألمانية يستدعي، أيضًا، تأكيده أن قدماء الألمان واليونانيين كانت لديهم علاقة حميمة وفريدة بجوهر اللغة نفسها.١٩ وبرغم تحيز هيدجر الواضح، فلا يحتاج هذا التأكيد — فيما أعتقد — إلى نقاش من حيث المبدأ؛ فمحل النقاش في تصور الشعر هو طريقة اللغة التي تلتفت إلى نفسها ﻟ «تقول» ماهيتها، وما من سبب يدعو إلى الاعتقاد في أن أي لغة تاريخية بعينها أكثر «شعريةً» أو أقل من غيرها. ومع ذلك، ليس تأكيد هيدجر المتعلق بالألمانية غير مُمحص فقط، وإنما لا ينفصل عن نزعة القومية الألمانية عنده، كما أوضح فيليب لاكو-لابارت: احتذاء ثقافي باليونانية القديمة التي شكلت أساس ولاء هيدجر الطويل للنازية.٢٠ ولعل أحد الردود على هذه القضايا الهائلة المثارة، هنا، ستكون استدعاء مناقشة موريس بلانشو المتعلقة بأن النصوص التي تؤسِّس شكلًا من الفكر المتعالي فتتكلم عن منابع وجودها، قد صارت سمة مميزة للأدب في القرنين الأخيرين (انظر أدناه). وأما الرد الآخر — المتبع الآن غالبًا — فيقدم تحليلات دقيقة لقراءات هيدجر التي يتناول فيها تراكل وهولدرلن وآخرين. وتلفِت هذه التحليلات الانتباه، عادةً، إلى عُقد المقاومة في نصوص هيدجر، المرتبطة في كثير من الأحيان بسياسة الفيلسوف، إما في مرحلته النازية أو في مرحلة الهدوء المراوغ التي ميزت أعماله المتأخرة.٢١ ولكنني أقترح المضي وراء احتمال ثالث، ألا وهو الوقوف بهيدجر عند هذه النقطة واعتبار ما يقوله عن الشعر مُطبقًا على شاعر لم يناقشه هيدجر. ولأن الفرضية — محل البحث — تركز على الشعر بوصفه شيئًا فاعلًا أبعد من هولدرلن وتراكل وغيرهما، فإن هذه الخطوة (التي يمكن القول إنها مجرد وثبة قام بها بلانشو ودريدا في أعمالهما المتعلقة بالأدبي) تسلط الضوء على القضايا محل النقاش بطريقة مباشرة.
أنتقل الآن إلى نص قصير من نصوص تشارلز توملينسون، بوصفه مثالًا تعليميًّا مبسطًا من اللغة الإنجليزية، ينطوي على مطامح تتوازى مع مطامح قصيدة جورجه من بعض النواحي، ويحمل هذا النص القصير عنوانًا بسيطًا هو «قصيدة».٢٢ ويتألف هذا النص، الذي أقترح استثماره بوصفه حالة اختبار، من خمسة مقاطع شعرية تبدأ على النحو الآتي:

قصيدة

مكان
نافذة
تنظر إلى نفسها
يتواجهان
كلاهما و
بكل طريقة
نقطتان رأسيتان
بين تفاحة خضراء:
مزهرية خضراء
توجد ملاحظتان تمهيديتان ضروريتان قبل النظر في هذا النص بالتفصيل. تتعلق الأولى بأن العناية الهيدجرية ﺑ الشعر لا تعني «القراءة» بأي معنى كان من المعاني التي تحدد تجربة القراءة سيكولوجيًّا. فبقدر ما تكون اللغة موجودية ووجودية، لا تكون كيانًا ولا موضوعًا ممكنًا لأي سيكولوجيا. والأكثر من هذا، يُتجاوَز تصورُ «التجربة» نفسه، على الأقل بمعنى تقديم شيء إلى أي «أنا». وأما الملاحظة الثانية فتتعلق بأنه لا يوجد تفسير.٢٣ فما من شيء يحيل إلى أي مجال آخر في أي محاولة لإخضاع غنائية اللغة لأي مفهوم. فالانتباه إلى حضور اللغة نفسها يعني قراءة قصيدة «قصيدة» على نحو يُبقي نافذتَها مفتوحة كلما أمكن: «نافذة/تنظر إلى نفسها».
ويُعد هذا «الانفتاح» — إعادة توجيه اللاخفاء في اللغة نفسها — تأثيرًا مميزًا ﻟ الشعر. ولعل أحدنا يقارنه بإحدى محاولات هيدجر ضرْب مثل باللغة من حيث هي حدث التمالك المتبادل الذي من خلاله يصير المكان والزمان موجودين. يقول هيدجر: «يمكن القول عن المكان إن المكان يَتَمَاكَن space spaces» (The Way of Language, p. 147). تبدأ قصيدة «قصيدة» على النحو الآتي:
مكان
نافذة
تنظر إلى نفسها
يتواجهان
كلاهما و
بكل طريقة
يفترض الانفتاحُ الخارق والتأثير غير المتمركز الناتج عن هذين المقطعين فعاليةَ الشعر بوصفه طريقة في الانتماء المتبادل. والأكثر من هذا أن المقطعين «كالأغنية» على الأخص، إلى درجة أن شيئًا آخر يحدث بخلاف تمثيل أي موضوع كان. ويوحي العنوان «قصيدة» — الذي يقترب من أن يكون إطنابًا — بمقام يغدو فيه تأثير انفتاح هذين المقطعين هو نفسه مادة القصيدة. وإلى هذا الحد، لن يكون «معنى» اﻟ «قصيدة» وصف مكان، بل أثر القصيدة بوصفه مجانسًا لانفتاح المكان نفسه. ولا يعني الاهتمامُ ﺑ «المكان» جَعْلَه كائنًا وإعادة تقديمه؛ فالمكان نفسه لا يمكن جعله موضوعًا بتلك الطريقة. وبالقدر نفسه، تغدو هيئة اللغة — التي لا تتعلق بالموجودات وحدها — مؤثرة تأثيرًا غير عادي.
ولا بد أن نفرق بشكل قاطع بين «القراءة» المقترحة أعلاه وأي فَهْم مغلوط محتمَل؛ فليس مهمًّا القول إن «معنى» قصيدة «قصيدة» هو نفسها، أو أن معناها هو «الشعر»، الأمر الذي يؤسس إيحائِيَّتها تبعًا لفَهْم هيدجر على هذا الأساس. ومن ثَم، فعند اتباع نموذج «التفكيك» الذي تحدثتُ عنه في المقدمة، ربما يقرأ أحدنا المقاطع الشعرية الأخيرة بوصفها «قصيدة» تمثل نفسَها:
غير مرئي
سريرٌ ونَفَسٌ
شهيق الهواء وزفيره
تحت نسيج عنكبوت
تُرَى خيوطُه بفعل انعكاس الضوء عليه
بلا شائبة تشوبه.
يمكننا فَهْم «بيت العنكبوت» — من حيث هو نص شعري — بوصفه مكانًا ينتمي تبادليًّا، بمعنى جَعْل استتاره مُدرَكًا مفهومًا. ولكن هذا النوع من القراءة الأمثولية allegorical reading لا صلة له بما يقصده هيدجر من الشعر. ﻓ «المعنى» الذي تؤديه القصيدة من حيث العلاقة ﺑ الشعر، ليس مادة تمثيل ذاتي، لا ولا وَهْمًا بمحاكاة صوتية، أو أي مظهر آخر من مظاهر التجربة الذاتية في القراءة. ﻓ «المعنى» لا يزيد عن كونه أداءً لغويًّا؛ وإذا جاز التعبير مرجعًا من دون مشار إليه. والأكثر من هذا وذاك، بقدر ما لا يتمكن أحدنا — فعليًّا — من الإجابة عن السؤال «ما المؤدَّى؟» يظل «الأداء» تعبيرًا غير مقنع، والحاصل، كما لو أن قصيدة «قصيدة» لا تستحضر شيئًا في النهاية سوى استحضارها وحالتها بوصفها غنائية: «نافذة/ تنظر إلى نفسها//يتواجهان/كلاهما و/بكل طريقة»، إذا فهمنا الشعر بوصفه تحقيق الاختلاف بين الموجود والوجود، وانفتاحًا متبادلًا بين العالم والشيء، فقد يمكن قراءة «قصيدة» بوصفها شعر الشعر من جهة أن هذا الانفتاح مباين في حد ذاته لأي موضوع.
وعلى نحو مماثل، يبتعد مشروع تحديد «معنى» الوجود ابتعادًا كاملًا عن أي تصوُّرِ ﻟ «المعنى» متداولٍ في الفلسفة الأنجلوأمريكية. وتماشيًا مع موقف هيدجر العام من الفينومينولوجيا، ليس الأمر قضية فَهْم معنى الظواهر فَهْمًا فعالًا بقدر ما هو تَرْك وجود ذلك الفَهْم يتحدث٢٤ بنفسه في حركة اللغة نحو «ﻓﻌﻠ»ﻬﺎ. يقول هنري بيرولت عن هذا القول:
«هذه اللغة بلا هُوية ولا صوت، كلا ولا هي بالمنسجمة، إنها سيدة نفسها. وما من شيء وراءها لأن كل شيء لا يزال أمامها. فهي تَعْرض من دون برهان، وتعطي من دون تنظيم، تدعو من دون أمْر، وتدل من دون تعيين».٢٥
فبدلًا من أن تدل اللغة على أي شيء، تكون هي المجال الذي ربما ينشأ فيه إمكان أي دلالة. ومن ثَم، ليست «قراءات» هيدجر لهولدرلن وتراكل وآخرين قراءات بالمعنى المتعارف عليه؛ بما أنها تتحاشى الحديث عن حالة نصوصهم لصالح الإنصات والتلقي والصمت. والأكثر من هذا، لا يسعى هذا التلقي إلى المبادرة بشيء من قبيل تأسيس معنى أو تفسير، والاقتياد إليه. إذ يزعم هيدجر أننا مقودون فحسب إلى حيث نوجد حقًّا، ذلك «الدنو» أو «القرب» الذي به يمتلك الدازاين عالمًا، ويظهر إلى نفسه.
وضرورةُ تحاشي أي لغة شارحة أمرٌ ظاهر في الابتكارات الأسلوبية الغريبة في أعمال هيدجر، مع ما تنطوي عليه هذه الابتكارات من تأملات عميقة في عبارات مفتاحية مثل «وجود اللغة: لغة الوجود»، أو تعسفات مجازية من قبيل: world worlds [= العالم يَتعَالم]، أو space spaces [= المكان يَتَماكن]، أو time times [= الزمن يَتزمَّن]. فعبارة من قبيل «المكان يتماكن» ليست عبارة «عن» المكان بأي كيفية وضعية. وإنْ هي إلا محاولة لإدخال أسبقية هبة المكان/الزمن في حدث الوجود من خلال الشعر /بوصفه شعرًا. لذا، يمكن وصف الشعر، بالمعنى الذي شرحه به فيليب لاكو-لابارت، بأنه «الخالص البسيط المتعالي».٢٦ وإذا تَوَخَّيْنَا الدقة، لا ينطوي الشعر المفهوم بهذه الطريقة على طبيعة تلائمه في حد ذاته. ومن ثَم، لا يمكن إخضاعه للسؤال «ما هذا؟» [ما هو؟] what is?؛ فهو لا شيء. إنه إفصاح الموجود في وجوده، وبوساطته يظهر الموجود بوصفه ما يَكونه as what it is. فما يهتم به الشعر في النهاية حالة هذه اﻟ as في حد ذاتها، وما يرتبط بها من مُسَلَّمَات تتكئ عليها كالهُوية والاختلاف والتناقض.
وهنا، يقدم مؤشران إجماليان نفسهما، ويُبرِزان كلاهما الفرق الشاسع بين الشعر [عند هيدجر] والتصورات المتعارف عليها عن الأدبي أو «التجربة الجمالية»،٢٧ سواء أكانت «تجربة» خلق العمل أم «تجربة» تلقيه.
المؤشر الأول: لا يمكن بوضوح وصف الشعر بأنه موضوع قصدي؛ فالتصور الفينومينولوجي للقصدية، وإنْ كان هو نفسه غير قابل للاختزال إلى ثنائية ذات/موضوع، يصون بمقتضى التعريف ثنائيته القطبية. ﻓ الشعر الذي يُعين انفتاح الانفراج الساطع الذي بوساطته يمكن أن يظهر أي موضوع لأي ذات، لا يمكن اختزاله إلى حالة ذلك الذي يجعله ممكنًا.
ويرتبط بذلك ألا ينشأ الشعر عن أي فعل يمنح المعنى، فهو بكل بساطة ليس شيئًا مخلوقًا. الشعر روح حارسة غير بشرية، إذا جاز التعبير، تسري في نشاط الشعراء؛ شيء نتلقاه ولا نعطيه. ومع اختلاف الشروط والأحوال، من اليسير تخيل جمهور من النقاد تعتريه صدمة مزاعم ﮐ «موت المؤلف» في كتابات هيدجر. ولا تكمن أهمية الشعر في دَيْنه للفاعلية الإنسانية فقط، وإنما شيء آخر، أعني حركة النشوة التي يكابد فيها الوعي استعمال تعسفات مجازية من قبيل «المكان يَتماكن»، أو السطور المتنوعة في قصيدة «قصيدة».

ولعله قد اتضح أن إحدى أهم النتائج المترتبة على مناقشة هيدجر، تنقيح الكثير من المصطلحات التقنية المستعملة في تحليل اللغة. فمثلًا، لن يستطيع أحدنا الإشارة إلى الصور البلاغية المفهومة في الكلام («الاستعارة»، «التشبيه»، «المبالغة» … إلخ) من دون التنبيه فورًا إلى أن معناها المضمر في تصور اللغة القائم قد جرى تجاوزه؛ ﻓ «الاستعارة» مثلًا تُعرَّف على وجه التحديد بطريقة تمايزها عن التمثيل الحَرْفي. ومن هنا، استعمالي المتردد لتعبير التعسف المجازي.

ومن ثَم، لا بد أن تقدم أفضليةُ أي «شعرية هيدجرية» مفترَضة، مخططًا لبلاغة الشعر. ومن الواضح أن تعريف هذه البلاغة سيختلف عن التعريفات المتوارثة، حالها في ذلك من حال الأليثيا التي تختلف عن مفهوم الحقيقة بوصفها المطابقة. وعلى بلاغة الشعر هذه، أن تتصدى أيضًا للمناقشات الحديثة التي ترى أن تصوُّرَ الأليثيا تصوُّرٌ خاوٍ. فقد يقول قائل إن الأليثيا عند مقارنتها بتصور الحقيقة من حيث هي مطابقة؛ مبدأ عام يخلو من المعنى. والقضية هنا قضية التعدد. فطبقًا للمفهوم التقليدي، تكمن حقيقة العبارة الخبرية في مدى تطابقها مع الموجودات في الواقع (أي إذا اختلف أي من هذه الموجودات عن وصفه المعطى في العبارة الخبرية فستكون العبارة كاذبة). ومن ثَم، يتساوى بالضرورة تعدد تصور الحقيقة بوصفها التطابق مع تعدد الواقع نفسه بكل تنوعه وفروقه الدقيقة. ومن ناحية أخرى، قد يقول قائل إن الأليثيا — أو «عدم الخفاء» — لا تنطوي على مثل هذا التعدد؛ ﻓ «الظهور» يظل مجرد مبدأ عام. بل يذهب ريتشارد فولن بعيدًا، إلى حد أنه يرى أن «كل ما يتبقى لنا، هو إثبات «العطاء» بطريقة وضعية غير متسامية، أي «الموجودات في مباشرتها» و«الانكشاف بحد ذاته».»٢٨ ومجمل القول، سيَحول قبول رأي فولن دون أي بلاغة مفترَضة ﻟ الشعر حتى قبل أن يوضع تخطيط إجمالي لها؛ إذ ستنطوي كل صورة بلاغية على الإجراء الممل نفسه: عدم الخفاء.
يوجد وجهان للرد على فولن: الأول، يعني القول إن الأليثيا مجرد مبدأ عام الافتراض — بشكل خاطئ — أنها توجد منفصلة عن نطاق الموجودات التي تنكشف، وسابقة عليها، ولكن ما من إنارة أو انفتاح إلا في قيامه في الأشياء أو العمل الفني. ويترتب على ذلك أن الأليثيا ليست في تعددها بأقل من الحقيقة بوصفها تطابقًا: الأليثيا ليست واحدة. غير أنه يمكن القول إن هيدجر لم يفكر في كل هذه المؤديات (انظر أدناه). وثانيًا، لا يوجد شعر واحد. وكما هو حال الصدع أو التشقق  Riss أو الاختلاف نفسه في الاختلاف بين ما يتعلق بالموجود وما يتعلق بالوجود، فكذلك الشعر ليس حاضرًا، وإنما هو الذي يعطي الحضورَ، من دون أن يُدرَك منفصلًا عما حققه. ومن المفترض أن ذلك أساس من الأسس التي يقوم عليها إصرار هيدجر على أن كل لغة هي في الأصل لهجة أو فرع عن لغة أخرى. يقول هيدجر: «من خواص اللغة الإصاتة والجرس والاهتزاز والتأرجح والارتعاش، وتنقل كلماتُ اللغة المنطوقة معنًى» (The Way of Language, p. 98). وسأعود إلى مناقشة قضايا مادية اللغة وتعددها في الفصل الثالث من هذا الكتاب بين يدي القارئ.
وإذا رجعنا، الآن، إلى قضية بلاغة الشعر المفترَضة، سنجد هيدجر في قراءاته يستعمل مصطلحات من قبيل «استعارة» metaphor أو «صورة شعرية» image، ولكنه يتحفظ دائمًا تحفُّظات جديرة بالاعتبار على معانيها المتداولة. وتميل مقالاته عن الشعراء إلى تقطيع النص تقطيعًا متأنيًا، فيتأمله كلمةً كلمةً وعبارةً عبارةً. وتجد هذه الطريقة في القراءة سندًا ضمنيًّا في قسم من مقالِه «ما يُسمَّى التفكير»، حيث يدافع هيدجر عن العمق لدى البقية الباقية من فلاسفة ما قبل سقراط، برغم ما تبدو عليه تراكيبهم من «بدائية» أو تشظية وتشذير لا ترابط فيه. إذ يستعمل هؤلاء الفلاسفة بنيات إردافية٢٩ تتراصف فيها الكلمات على نحو متماسك من دون اللجوء إلى روابط نحوية تضمها إلى بعضها البعض. وتدل على هذه الروابط «المفقودة» — إذا جاز التعبير — علامات الوقف مثل (:) في الطبعات الحديثة لهذه الشذرات، كما هو الحال في شذرة بارمنيدس Parmenides الآتية: «الشيء الضروري: القول تفكير أيضًا: الوجود: يُوجَد». ويؤكد هيدجر هذا الافتقار الظاهر إلى التماسك فيقول: «وأما القول فيتحدث حيثما لا تُوجَد كلمات، في المسافة التي تشير إليها علامات الوقف بين الكلمات» (What is Called Thinking, p. 186). وتقوم قراءات هيدجر للشعر بتشظية النصوص عبر حركة متأنية، الأمر الذي يجعل هذه القراءات إردافية على شاكلة النصوص التي تتناولها؛ فتتمكن من استخلاص قوة «شعرية» مميزة من الكلمات والعبارات المفردة. وتلك طريقة من طرائق الإقامة التأملية مع النص أو «فيه»، على نحو من شأنه جَعْل قراءات هيدجر غامضة غموضًا لا خلاف عليه. كما أن هذه القراءات ترفض ترجمة كلمات النص إلى تعبيرات أعم، الأمر الذي يجعلها مضادة للتعليقات الشارحة من هذه الناحية.
في مقالِه «اللغة في القصيدة» Language in the Poem (١٩٥٣م) (On the Way to Language, pp. 159–98)، يصف هيدجر العلاقة بين صورة (زرقة السماء) عند تراكل وما يسميه تراكل «المقدس» (الذي يمكن قراءته بوصفه هيئة مخصوصة للوجود):
وجه حيواني
يتجمد بزرقة، وقداسة
«ليس اللون الأزرق صورة تشير إلى معنى المقدس. الزرقة نفسها هي المقدس، بفضل عمقها المحتشد الذي يتألق ساطعًا وهو يحجب نفسه» (On the Way to Language, p. 166). وللوهلة الأولى، تبدو الصفة التي تميز زرقة السماء — صفة عمقها الذي يحجب نفسَه بنفسه وتفاعلها الغريب مع الظلمة والإنارة — صورة بلاغية بالمعنى المعتاد لانسحاب الوجود في بنية الكشف/الحجب. فالصورة هنا ليست تمثيلًا بالمعنى الثاني من معنيَي المحاكاة  mimesis، ألا وهو التقليد imitation. ليست السماء صورة توجد على نحو ما توجد بشكل خارجي المادة المرتبطة بها؛ فالأصح أنه عبر هذه الكلمات تظهر بنية السماء الأنطولوجية بكل غموضها. وكما يقول هيدجر عن هولدرلن (في «… على نحو شعري، يقيم الإنسان …» ١٩٥٤م) (Poetry, Language, Thinking, pp. 213–29):
«لا يصف الشاعر مجرد ظهور السماء والأرض. الشاعر ينادي — على مرأى من السماء — ذلك الذي في استتاره الذاتي يتسبب في ظهور ذلك الذي يحجب نفسَه، وبوصفه — حقًّا — ذلك الذي يحجب نفسَه.» (Poetry, Language, Thinking, p. 225)
ولعل القول بوجود شيء ينكشف في هذه اللغة أقل دقة من القول إن السماء تغدو حاضرة بوصفها ظهورًا يحتجب على نحو مُغْوٍ. ولكن ما يُصوَّر هنا — الوجود/الظهور — هو نفسه لا شيء. إنه ليس بأزيد من بنية الاحتجاب الذاتي عينها في عالمٍ يحقق «ذلك الذي في استتاره الذاتي يتسبب في ظهور ذلك الذي يحجب نفسَه، وبوصفه — حقًّا — ذلك الذي يحجب نفسَه.» فالسماء في ظهورها، عبر هذه الكلمات، تكابد فعل الارتعاش في عملية ظهورها عينه. وفي هذا الارتعاش، ما يُكابَد هو معنى الوجود بوصفه ذلك الذي ينسحب في كشفه. «في أشكال الظهور المألوفة، ينادي الشاعرُ الغريبَ، ينادي غيرَ المرئي الذي يفصح عن نفسه حتى يظل على ما يَكونه: مجهولًا» (Poetry, Language, Thinking, p. 225). ومجمل القول، قد ينتهي أحدنا إلى أن الوجود — بوصفه ظهورًا لا بد أن يظل مستترًا غير مرئي في ذلك الذي يجعله ظاهرًا — يُكشَف عنه النقابُ عبر لغة مجازية بمقتضى تفسير بسيط لمعنى المحاكاة  mimesis الأول: التقديم أو العرْض presentation. ولكن هذه النتيجة سطحية لسببين؛ الأول: لا يمكن أن يغدو الوجود نفسه (الظهور) موضوعًا لأي لغة؛ نظرًا إلى أنه على المستوى البنيوي في حالة انسحاب. ومن ثَم، لا يستطيع أحدنا القول إن الشعر يكشف النقاب عن أي معنى للوجود. وثانيًا: اللغة هي نفسها «الوسيط» الذي يحدث فيه هذا الظهور/الحجب. لذا، لا يمكن أن تكون بنية الظهور/الحجب موضوع اللغة؛ والأصح أن المجازات تحقق بنية الظهور/الحجب، وهي نفسها هذه البنية في آنٍ. فاللغة عند هيدجر، كما رأينا، تمنح الحضورَ (بوصفه انسحابًا)، ولا يمكن أن تكون موضوعًا. ومن ثَم، تبدو في بنية لا تتباين عن بنية مَهْواة الانعكاس التكراري  mise-en-abyme التي يهتم بها دريدا،٣٠ فهذه المجازات الشعرية تنخرط في طي الكشف/الحجب على نفسه طيًّا لا توجد فيه لغة ولا وجود إلا بوصفه «عمقًا محتشدًا لا يُشرق إلا وهو يحجب نفسَه» (On the Way to Language, p. 166).
وبدلًا من إعادة تأكيد التصور التقليدي للغة الشعرية بوصفها لغة مستمَدَّةً أنطولوجيًّا من جهة ما يوجد، يصبح من الضروري فَهْم الانعكاس الذي يؤدي إلى بُدُوِّها «الأصلي». ولنتأمل مناقشة هيدجر ﻟ «صورة» البحيرة في قصيدة تراكل «شفق طيفي» Ghostly Twilight. ﻓ «الصورة» لا تُصوِّر، لم تعد تكرارًا ثانويًّا:
على سحابة سوداء، أنت
ثمل بالخَدَر تسافر
عبر بحيرة الليل،
السماء مرصعة بالنجوم
ودائمًا صوت الشقيقة القمري
يبدو عبر ليل شبحي.
(On the Way to Language, p. 169)
من المعتاد القول إن البحيرة «تُصوِّر» سماء الليل. ولكن انعكاسًا غريبًا يحدث من خلال طبيعة الانتماء المتبادل في اللغة: «فطبيعة سماء الليل الحقة هي هذه البحيرة» (On the Way to Language, p. 169). والأكثر من هذا أن ظاهرة الليل المألوفة على ما يُفترَض، في تباينها عن الليل الحاضر إلى نفسه عبر مرآة البحيرة، هي نفسها «ليست سوى صورة أو مكان مزيف يخلو من طبيعة الليل» (On the Way to Language, p. 169). إنها ليست حالة موجود بسيط (الليل) يتضاعف وجوده في الصورة الشعرية، فالأصح أن شيئًا فريدًا تنكشف طبيعته (كوْنه Wesen) على نحو أكثر حقيقيةً في صيرورة التضاعف عبر البحيرة؛ فالصورة لم تَعد تَضاعفًا، بل صورة أصلية بطريقة متميزة. المجاز الأدبي غطاء يخضع لبنية الانسحاب/الكشف الفريدة في معنى المحاكاة  mimesis بوصفها إظهارًا/إخفاءً.
لذا، لم يكن بمستطاع القراءة الهيدجرية — ولن تستطيع — التوصل إلى نتائج عن القصيدة بطريقة الفكر التمثيلي: إثبات أ، نفي ب … إلخ، إذ على الضد من ذلك، لا بد أن يغدو الطريق إلى قضية اللغة تحويلًا لهذا الطريق نفسه. وعليه، ينبغي ألا يتحدث أحدنا بصرامة عن «مفهوم» هيدجري أو «رؤية» هيدجرية ﻟ الشعر تطمس فورًا القضايا محل الرهان. فالقصيدة بوصفها القراءة الهاجعة فيها، تجيء إلى نفسها عبر إزاحة نوعية لعالم المفاهيم والتصورات. إنها تحويل للفكر قد يُسمَّى انتقالًا من «موقع» إلى آخر: «موقع هو الميتافيزيقا، والآخر؟ سنتركه بلا اسم» (On the Way to Language, p. 42).
وإذا كان الشعر يُفهَم بوصفه حركة انتماء متبادل لا يمكن أن تُمثَّل أو تُتصوَّر من دون أن تُحجَب، فما نوع المهمة المتبقية للفكر كي ينجزها، وما طريقة هيدجر أو لغته في عمله؟ إن مسألة العلاقة بين الفكر والشعر، ثم علاقتهما معًا باللغة من حيث هي قول، هي المسألة الأغمض في عمل هيدجر. يشير المعلقون على عمل هيدجر عادةً إلى جزمه الغامض المحير بقُرْب الشعر من الفكر ودُنُو أحدهما من الآخر؛ بمعنى أن «الاثنين يُقيمان وجهًا لوجه أحدهما مع الآخر، ثابتًا أمامه، وقد انجذب إلى قربه» (On the Way to Language, p. 82). إن القرب — بما هو ذلك المكان الذي نوجد فيه حقًّا — هو القول الذي ينتمي إليه الفكر والشعر معًا، وإنْ يكن بطرائق متمايزة على نحو معقد. ولا بد أن يؤدي التفكير في العلاقة والاختلاف بين الشعر والفكر — أو قولهما — إلى طريقة في المناقشة لم تَعد «فلسفية» على نحو يمكن تمييزه، وإنما هي طريقة تُعيد الاتصال بمنابع الفلسفة والشعر معًا. وأعتقد أن هذه القضية قد تحققت على النحو الأتم من خلال إحياء هيدجر شكل الحوار في تأملاته. ولأن الحوار طريقة في اللغة هجينة على نحو متميز، فهو مناسب بشكل فريد لإجراء مواجهة ساخنة بين الفلسفة والأدب. وتُعد قراءة نيتشه للحوار الأفلاطوني مرجعًا أساسيًّا هنا. ففي كتابه «ميلاد التراجيديا» نقرأ أن شكل الحوار «مزيج من كل الأساليب والأشكال الباقية حتى الآن»، و«يتأرجح في منتصف الطريق بين السردي والغنائي والدرامي، بين النثر والشعر».٣١ ولكن ما يبعث على الدهشة أن أوصاف هيدجر الموجزة للحوار لا تتأمل وضعه الإشكالي وحالته التكوينية الهجينة. ويُمسرِح عملُه «حوار عن اللغة بين ياباني ومستعلِم» A Dialogue on Language between a Japanese and an Inquirer (١٩٥٩م) حركةً نقرأها بوصفها استدلالًا مختصرًا على حتمية الحوار بما هو طريقة في التفكير تريد أن تتحاشى معالجة اللغة بوصفها موضوعًا لها. ومن الممكن أن يكون تأمل من هذا القبيل «حديثًا من اللغة» (On the Way to Language, p. 51). ولكن هذا الشكل من الحديث لم يَعد شكلًا مونولوجيًّا يحاول الوصول إلى طريقة في اللغة تدعم الفكر؛ نظرًا إلى أن التفكير نفسه لم يَعد تلفظًا بسيطًا غير منقسم على نفسه. تعود اللغة إلى نفسها، على نحو غير انعكاسي، بوصفها المرسِل والمستقبِل معًا (طبقًا لبنية المظهر والأساس التي أوضحنا معالمها أعلاه).
يبدو الحوار ملائمًا بطريقة مثالية لتصور الفكر على أنه «إنصات إلى» اللغة، وإلى الفكر بوصفه حركة ونشاطًا، في حالة عمل، ما دام الحوار نفسه قائمًا (وذلك على عكس صياغة النتائج المفاهيمية). والحق إن حوارات هيدجر تَستبِق، من هذه الناحية، تصورات بلانشو عن السرد  narrative (ربما على عكس مفاهيم بعينها عن الشعر poetry) بوصفه طريقة حتمية في الإفصاح عن الوجود. الحوار بحد ذاته، منذ بداياته السقراطية، يُحبط النزوع إلى إرادة المعرفة أو استخلاص نتائج. ويتشابه عمل هيدجر «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر» Conversation On a Country Path about Thinking (المنشور أول مرة عام ١٩٥٩م) مع إحدى محاورات أفلاطون التشكُّكية من حيث إن محتواها الوحيد يكمن في حركتها نفسها بوصفها ممارسة إيضاحية تمضي نحو مزيد من إنارة طريق عدم اليقين.
ثمة ثلاثة متحدثين في «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر»، جرى اختيارهم ليمثلوا طرائق تفكير مختلفة: عالِم، باحث، معلم. وتنجذب طرائق التفكير هذه — المترابطة إحداها بالأخرى — إلى فضاء سؤال الوجود العام انجذابًا ملتبسًا متناقضًا. ولأن المحادثةَ الجارية بينهم حوارٌ عن منابع الفكر نفسه، يقل تدريجيًّا تبادل الكلام بين المتحاورين بخصوص القضية المثارة بينهم، ويزيد اهتمامهم أكثر فأكثر بماهية المحادثة نفسها، حيث ينجذب المتحاورون الثلاثة إلى أفق فعل التفكير المشترك بينهم (See What is Called Thinking, p. 179). وبما أن الوجود لا يمكن أن يُقدَّم، تُوصَف القضيةُ محل الحوار — أو بالأحرى محل الأداء في لغة الحوار — بأنها شكل مخصوص من أشكال الانتظار  waiting. هذا الانتظار لازم غير مُتَعدٍّ (بما أن الوجود ليس موضوعًا)، ويجب عليه باستمرار أن يقاطع نفسَه لكي يبدأ من جديد كلما انتقل الحوار من متحدث إلى آخر، وكل تدخل يحدث بغرض الإيضاح يُعيدنا إلى طبيعة الانتظار نفسه؛ الأمر الذي يُبطِل — كل مرة — صياغة مفهوم أو فرضية تحدد طريقة التقدم الوحيدة التي يمكن تصور عملية الحوار على أساسها. وأقتبس، الآن، اقتباسًا طويلًا لأهمية هذا التصور ﻟ الانتظار، بالنسبة إلى مناقشة كتاب بلانشو «الانتظار النسيان» L’attente l’oubli (١٩٦٣م) في الفصل الثاني من الكتاب بين يدي القارئ:
«العالِم: ومن ثَم، لا نستطيع حقًّا وصف ما أسميناه.
المعلم: أي وصف من شأنه أن يُشيِّئَه ويجسده.
الباحث: مع أنه يترك نفسَه يَتسمَّى، وكونه مسمًّى يعني إمكان التفكير في …
المعلم: … لا يكون ذلك إلا إذا لم يَعد التفكير إعادة-تقديم.
العالِم: ولكن ما الذي سيَكونه إذن؟
المعلم: لعلنا نتحرر، الآن، مقتربين من طبيعة التفكير …
الباحث: … من خلال انتظار طبيعته.
المعلم: الانتظار، وهو كذلك؛ لكن ليس الانتظار، لأن الانتظار يربط نفسَه فعليًّا بإعادة-التقديم وبما يُعاد تقديمه.
الباحث: ومع ذلك يسمح الانتظار بالذهاب إلى ذلك؛ أو على الأصح ينبغي أن أقول إن الانتظار يترك فعل إعادة-التقديم بمفرده تمامًا. بل الحق إن الانتظار بلا موضوع.
العالِم: على الرغم من أننا عندما ننتظر، ننتظر دومًا شيئًا من الأشياء.
الباحث: بكل تأكيد، ولكن ما إن نُعِدْ تقديمه لأنفسنا، ونركز على ذلك الذي ننتظره، حتى لا نعود ننتظر حَق الانتظار.
المعلم: في الانتظار نترك ما ننتظره مفتوحًا.
الباحث: لماذا؟
المعلم: لأن الانتظار يحرر نفسَه في الانفتاح …
الباحث: … في امتداد المسافة …
المعلم: … في قُرْبِها يجد الانتظارُ سكنَه الذي يبقى فيه.»
(Conversation On a Country Path about Thinking, pp. 67-8)
تؤدي حركةُ الحوار من متحدث إلى متحدث إنصاتًا إلى القول في اللغة نفسها. ويتغذَّى التفكير على التفاعل مع القول الذي من خلاله ترجع اللغة على نفسها، غالبًا كلمة واحدة، فتؤلف حركة تركيبية يكون تأثيرها إزاحة الكلمة عن معناها المتعارف عليه لصالح القول اللازم غير المتعدي. ومن هنا، يُستعمَل الفعل «ينتظر» استعمالًا جديدًا خاصًّا وغير مُتعدٍّ على حد سواء، فتُعاد كتابته بوصفه نوعًا من الأداء الأنطولوجي. وقد يجوز القول إن ذلك هو مادة اﻟ شعر  verse في المحادثة conversation. كما يشهد تواترُ العبارات غير المكتملة في الحوار على حركة اللغة بطريقة غير جازمة وغير خبرية. وترتيبًا على ذلك، يقع الغموض حيث يجري التفكير، إنْ كان لهذه المسألة معنًى حقًّا. ليس التفكير عملية سيكولوجية تجري في «عقول» المتحاورين ثم تُرسَل إلى التداول. التفكير هو حركة الحوار نفسه، وتحول في اللغة «بالمقلوب»: اللغة تتحدث  die sprache spricht. لذا، يجد المتحاورون الثلاثة أنفسَهم — عند نقطة واحدة — متحيرين في تحديد «مَن» اقترح أولًا كلمة «تحرير» فيما يتعلق بانتظار الفكر اللازم غير المتعدي (p. 71).
المثير للاهتمام أن تأكيد الفكر بوصفه نشاطًا و«رَجْعَةً» أو انعطافًا إلى منابعه، يميل هنا إلى طريقة في التعليم الفلسفي تقوم على الدراما. ومما له علاقة بذلك، تصور أن حركة اللغة في الحوار غير قابلة للترجمة إلى حد ما، وتنجلي هذه الفكرة في الحوار بين «المستعلِم» والمتحدث الياباني والكلمات. فإذا كان التفلسف يعرِض نفسَه دراميًّا، فيقدم نفسَه بنفسه، أو يؤديها، فهو أبعد عن أن يكون تأنقًا لا داعي له في المفاهيم التي من الممكن فَهْمها أو التعبير عنها بطريقة أخرى من طرق الفَهْم أو التعبير. في الحوار نرى أن طبع التفكير، أو الكشف عنه سرديًّا، هو نفسه مادة الفكر الأولية. وها هنا، يجد أحدنا ردًّا دامغًا على وصف دريدا النقدي لما أطلق عليه حنينًا لا مراء فيه عند هيدجر: الأمل في أن يجد الوجود تعبيره الحقيقي بكلمة واحدة (Margins of Philosophy, p. 27).٣٢ إذ على الأصح، يمكن القول إن سرد عدم اليقين وإقراره الضمني أصيلان في هذا الشكل من الفكر؛ حيث نقرأ أن «الطريق المذكور كان هو بذاته مسارَ المحادثة أكثر منه إعادة تقديم موضوعات محددة تحدثنا عنها» (Conversation On a Country Path about Thinking, p. 69).
وبالقدر نفسه، يتجنب هذا النوع من الحوار المطالب الفلسفية التقليدية التي تهدف إلى وضع تعريفات صافية، والتوصل إلى استدلال مهم بارز، وتلافي التناقض الحاد … إلخ، فهناك أشكال أخرى من التماسك والإلزام المتملصة، كلها محل نظر، أي طرائق التماسك التي تخاطر بزراعة ما قد يبدو، ظاهريًّا، مجرد التباس وغموض. ويؤكد مقال هيدجر «ما يُسمَّى التفكير» حوارات أفلاطون التي لا تصل إلى نهاية؛ فهي لا تعرض نفسَها على احتمال قراءة صحيحة أو ثابتة (pp. 71-2). ففي بداية المناقشة نفسها، يؤكد هيدجر أن «كل فكر حقيقي يظل منفتحًا على أكثر من تفسير»، وأن هذا الانفتاح ليس «مجرد بقايا من الأحادية الشكلية المنطقية التي لم تتحقق بعد، والتي نسعى جاهدين إليها، بكل سبيل ممكن، ولا ندركها» (p. 71).
ويجيب هذا الاستثمار الجديد لشكل الحوار عن أسئلة المنهجية المثارة في مقال «بشأن «الحد الفاصل»» Concerning “The line” (١٩٥٦م)،٣٣ حيث يذهب هيدجر إلى أنه لن يوجد تعالٍ، أو حركة أبعد من الميتافيزيقا وما ينشأ عنها من عدمية، إلا إذا حُولت لغة الميتافيزيقا نفسها. ولا يعني ذلك استبعاد كلمات (مثل «التعالي» و«أبعد من») لصالح كلمات أخرى. فليس الموضوعُ تجاوزَ حد افتراضي يفصل طريقة في الفكر عن أخرى، بل تحويل تصور الحد الفاصل نفسه. إذ تخضع اللغة المتعارف عليها لمطالب طريقة أخرى في التماسك:
«لا يتألف معنى اللغة، بأي حال من الأحوال، من مجرد تراكم المعاني الذي ينشأ عشوائيًّا. فاللغة تقوم على لعبة، كلما كُشِفَ عنها بشكل ثري زادت صرامة تقييدها بقاعدة خفية» (p. 105).
ولأن المحادثة تضرب مثالًا، فإن تحول اللغة هذا في الفكر، بينما يحقق الرجْعة، يجب أن يعيد تأكيد نفسه باستمرار في تأملات متكررة حول حركة التحول نفسها، مع الرفض المتكرر لتشييء هذه العلاقة بالتفكير فيها من منظور المترابطات أو الصلات المعطاة سلفًا. وبذلك، لم يَعد الفعل «ينتظر» ينطوي على موضوع، كلا ولا هو فعل من أفعال الوعي الذاتي. الانتظار دخول في علاقة الوجود التي يشكلها بنفسه، وأداء لزمنية علاقة الدازاين غير الخطية بالوجود، وذلك على النحو الذي أجملها به، مثلًا، رودولف جاشيه Rhodolphe Gasché حين قال: «ومن ثَم، لا تكون العلاقة محل تفكير على أساس من ذلك الذي يُحدِثها (الوجود والإنسان)، بل على أساس الوجود بوصفه علاقة» (Les fins de l’homme, p. 140). وعلى نحو مماثل، يبدأ هيدجر مقاله «بشأن «الحد الفاصل»» باستبعاد كلمة «الوجود» بوصفها كلمة تفترض مملكة ربما تُوجَد بعيدًا عن علاقة الإنسان بها، وفي الوقت نفسه تجعل — على نحو فيه مفارقة — هذه العلاقة ممكنة. «إذا كان الاتجاه نحو الوجود ينتمي إلى «الوجود»، وعلى نحو يكون فيه «الوجود» قائمًا على الاتجاه نحو الوجود، فإن «الوجود» ينحل ذائبًا في هذا الاتجاه» (p. 81).
يقترح هيدجر إسقاط مصطلحات مثل «الوجود» و«الإنسان». والوجود تحت علامة شطب، الذي يقترحه هيدجر، لا ينفي تصور «الوجود» بوصفه قائمًا بحد ذاته فحسب، وإنما ينقش بداخله الحدود المتقاطعة لحركة العلاقة نفسها أيضًا، وبالطريقة نفسها، يُستبدَل بحركة تجاوز الحد التحول الطوبولوجي للحد نفسه، في حركة الشطب التي لا تغير اسم (الوجود) فتجعله منطقة لفظية للعلاقة فقط، وإنما تَستبِق أيضًا بطريقة تخطيطية حركة التحريف التركيبي التي تتحول من خلالها اللغةُ في الحوار «الانتظار». يشتمل الحوار على «الوجود» بوصفه علاقة بنفسه (من حيث هو لغة) عبر التحويل الطوبولوجي للحد الفاصل.
وقد ذهب روبرت موجيراور إلى أن الحوار ليس بحد ذاته ممارسة تحويل من هذا النوع، بحجة أن «الحوار بأكمله من تأليف هيدجر».٣٤ ومن الواضح أن هذا الموقف سينكر على الحوارات التي نناقشها هنا شبهها ﺑ فن التوليد السقراطي من حيث طريقة العمل. غير أنه من الممكن الرد على هذا الموقف من جهة اعتبارين؛ الأول: يصف أفلاطون الفكرَ بأنه حوار النفس soul مع نفسها، وهذا معناه التعدد حتى لو كان الحوار يقوم على مُحاوِر واحد.٣٥ ويكتسب تفكك مركزية الوعي هذا مزيدًا من التأكيد في تصور هيدجر القائل إن الدازاين البشري حواري في وجوده، على النحو الذي لا يمكن معه قول وجوده. ولا يكون الدازاين، في وجود/ه، بمعنى أن الوجود يخصه. لذا، وبغضِّ النظر عن قضايا اللغة المعقدة محل النظر هنا، يمكن أن يبدأ هيدجر بالكاد في مشاركة فكرة التأليف التي يستعملها موجيراور، وعلى وجه التحديد تقديم فكر الشخص في شكل من أشكال الخيال. وثانيًا، يُعرَض شكل من أشكال فن التوليد السقراطي بطريقة فاعلة في الحوار، وهو شكل يماثل ما يلمح إليه هيدجر حين يقول في مفتتح مقاله «الزمان والوجود» Time and Being (١٩٦٩م): «ليس الغرض الإنصات إلى سلسلة من العبارات الخبرية، بل تتبع حركة العرض بالأحرى».٣٦ ويتناسب شكل الحوار مع هذه الطريقة في الانتباه تناسبًا ملحوظًا، بسبب اقترابه من الدراما. فشكل الحوار يَستعمل بطريقة منضبطة ما يطلق عليه مانفريد فيستر السمة الجوهرية التي تميز الدراما، ألا وهي الطبيعة الإنجازية في اللغة المؤداة على خشبة المسرح «الحوار الدرامي فعل منطوق».٣٧ والحق إن تخشب محاورات باركلي Berkeley وهيوم Hume وغيرهما من الفلاسفة، ناتج إلى حد كبير عن عدم قدرتهم على أن يُضَمِّنوا في حواراتهم هذا المظهر من اللغة المسرحية أو يستعملوه. ومن ناحية أخرى، تستند محاورة هيدجر إلى هذا المظهر بطريقة جديدة، الأمر الذي يمنح لغتها اقتصادًا ودقة وقوة تذكرنا، ربما، بدراما الانتظار في مسرحية بيكيت «في انتظار جودو» Waiting for Godot (١٩٥٣م) المماثلة على نحو مثير.٣٨ لذا، لا يتأسس فن التوليد السقراطي، هنا، على فكرة أفلاطون عن التذكر، بل على استدعاء طريقة منضبطة في القراءة، نظرًا إلى أن حركة الفكر — محل النظر — تحدث في زمن القراءة. وسيضطر قارئ المحاورات إلى الالتزام بحالة من الانتباه الانعكاسي إلى طريق اللغة نفسها، ذهابًا وإيابًا، الأمر الذي يؤدي إلى إفراغ كلمات بعينها من محتواها المفاهيمي المفترَض سلفًا، وهكذا يشارك في حركة لا تكون اللغة فيها مجرد «فعل» منفرد، بل يكون هذا «الفعل» محدِّد اللغة الوحيد. إنه فعل انفتاح وتكشُّف يمكن معه القول إن «الشكل» و«المحتوى» لا يمكن تمييزهما لولا اقتراب اللغة من فعلها اقترابًا في عملية متجددة باستمرار، من دون توقف ومن دون إغلاق. فالمعلم يقاطع العالِم ليَحول دون تقييد معنى «الانتظار»، ثم يقاطعه الباحث، وهكذا باستمرار. وفي واقع الحال، يستثمر الحوار بشكل متكرر عملية إرداف، كالتي يؤكد وجودها هيدجر عند فلاسفة ما قبل سقراط. وعلى هذا النحو، يعمل الحوار عند هيدجر بوصفه طريقة في التوليد السقراطي، فاعلة وقت قراءته، كل مرة، فيتجاوز الحوار بذلك حدوده الظاهرة بما هو شكل مكتوب.٣٩ وعلى الأقل، ستكون هذه هي القضية المثالية التي سنعود إليها لاحقًا.

•••

لا بد من الاعتراف بوجود حجج قوية تصوغ الشعر الهيدجري بوصفه مظهرًا للغةٍ إما أنها غير موجودة أو قد تُفهَم بطريقة جد مختلفة. وفي الواقع، تنشغل بقية هذه الدراسة، بين يدي القارئ، بمثل هذه الحجج. ولكن قبل الانتقال إلى بلانشو ودريدا، من المهم الرد على انتقادين يُوجَّهان إلى هيدجر، لا سيما ضد تصوره عن الشعر. ويبدو أن هذين الانتقادين ليسا دقيقين، غير أنهما يسمحان بإيضاح بعض التمييزات المهمة. الانتقاد الأول مُفاده أن هيدجر لا يفعل شيئًا سوى إعادة صياغة موقف رومانسي بشأن اللغة الأدبية. أما الانتقاد الثاني فتتضمنه مناقشة جان فرانسوا ليوتار Jean-Francois Lyotard التي يرى فيها أن ما يطلق عليه هيدجر «الوجود» ليس سوى نتيجة من نتائج سمات شكلية بعينها في الخطاب.
ولنبدأ بالانتقاد الأول: تُغري الكثير من الوجوه في الشعر الهيدجري بقراءته على أنه صياغة معدلة لتصور الشعر الرومانسي طورتها الرومانسية الألمانية. وعلى سبيل المثال، يبدو أن أوجست وفريدريش شليجل August and Friedrich Schlegel قد استبقا هيدجر في دفاعهما عن العودة إلى التصورات اليونانية. فبدءًا، يُفهَم الشعر استنادًا إلى علاقته بعمليات الخَلق التي تنتجه (الخيال، و الشعرية  poesis بوصفها الخَلْق نفسه)، لا استنادًا إلى محتواه أو مطابقته لنماذج متوارثة. وتُؤكَّد القصيدة بوصفها تجليًا ﻟ «قصيدة الألوهية الأولى، التي نحن جزء منها وزهرتها اليانعة» (أوجست شليجل).٤٠ وترتيبًا على ذلك، سيتجاوز الشعر الرومانسي، بوصفه شعر الشعر poetry of poetry، الأنواع الأدبية المستقلة كلها وقيود اللغة، لكي يتحدث عن الجوهر المشترك في تلك الأنواع من حيث هو جوهر العالم نفسه، كما سيُفهَم الفرق بين العمل الفلسفي والعمل الفني فَهْمًا جديدًا أيضًا:
«الأورجانون الفلسفي هو الفكر بوصفه نتاج الشعر أو ثمرته، فالفكر عمل (Werk) أو تأليف شعري … وعلى الفلسفة أن تحقق نفسَها، أي تكمل نفسَها وتنجزها وتدركها، بوصفها شعرًا.»٤١
وفي الغالب، يتغاضى المعلقون المعاصرون على عمل هيدجر عن الاختلاف بينه وبين مواقف الرومانسية الألمانية تلك. وحتى جيرالد برونس، على عكس دراسته السابقة عن هيدجر من منظور الأورفية الرومانسية، يمكنه القول إن «الانتماء إلى اللغة يعني أننا نختفي في حدث إخلاء السبيل أمام اللغة بوصفه اختفاءً واعيًا في محله، وكأن المشاركة تُذيب المشاهَدة، أو كأن فعل الكلام يتحول إلى فعل إنصات، أو كأن الراقص تجمح به الرقصة».٤٢ تعني فكرة «إخلاء السبيل» أمام اللغة — كما يصفها برونس — الاقتراب على نحو خطير من الاحتفال الساذج بالوحدة بين القارئ والنص، بين المتفرج والعمل الفني، كما لو أن هيدجر كان يطور نسخة أخرى معدلة من تجاوز الرومانسية لثنائية الذات والموضوع في نشاط أرضيتهما المشتركة.
ثمة عدة نقاط تقترح نفسها ردًّا على هذه القراءة الرومانسية. إذ يكشف عمل هيدجر «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر» عن أن معالجة هيدجر اللغة ﺑ «إخلاء السبيل» أمامها تقتضي نظامًا دقيقًا وعسيرًا. فاللغة أثناء الحوار تتعرض لحركة غير مألوفة تزيحها عن تصورات التمثيل والتواصل، وحتى عن النشاط الانعكاسي أو الوضعي الذي تُفهَم اللغة على أساسه عادةً. لا يختفي المتحاورون في حدث اللغة؛ إذ تتطلب مشاركتهم تتبعًا صارمًا وغير باتٍّ بالضرورة للنطاق غير التمثيلي المؤثر في لغة الحوار نفسها. ومع ذلك، فما دامت اللغة تمحو هذا النطاق أيضًا، فعلى الحوار الذي يمحو نفسَه بنفسه تركيبيًّا أن يجدد نفسَه بنفسه على الدوام. وبطريقة مماثلة، ينبغي ألا نتخذ من التفسير الرومانسي لدى برونس في الدراسة نفسها مستندًا، حيث يفسر على نحو رومانسي الاختلاف بين الفكر المفاهيمي وطريقة الانتباه إلى مطالب الشعر. وأما عن الاختفاء المفترَض للمفكر في «شق طريق من دون تعليل» فيقول برونس: «لقد ابتُدِعَت الفلسفة لتَحُول دون هذا بطبيعة الحال» (p. 173). ولكن هيدجر — على العكس من ذلك — قرأ الفلسفة المتعارف عليها بوصفها تجليًا للوجود (في إطباقه). ويَعبق تفسير برونس بثنائية الضرورة والحرية «الرومانسية» التي لا تصمد أمام الشكوك.٤٣ ولا يفهم هيدجر العلاقة بين الفكر والشعر على هذا النحو؛ فالحوار يَلِج إلى فضاء العلاقة بينهما ويؤكد تفاعلًا يتطلب العناية الخاصة نفسها التي يتطلبها الفكر، فهو يحرر نفسَه ليشق طريق اللغة، فضلًا عن أن الحوار يقاطع نفسَه باستمرار ليُبرِز الحركةَ التي يكابدها ويعطيها شكلًا، وتنتهي هذه المقاطعة بنفسها إلى أن تكون طرفًا في الحوار أو طريقًا للغة التي قد يحررها فعل التفكير إلى مدى أبعد.٤٤ يوجد ترابط كامل بين الشعر والفكر في هذه الحركة نحو «ذلك الذي يتخذ نطاقًا»، حتى عندما يظلان مختلفين أحدهما عن الآخر بحكم الضرورة. وإن تفريغ اللغة المَعنية لهو شكل من أشكال التوقف،٤٥ وكلتا الحركتين أساسيتان لسريان التحول الذاتي.
ولننتقل، الآن، إلى الانتقاد الثاني لتصور هيدجر عن الشعر. يَظهر أن مقاطع قصيدة توملينسون المعنونة ﺑ «قصيدة» مصممة لإنتاج الإحالة في حدها الأدنى المطلق. والحاصل تأثير يبدو أنه يؤكد قدرة اللغة على العرض أو الإشارة، على حين لا يُعرَض ولا يُكشَف أي شيء سوى فضاء الظهور نفسه: «مكان/نافذة/تنظر إلى نفسها». ومن الممكن ربط هذا التأثير بانتقاد هيدجر الذي ألمح إليه بول دي مان في كتابه «أمثولات القراءة».٤٦ ففي أحد الهوامش الطموحة يُلمح دي مان إلى أن محل الرهان الحقيقي في سؤال الوجود عند هيدجر هو «البلاغة» rhetoricity، أو على نحو أفيد «بنية التمثيل الشكلية».٤٧ ومن ثَم، يتحول تفسير هيدجر لكانط ضد هيدجر نفسه. ﻓ الشعر سيهتم «لا بشيء مُمثل وإنما ببنية التمثيل الشكلية في حد ذاتها، فهذه البنية الشكلية هي وحدها التي تُمكن أي شيء من أن يكون مُمثلًا».٤٨
وثمة مناقشة تشبه إلى حد بعيد مناقشة دي مان اقترحها مؤخرًا جان فرنسوا ليوتار، يسعى فيها إلى إعادة صياغة «الاختلاف الأنطولوجي» عند هيدجر ضمن حدود نظرية أفعال الكلام. ثم قام ليوتار بتطوير هذه المناقشة تطويرًا أكمل في كتابه «الخلاف»،٤٩ على الرغم من أنني أستمد اقتباساتي، أحيانًا، من تقديم أكثر إيجازًا لهذه القضايا في عمل آخر.٥٠
وتأتي صياغة ليوتار الجديدة من منظور طبيعة العبارات، التي قد تُفهَم عمومًا على أنها أفعال كلام، على الأقل تماشيًا مع أغراض التفسير الحالي. يلح ليوتار على الحد الذي عنده لا تكون العبارات مجرد تعبيرات تشير إلى تعبيرات أخرى، أو إلى معنى أو مشار إليه؛ فالعبارات هي أيضًا أفعال تحدد ضمنًا موقع قائليها وسامعيها تحديدًا دقيقًا بوصفهم قائلي الرسالة ومستمعيها. ومن ثَم، تضع عبارةٌ من قبيل «ستذهب إلى لندن غدًا» المتحدثَ في موقع السلطة في مواجهة المخاطَب. وأما الطريقة التي يتفوه بها الناطقون بأقوالهم اللاحقة فهي إما أن تدعم هذا الموقع أو تعترض عليه (من قبيل مثلًا: «بالتأكيد، طبعًا»، أو: «مَن أعطاك حق أن تقول لي ما أفعل»، أو: «أَمِن المؤكد أنها فكرة صائبة؟» … إلخ). وبهذا الخصوص، لعله من المهم إيراد المثال الذي يضربه ليوتار، حيث يضع الأمر أو الطلب في سياق جديد له طابع هزلي مضحك: «يصيح الضابط: إلى الأمام! ويقفز خارجًا من الخندق، ثم يصيح الجنود متأثرين: أحسنت! لكن لا تتزحزح».٥١ ليست العبارات، هنا، مجرد رسائل تنتقل من مرسِل إلى مستقبِل. فكل عبارة منها تقدم في آنٍ عالمًا سياقيًّا كاملًا من الإحالات والمعاني، ويبقى المخاطَب والمرسِل رهن الطريقة التي تُتلقى بها العبارة. لذا، يتموقع كل طرف من خلال العبارة نفسها — إذا جاز التعبير — إلى درجة أن أحدنا لا يقدر على تنصيب المتكلم بوصفه أصل العبارة ومصدرها، فالحاصل هو العكس على الأصح:
«ليست العبارة رسالة تنتقل من مرسِل إلى مستقبِل ينفصل عنها. فكلاهما يتموقع أو يُوضَع في العالم الذي تقدمه العبارة، مع مرجعها ومعناها. إن تقديم العبارات بوصفها رسائل هو ما تفعله العبارة.»٥٢
طبقًا لهذه المناقشة، ليس الأمر أو الطلب، (بما هو قول إنجازي) في أصله، أمرًا بسبب سلطة قائله، بل يمتلك قائله السلطة بقدر ما يلعب كلامه دور الأمر. أي إن منزلته بوصفه أمرًا هي وظيفة ارتباطه بقول آخر يحدد موقعه.
ثم يتقدم ليوتار ليُخضع مبدأ التقديم  presentation في العبارات لحركة الفكر التي تشبه — إذا جاز القول مؤقتًا — نظرية الأنماط. وتركز المشكلة هنا على محاولة إدراك نشاط التقديم أو العرض في أي عبارة، ولا يمكن لأحدنا تحقيق هذا الإدراك إلا عن طريق عبارة أخرى تضع العبارة الأولى موضوعًا لها:
«التقديم أو العرض الذي يحتويه التمثيل في الجملة لا يُقدم في العالم الذي تقدمه الجملة. إنه بلا موقع محدد. ولكن حالة جملة أخرى يمكنها أن تعرضه أو تقدمه في عالم آخر، وبذلك تحدد موقعه.»٥٣
وقد أوضح ليوتار هذه العلاقة بين الوضع والمحو في تفسيره تأمل أرسطو عن الزمن كما هو وارد في كتابه «الطبيعة» Physics, IV.٥٤ يقابل ليوتار بين المعضلة المبدئية المتعلقة بحالة الآن أو اللحظة وتعريف أرسطو النهائي للزمن بأنه عدد الحركة من جهة «قبل» و«بعد»؛ بمعنى أنه يرى فكرتنا عن الزمن ناجمة عن قياس التغير الفيزيقي.
تُعد هذه المعضلة، في أساسها، إعادة لإحدى مفارقات زينون Zeno الذائعة المتعلقة بالمكان والزمن. تنشأ المعضلة من محاولة التفكير في الزمن على أساس الآن (nun)، أي بوصفه سلسلة من الآنات الحاضرة التي يعقب بعضها بعضًا. ولكن هذا التفكير ينطوي على نتيجة غريبة تستبعد الزمني استبعادًا تامًّا: زمنية الزمن لا يمكن أن توجد في الآنِ نفسِه، إذ بقدر ما يزول الآنُ يفسح الطريق لآنٍ آخر. ولن تعطي أي سلسلة من الآنات المنفصلة شيئًا بوصفه نموذجًا للزمن. أما مفارقة زينون المتعلقة صراحةً بالزمن، ألا وهي مفارقة «السهم»، فتمضي على النحو الآتي: يرى زينون أن السهم في حركته لا بد أن يكون، في حقيقة أمره، ساكنًا دائمًا. فالسهم في حركته من نقطة إلى أخرى يشغل في الهواء حيزًا يعادل طوله، ولا بد عند تلك اللحظة أن يكون السهم غير متحرك. لذا، لا يمكن تصور الحركة، لأن تصورها يستلزم أمدًا، ولم تَعد اللحظة قيد الاعتبار. وينطبق ذلك بالضرورة على كل لحظة. وعليه، لا يوجد موضع يقال عنده إن السهم يتحرك. فالحركة إما أنها لا تحدث، أو تحدث بطريقة ما بين لحظة وأخرى، أي تحدث في اللازمن. ويُقال إن زينون — تلميذ بارمنيدس — قد استعمل هذه الحجةَ لإثبات أن الزمن والتغير غير حقيقيين وأن كل ما يوجد حقًّا هو «الواحد» One. وكانت مشكلة أرسطو إيضاح الموضع الذي تكون الحجة عنده زائفة.
وتُعيد مناقشة ليوتار صياغة حل أرسطو من منظور نظريته عن العبارات وثنائية التقديم أو العرْض وتحديد الموقع. «الآنُ هو، على وجه الدقة، ما لا يُبقي على نفسه».٥٥ ومن ثَم، تصبح اللحظة — التي لا توجد أبدًا بأي معنًى من معاني الوجود الحاضر — قابلة للتمثُّل وفق نموذج التقديم أو العرض عند ليوتار الذي لا يمكن تمثيله من دون طمسه أو تحديد موقعه في الحركة نفسها. هكذا، لا يُقدَّم أو يُعرَض الحدث تمامًا؛ فهذا الحدث غير الحادث — إذا جاز التعبير — يُلمح بالتبعية أيضًا إلى تصور هيدجر عن الإيرايجينيس٥٦ بوصفه «الحدث» الذي يهب الوجود مع أنه هو نفسه لا يوجد. كل تقديم أو عرض — أو كل آنٍ يُفهَم على هذا النحو — سيكون حدثًا فريدًا ﻟ الوجود ربما لا يُوضَع في تصور أو مفهوم، وانسحابه أصيل فيه. وثانيًا، يزيد ليوتار فيقابل بين المعضلات المتعلقة باللحظة وتعريف أرسطو النهائي للزمن بأنه «عدد حركة». وقد يُفهَم هذا التعريف على أنه مثال لمجال العبارات بوصفها محدَّدة الموقع. في هذا النموذج، تبقى اللحظات بل يُحدَّد موقعها في علاقة إحداها بالأخرى على امتداد تسلسل خطي، أي بوصفها مراجع وصف أشمل، وعلى وجه التحديد يُعرَّف الزمن بأنه قياس التغيُّر.

إن المعنى الضمني في ثنائية ليوتار، التقديم أو العرض وتحديد الموقع، هو أن الاختلاف الأنطولوجي ناتج بتأثير طبيعة العبارات. فما من عرض أو تقديم يمكن تصوره من دون طمس تلك الحركة نفسها، التي تَئول إلى أن تكون موضوعًا محدَّد الموقع لتقديم آخر، وهكذا. ويواصل ليوتار قائلًا إن الوجود– كذلك — لا يعرض نفسَه أو يقدمها إلا بوصفه موجودًا متعينًا، ومن الضروري في الوقت نفسه فَهْم الزمن، لا الموجود المتعين نفسه، بما هو الذي يحجب أو يسحب نفسَه في حركة التجلي (اللاتجلي) هذه بوصفه موجودًا متعينًا:

«يمكن تسمية العرض أو التقديم المتضمن باسم الوجود … فالتقديم الذي يمكن تقديمه بوصفه مثالًا في عالم العبارة [أي: الممحو بوصفه تقديمًا] هو: الوجود من حيث هو كائن. ولكن هذه الجملة نفسها تتضمن تقديمًا لا يقدمه».٥٧
وعلى هذا، يُعد الوجود إشكالًا متولدًا عن بنية التمثيل عينها. إن «الوجود» اسم آخر لما يسميه دي مان «بنية التمثيل الشكلية»، وهو مفترَض سلفًا في أي محاولة لإدراكه ومحذوف منها في آنٍ.٥٨ إنه وَهْم لا يُفترَض وجوده إلا نتيجة علاقة غير قابلة للقياس بين التقديم أو العرض presentation وتحديد الموقع situation.
ثمة أمور على المحك في بعض مؤديات مناقشة ليوتار أكثر مما يبدو للوهلة الأولى. إذا كانت اللغة بوصفها «تقديمًا أو عرضًا»، واللغة بوصفها «تحديد موقع»، غير قابلة للقياس حقًّا، وإذا كانت اللغة لا يمكنها أن «تقول»– إذا جاز التعبير– «فِعْلَها» الخاص، فعندئذٍ لن تغدو معظم أعمال هيدجر وحده لغوًا، بل نصوص بلانشو ودريدا أيضًا التي تتناولها هذه الدراسة بين يدي القارئ. إن بلاغة الشعر المزعومة تهتم على وجه الدقة بالطريقة التي قد «تتكلم» بها القوة الفاعلة الأساسية في اللغة ضمن حدود العالم الذي يجعلها ممكنة (See What is Called Thinking, p. 186)، ويصادق مشروع بلانشو ودريدا — كلٌّ بطريقته — على ذلك.
ويقترح التحليل المتأني لمناقشة ليوتار أمرين؛ الأول: تبدو نظريتُه عن العبارات، في كثير من جوانبها، إعادةَ صياغة لمناقشة هيدجر، وتسند هذه النظريةَ معرفةٌ واسعة بالفلسفة التحليلية. ولكن محاولته تحديد موقع هيدجر — وهذا هو الأمر الثاني — تنطوي على تبسيطات لا تصمد طويلًا. ولكي نبرهن على هذين الأمرين أقترح العودة إلى النص الذي قدمته سابقًا مثلًا على الشعر عند هيدجر، ألا وهو قصيدة توملينسون المعنونة ﺑ «قصيدة». ولْنتناول افتتاحية القصيدة مرة أخرى:
مكان
نافذة
تنظر إلى نفسها

ثمة سؤال يطرح نفسه فورًا على ليوتار. كم عدد العبارات التي نتعامل معها في هذه الكلمات الخمس؟ عبارة في كل سطر؟ أو عبارة لإجمالي المقطع نفسه أم شيء بين ذلك؟ لا يقدم كتاب ليوتار «الخلاف» أي إجابة عن هذا السؤال. إذ يتحدث ليوتار، على طول كتابه، عن العبارات المنفصلة عن بعضها البعض. أما في هذه الكلمات الخمس فأين تنتهي عبارة، وأين يوجد موضع انمحاء تقديم في تقديم آخر، إنْ كان يوجد مثل هذا الموضع؟ أعتقد أن الإجابة انطلاقًا من كتاب «الخلاف» ستكون أن عدد العبارات هنا لن يحدده إلا عبارة أخرى (في شرح القصيدة أو التعليق عليها) ستحدد موقع العبارة (أو العبارات) محل النظر، وهكذا يتقرر عددها على أساس ما تمليه (وينبغي هنا الانتباه إلى تطابق ذلك مع وصف أرسطو للزمن). ولكن، نظرًا إلى أن التأثير الذي تُولِّده السطور الافتتاحية من قصيدة «قصيدة» هو نوع من التأرجح بين ظاهرتي الكشف/الحجب، فإن السؤال الآتي يقدم نفسَه: هل توجد طريقة في القول بعد هذه السطور تتطابق مع فكرة هيدجر عن تَرْك اللغة تُوجَد؟

الحق، ذلكم سؤال قديم عن اللغة الشارحة. وأما عن ليوتار، فبينما قد لا توجد لغة شارحة شاملة ربما تحدد موقع كلية اللغة بأنه موضوع لها، يشتغل التمييز بين اللغة واللغة الشارحة — دومًا — في مناقشته بطريقة أدق وأحذق. ويحتفظ التمايز بين العرض أو التقديم وتحديد الموقع بكل من التفرد المتبادل والاختلاف في نوع اللغة واللغة الشارحة. وما يفعله ليوتار، في واقع الحال، هو مضاعفة هذا الفرق، فتغدو مثل هذه الحركة بين العبارة والعبارة الشارحة — من وجهة نظره — لغة دينامية دائبة الحركة. ومع ذلك، يذهب دريدا في إعادة تأكيد مشروطة لهيدجر إلى أن ماهية اللغة «لا يمكن أن تظهر من خلال أي حالة أخرى غير الحالة الخاصة باللغة نفسها، فتُسمِّيها وتقولها وتهبها للتفكير فيها والحديث عنها». ليست اللغة سلسلة مفتوحة لا تنتهي من العبارات (قياسًا على المجموعات الرياضياتية ذات العلاقات التضمينية المتبادلة)، وإنما على الأصح «تتحدث اللغة بنفسها عن نفسها، وذلك أمر يختلف تمامًا عن التكرار المرآوي الانعكاسي».٥٩ فالحال هو حال تحويل لغوي من دون لغة شارحة (See Parages, p. 57).

ويكشف الفحص الدقيق لنص «قصيدة» عن أن أي فرق بين اللغة واللغة الشارحة — مهما كانت ضآلته — يصير حشوًا عند ترتيب الكلمات ترتيبًا أعقد من أن يتعامل معه ليوتار. «مكان»: إن أثر هذه الكلمة — ككلمة العنوان نفسه (قصيدة) — هو أثر أدنى درجات التحديد والوضوح. فالكلمة لا تحدد شيئًا، بل تعلن صراحةً عن غياب المحتوى، إنها لا تعلن إلا عن مكان. لذا، تغدو الكلمةُ الثانية– على نحو أسبق — أوقعَ في الوصف والتخصيص منها في الأحوال العادية. ولو استعملنا مصطلحات ليوتار، فإن العرْض أو التقديم الحاصل في السطر الأول لا بد أن يفقد إبهامه من خلال الكلمة الثانية التي تحدد موقعه. ولكن شِبْه الفراغ في كلمة «مكان» يصبح شفافيةً «ذات بعدين» تحملها كلمة «نافذة». ثم مرة أخرى، يبدو المحتوى المقدم صفرًا أو لا شيء في الواقع، كما لو أن شاغل خشبة المسرح الوحيد هو الخشبة نفسها وبنيتها في العرض.

«مكان/نافذة/تنظر إلى نفسها»: «النافذة» — بوصفها وسيطًا — لها جانبان وحدود واضحة (داخل وخارج، مُلاحِظ وملحوظ) تتحول في السطر الثالث إلى بُعْد ينطوي على «عمق» غير مستقر وبلا مركز. فتحقق كلمة «نافذة» نوعًا من العودة إلى الانفتاح في كلمة «مكان»، ولكنها في الوقت نفسه تُعقد على نحو معتبر بنيةَ هذا اﻟ «مكان»، كما لو أن هذا اﻟ «مكان» — إذا جاز التعبير — يوجد «داخل» نفسه، ولا بد من الاعتراف بأن هذا التفسير له أثر محدد، حتى وإنْ بدا لغوًا من الناحية المفاهيمية. ويكاد تأثير السطر الثالث (تنظر إلى نفسها) أن يكون — من ثَم — تأثيرًا انعكاسيًّا؛ لأن كلمة «نفسها» لا تعني سوى الحركة الغريبة الموصوفة هنا. والأكثر من هذا أن كلمة «وسيط» غير ملائمة هنا ما دامت كلمة «مكان» هي نفسها وسيط السطر الأخير وموضوعُه (المبهم) في آنٍ. فهي توحي بشيء متوسط، شيء يقع موقعًا «بينيًّا»، وتقريبًا لا يوجد مثل هذا الشيء في هذه الحالة. إن الشعرية المتحققة في نص «قصيدة» ليست إذن تقديمًا أو عرضًا ممحوًّا عند نهاية كل سطر وبداية سطر آخر، بل هي بالأحرى العلاقة نفسها التي يؤثر عبرها كل سطر في الآخر ويقوِّضه في آنٍ، على الأقل بالنظر إلى التمثيل الواضح المحدد. لذا، يحرص السطر الأخير على تجديد إبهام السطر الأول، ويزيد من هذا التأثير المقطعُ الثاني:
مكان
نافذة
تنظر إلى نفسها
يتواجهان
كلاهما و
بكل طريقة
ينجم موطن الضعف في نظرية ليوتار عن تبسيطه الزائد لتفسير هيدجر حدث الانتماء المتبادل في الشعر وهو يؤثر في اللغة. لا يعني الإيرايجينيس ظهور تقديمات جديدة باستمرار يمحو كل منها الآخر أو يحدده أو يضعه في سياق بأثر رجعي («الوجود بوصفه كائنًا» طبقًا لصياغة ليوتار الجديدة). الإيرايجينيس هو علاقة اختلاف ذاتي مستمرة بين شيء وآخر، بين التقديم أو العرض وتحديد الموقع، يقول هيدجر:
«لا ينجم حدث الانتماء المتبادل عن شيء آخر غيره، ولكن تقبل العطاء بعطائه البادي وحده هو ما يعطينا شيئًا مثل «الكائن»؛ وحتى الوجود نفسه يحتاج إلى هذا «الكائن» لكي يصل إلى نفسه بوصفه حضورًا» (On the Way to Language, p. 127).
وليس الشعر طرفًا في الاختلاف الأنطولوجي (الوجود/الموجود)، وإنما هو صدع وتشقق rift (Riss) أو علاقة ذلك الاختلاف نفسه. ولذا، تُعد صياغة ليوتار للطبيعة المزدوِجة في العبارات (التقديم أو العرض/تحديد الموقع) تجسيدًا للاختلاف الأنطولوجي لا يمكن الجزم بسلامته أو عدم جوازه. فالاختلاف الأنطولوجي — بوصفه ذلك القول الذي يربط العالَم بالشيء والشيء بالعالَم في تباينهما — يجب تعريفه من جديد بمصطلحات ليوتار بأنه لعبة العبارات أو حركتها.
وما يثير الدهشة، أكثر من هذا، أن نجد ليوتار يستوعب الإيرايجينيس الهيدجري في معالجته التفسير الأرسطي للزمن، كما لو أن هذا التفسير لم يكن موضوعًا أساسيًّا للنقد منذ كتاب هيدجر «الوجود والزمان» (١٩٢٧م) حتى مقاله «الزمان والوجود» (١٩٦٩م). لا يعني الإيرايجينيس تناميًا مستمرًّا للتقديمات أو العروض حتى عندما يطمس أحدها الآخر. ﻓ الإيرايجينيس لا يمكن وصفه طبقًا لنموذج خطي سواء أكان تعاقبيًّا أم استعاديًّا؛ حيث لم يهتم مقال «الزمان والوجود» إلا بتعدد أبعاد بنية الحضور. لا بد من وضع النموذج الخطي الأساسي الذي يقدمه ليوتار كاريكاتوريًّا إلى جوار هذه الزمنية المعقدة، وهي مقارنة شاقة لا يمكن إجراؤها هنا. ولكن يكفي القول إن تعاقب العبارات خطيًّا، عليه أن يفسح المجال لاحتشاد مواجيد الزمان، وهو احتشاد متعدد الأبعاد لن يلائمه نموذج التعاقب تمامًا.
بالنسبة إلى ليوتار، التقديم أو العرض (١) يعقبه محوُه بوصفه تحديد موقع تقديم آخر (٢) يُمحَى من ثَم، وهكذا تباعًا. ومع ذلك، أوَليست هذه الحالة هي حالة كلمة «مكان» في نص «قصيدة»، فهي تؤثر في كلمة «نافذة» أو تحدد موقع تقديمها، على الأقل بقدر ما تحدد كلمة «نافذة» — بوصفها كلمة إسنادية — موقع كلمة «مكان»، على الرغم من أن كلمة «مكان» تسبقها؟ إن حركة العلاقة نفسها في «بُعديها»، أو في «أبعادها» العديدة، حركة فاعلة عبر نص «قصيدة»، مثلما أنها فاعلة على طول أي مثيل ﻟ الشعر: «يتواجهان/كلاهما و/بكل طريقة».٦٠ ولا يمكن إعمال الفرق بين العبارة والعبارة الشارحة (وهي من ثَم عبارة، وهكذا تباعًا) إعمالًا كاملًا هنا. وأما بالنسبة إلى هيدجر، فيؤدي الحضور في اللغة بنيةَ زمنية معقدة. الشعر حشد لمواجيد الزمان نحو كشف العالَم والشيء. لذا، لا غرابة في أن يصف هيدجر الشعر طبقًا لتصور عن «الإيقاع»، الأمر الذي يؤكد زمنيته.٦١ فاللغة تتطابق مع ماهيتها الشعرية تطابقًا يجعل تدفقها يعود، كرجع الصدى، إلى القول البدئي للانتماء المتبادل نفسه. وعلى سبيل المثال، يغدو «تَخلي» جورجه «تحويلًا ﻟ القول إلى صدى قول يمكن التعبير عنه، يكاد صوته أن يكون مسموعًا، ويكاد أن يكون كأغنية».٦٢
إن تصور «الإيقاع» الذي يقدمه هيدجر فيما يتعلق بشعر تراكل، وفي غيره من المواضع، تصور جديد بطبيعة الحال، ويُفهَم أفضل ما يُفهَم بوصفه شكلًا حواريًّا. وعن المكانة الشعرية التي تحتلها أعمال تراكل، والاختلاف الذي يحدد العالم المؤثر على امتداد شعره، يقول هيدجر:
«انطلاقًا من موقع الجملة تنشأ الموجة التي تُحرك في كل لحظة قولَه بوصفه قولًا شعريًّا. ولكن الموجة في ارتفاعها بدلًا من أن تترك خلفها المكان الذي بدأت منه، تجعل كل حركة يتحركها القول تنساب عائدةً إلى نَبْعها الأخفى أكثر من ذي قبل».٦٣
وختامًا، توظف إعادة صياغة ليوتار للاختلاف الأنطولوجي مناقشة هيدجر عن اللغة بطرائق جديدة، الأمر الذي يفتح بعض الفقرات الرائعة عنده على الفلسفة التحليلية. ولكن ليوتار، في نهاية الأمر، يُبسِّط أفكار هيدجر تبسيطًا غير مقبول. ولا يقدم كتابه «الخلاف» ما بدا أنه قد وعد به من نقد لمفهوم الشعر عند هيدجر.
١  للاطلاع على أوجه الشبه بين هيجل وهيدجر، انظر: Jacques Taminiaux: “Le dépassement heideggérien de l’esthétique et l’héritage de Hegel,” in Recoupements (Brussels: Ousia, 1982), pp. 175–208.
٢  An Introduction to Metaphysics, trans. Ralph Manheim (New Haven: Yale University Press, 1959), pp. 99–104.
٣  “Sending: On Representation,” Social Research, 49 (1982), pp. 294–326, 302.
٤  مع أن هيدجر يكتب كثيرًا عن representation [= تمثيل]، فإن كلمة mimesis [= محاكاة] أقل بروزًا عنده. والمصدر الرئيسي للتمييز بين معنيي كلمة mimesis إجمالًا يأتي من حديث هيدجر عن الفن عند أفلاطون. وفي المجلد الأول من أعماله الكاملة الذي يحمل عنوان Nietzsche: Vol. One: The Will to Power as Art، يذهب هيدجر إلى أن كلمة mimesis لا يمكن فَهْمها بمعزل عن تجربة الأليثيا  aletheia [= زوال الاحتجاب، الكشف]. ففي ضوء هذه التجربة، تُعاد قراءة إدانة أفلاطون سيئة السمعة للشعراء. لا تعني كلمة mimesis — في المقام الأول — «النسخ» copy أو «التقليد» imitation على نحو يفترض مجرد علاقة خارجية سطحية بين أصل وصورة، وإنما تعني — بالأحرى — الطريقة التي يظهر بها الأصلي أو يعرض نفسَه بها، وبذلك يتميز معنى كلمة mimesis عن أي مفهوم حديث (غير يوناني) للتمثيل.
ويذهب أفلاطون — طبقًا للقراءة السائرة — إلى أن الفن يبتعد ثلاث مرات عن الواقع. ففي المرة الأولى يأتي الشيء من خلال فكرته أو مثاله، وهذه الأشكال الفكرية التأملية غير الحسية هي التي تؤسِّس طبيعةَ الكون الجوهرية. وأما المرة الثانية فهي ما يُسمَّى «تقليد» imitation (أو محاكاة mimesis) الأفكار من خلال موضوعات العالم، كالمنضدة أو المنزل مثلًا. وأخيرًا، يقلد الفنان تقليدات المثال هذه، منتِجًا مظهرها الخارجي بالكلمات أو الرسم؛ فما ثمة إلا ظلال الظلال.
ويعطي هيدجر صياغة بسيطة لحجته المقابلة من خلال تأمُّله كلمة idea [= مثال، فكرة]، طبقًا لاستراتيجيته العامة في إعادة إحياء الفينومينولوجيا [علم الظهور] phenomenology عند اليونان الأقدمين. ففي My Way to Phenomenology (1963) ضمن كتابه Time and Being, trans. Joan Stambaugh (New York: Harper & Raw, 1972), pp. 74–82، يقول هيدجر: «كان أرسطو يفكر على نحو أكثر أصالة في ما يحدث لفينومينولوجيا أفعال الوعي من حيث هي تجلي الظواهر ذاتيًّا، وفي كل الفكر والوجود اليوناني، بوصفها أليثيا  aletheia [= كشف، زوال الاحتجاب] … وما تعيد التحقيقات الفينومينولوجية اكتشافه بوصفه موقفًا داعمًا للفكر يُثبت أنه السمة الأساسية للفكر اليوناني، إن لم يكن سمة الفلسفة في حد ذاتها» (p. 79). وترتبط كلمة idea عند اليونان بمعنى الفعل «يرى» to see. فلا تشير ضمنًا إلى «الشكل» أو «الماهية» بالمعنى المعتاد، بل إلى «المظهر الخارجي». فلكي يكون أي شيء ما يَكونه لا بد أن يَعرِض من خلال مثاله أو فكرته  idea ما يَكونه. فإذا كان السرير يُدرَك على أنه سرير، فذلك لأنه يشترك في مثاله أو فكرته مع أسرَّة أخرى، كل منها يُجلِّي فكرته أو مثاله، من خلال طريقة الخشب والمواد الأخرى الداخلة في صنعه. فالسرير محاكاة  mimesis لا بمعنى أنه نسخة، بل بمعنى أنه طريقة تجلي المثال أو الفكرة تجلِّيًا ذاتيًّا. وكذلك، ليس الفن ظل الظل، بل هو طريقة أضعف في المحاكاة بوصفها عرضًا، بمعنى أن الفكرة أو المثال أو «المظهر الخارجي» للسرير يظهر في الرسم واللوحة الزيتية.
وعلى طول هذه الدراسة — التي تهتدي بتحليل دريدا في مقاله “The Double Session” (Dissemination, pp. 175–286) — ينطبق هذا التصور الفينومينولوجي ﻟ المحاكاة  mimesis على تحليل الشعر  Dichtung بطريقة تتجاوز القراءة الخاصة لأفلاطون. ويجد هذا الإجراءُ — كما هو المأمول — تبريرَه في تكثيف المناقشات التي تجعله ممكنًا من دون تبسيط زائد، كما يسمح بتحديد المهم في مناقشة هيدجر لطبيعة التمثيل والتعبير الشعري، وفي الوقت نفسه يسمح — أيضًا — بتسليط الضوء على الخروج المعتبر عن هذين التصورين [التمثيل والتعبير].
وأختلف مع ادعاء فيرونيك فوت Véronique Fot بأن «دريدا يسلم جدلًا بأن التمثيل صورة وضعية»، “Representation and the Image: Between Heidegger, Derrida and Plato,” Man and World, 18 (1985), pp. 65–78, 66.
٥  ربما يظل المنعطفُ Kehre — الذي يمكن تعريفه بأنه رفض بقاء الفلسفة بوصفها فكرًا تأسيسيًّا — مسألةً يحتدم حولها الخلاف عند دراسة هيدجر، لأنه من المشكوك فيه أساسًا مدى نجاح هيدجر في تجنب طرائق الفكر التأسيسية. انظر: Herman Rapaport: Heidegger and Derrida: Reflections on Time and Language (Lincoln, Nebr.: University of Nebraska Press, 1989), pp. 9–14.
٦  See also Rodolphe Gasché, The Tain of the Mirror: Derrida and the Philosophy of Reflection (Cambridge, Mass. And London: Harvard University Press, 1986), p. 85.
٧  Joseph J. Kockelmans, ed., On Heidegger and Language (Evanston, Ill.: Northwestern University Press, 1972), p. xiii.
٨  Kockelmans, “Language, Meaning and Ek-sistence,” in ibid., pp. 3–32, 9.
٩  Ibid., p. 28.
١٠  وعلى الرغم من أن المثال مُبسَّط، فمن الممكن تقديم شيء من هذا «العرض» من حيث عدم قدرة بعض اللغة الشعرية على التعامل مع أشكال النفي. فثمة قصيدة قصيرة لتشارلز توملينسون Charles Tomlinson بعنوان «حدث» Event (1972) — تستثمر عدم القدرة هذا. ومن ديوانه «مكتوب على الماء» Written on Water (Oxford: Oxford University Press, 1972), p. 38 نطالع الآتي: «لا شيء يحدث/لا شيء//قطرة ماء تتناثر في صمت/غِلالة تنداح//وأمام هذا المكان المهجور/طائر/لعله يجرب صوته بلا تروٍّ/ولكن ما من طائر يجرب». ومع ذلك، يغرد الطائر كما «لا يغرد أي طائر». فثمة شيء يظهر في اللغة لا يتأثر بشاعرية «لا». ها هنا، تظهر صورة بسيطة مِن تصوُّر هيدجر المعقد عن الشعر.
١١  Heidegger: “The Origin of the Work of Art” (1935-6), Poetry, Language, Thought, pp. 17–81, 74.
١٢  للاطلاع على ذم هيدجر وآرائه القادحة في كثير من الأعمال الفنية والأدبية الحديثة، انظر: “Only a God Can Save Us,” Der Spiegel’s interview with Martin Heidegger, trans. Maria P. Alter and John D. Caputo, Philosophy Today (Winter 1976), pp. 267–84, 283-4.
١٣  «كلما كان الشاعر أكثر شعريةً، حرَّر قولَه (بمعنى أن يكون أكثر انفتاحًا واستعدادًا للمفاجئ غير المتوقع)؛ وكلما زاد النقاء الذي يُسلِم به ما يقوله إلى إنصات أكثر مثابرة، ارتقى ما يقوله عن أن يكون مجرد عبارة تقريرية» (Poetry, Language, Thought, p. 216).
١٤  في وصف جبراييل موتزكين Gabriel Matzkin المهم لفكرتَي «العالم» و«التعالي» عند هيدجر في طوره الأول، قال إن هيدجر «يضع تمييزًا حادًّا بين المعنى والوجود المادي. فعملية المعنى متعالية على الموجودات التي تُفسَّر وفقًا لشروطها. ويعني تعالي عملية المعنى هذا أن الموجودات تُفهَم قبل أن تُفسَّر. فالتفسير يفترض سلفًا ارتباط الموجودات بنشاط يؤطرها [هو] … مرادف الفَهْم وشرط ضروري لوجودنا في عالمٍ على حدٍّ سواء».
“Heidegger’s Transcendent Nothing,” in Language of the Unsayable: The Play of Negativity in Literature and Literary Theory, ed. Sanford Budick and Wolfgang Iser (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1989), pp. 95–116, 100.
١٥  Joseph Kockelmans: Heidegger on Art and Art Works (Dordrecht: Martinus Nijhoff, 1985), p. 164.
١٦  David Krell: “The Wave’s Source: Rhythm in the Language of Poetry and Thought” in Hiedegger and Language: A Collection of Original Papers, ed. David Wood (University of Warwick: Parousia Press, 1981), pp. 25–50.
١٧  Alvin H. Rosenfield, “The Being of Language and the Language of Being: Heidegger and Modern Poetics,” Boundary 2, 4, no. 2 (1976), pp. 535–57, 546.
١٨  Henri Birault: “Thinking and Poetizing in Heidegger,” in On Heidegger and Language, ed. Joseph Kockelmans, pp. 147–68, 153.
١٩  انظر، على سبيل المثال، ممارسة هيدجر في مقالِه: “Science and Reflection,” in The Question Concerning Technology and Other Essays, trns. William Lovitt (New York: Harper & Row, 1977). ويعطي مقاله “A Dialogue on Language” اليابانية امتيازًا مماثلًا لأنها، إلى حدٍّ ما، لغة غير أوروبية.
٢٠  Philippe Lacoue-Labarthe, Heidegger, Art and Poetics, trans. Chris Turner (Oxford: Basil Blackwell, 1990).
٢١  انظر أولًا: Derrida, Of Spirit: Heidegger and the Question, trans. Geoffrey Bennington and Rachel Bowlby (Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1990). ثم ثانيًا: Véronique Foti, “The Path of the Stranger: On Heidegger’s Interpretation of George Tarkl,” Review of Existential Psychology and Psychiatry, 17 (1986), pp. 223–33.
٢٢  Charles Tomlinson, “Poem,” in Written on Water, p. 31.
٢٣  إذا كان ثمة «تفسير» يتعلق ﺑ الشعر، فلا بد أن يتميز تميُّزًا واضحًا عن «الهرمنيوطيقا»، بما فيها عمل هانز جورج جادامر Hans-Georg Gadamer. انظر الفصل الذي قام به جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy لعمل هيدجر عن أي دراسة هرمنيوطيقية للمعاني في: Le partage des voix (Paris: Editions Galilée, 1983)، وبخاصة pp.13–49.
٢٤  See Nancy, Le partage des voix, p. 30.
٢٥  Birault, “Thinking and Poetizing in Heidegger,” pp. 147-8.
٢٦  Philippe Lacoue-Labarthe, “Poetique et politique,” in L’imitation des modernes: typographies Il (Paris: Editions Galilée, 1986), pp. 175–200, 194.
٢٧  بخصوص «التجربة» عند هيدجر، انظر: Robert Bernasconi, The Question of Language in Heidegger’s History of Being (Atlantic Highlands, N.J.: Humanities Press and London: Macmillan, 1985), p. 59.
٢٨  Richard Wolin, The Politics of Being: The Political Thought of Martin Heidegger (New York, N.Y.: Columbia University Press, 1990). p. 121.
٢٩  البنية الإردافية paratactic: إتباع الجملة بالجملة أو الكلمة بالكلمة من غير أداة ربط تصل ما بينهما أو تفسَّر العلاقة بينهما. (المترجم)
٣٠  قارِن الفقرة الآتية من Passe-Partout التي تلعب دور التقديم لكتاب The Truth in Painting, trans. Geoff Bennington and Ian McLeod (Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1987). ففي حركات الفكر التي لا بد من تمييزها بعناية عمَّا يُسمَّى مفارقات الانعكاس، يرى دريدا أن التصور التقليدي لحقيقة الرسم بوصفه تقديمًا بسيطًا لما يوجد (المحاكاة mimesis بالمعنى الأول)، يطوي هذا التصورَ للحقيقة وتقديمَه الذاتي على نفسه في مَهْواة انعكاس تكراري  mise en abyme. يقدم الرسم: «الحقيقة نفسها مستعادةً، بلا وسيط أو رتوش أو قناع أو حجاب. وبكلمات أخرى، الحقيقة الحقيقية أو حقيقة الحقيقة، المستردة بقدرتها على الاسترداد، الحقيقة التي تبدو مثل نفسها بما يكفي لتجنب أي إخفاء وأي وهم، بل أي تمثيل؛ ولكنها تنقسم بما يكفي لتشبه نفسها أو تنتجها أو تولِّدها مرتين، بالتوافق مع مضافين: حقيقة الحقيقة وحقيقة الحقيقة» (p. 5).
٣١  Friedrich Nietzsche, The Birth of Tragedy, trans. Walter Kaufmann (New York: Vintage, 1967), p. 60.
٣٢  ولعل هذه أيضًا هي النقطة التي يبدأ هيدجر في الإفلات عندها من نقد بلانشو لموقع فقه اللغة في فكره، بما أن التأمل عملية تتجاوز العناية بالكلمات المفردة. انظر: Blanchot, The Writing of the Disaster, trans. Ann Smock (Lincoln, Nebr. And London: University of Nebraska Press, 1986), p. 96, p. 102.
٣٣  ويُعرَف المقال أيضًا بعنوانه الأحدث، وإن كان أقل ملاءمة: Existence and Being, trans. William Kluback and Jean T. Wilde (London: Vision Press, 1959).
٣٤  Robert Mugerauer, Heidegger’s Language and Thinking (Atlantic Highlands, N.J.: Humanities Press, 1988), p. 61.
٣٥  See The Sophist, 263e.
٣٦  In On Time and Being, trans. Joan Stambaugh (New York, N.Y.: Harper & Row, 1972), pp. 1–24, 2.
٣٧  Manfred Pfister, The Theory and Analysis of Drama, trans. John Halliday (Cambridge: Cambridge University Press, 1988), p. 6.
٣٨  In Samuel Beckett, The Complete Dramatic Works (London: Faber & Faber, 1986), pp. 7-88.
٣٩  Heidegger’s Language and Thinking, p. 40.
يُعد موجيراور نموذجيًّا في وصفه تضمينات شكل الحوار عند هيدجر حيث يقول: «عندما ننضم إلى المحادثة، تكون جارية بالفعل. فالحق أنها تواصل مناقشة كانت قد استمرت لبعض الوقت. (وعلى سبيل المثال، يشير المتحدثون إلى أمور قالوها من قبل). وهذا يدل — أولًا — على أن ما يناقشونه ليس موضوعًا منفصلًا أو غير مترابط، بل هو جانب من موضوع أكبر. كما يدل — ثانيًا — على أن القارئ مطلوب منه أن ينغمس في محادثة تدور، مَن يدري كم من الوقت استمرت منذ زمن هيراقليطس؟ ويدل — ثالثًا — على أننا ربما نتوقع أن نهاية هذه المحادثة بعينها لا تعني نهاية المحادثة نفسها» (p. 4).
٤٠  From Lessing’s Spirit in his Writings, translation from Philippe Lacoue-Labarthe and Jean-Luc Nancy, The Literary Absolute: The Theory of Literature in German Romanticism, trans. Philip Barnard and Chery Lester (Albany, N.Y.: SUNY Press, 1988), p. 92.
٤١  Lacoue-Labarthe and Nancy, The Literary Absolute, p. 36.
٤٢  Gerald Bruns, Heidegger’s Estrangements: Language, Truth and Poetry (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1989), p. 173.
٤٣  ويطور نيد لوكاشير Ned Lukacher تفسيرًا مماثلًا وإشكاليًّا من منظور «المادية» المفترَضة للغة بوصفها شعرًا في: “Writing on Ashes: Heidegger Fort Derrida,” Diacritics, 19, no. 2 (Summer 1989), pp. 128–48, 129.
٤٤  قارِنْ مناقشة جون ساليس John Sallis بشأن الفكر غير الميتافيزيقي: «سيفكر فيما كان ينبغي على الميتافيزيقا أن تفكر فيه: الوجود بما هو وجود؛ ولكنه لن يفعل ذلك إلا بالانتقال إلى الانفراج الساطع الذي يكتنف الوجود. غير أنه لن يفكر في هذا الانفراج الساطع إلا بالعودة إلى ما يكتنفه، وإلى ما يُشرِق داخل فضاء الأليثيا أو الكشف، وإلى ما يبدو على مدى هذا الانغلاق المنفتح.» Echoes: After Heidegger (Bloomington, Ind.: Indiana University Press, 1990), p. 40.
٤٥  هذه الضرورة الحتمية للبدء من جديد دائمًا والانتظار الدائم هي ما ينقذ هيدجر، بلا ريب، من انتقادات ديفيد وود David Wood الآتية: «يبدو أن هيدجر يهدف إلى تحقيق تزامن مثالي بين ما سيظل يدعوه المتشككون فعل اللغة ومحتواها. ولو كنتُ مُصيبًا في ذلك فإنه يحقق هذا التزامن من خلال الاستعمال الإنجازي للغة مهما يكن. وذلكم هو المثل الأعلى الذي لا يمكن للمادية الخالصة أن تسمح بتحقيقه أبدًا. ويُسقِط هيدجر على أدائه اللغوي وحدة قديمة خيالية، في رغبة قديمة قدم الفلسفة.» انظر: Deconstruction of Time (Atlantic Highlands, N.J.: Humanities Press, 1989), p. 301.
٤٦  Paul de Man, Allegories of Reading: Figural Language in Rousseau, Nietzsche, Rilke and Proust (New Haven, Conn.: and London: Yale University Press, 1979). وأشير هنا إلى هذه المناقشة المحددة فقط. وأما في مواضع أخرى فعلاقة دي مان بهيدجر جد معقدة. انظر على سبيل المثال مقال دريدا: “Acts: The Meaning of a Given Word,” trans. Eduardo Cadava, in Derrida, Memoires: for Paul de Man (New York, N.Y.: Columbia University Press, 1986).
٤٧  de Man, Allegories of Reading, p. 175.
٤٨  Ibid.
٤٩  Lyotard, Le différend (Paris: Editions de Minuit, 1983), pp. 101–29. My translations are taken from Lyotard, The Differend: Phrases in Dispute, trans. Van Den Abbeele (Minn.: University Press, 1988).
٥٠  Lyotard, “Presentations,” in Philosophy in France Today, ed. Alan Montefiore (Cambridge University Press, 1983), pp. 113–35.
٥١  Lyotard, “The Differend”, p. 30.
٥٢  Lyotard, “Presentation,” p. 124.
٥٣  Ibid., p. 131.
٥٤  Lyotard, “The Differend”, pp. 72–5.
٥٥  Lyotard, “Le différend”, p. 113. My translation.
٥٦  يشرح محمد الشيخ كلمة الإيرايجينيس على النحو الآتي: «ما يثير اهتمام الناظر، أن هايدغر لم يختر للدلالة على «البُدُو الجديد» أو «الإصباح» لفظًا يونانيًّا، وإنما اختار لفظًا ألمانيًّا، هو لفظ «الإيرايغينيس» (Ereignis). وهذا الاسم مأخوذ من فعل (Er-eignen) الذي اشتُق بدوره من (Er-aügen) بما هو أفاد دلالة «التملك». ما يوحي بأن «الإيرايغينيس» يفيد معنى «تملك مزدوج» أو «انتماء مثنَّى متبادل»، وذلك بحيث تَتملك الكينونة كُنْه الإنسان، ويتملك الإنسان كُنْه الكينونة، وينتمي الواحد منهما إلى الآخر، في إطار «انتماء متبادل»، أو قُل: «تنامٍ»: كلاهما مُتملَّكٌ لا يحقق نفسه إلا بالتخلي عن ملكه لغيره، أو هو لا يملك نفسه إلا بتركها لغيره أو تمليكها له، أو هو لا يتحقق التحقق إلا بالانتماء إلى السوى». وعليه، «فقد تحقق، أن ما يعبر عنه «الإيرايغينيس»، هو معنى آخر غير معنى «الحدث» الذي طالما نقل إليه هذا اللفظ. ولئن كانت ثمة «أحداث»، وثبتت وصحت، فإن «حدث الأحداث» هو الكينونة ذاتها؛ فهي الحدث الجسيم. وهذا ما ينساه الناظرون إلى الأحداث. ذلك أن «حدث الكينونة»، أو قل: «بُدُوها» أو «تَبَدِّيها» (Ereignis des Seins)، إن صح هذا التعبير واستقام، هو الحدث الأكبر، لأنه بلا كينونة لا شيء ثمة يكون، ولا حدث يطرأ، ولا كائن يحدث. ولذلك، فإنه لزم التخلي عن الدلالة الجارية لمفهوم «الحدث»، وذلك حين التعبير عن «التمالك» أو «التنامي» الحادث بين الإنسان والكينونة». انظر زيادة تفصيل في: محمد الشيخ: «نقد الحداثة في فكر هيدجر» (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ٢٠٠٨م)، ص٦٨٦، وما بعدها. (المترجم)
٥٧  Lyotard, “Presentation,” p. 131.
٥٨  ومن الملاحظ أن حجة ليوتار المتطورة في كتابه «الخلاف» The Differend ومقاله «تقديمات» “Presentations” تظهر أيضًا في عمله عن «السامي» sublime. وبالنظر أساسًا إلى نظرية إدموند بيرك Edmund Burke التي تجعل من السامي تجربةَ فقدان، يُعرِّف ليوتار الساميَ بأنه اختزال اللغة أو اللوحة الفنية إلى إبهام العرض أو التقديم اللحظي من دون تحديد موقع، «هل هذا يحدث؟» ذلكم هو الحدث العاري عن الحدث، وانمحاء شرط التمثيل. يقول ليوتار عن أي حدث: «قبل إثارة أسئلة عما يَكونه الحدث وعن مغزاه أو دلالته، لا بد «أولًا» أن «يحدث» الحدث. فما يحدث «يسبق»، لنقل، السؤال المتعلق بما يحدث … الحدث يحدث بوصفه علامة استفهام «قبل» الحدوث بوصفه استفهامًا». “The Sublime and the Avant Garde” in The Lyotard Reader, ed. Andrew Benjamin (Oxford and Cambridge, Mass.: Basil Blackwell, 1989), pp. 196–211, 197.
٥٩  Derrida, “Mémoires”, pp. 96-7.
٦٠  يذهب ليوتار أيضًا — على خلاف مقاله «تقديمات» — إلى أن «الوجود» عند هيدجر ينطوي على مُخاطَب محدد، وعلى وجه التحديد البشر. لكن بالنظر إلى النهج الذي لا يمكن معه تجريد الدازاين والوجود واللغة من العلاقة أو تغيير الموقع، وهما ما يؤسسان الدازاين والوجود واللغة، تبدو كلمة «المُخاطَب» غير ملائمة هنا إطلاقًا.
٦١  Seeinter alia, “Words” (On the Way to Language, p. 149).
٦٢  Ibid., p. 150.
٦٣  “Language in the Poem” (1953) (On the Way to Language, p. 160).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤