الفصل الثامن

المُتَمَدِّن (الإنسان ساكن المدينة)

يُوجَد على هذه الأرض أوبئة وضحايا، والأمر متروك لنا بألَّا ننضمَّ إلى جبهة الأوبئة ما أمكن.

ألبير كامو، «الطاعون»

كان أمام تيم هندرسون مهمة من أكثر المهام المُثيرة للاشمئزاز في العالم، ألا وهي إزالة كتلة ضخمة من الدهون والشحوم والنفايات المنزلية العَفِنة يبلُغ طولها أربعين مترًا، والتي تراكمت وتضخَّمت دون أن يلحظها أحد في إحدى شبكات الصرْف الصحي الرئيسية التي تقع تحت ضاحية تشيلسي الراقية في لندن. وكانت هذه الكتلة شديدة التضخُّم حتى إنها انفجَرَت واخترقت الطوب العتيق لجُدران شبكة الصرف الصحي. كان تيم من بين «سَلَّاكي البالوعات» — أو تقنيي قنوات الصرف الصحي الرئيسية — المَحظوظين الذين وكِّلَت إليهم مهمة إزالتها، كتلة عفِنة تلو الأخرى.

قال ستيفن هانت، المشرف على إصلاح وصيانة مواسير مياه نهر التايمز لصحيفة «الجارديان» البريطانية: «نرى انسداداتٍ طوال الوقت في مواسير الصرف الصحي المنزلية … ولكن أن نجد هذا القدْر الكبير من الضرَر الذي لحق بماسورة صرف صحي، يبلُغ قطرها مترًا تقريبًا، فهو أمر مُحير للعقل» (كابلان، ٢٠١٥؛ راتكليف، ٢٠١٥).

أصبحت هذه الكتل — التي تُعرف باسم «الجبال الدهنية»، والتي يُمكن أن تزن خمسة عشر طنًّا أو أكثر، وتمتد إلى ثمانين مترًا — عَرَضًا شائعًا ولكنه خفي إلى حدٍّ كبير في المدن الكبري الحديثة، التي يدفع سُكَّانها ومطاعمها بأطنانٍ هائلة من نفايات المطابخ والنفايات الأخرى في بالوعات الصرف بلا تفكير. صرَّح روب سميث، كبير سلَّاكي بالوعات الصرف الخاصة بمياه نهر التايمز وعضو مجموعة «نسف الجبال الدهنية» المحلية للإعلام أنه، «يتمُّ تصريف الدهون في بالوعات الصرف بسهولةٍ كافية، ولكنَّها عندما تَصطدم بالبالوعات الباردة، تتصلَّب وتتحوَّل إلى «جبال دهنية» مُقزِّزة تسدُّ المواسير.» في عام ٢٠١٣، دفعت مدينة نيويورك نحو خمسة ملايين دولار لتطهير الدهون المُتراكمة من شبكة الصرف الصحي الخاصة بها (كابلان، ٢٠١٥).

نوعًا ما، تُعتبر «الجبال الدهنية» تشبيهًا تمثيليًّا كريهًا للمواد التي تخنق وتُصيب أكثر من مليار شخص من سكَّان المدن حول العالَم بتصلُّب الشرايين، والذين غالبًا ما سيموتون جرَّاء أمراض القلب أو السكتة الدماغية. تتكوَّن الجبال الدهنية من نفس المواد غير الصحية التي تسُود النظام الغذائي الحديث. إنها النَّسْل الكريه لثقافة النفايات — نفايات الماء والمُغذيات والمواد الغذائية والطاقة — على نطاقٍ صناعيٍّ ضخم. وهي شكل آخر من أشكال التلوث الذي ينمو في الخفاء تحت أقدامنا؛ ففي لندن وحدَها، أغرقت هذه الانسدادات ١٨ ألف منزل بمياه الصرف الصحي في السنوات الأخيرة. ويَعكس حجمها المُذهل مدى تَنامي المدن العملاقة وازدياد مساحات الحضر، في الوقت الذي تهجُر فيه البشرية الريف وأساليبه المُقتصِدة وتُفضِّل أنماط الحياة الحضرية المُسرِفة. بالكاد تُمثل الجبال الدهنية في حدِّ ذاتها تهديدًا على الأنواع، فهي ليست سوى عَرَض قبيح آخر لنظام يسير في الاتجاه الخاطئ بصورةٍ مُحزنة. إنها مجرَّد جرس إنذار آخر.

عالَم يدوي الصنع

بحلول منتصَف القرن الحادي والعشرين، ستُصبح مدن العالم موطنًا لما يقرُب من ثمانية مليارات نسمة، وستُغطِّي مساحةً من سطح الكوكب بحجم الصين. ستضمُّ العديد من المدن الكبرى عشرين أو ثلاثين أو حتى أربعين مليون شخص. وستكون أكبر مدينة على وجه الأرض هي جوانزو-شنجن، التي تضمُّ بالفعل نحو ١٢٠ مليون مواطن مُتكدِّسين في منطقة العاصمة الكبرى (فيدال، ٢٠١٠).

بحلول الخمسينيَّات من القرن الحادي والعشرين، ستبتلِع هذه التجمُّعات الحضرية الهائلة ٤٫٥ تريليون طن من المياه العذبة للأغراض المنزلية والحضرية والصناعية، وتستهلك حوالي ٧٥ مليار طن من المعادن والمواد والموارد كلَّ عام. وسيعتمد وجودها على الحفاظ على توازنٍ هشٍّ بين الموارد الأساسية التي تَحتاج إليها من أجل البقاء والنمو، وبين قدرة الأرض على توفيرها. وعلاوة على ذلك، سوف تُولِّد كميات هائلة من النفايات أيضًا، تصِل إلى ٢٫٢ مليار طن بحلول عام ٢٠٢٥ (البنك الدولي) — بمتوسِّط ستة ملايين طن في اليوم — ومن المُحتمَل أن تتضاعف مرة أخرى بحلول عام ٢٠٥٠ تماشيًا مع الطلب الاقتصادي على السلع المادية والمواد الغذائية. على حدِّ تعبير شبكة البصمة العالمية: «الجهد العالَمي المبذول من أجل الاستدامة، إما سيُؤتي ثماره أو سيذهب هباءً في مُدن العالم» (شبكة البصمة العالمية، ٢٠١٥).

وكما رأينا في حالة الطعام (انظر الفصل السابع)، تقف هذه المدن العملاقة على حافة الهاوية مُعرَّضةً لخطر أزمات الموارد التي لم تَستعدَّ لها أي منها استعدادًا كاملًا. وهي تُعتبر أهدافًا مُحتمَلة لأسلحة الدمار الشامل (انظر الفصل الرابع)، وحاضناتٍ للأمراض الوبائية الناشئة، وأراضي خصبة لتكاثُر الجريمة، ومُفرخات للتقدُّم غير الخاضع للتنظيم أو الضوابط في مجال التكنولوجيا الحيوية وعِلم النانو والكيمياء والذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، فهي بلا شك، الأماكن التي تَجتمع فيها العقول البشرية بسرعة الضوء لمشاركة المعرفة والحِكمة ولإيجاد حلولٍ للتحديات العديدة التي نُواجهها.

خيرًا كان أو شرًّا، فمُستقبَل الحضارة مسطور على صفحات المدن، فهي مَهد كلٍّ من آمالنا ومخاوفنا.

المخاطر الحضرية

العاصمة البرازيلية ساو باولو هي نذير للتحديات التي تَنتظر «الإنسان الحضري»؛ ساكن المدينة. في أرضٍ وصفتْها صحيفة «نيويورك تايمز» ذات مرة ﺑ «المملكة العربية السعودية المائية»؛ وذلك لأن أنهارها وبحيراتها تُمثل ثُمْن المياه العذبة على كوكب الأرض، فقد ركعت أكبر وأغنى مدينة في البرازيل وسكانها البالغ عددهم ٢٠ مليون نسمة أمام الجفاف الذي لا يحدث إلا مرة كل مائة عام (روميرو، ٢٠١٥). ومع ذلك، لم يكن الأمر مجرد جفاف، بل كان تفاعلًا مُعقدًا بين عدة عوامل، مدفوعًا بالاستغلال البشري المُفرِط للبيئة المُحيطة، وتلوُّث الغلاف الجوي والمُحيط الحيوي، وفساد الجهات الرسمية، وسوء الإدارة وفشل الحوكمة. بعبارةٍ أُخرى، إنه هذا النوع من الفوضى الذي يُمكن أن تُواجهه معظم المدن الكبرى في العالَم.

في حالة ساو باولو، طبقًا للعُلماء، فالتغيُّر المناخي ضالِع في جعل الجفاف السيئ أكثر سوءًا. وهو ما فاقمه الإفراط في تطهير الأراضي في حوض الأمازون، والذي يَعتقد أنه قد قلَّل من دورة المياه المحلية، حيث قلَّت نسبة المياه التي تتنفَّسها الغابات؛ ومن ثمَّ قلَّ هطول الأمطار المحلية. وقد أدَّى ذلك بدوره إلى قلَّة نسبة المياه التي تتسرَّب إلى المساحات الخضراء، والتي تتدفَّق إلى أنظمة الأنهار التي ملأتها عمليات تطهير الأراضي بالرواسب والمُغذيات. لقد صارت مياه الأنهار التي تمرُّ عبر المدينة غير صالحة للشرب بسبب الملوِّثات الصناعية والنفايات التي تُلقى فيها. لقد كانت شبكة المياه في ساو باولو تُسَرِّب بشكلٍ سيئ، وكانت عُرضةً للفساد وسوء الإدارة وعرضة للسرقة التي تصِل إلى حدِّ النهب. وأتت خطط الحكومة لبناء المزيد من السدود متأخرة بنحو عشرين سنة. صرَّح فيسينتي أندريو، رئيس الوكالة الوطنية البرازيلية للمياه، لمجلة «إيكونوميست» قائلًا: «لن ينقذ ساو باولو سوى طوفان» («إيكونوميست»، ٢٠١٤). واعترف المسئولون بأن تهجير السكان، الطوعي أو القسري، بدا خيارًا قاسيًا يَلُوح في الأفق. وعلى الرغم من تراجع الجفاف في عام ٢٠١٦، ظلَّت نُدرة المياه تُلقي بظلالها على مستقبَل المنطقة.

ليست ساو باولو وحدَها هي من تُواجه هذا الخطر؛ إذ تُواجه العديد من المدن الكبرى في العالَم شبح العطش. فقد ضربت ظاهرة «إل نينيو» المناخية نفسها المدن الكبرى بولاية كاليفورنيا، وهو ما قاد المُخطِّطين العُمرانيين — مثل غيرهم في جميع أنحاء العالم — إلى التحول إلى تحلية مياه البحر باستخدام الكهرباء ونظام الترشيح بالتناضُح العكسي (تالبوت، ٢٠١٤). كرَّرت هذه الاستجابة المفاجئة لندرة المياه غير المتوقَّعة ما حدَث في التجربة الأسترالية، حيث كانت محطَّات تحلية المياه في فترة ما بعد موجات الجفاف التي ضربت أستراليا مع بداية الألفية الثانية تُنتج ٤٦٠ جيجا لتر من المياه سنويًّا في أربع مدن رئيسية (اللجنة الوطنية للمياه، ٢٠٠٨)، ولم يتم إيقاف تشغيلها إلا بعد بضع سنوات من تراجع الجفاف. بحلول أوائل عام ٢٠١٠، كان هناك أكثر من ١٧ ألف محطة تحلية في مائة وخمسين دولة حول العالَم، تُنتج أكثر من ٨٠ جيجا لتر (٢١ مليار جالون أمريكي) من المياه يوميًّا، وذلك وفقًا ﻟ «الرابطة الدولية لتحلية المياه» (براون، ٢٠١٥). تم تشغيل معظم هذه المحطات بواسطة الوقود الأحفوري الذي يُوفر الكمية الهائلة من الطاقة اللازمة لدفع المياه المالحة عبر مُرَشِّحْ غشائي وإزالة الملح. ومن المفارقات أنه بإطلاق المزيد من الكربون في الغلاف الجوي، تُؤدِّي عملية تحلية المياه إلى تفاقُم الاحتباس الحراري؛ ومن ثمَّ تساعد على زيادة احتمالية حدوث حالات جفافٍ أشدَّ وأكثر تواترًا. وهو ما يجعلها تُناقض الهدف من إنشائها؛ وذلك لأنها تحدُّ من إمدادات المياه الطبيعية. تَنطبق مُفارقة مماثلة على مدينة لوس أنجلوس التي حاولت حماية مخزونها المتضائل من المياه من التبخُّر من خلال تغطيته بملايين من الكُرات البلاستيكية (هاورد، ٢٠١٥)، ومن ثمَّ استخدام البتروكيماويات في محاولةٍ لحلِّ مشكلةٍ ناتجة في الأصل عن … البتروكيماويات.

تُوضِّح هذه الأمثلة الطابع «الشرير» للتحديات المُعقَّدة التي تواجه مدن العالم في الوقت الحاضر، حيث قد تُؤدِّي الحلول غير المدروسة بالمدن الكبرى، وبالكوكب ككل، إلى الوقوع في مشكلاتٍ أكبر بكثيرٍ مما هي عليه الآن. وهذا يُعتبَر نتيجةً مباشرة لضغط الطلَب من التعداد السُّكاني المُتضخِّم، الذي يتجاوز القدرة الطبيعية للأرض على تلبيتِه، وللسياسات المحلية قصيرة النظر أو الفاسدة التي تُؤدِّي إلى حلولٍ وقتية سريعة وغير ناجحة أو تُسبِّب المزيد من المشكلات على المدى الطويل.

وتشمل الأشكال الأخرى للهشاشة الحضرية المُتزايدة ما يلي: الأضرار الناتجة عن العواصف، وارتفاع مُستوى سطح البحر، والفيضانات والحرائق الناتجة عن تغيُّر المناخ أو القوى التكتونية الأرضية؛ وفشل الحوكمة، والاضطرابات المدنية والحروب الأهلية، كما حدث في لبنان والعراق وسوريا بداية من عام ٢٠١٠؛ وانقطاع إمدادات النفط وما يترتَّب على ذلك من فشل وصول الإمدادات الغذائية؛ وتفاقُم المشكلات الصحية في المدن بسبب الانتشار السريع للأمراض الوبائية والتلوُّث الصناعي والتهديدات — التي لا تزال غير محدَّدة ولكنها حقيقية — التي يُشكلُها نهوض الذكاء الاصطناعي وعِلم النانو (جينسر، ٢٠١٣). لقد سلَّط الأمين العام للأمم المُتحدة كوفي عنان الضوءَ على هذه القضية في مطلع الألفية الحالية، فكتب قائلًا:

ستُواجه المُجتمعات دائمًا مخاطر طبيعية، ولكن الكوارث في الوقت الحاضر تَنجُم غالبًا عن الأنشطة البشرية، أو على الأقل، تتفاقَم بسببها … لم يَسبق في أي وقتٍ من تاريخ البشرية من قبل أن عاش هذا العدد الكبير من الناس في مُدنٍ تتمركَز حول مناطق نشطة زلزاليًّا. لقد أدَّى الفقر والضغط الديموغرافي إلى الدفع بعددٍ من الناس أكبر من أيِّ وقتٍ مضى للعيش في السهول الفيضانية أو في المناطق المُعرَّضة للانهيارات الأرضية. كما أن التخطيط السيئ لاستخدام الأراضي؛ والإدارة البيئية السيئة؛ وغياب الآليات التنظيمية أدَّى إلى زيادة المخاطر وتفاقُم آثار الكوارث. (عنان، ٢٠٠٣)

تشكل هذه العوامل إشارة تحذيرية للإمكانية الحقيقية لانهيار المدن الكبرى خلال العقود القادمة. ومع الانتشار العالمي للهواتف الذكية، سَتُعْرَض العواقب بوضوح في نفس وقت حدوثها على نشرات الأخبار ووسائل التواصُل الاجتماعي. وعلى النقيض من الكوارث التاريخية السابقة، سيحظى العالَم بمقعدٍ افتراضي في الصفوف الأولى يشاهد من خلاله الأحداث المستقبلية الكابوسية التي ستقع في المدن، وهي تتكشَّف واحدةً تلو الأخرى.

أوبئة جديدة

من وجهة نظر ميكروب مُعْدٍ، مثل فيروس الإنفلونزا أو الإيبولا أو الزيكا أو الكوليرا أو السل المُقاوِم للأدوية، تُعدُّ المدن الضخمة مَرتعًا ضخمًا من الطعام الشهي وفُرَص التكاثر. فكلَّما كبرُت المدينة، زادت المليارات من الخلايا البشرية التي تَسعد الحشرات بالتغذِّي عليها، أو التي يمكنها أن تتكاثر فيها. علاوة على ذلك، فقد جهَّزت المدن نفسها بعناية بأكثر الوسائل فعالية لنشر الميكروبات المُعدية، مثل المطارات والمدارس ورياض الأطفال الدولية، والمكاتب المُكيفة، والنوادي الليلية، ووكالات المواعدة، والمنشآت الرياضية، والمُستشفيات، وتربية الحيوانات الأليفة والحشرات، والمطاعم والأسواق ومصانع المواد الغذائية الرديئة، وإمدادات المياه والأنهار الملوَّثة، ومقالب القمامة الناضحة والمقابر. فمن منظور الميكروب، المدينة الحديثة هي مصدر السعادة القصوى.

كان الملوك الرومان القُدماء، وبخاصَّة التاركوينيين — وهي سلالة حاكمة دائمًا ما كانت تتعرض للنقد اللاذع من قبل المؤرِّخين الجمهوريين اللاحقين — هم من وضعُوا الأساس الحقيقي للمدينة الحديثة عندما قاموا ببناء شبكة الصرف الصحي «كلواكا ماكسيما»، وهي أول قناة صرف صحي في العالم تَنقُل النفايات القذِرة والمتزايدة للمدينة إلى قاع نهر التيبر (هوبكنز، ٢٠١٢). بدون هذه القناة البسيطة والمُغلَقة التي تصرِف مصادر العدوى بعيدًا لمسافةٍ أكثر أمانًا، ما كانت مدينة روما لتزدهر أبدًا. ومن ثمَّ أدَّى الانخفاض في نِسَب المرض، وخاصة في معدَّلات الوفيات بين الرُّضَّع في واحدةٍ من أكبر التجمُّعات البشرية في ذلك الوقت، إلى نموِّ السكان والتوسع الاقتصادي، وبشكل خاص، تحقيق زيادة كافية في أعداد الذكور للحفاظ على الجيش الدائم الذي بُنيت عليه الهيمنة اللاحقة للمدينة. وهي أحد أقدم الأمثلة في العالَم على التدخُّل في مجال الصحة العامة، كما أنها أرست دعائم التخطيط العمراني الحديث، وكذا جبال النفايات الدهنية المُستقبلية. كما كانت شبكة «كلواكا ماكسيما» أيضًا حالة كلاسيكية لأحد التقاليد الإنسانية القديمة الأخرى التي ما تزال باقية حتى الوقت الحاضر؛ ألا وهي عادة نقل المشكلة من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» واعتبار أنها بذلك قد «حُلَّت». عندما كانت المدن صغيرةً نسبيًّا، كان هناك الكثير من الأراضي والمُحيطات البِكْر حول العالَم لتمتصَّ انبعاثاتها الكريهة، وكان بإمكانها تلويث البيئة والإفلات بفعلتها. ولكن مع ظهور المدن الكبرى والاقتصاد المُعولم في العصر الحديث، فقد تغيَّر كل ذلك. إنَّ المدن الكبرى التي لا تنظف نفسها بنفسها ولا تُعيد تزويد مواردها، تُخاطر بالغرَق في قذاراتها، وبتسمُّم مُواطنيها، وبِجَني موجاتٍ من التلوُّث والأمراض المعدية التي يُمكن بعد ذلك أن تنتقل دوليًّا في ظرف ساعات.

حددت منظمة الصحة العالمية أربعة عشر تهديدًا وبائيًّا رئيسيًّا يَحيق بسكان العالم: إنفلونزا الطيور، والكوليرا، والأمراض الناشئة (مثل مُتلازمة الإيماء بالرأس)، وفيروس هيندرا، ووباء الإنفلونزا، وداء البريميات، والتهاب السحايا، وفيروس نيباه، والطاعون، وحُمَّى الوادي المُتصدِّع، والسارس، والجُدَري، والداء التوليري، والحُمَّى النزفية (مثل فيروسات الإيبولا وماربورج)، والالتهاب الكبدي والحُمَّى الصفراء (منظمة الصحة العالمية، ٢٠١٥أ). وبالإضافة إلى هذا العدد الهائل من الأوبئة، ظهور موجةٍ عالمية جديدة من الكائنات العضوية المقاومة للأدوية، مثل السل، والمُكورات العنقودية الذهبية، والعقديات، والسالمونيلا والملاريا، والتي تُشكل خطرًا متزايدًا على صحة الإنسان ليس فقط بسبب الأمراض المقاومة للعلاج التي تُسببها، ولكن أيضًا بسبب ما يُصاحِب ذلك من فقدان الحماية التي توفرها المضادات الحيوية في العمليات الجراحية والعلاجات السرطانية وما شابه. تَشرح منظمة الصحة العالمية أن «الأوبئة (تعتبر) أحداثًا شائعة في عالم القرن الحادي والعشرين. فقد عانت كل دولة على وجه الأرض من وباءٍ واحد على الأقل منذ عام ٢٠٠٠. شهدت بعض الأوبئة، مثل وباء إنفلونزا الخنازير ٢٠٠٩، وأوبئة إنفلونزا الطيور والسارس، انتشارًا عالميًّا، ولكن في كثير من الأحيان، وبانتظام مُتزايد، أصبحت الأوبئة تُصيب مستوياتٍ جغرافية أقل. فعلى سبيل المثال، تسبَّبت الأوبئة المدمرة مثل حُمَّى ماربورج والإيبولا النزفية، والكوليرا، والطاعون، والحُمَّى الصفراء، في إحداث خرابٍ على النطاقين الإقليمي والمحلي، مصحوبًا بخسارة كبيرة في الأرواح وسبل العيش» (منظمة الصحة العالمية، ٢٠١٥ب). يزيد تغير المناخ أيضًا من مخاطر الأوبئة، وهذا بإعادة توزيع البعوض الحامل للأمراض في جميع أنحاء العالَم، كما هو الحال في فيروس زيكا. وفقًا لصحيفة «نيويورك تايمز»: «تُشير الأبحاث الحديثة إلى أنه في ظلِّ أسوأ السيناريوهات التي تَنطوي على استمرار زيادة الانبعاثات العالمية مصحوبةً بنموٍّ سكاني سريع، فإن عدد الأشخاص المُعرَّضين للبعوض الناقِل للمرض يمكن أن يتضاعَف من نحو أربعة مليارات شخص في الوقت الحالي، إلى ما يصلُ إلى ثمانية مليارات أو تسعة مليارات بحلول أواخر هذا القرن» (جيليس، ٢٠١٦).

من بين ٦٠ مليون شخص أو نحو ذلك يَمُوتون في عالمنا كل عام، يموت ما يصل إلى ١٥ مليون شخص من الأمراض المُعدية، والباقي يموتون بشكلٍ رئيسي من الأمراض المرتبطة بنمط الحياة، بينما يموت عدد أقل بكثير بسبب الحوادث والحروب (منظمة الصحة العالمية، ٢٠١٤). وهو ما يؤكد التغيير الدراماتيكي الذي حدث في العصر الحديث، حيث أصبحت الأمراض المُعدية سببًا أقل شيوعًا للوفاة مما كان عليه الحال عبر مُعظَم تاريخ البشرية، وذلك في المقام الأول بفضل ظهور اللقاحات والمُضادات الحيوية وتدابير الصحة العامة السليمة. كما أنه يُسلِّط الضوء على الارتفاع الهائل في أعداد الوفيات الناجمة عن الأمراض التي يُسبِّبُها الإنسان لنفسه والفشل شِبه الكامل للطبِّ الوقائي حتى الآن. ومع ذلك، فقد أدَّى انتشار نمط أفلام الكوارث والتقارير الإخبارية شديدة المبالغة إلى ترك انطباعٍ خاطئ لدى الجمهور بأن الأمراض المُعدية تُشكِّل خطرًا أكبر بكثير، على سبيل المثال، من المخاطر التي تشكلها خياراتنا الغذائية السيئة، وتلوُّث الهواء أو الماء، بينما العكس هو الصحيح. إذا كان يُوجَد عامل قادر على القضاء على البشرية بأسرِها،1 على غرار «سلالة أندروميدا» الخيالية، فهو لم يَحظَ باهتمام العِلم بعد، ولأسباب بيولوجية وجيهة، فهذا العامل على الأرجح غير موجود، ولن يُوجد إلا إذا قام شخص ما بتخليقه اصطناعيًّا. فالكائنات الحية الدقيقة نادرًا ما تقضي على كل عائليها؛ وذلك لأن قيامها بذلك لا يُعتبر استراتيجية جيدة لبقائها، ولكنها بدلًا من ذلك، تُخفف من تأثيرها وتتكيَّف، وهو درس يحتاج البشر إلى أن يتأمَّلوه أيضًا.
إذا تناولنا الأمر من منظور التهديد المباشر لوجود الحضارة أو الجنس البشري ككل، فتأثير الأمراض المُعدية يعتبر ضئيلًا جدًّا مقارنة بخطر الحروب النووية، والتغيُّر المناخي، والسُّمية العالمية، والمجاعات، وبعض المخاطر التكنولوجية الأخرى التي تحدَّثنا عنها في هذا الفصل. ومع ذلك، فغالبًا ما تنتشِر الأوبئة كنتيجةٍ مقترنة بالحرب والمجاعات والفقر والهجرات الجماعية والتغير المناخي والانهيار البيئي والكوارث الكبرى الأخرى؛ ومن ثم، فهي تلعب دورًا ضخمًا في تعريض المُستقبل البشري للخطر. والمثال النموذجي على ذلك هو تفشي وباء الإنفلونزا بين عامي ١٩١٨ و١٩١٩؛ إذ ظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة، ويعتبر إلى حدٍّ كبير نتيجة للانتقال الواسع للجنود واللاجئين في جميع أنحاء العالم، في وقتٍ كانت فيه العديد من المجتمعات تعاني من الضعف بسبب الجوع. أصابت الإنفلونزا «الإسبانية» ما يُقدَّر بنحو ٥٠٠ مليون شخص حول العالم، مما أسفر عن مقتل ما بين ٢٠ و٥٠ مليونًا منهم.2

إن الكائنات الحية الدقيقة التي تُشكِّل أكبر مخاطر وبائية في القرن الحادي والعشرين — مثل إنفلونزا الطيور والإيبولا وفيروس نقص المناعة البشرية والسارس — تنشأ في الغالب في الحيوانات البرية أو المُستأنَسة وغالبًا ما تنشأ نتيجة شكلٍ من أشكال التدهور البيئي. مع نموِّ أعداد البشر وتوغُّل الناس في المناطق التي كانت تُسيطِر عليها في السابق الحياة البرية والغابات، فمِن المُحتمَل أن تَنتقل المزيد من هذه الأمراض حيوانية المنشأ (العدوى التي تكون الحيوانات هي مصدرها) إلى البشر، ونظرًا لأننا نَستبدل المُضيفين الطبيعيين للفيروسات بكثافات كبيرة من الناس، فلا يبقى للفيروسات، إذا أرادت البقاء على قيد الحياة، خيار آخر سوى الانتقال إلى نوع آخر. ومع ذلك، فحقيقة أن الأصول المُحتمَلة لهذه الفيروسات مفهومة، هذا وإن لم تكن معروفة دائمًا بدقة، تجعل من الممكن إنشاء أنظمةٍ للكشف والإنذار المبكر والوقاية، وهو الهدف الحالي لهيئات الصحة العالمية (ماكلوسكي وآخرون، ٢٠١٤). تأتي في الفئة الثانية من التهديد الأمراض التي تَنتقل إلى البشَر من الماشية المُستأنَسة. تفشِّي الإنفلونزا الموسمية، وفيروسات نيباه وهيندرا، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، والعدوى التي تنتقل عن طريق الطعام، مثل الإشريكية القولونية (إيكولاي) والسالمونيلا والليستيريا. وهنا أيضًا، يُمثِّل الكشف المُبكر والوقاية الحلَّ الأمثل لوأد الأوبئة في مهدِها.

يُمكن لبعض الأمراض المجهولة التي تنشأ في بيئات العالم المُفككة أن تجتاحه دون سابق إنذار، كما هو واضح في حالات فيروس نقص المناعة البشرية والإيبولا ونيباه وزيكا. نشأ فيروس نقص المناعة البشرية عن الفيروس المسبب لنقص المناعة في القردة (إس آي في)، وهو فيروس غير مؤذٍ نسبيًّا في القِرَدة الأفريقية، وانتقل إلى البشر الذين لم يكونوا يتمتَّعون بأي مقاومة ضده، خلال منتصف القرن العشرين — ولا يعرف أحد حتى الآن على وجه اليقين كيف انتقل إلى البشر (كريب، ٢٠٠١) — وبحلول عام ٢٠١٠ أودى بحياة ٢٥ مليون شخص، وأصاب ٣٥ مليون شخص آخرين، سيموت معظمُهم بسببه في نهاية المطاف. ومع ذلك، يَعِدُ كلٌّ من تطوير الاستراتيجيات الوقائية، والتعليم والعلاجات الدوائية واللقاحات الأفضل بخفض عدد الضحايا. ويُعتقَد أن فيروس الإيبولا — وهو عدوى مُخيفة ينزف فيها الضحايا دمًا مُعديًا ويُصابون بالتشنُّجات — ينشأ في الخفافيش أو القوارض، وأنه قد ظهر لأول مرة في البشر مع تفشِّي المرض في الكونغو في ١٩٧٦ و١٩٧٩. وأدَّى تفشٍّ آخَر كبير للمرض في غرب أفريقيا في عام ٢٠١٣ إلى إصابة ٢٥ ألف شخص في غضون عام ووفاة ١٠ آلاف شخص. وعلى الرغم من السرعة المُخيفة لانتشاره، فقد تم السيطرة على العدوى، وشُفِيَ معظم المرضى ممن لديهم رعاية صحية جيدة («إيكونوميست»، ٢٠١٥ب). تُشير التجربة في هذه الحالات إلى أنه يُمكن احتواء الأمراض الوبائية الجديدة التي تنتقل إلى البشر من الحيوانات البرية حتى إذا كانت تتسبَّب في أعداد كبيرة من الوفيات المحلية في بداياتها، فهي لا تُشكِّل تهديدًا وجوديًّا للبشرية ككل. ومع ذلك، فمن الأسهل بكثير الحد من تأثيرها من خلال اتخاذ إجراءات طبية وتدابير خاصة بالصحة العامة والحجر الصحي بصورة فعَّالة بالقُرب من نقطة منشأ الوباء، وهذا يعتمد بشكلٍ كبير على الحكومة المحلية ومهاراتها ومواردها واستعدادها للتعاون مع الأطراف الأخرى على المستوي الوطني والإقليمي والعالمي.

لا يزال فيروس الإنفلونزا، في أحدث أشكاله تطورًا، هو المرشح الأفضل لنسخة القرن الحادي والعشرين من «الطاعون الأسود»، وكذا أقاربه المقربون مثل إنفلونزا الطيور H5N1، أو السارس. والسبب هو أن هذه الفيروسات يُمكن أن تنتقل في الرذاذ المحمول جوًّا الناتج من السعال والعطس، وليس فقط عبر سوائل الجسم كما هو الحال مع فيروس نقص المناعة البشرية والإيبولا. يَشرح روبرت ويبستر، أستاذ قسم علم الفيروسات في مستشفى «سانت جود البحثية للأطفال» في المملكة المتحدة قائلًا: «فقط لنتخيَّل إذا ما كان وباء إيبولا في غرب أفريقيا ينتقل عن طريق الرذاذ. وإذا كانت الإنفلونزا بنفس درجة الفَتْك. وإذا كانت إنفلونزا الطيور فتَّاكة في الإنسان كما هي في الدجاج، وقد أظهرت الدراسات أن الأمر لا يحتاج سوى إلى ثلاث طفراتٍ لكي تُصبح شديدة الفتك. كل ذلك ليس ببعيد عن دوائر الاحتمالات» (وولف، ٢٠١٤). أحد الأسباب التي تُؤدِّي إلى تحوُّر فيروس الإنفلونزا، هو أن الفيروس ينتقل باستمرار بين مختلف الدواجن والخنازير والبشر، حيث يُقدِّم له كل مُضيف تحديات جينية جديدة، ويُجبره على تطوير سلالاتٍ جديدة من أجل التكيُّف. وفي بعض الأحيان يثبت أن هذه السلالات أكثر عدوى وأشد فتكًا، مما يجعله فيروسًا ذكيًّا جدًّا. ذكر عالِم الفيروسات الأسترالي الراحل فرانك فينر — وهو أحد أبطال الحملة العالمية للقضاء على مرض الجُدَري — ذات مرة أنَّ سلالة فيروسية عصبية من إنفلونزا الطيور (سلالة تُصيب الدماغ والجهاز العصبي المركزي للطيور وتَقتلُها بسرعة) هي أكثر وباء يَخشاه؛ وذلك لأنه شديد العدوى ومُميت؛ إذ من الناحية النظرية، يُمكن لعطسةٍ واحدة على متن طائرة أن تَقتُل معظم الركاب. ومع ذلك، فحتى الآن لم تنتقل هذه السلالة بعدُ من الطيور إلى البشر. تُشير التوقُّعات بشأن تفشِّي سلالة جديدة ومُميتة من الإنفلونزا إلى أنها ستُصيب ما بين ١٠٠ و١٠٠٠ مليون شخص وتقتل من ١٢ إلى ١٠٠ مليون منهم، وهذا يَعتمد على مدى سرعة وفعالية وقف انتشار الفيروس (كلوتز وسيلفستر، ٢٠١٢).

يوجد قاتلان رئيسيان آخران يُمكن أن يكونا مسئولين عن حصد أرواح نسبة كبيرة من السكان إذا انتشرا بشكلٍ واسع؛ ألا وهما الجُدَري والسارس. كان الجدري واحدًا من أسوأ الأوبئة التي أصابت البشرية على مرِّ التاريخ، إذ كان يقتل ما يصِل إلى مليونَي شخص سنويًّا، وقد أُعلِنَ القضاء عليه في عام ١٩٨٠ إثر حملة تطعيم عالمية قادتها منظمة الصحة العالمية. وقد حدثت آخِر حالة طبيعية معروفة في الصومال في عام ١٩٧٧. ومنذ ذلك الحين، كانت الحالات الوحيدة الأخرى التي أُبلِغَ عنها ناتجة عن حادث وقع في مُختبر في عام ١٩٧٨ في برمنجهام بإنجلترا، مما أسفر عن مقتل شخصٍ واحد وتسبب في تفشٍّ محدود للمرض (منظمة الصحة العالمية، ٢٠١٥ج). ومع ذلك، لم يتمَّ القضاء على الفيروس بالكامل من على كوكب الأرض، إذ يُعتقد أن كلًّا من الولايات المتحدة وروسيا يحتفظان بمخزونٍ في مختبَرات الحرب البيولوجية الخاصة بهما، وهو ما يُشكل خطرًا دائمًا إما من تَسرُّبه خارج المُختبَر أو إطلاقه بشكلٍ متعمَّد. وقد شنَّ فينر حتى نهاية حياته حملةً من أجل تدمير جميع مخزونات فيروس الجُدَري تدميرًا كاملًا في جميع أنحاء العالم.

في ورقةٍ بحثية مُستبصرة نشرت في عام ١٩٩٦، قال بول إيرليش وجريتشين دايلي إنه في حين أن الوباء سيكون وسيلةً مروِّعة للقضاء على الزيادة السكانية، فإن إجراءات الحدِّ من النمو السكاني طواعيةً تُعتبَر طريقةً حكيمة وراشدة للحدِّ من مخاطر الأوبئة في المستقبل (دايلي وإيرليش، ١٩٩٦).

قتلة من صنع البشر

سُلِّط الضوء على احتمالية الانتشار العالمي لعامل وبائي جديد بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٣ وذلك مع تفشِّي متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس). وفي هذا، «سافرت امرأة أُصيبت بالمرض في هونج كونج إلى تورونتو، وهي مدينة تتمتَّع بإمكانيات صحة عامة ممتازة. تسبَّبت هذه المرأة في نقل العدوى إلى ٤٣٨ شخصًا في كندا، تُوفِّيَ منهم ٤٤ شخصًا.» وفي نهاية المطاف، أصاب المرض ٨٠٠٠ شخص حول العالم، وقتل منهم ما يقرُب من ٨٠٠ شخص. يتساءل لين كلوتز وإدوارد سيلفستر من مجلة «نشرة علماء الذرة» قائلين: «ماذا لو سافر الشخص المُصاب التالي إلى مدينةٍ مزدحمة في دولة فقيرة ذات إمكانيات ضئيلة في إجراءات المُراقبة والحجر؟ أو إلى منطقة حرْب قد لا يكون فيها بِنية تحتية تُذكر للصحة العامة؟» عندما فحص كلوتز وسيلفستر الأمر، حدَّدوا ما لا يقلُّ عن ٤٢ مختبرًا في جميع أنحاء العالَم تحتفظ بمخزونٍ حي من المُسبِّبات المُحتمَلة للأمراض الوبائية، مثل سارس وفيروس الإنفلونزا الذي يَرجع إلى عام ١٩١٨ «لأغراضٍ علمية وعسكرية» (كلوتز وسيلفستر، ٢٠١٢).

سُلِّطَ الضوء على مخاطر الأوبئة التي صنعها الإنسان في الخلاف العِلمي الذي نشب عام ٢٠١٤ حول العمل البحثي لعالِم الأحياء الدقيقة بجامعة ويسكونسن يوشيهيرو كاواوكا الذي صَمَّم عمدًا كجزءٍ من تجربة لفهم تطور فيروسات الإنفلونزا، سلالةً من فيروس إنفلونزا الخنازير H1N1 القاتل الذي ظهر في عام ٢٠٠٩، وقام بتحويله إلى أشكالٍ مُتحوِّرة يكون الإنسان عرضةً للإصابة بها وليس لديه ضدَّها أي حماية مناعية. زعم البروفيسور كاواوكا أن سلالته المُتحورة كانت تهدف فقط للمساعدة في تطوير اللقاحات، بينما أشار علماء آخرون إلى أنه سواء تسرَّبت هذه السلالات خارج المُختبر عن طريق الخطأ أو أُطْلِقَت عمدًا من مُختبره الذي يتَّسِم بدرجة أمن متوسطة، فيمكن أن تكون الآثار المترتبة على ذلك مروِّعة (كونر، ٢٠١٤). أكدت هذه الواقعة على الافتقار إلى الرقابة الأخلاقية على العلماء حول العلماء المنخرطين في تصميم أشكال حياة جديدة قد تكون مُميتة.

لقد أُثبِت بما لايدع مجالًا للشك أن الإطلاق العمدي لعاملٍ مُسبب للوباء أمر يمكن حدوثه حتى في أكثر المنشآت الحكومية أمنًا، كما في الواقعة الأمريكية التي حدثت في عام ٢٠٠١ التي تُوفِّي فيها خمسة أشخاص، وأصيب سبعة عشر آخرون بعدما أُرسِلَت طرود تحتوي على جراثيم الجمرة الخبيثة إلى مكاتب مجلس الشيوخ الأمريكي ووسائل الإعلام. عند تحليلها، تبيَّن أن الجمرة الخبيثة كانت من «سلالة أميس»، وهي نوع صمَّمه علماء الحرب البيولوجية الأمريكية بشكلٍ خاص من ميكروب عُثِرَ عليه في بقرةٍ في ولاية تكسكاس، ثم وُزِّعَ على ستة عشر مختبرًا في الولايات المتحدة. بعد تحقيقٍ مُكثَّف أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي، خَلصوا إلى أن موظفًا غير متوازن عقليًّا في منشأة الحرب البيولوجية الأمريكية في فورت ديتريك بولاية ماريلاند، قد أرسل هذه الميكروبات، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية؛ وهذا كي يُلقي الضوء على ضَعف أمريكا في مواجهة هذا النوع من الهجمات، ولتخويف الكونجرس وحثِّهِ على زيادة التمويل المُخصَّص لأبحاث الحرب البيولوجية، وقد نجح فعلًا. ومع ذلك، نتيجة انتحار المُشتبه به بعد ذلك بوقتٍ قصير، فلم تتَّضح دوافعه أبدًا بصورة قاطعة (مكتب التحقيقات الفيدرالي، ٢٠١٦). الدرس المُستفاد المهم من هذه الحادثة هو أنه لا يُوجَد أي مختبر في أي مكان في العالم، بصرف النظر عن مدى أمانه، مُحصَّن ضدَّ الانتشار الخبيث للعوامل المُسببة للأوبئة — سواء كانت طبيعية أو اصطناعية — بفعل موظف مجنون أو مُتعصِّب، أو حكومة تتصرَّف وفقًا لتصورها الخاص بالمصلحة الوطنية، أو عميل سري من الأعداء، أو بمحض الصدفة. ومن ثمَّ فإن جميع مختبرات الحرب البيولوجية — وفي الواقع، العديد من مختبرات التكنولوجيا الحيوية العادية — تُشكل تهديدًا وجوديًّا مستمرًّا، مثلها في ذلك مثل المواد النووية، للبشرية التي لا يمكن ضمان سلامتها أبدًا.

سُلِّطَ الضوء على هذا في أوائل عام ٢٠١٦ عندما أصدر جيمس كلابر مدير الاستخبارات القومية الأمريكية تحذيرًا من أنه حتى التحرير الجيني (مثل التقنية المعروفة باسم «كريسبر») يجب إضافته إلى قائمة أسلحة الدمار الشامل، مُضيفًا أنه «يزيد من خطر تكوين عوامل أو منتجات بيولوجية يُحتمَل أن تكون ضارة» (ريجالادو، ٢٠١٦). وحذَّر علماء آخرون من أن أشكال الحياة المُعدَّلة وراثيًّا يمكن استخدامها لاستهداف مجموعاتٍ مُحدَّدة من البشر الذين يحملون جينات مُعينة، أو أنه إذا تمَّ إطلاقها في المحاصيل الزراعية «المُصمَّمة»، فقد ينتج عنها أوبئة لا يمكن السيطرة عليها. كما حذَّروا من أن تكنولوجيا تحرير الجينات أرخص بكثيرٍ وأسهل في الحصول عليها من الأسلحة النووية أو الكيميائية.

تقول «مؤسسة التحديات العالمية» إنَّ من مخاطر «البيولوجيا التخليقية»؛ ألا وهي صُنع أشكال جديدة من الحياة بطريقةٍ اصطناعية «تصميم وبناء الأجهزة والأنظمة البيولوجية لأغراضٍ مفيدة، ولكن إضافة العَمْدِيَّة البشرية إلى مخاطر الوباء التقليدية …» تُشكل أحد التهديدات الوجودية الاثنَي عشر الرئيسية التي تَحيق بالبشرية، والتي حدَّدتها المؤسسة في تقريرها لعام ٢٠١٥:

تُعتبر محاولات التنظيم أو التنظيم الذاتي في بدايتها في الوقت الحاضر، وقد لا تتطوَّر بالسرعة التي تتطوَّر بها الأبحاث. قد يأتي أحد أشد آثار البيولوجيا التخليقية ضررًا من مُسبِّب مرض مُخَلَّق يستهدف البشر أو مكونًا مُهمًّا ومِفصليًّا في النظام البيئي.

يُمكن أن ينشأ هذا من الحرب البيولوجية العسكرية أو التجارية، أو الإرهاب البيولوجي (ربما من خلال استخدام منتجات ذات استخدامٍ مزدوج طوَّرها باحثون شرعيون، ولا تخضع للحماية حاليًّا من قبل الأنظمة القانونية الدولية)، أو مُسبِّبات الأمراض الخطيرة المُسرَّبة من المختبرات. ومن المواضيع ذات الصلة هو ما إذا كانت منتجات البيولوجيا التخليقية ستُصبح مدمجة في الاقتصاد العالمي أو المحيط الحيوي. وهو ما قد يُؤدِّي إلى المزيد من نقاط الضعف (يمكن استهداف منتج بيولوجي تخليقي غير ضار ولكنه واسع الانتشار على وجه التحديد كمدخلٍ يمكن من خلاله إحداث أضرار). (مؤسسة التحديات العالمية، ٢٠١٥)

عقول آلية

في عام ٢٠١٤، تلقَّى العالَم إنذارًا مفزعًا عندما حذَّر عالم الكونيات البريطاني ستيفن هوكينج (وهو أحد أشهر العلماء في العالَم، ورجلٌ استفاد شخصيًّا من التقنيات فائقة الذكاء للتغلُّب على الإعاقات الجسدية التي فرضَها عليه مرض العصبون الحركي) من أنَّ الذكاء الاصطناعي أو الآلي يُمكن أن يكون بمثابة نهاية البشرية. صرَّح هوكينج لوكالة بي بي سي: «يُمكن لتطوير ذكاء اصطناعي كامل أن يُشكِّل نهاية الجنس البشري. إذ يُمكن أن ينطلق من تلقاء نفسه، ويعيد تصميم نفسه بمعدَّل يتزايد باستمرار. البشر المحدودون بتطوُّرهم البيولوجي البطيء، لن يُمكنهم المنافسة، وسيتمُّ الاستعاضة عنهم» (سيلان-جونز، ٢٠١٤).

هذه ليست فكرة جديدة؛ فكُتَّاب الخيال العملي كانوا يُحاولون مواجهة احتمال حدوث صراع بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي منذ عقود: وكان ذلك موضوعًا رئيسيًّا لقصص الإنسان الآلي التي كتبها إسحاق عظيموف بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي؛ وكذا كان فكرة رئيسية في فيلم ستانلي كيوبريك المَلحمي الذي أخرجه عام ١٩٦٨ «٢٠٠١: أ سبيس أوديسي» (أو «٢٠٠١: ملحمة الفضاء») الذي يُحاول فيه «هال»، الكمبيوتر المُهذَّب والمُصاب بجنون العظمة التخلُّص من الطاقم البشري لسفينة فضائية بعد أن استنتج أنهم يُشكِّلون تهديدًا على مهمَّته. ولكن على حدِّ تعبير هوكينج، الذي استخدم أحدث جيل من الذكاء الاصطناعي لتعزيز فكره، ولصياغة أفكاره والتحدُّث والتواصل مع زملائه من البشر، والذي كان مبهورًا بقدرة هذا الذكاء الاصطناعي على تفسير رغباته؛ فقد كان يتَّسم هذا الذكاء الاصطناعي بشكلٍ من أشكال الجاذبية والروعة.

لم يكن هوكينج وحده؛ فقد عبَّر إيلون مَسك، الرئيس التنفيذي لشركتي «تسلا موتورز» و«سبيس إكس»، والذي يُعتبر واحدًا من التقنيين السَّبَّاقين في العالَم، عن قلقه العميق حيال هذا الأمر. وتعليقًا على القوة الناشئة للذكاء الاصطناعي المُعتمِد على الإنترنت، أخبر مَسك مجموعة من المفكرين العلميِّين الذين يُطلقون على أنفسهم اسم «نادي الواقع» قائلًا: «يقع خطر حدوث شيءٍ شديد الخطورة في إطارٍ زمني مُدته خمس سنوات أو عشر سنوات على أقصى تقدير. أرجو ملاحظة أنَّني في العادة أؤيد التكنولوجيا تأييدًا فائقًا، وأنَّني لم أُثِر هذه المسألة أبدًا حتى الأشهُر الأخيرة. هذه ليست حالة إنذارٍ كاذبٍ عن شيء لا أفهمه» (روزينفيلد، ٢٠١٤). توضيحًا لهذا التعليق، قال مَسك في حديثٍ له في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «أعتقد أننا يجب أن نكون حَذِرين للغاية بشأن الذكاء الاصطناعي. فربما يكون هو أكبر تهديد وجودي لدَينا … يجب أن يكون هناك شكل من أشكال الرقابة التنظيمية على المُستويين الوطني والدولي، فقط لضمان أننا لن نقوم بشيء شديد الحُمق. إننا نَستدعي الشيطان بالذكاء الاصطناعي. فلم يَنجح الأمر في كل تلك القصص التي يُوجد فيها رجل لدَيه النجمة الخماسية والمياه المقدسة، ويبدو أنه متأكِّد من أنه يستطيع التحكم في الشيطان.»

مثل الكثير من التقنيات السابقة التي شكَّلت سلاحًا ذا حدَّين، يَعِد الذكاء الاصطناعي بالتسلُّل إلى قلوبنا وعقولنا وجيوبنا من خلال تولِّي جميع المهام الصعبة والقذِرة والمُزعجة والمُملَّة والمُكلِّفة التي يُفضل البشر عدم القيام بها، ولا يتمتَّع سوى القليل منَّا بالنظرة الثاقبة لهوكينج أو مَسك لنرى إلى أين يُمكن أن يئول كل ذلك. كما هو الحال مع جميع التقنيات الجديدة، لا يُسمَع سوى ترويج مؤيِّديها، ونادرًا ما تُسمَع أصوات مُنتقديها الأذكياء. قالت مجلة «ساينتفيك أمريكان» عن هذه التكنولوجيا الجديدة القوية، «كما هو الحال في الجيل الثاني من الروبوتات، سيؤدي الذكاء الاصطناعي المُحسَّن إلى تقدُّم إنتاجي كبير مع تولي الآلات زمام مهام بشرية مُعيَّنة، بل وحتى تنفيذها بأداء أفضل. تُشير أدلة كافية وجوهرية إلى أن السيارات ذاتية القيادة ستُقلل من وتيرة الاصطدامات وستتلافى وقوع وفيات وإصابات من النقل البري؛ وذلك لأنَّ الآلات تتجنَّب الأخطاء البشرية: فقدان التركيز وعيوب الرؤية، وغيرها من أوجه القصور الأخرى. كما أن الآلات الذكية، التي لدَيها وصول أسرع إلى ذاكرةٍ أكبر بكثير من المعلومات، والقدرة على الاستجابة دون تحيُّزات عاطفية بشرية، قد يكون أداؤها أفضل حتى من الأطباء المُتخصِّصين في تشخيص الأمراض» (مايرسون، ٢٠١٥).

نوقِشت القضية على نطاقٍ واسع في يناير عام ٢٠١٥، عندما وقَّع أكثر من أربعة آلاف من العقول التكنولوجية الرائدة في العالم — بما في ذلك هوكينج ومَسك — رسالة مفتوحة إلى «معهد مستقبل الحياة»، تنصُّ على الآتي:

يُوجَد الآن إجماع واسع على أن أبحاث الذكاء الاصطناعي تتقدَّم بوتيرةٍ ثابتة، وأن تأثيرها على المُجتمَع من المُرجَّح أن يزداد. وفوائدها المُحتمَلة هائلة؛ وذلك لأنَّ كل ما تُقدمه الحضارة هو نتاج الذكاء البشري؛ لا يُمكننا التكهُّن بما يمكن أن نُحققه عندما يتعاظم هذا الذكاء بمساعدة الأدوات التي قد يُوفرها الذكاء الاصطناعي، ولكن القضاء على المرض والفقر ليس مُستبعدًا.

نتيجة للإمكانات الكبيرة للذكاء الاصطناعي، من المُهم البحث في كيفية جنْي فوائده وتجنُّب مخاطره المُحتملة في الوقت نفسه. إن التقدُّم المُحرَز في أبحاث الذكاء الاصطناعي يجعل الوقت مناسبًا لتركيز البحث ليس فقط على جعل الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة، ولكن أيضًا على تعظيم الفائدة المجتمَعية من الذكاء الاصطناعي. نُوصي بإجراء بحثٍ مُوسَّع يهدُف إلى ضمان أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي ذات القدرات المُتزايدة قويةً ومفيدة، فيجب على أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بنا أن تفعل ما نُريد منها فعله. (راسل وآخرون، ٢٠١٥)

على الرغم من أن هذا يبدو أشبَهَ بمطالبة الكيميائيِّين بالتوصُّل إلى مُضادات حيوية أفضل دون العبث بالغازات السامة أو المواد شديدة الانفجار، أو مطالبة الفيزيائيِّين بتصميم أجهزة إلكترونية أفضل دون تصنيع قنابل نووية أفضل، ولكنه على الأقل يُدْخِل قضية الأخلاقيات في مرحلةٍ مبكرة من تطوير تقنية جديدة ذات قدرة كاملة وقد تكون مدمرة.

إن الدافع وراء مثل هذه المخاوف هو الزيادة الحادة في استخدام العديد من البلدان للمَركبات الآلية، وخاصَّة الطائرات بدون طيار المحمولة جوًّا، والقادرة على إنزال الموت على أولئك ممَّن يخالفون مُشغلِّيها في الرأي أو المصلحة أو السياسة أو المُعتقَد أو الثقافة، وكذا، على نحو مثير للقلق، على أعدادٍ كبيرة من المارَّة الأبرياء، أو ما يعرف باسم «الأضرار الجانبية». وهو ما دفع مجموعة من العلماء الدوليين ونشطاء السلام إلى تشكيل «حملة لوقف الروبوتات القاتلة» التي تُطالب بوقف جميع «عمليات الإعدام الذاتية التشغيل» الجديدة حتى يتمَّ استحداث قانون دولي للتعامُل مع هذه القضية.3 وضَّح نشطاء الحملة قائلين:

أدَّى التقدُّم السريع في التكنولوجيا إلى بذل جهود لتطوير أسلحة ذاتية التشغيل بالكامل. ستكون هذه الأسلحة الآلية قادرة على اختيار وإطلاق النار على الأهداف من تلقاء نفسها، دون أي تدخُّل بشري. وستُشكِّل هذه القُدرة تحديًا أساسيًّا لحماية المدنيين وللامتثال للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.

تتَّجِه العديد من الدول ذات الجيوش العالية التقنية، بما في ذلك الصين وإسرائيل وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، نحو أنظمةٍ من شأنها أن تمنح استقلالية قتالية أكبر للآلات. إذا اختار جيش واحد أو أكثر نشر أسلحة ذاتية التشغيل بالكامل، وهي خطوة كبيرة تتجاوَز الطائرات المُسيَّرة التي يتمُّ التحكُّم فيها عن بُعد، فقد يشعُر الآخرون بأنهم مُضطرُّون للتخلِّي عن سياسات ضبط النفس، وهو ما يُؤدي إلى سباق تسلُّح آلي. (حملة وقف الروبوتات القاتلة، ٢٠١٥)

تعدُّ الروبوتات القاتلة حالة جديدة من الحالات التي تتجاوز فيها التكنولوجيا المجتمع وقُدرته على إدارتها وتنظيمها. بالكاد كانت الطائرات بدون طيار العسكرية التي يتمُّ التحكُّم فيها عن بُعد قيد الاستخدام لعقدٍ من الزمان، وكانت لا تزال غير مألوفة لمُعظم مُواطِني العالَم، قبل أن ينهمك الفنيُّون في تطوير قطع آلية قادرة على التجوُّل كما تشاء واتخاذ القرارات بشكلٍ ذاتي، بموجَب قواعد مُعيَّنة تتعلق بمن يتوجَّب عليها قتله. بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، ستكون هذه الآلات شائعة في الترسانات العسكرية وقوات الشرطة والأجهزة الأمنية لمعظم البلدان، وربما حتى في الشركات المُتعددة الجنسيات بحجَّة تحقيق «أمن أفضل». مثل خيول الحرب وبنادق المَسكيت والطائرات الحربية التي كانت تُستخدَم في العصور الفائتة، يُمكن للقاتلات الآلية التي لا عقْل لها أن تُصبح عاملًا تكتيكيًّا يُغير قواعد اللعبة، وقادرًا على مطاردة الأفراد، أو تهديد دُوَلٍ بأكملها أو شركات أو مناطق أو مدن أو قادة أو تنفيذيِّين أو عقائد، وتهديد الحضارة العالمية ككُل إذا وقعت في أيدي جماعة أو دولة شريرة.

ومع ذلك، فإن الخطر الأكبر من الذكاء الاصطناعي قد يكمُن بصورةٍ أقل في الأسلحة الذاتية التشغيل، التي تَعمل إلى حدٍّ ما تحت توجيه الإنسان، عنه في الذكاء الآلي الذي قد يسعى — لأسبابٍ خاصة به — للسيطرة على البشر أو أن يحلَّ محلهم أو القضاء عليهم. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو وكأنه خيال علمي، إلا أنَّ هذه القضية هي التي أثارت قلق هوكينج ومَسك، وهي تستنِد إلى تقنياتٍ موجودة بالفعل أو أُخرى قيد التطوير في الوقت الراهن. تُوضِّح مؤسسة التحدِّيات العالمية قائلة:

يُعَرَّف المجال [مجال الذكاء الاصطناعي] عادة بأنه «دراسة وتصميم عوامل ذكية»، وهي أنظمة تُدرِك بيئتها المُحيطة وتتصرَّف بما يعمل على زيادة فُرَص نجاحها. لا يمكن السيطرة بسهولة على مثل هذه الذكاءات المُتطرِّفة (سواء من قبل المجموعات التي تُصنِّعها، أو من خلال شكلٍ من أشكال النظام التنظيمي الدولي)، وفي الغالِب قد تعمل على تعزيز ذكائها والحصول على الحدِّ الأقصى من الموارد لتلبية مُختلف دوافع الذكاء الاصطناعي الأولية تقريبًا.

وإذا كانت هذه الدوافع لا تشتمل خصيصًا وبشكل تفصيلي على بقاء الإنسان وقيمته، سيندفع هذا الذكاء لبناء عالَمٍ خالٍ من البشر. هذا يجعل الآلات ذات الذكاء الاصطناعي المُتطرِّف تُشكِّلُ خطرًا فريدًا، يكون فيه الانقراض هو الأكثر احتمالًا من التأثيرات الأُخرى الأقل. وكذا يُوجَد إمكانية الحرب المدعومة بالذكاء الاصطناعي وجميع المخاطر التكنولوجية التي سيجعلها الذكاء الاصطناعي مُمكنة. إحدى النُّسَخ المُثيرة للاهتمام من هذا السيناريو هي إمكانية إنشاء «مُحاكاة كاملة للدماغ»، حيث يتمُّ مسح أدمغة الإنسان وتمثيلها ماديًّا في آلة. وهذا من شأنه أن يُحوِّل الآلات ذات الذكاء الاصطناعي إلى عقولٍ بشرية ملائمة. (بالمين وآخرون، ٢٠١٥)

تُشير المؤسَّسة إلى أن هذه المخاطر ليست مُستقلة، فهي غالبًا ما تتقاطَع مع مخاطر أخرى أو تُضاعفها أو تتسبَّب فيها في سلسلة تُشبه الدومينو. على سبيل المثال، يمكن لمخاطر الذكاء الآلي بسهولة أن تُكمِل التهديدات النابعة من تكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية وتُفاقِمها، منتجةً بيئةً تُهيمن عليها التكنولوجيا ولا يتمكَّن فيها البشر العاديُّون من البقاء؛ على سبيل المثال، استخدام الطائرات بدون طيَّار لنشر الفيروسات المُصمَّمة لمهاجمة البشر الذين يحملون مجموعةً مُعيَّنة من الجينات فحسب. من بين جميع المخاطر المختلفة التي تواجه البشرية في هذا القرن، تصنف المؤسَّسة الذكاء الاصطناعي على أنه الأكثر صعوبة من الناحية التكنولوجية للتغلُّب عليه، والأصعب على الإطلاق لتكوين شراكة لمُعارضته، حيث قد يكون لدى الكثير من الناس مصالح شخصية في تطوُّره. باختصار، فمن شأن السيطرة على الذكاء الاصطناعي أن تكون أمرًا إشكاليًّا ومُستعصيًا ومحلَّ نزاع، شأنها شأن التحكُّم في مناخ الأرض، والسيطرة على الأسلحة النووية أو المواد الكيميائية السامَّة.

لم يتم وصف العملية الدقيقة التي سيتمكن من خلالها الذكاء الآلي من القضاء على البشرية في أيٍّ من هذه السيناريوهات، ولكن الشاغل المشترك في هذه السيناريوهات هو أن أيَّ ذكاءٍ اصطناعي صنعتْه يد البشر سيرِث كلًّا من غرائزنا التنافُسية وقسوتنا، وعلى عكس البشر، فلن يُخفِّف ذلك أي شكلٍ من الالتزام الأخلاقي لحماية جنسنا البشري. وهو ما قد يحثُّها على القضاء على جميع المُنافسين المُحتمَلين أو المخاطر المُتصوَّرة لبقائها، بما في ذلك صانعيها. السؤال الذي ما زال يبحث عن إجابة في خِضَمِّ كل هذا، هو السؤال الذي طرحه عظيموف: هل يمكن أن نُغذِّي آلة بالأخلاق؟

النانوقراطية

الجانب الآخر الذي تُعَرِّضُ فيه مسيرة التكنولوجيا مُستقبَل الإنسان إلى الخطر، هو بزوغ نجم «النانوقراطية» nanocracy (الاستحداث neologism كلمة مُشتقة من «النانو» وتُعنى بالإغراقية «القزم»، وهي الأصل الذي اشتُقَّ منه مصطلحا تكنولوجيا النانو والناموتر ويصف الجسيمات فائقة الصغر، أما المقطع kratos فمعناه القوة، وتعني القوة التي تمنحها الأجهزة الصغيرة جدًّا والأشخاص الذين يُشغِّلونها)، وهو وضْع تدير فيه شبكة من الحكومات والشركات التجارية والجهات المَعنية بتطبيق القانون عملية جمع المعلومات عن الأفراد ومُراقبتهم مراقبةً دقيقة طوال حياتهم (كريب، ٢٠٠٧).

فضح كاشفو الفساد مارك سنودن وتشيلسي مانينج وجوليان أسانج حقيقة أن المجتمع الحديث وكل من يعيشون فيه خاضعُون بالفعل لمراقبةٍ مُكَّثفة (بوب، ٢٠١٤). جميع سجلَّاتنا المالية والحاسوبية والخاصة بهواتفنا المحمولة، وجميع تفاصيلنا الصحية وقرارات الشراء والسفر والأذواق والهوايات والتفضيلات والمقاطع التي نظهر فيها على الكاميرات الأمنية في المتاجر والمكاتب وسيارات الأجرة والأماكن العامة في جميع أنحاء المدينة الحديثة متاحة للدولة، والعديد منها متاح أيضًا لشركاتٍ خاصة لها النفوذ نفسه. ما يدلُّ على الانتشار السريع لأجهزة المراقبة في وقتٍ مُبكر يعود لعام ٢٠١٣، أن بريطانيا وحدَها كان لديها بالفعل ستة ملايين كاميرا مراقبة — واحدة لكل أحدَ عشر مواطنًا — وهذا وفقًا ﻟ «هيئة صناعة الأمن البريطانية». يمكن لهواتفنا الذكية والسيارت التي تعمل بنظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية وشركات الطيران أن تُبلِغُ عن موقعنا أينما ذهبنا ونحن نستخدِمها. يمكن لأجهزة التلفاز «الذكية» والأجهزة المنزلية التي يُتَحَكَّم فيها صوتيًّا والهواتف الذكية أن تَرصُد وتُسجل وتُبلِغَ عن محادثاتنا وكلامنا حتى في خصوصية منازلنا (بي بي سي، ٢٠١٥). يُمكن لحواسبنا أن تَمسح وجوهنا وأنماط عملنا بحثًا عن إشاراتٍ عن الشعور بالملل أو الاستياء أو الخِلاف. وكما حذَّر هوكينج، فالتقنيات التي تُفسِّر أنماط أدمغتنا في مراحلها الأولى فعلًا. كل ما يَنقُصنا هو أجهزة كمبيوتر سريعة وقوية بما يكفي لتخزين واسترجاع وتفسير كلِّ جزءٍ من البيانات عن كل فردٍ من لحظة ولادته حتى لحظة وفاته، ونحن قاب قوسين أو أدنى من ذلك الآن، وهذا بفضل التكنولوجيا الكمِّية.

الكمبيوتر الكمِّي هو جهاز ينتقل إلى المستوى التالي من التصغير الفائق باستخدام جزيئات الكم (أو الكيوبِتات\ بِتْ كمومي) التي يمكن أن تتواجَد في عدة حالات مُتراكبة بدلًا من صيغة الأرقام الثنائية المعروفة (أو البِتَّات)، التي لا تُوجَد سوى في زوجَين فقط. والنتيجة هي جهاز يتميز بسرعةٍ أكبر وطاقةٍ وسَعة ذاكرة أكبر بكثير من التكنولوجيا التقليدية، أو ما يُعرَف في الوصف الدارج ﺑ «كمبيوتر فائق بحجم غرفة موضوع في علبة ثقاب». أخبر باحثون من «جامعة نيو ساوث ويلز»، الذين أنشئوا أول كيوبِت عام ٢٠١٢ (جامعة نيو ساوث ويلز، ٢٠١٢)، وسائل الإعلام في ذلك الوقت أن الكمبيوتر الكمِّي الأول في العالَم سيخرُج إلى النور في غضون خمس إلى عشر سنوات فقط. قال د. أندريا موريلو أن أجهزة الكمبيوتر الكمية، «تَعِد بحلِّ المشكلات المُعقَّدة التي يُعتبر حلُّها مستحيلًا في الوقت الراهن، حتى على أكبر أجهزة الكمبيوتر الفائقة في العالم؛ ومنها المُشكلات المتعلقة بالبيانات المُكثَّفة، مثل اختراق رموز التشفير الحديثة، والبحث في قواعد البيانات، ونمذجة الجزيئات البيولوجية والعقاقير.» تَزعُم كلٌّ من شركة جوجل ووكالة ناسا أنهما بَنَتَا أقوى كمبيوتر على الإطلاق — كمبيوتر دي-ويف ٢إكس — الذي احتُفِيَ به باعتباره طفرة كُبرى للذكاء الاصطناعي (ناسا، ٢٠١٥). تستثمر بورصة وول ستريت والبنوك، مثل بنك جولدمان ساكس في الحوسبة الكمية، في سباقٍ لتحويل الجسيمات الذرية إلى أموالٍ سريعة (بلومبرج، ٢٠١٥). وتستخدِم شركة إيرباص إصدارًا مبكرًا لتصميم طائرات نفاثة للمُستقبَل (تيليجراف، ٢٠١٥). كما تقوم شركة آي بي إم ووكالة نشاط مشاريع أبحاث الاستخبارات الأمريكية المُتقدِّمة ببناء أقوى آلة تجسُّس في التاريخ (آي بي إم، ٢٠١٥).

بحلول عام ٢٠٣٠، وبفضْل الحوسبة الكمية والانتشار العالمي للإنترنت والأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية وكاميرات الدائرة المُغلَقة، قد يكون من المُمكن مراقبة ورصْد كل فردٍ في المجتمع افتراضيًّا على مدار مُعظم حياته تلقائيًّا وبدون موافقتِه. على سبيل المثال، كل التفاصيل الوراثية الخاصة بنا ومُحدِّدات الهُوية الفريدة، كالرائحة الشخصية أو القياسات الحيوية الأخرى، وكل ما نفعله ونقوله أو كل ما فُعِلَ أو قيل لنا، وكل مكان نذهب إليه وكل شخصٍ نلتقي به، وجميع معاملاتنا المالية، ووثائقنا الخاصة وصُوَرنا، والأنماط الفريدة لأدمغتنا والمؤشرات البيولوجية، وكل الرؤى البصرية التي نُشَكِّلها، وكل ضغطة زر أو لمسة على جهاز محمول، وكل موقع إلكتروني نزوره، وبرنامج تلفزيوني نشاهده أو كتاب نقرؤه. كل ذلك من الممكن أن يُخَزَّن ويُستَخْرَج ويُجَمَّع بسرعة البرْق باستخدام «الكيوبيوتر» (الكمبيوتر الكمي)، ويُفَسَّر بواسطة الذكاء الاصطناعي المُوجَّه وفقًا لأغراض الشخص (أو الذكاء الاصطناعي) الذي أذِنَ بالبحث. بالنسبة لأولئك الذين قد يُحاولون عزل أنفسهم عن هذا التجسُّس الإلكتروني العالمي، ستُوفر الطائرات بدون طيَّار أو أسراب «الروبوتات النانوية» المِجهرية مراقبةً دقيقة (مجلة «ماذربورد»، ٢٠١٤).

تُعتبر الفكرة الأورويلية المُتمثِّلة في وجود «أخ أكبر» وهو عقل مراقَبة أوحد ومركزي، فكرةً في غير مَحلِّها في العصر الحديث. في الواقع، تُوجَد المعلومات المتعلقة بالأفراد في العالَم المتقدِّم بالفعل في المئات، وحتى الآلاف من قواعد البيانات المُنفصلة، التي يملك القطاع الخاص مُعظمها، مثل البنك الذي تتعامَل معه أو حسابك على الفيسبوك أو بريدك الإلكتروني، أو مقدم خدمة الإنترنت الذي تتعامَل معه، أو شركة هاتفك، أو شركة سيارتك، أو السوبر ماركت، أو الطبيب، أو نادي الجولف، أو وكيل السفر. وبحلول عام ٢٠٣٠، ستُصبح هذه المعلومات قابلةً للاسترجاع ويمكن لأي شركة أو وكالة لديها القدرة على فعل ذلك، البحث عنها في لمح البصر من خلال استخدام أي جهاز كمبيوتر كمِّي. سُتتيح تقنيتا استخراج البيانات والتعرُّف على الأنماط المُتقدِّمتَان انتقاء «الأهداف» من بين السكان على أساس كلامهم وأفكارهم وعاداتهم وأفعالهم تلقائيًّا، دون أن يكون الفرد قد سبَق أن استرعى انتباه أجهزة إنفاذ القانون، أو الأجهزة الأمنية، أو «شرطة الأفكار» سواء كانت سياسية أو دينية، أو المُسوِّقين التجاريين. وبمجرَّد اختيارك كهدف، سيكون من المُستحيل تقريبًا الخروج من قاعدة البيانات. إن الادِّعاء المُتكرِّر أنَّ «الأبرياء ليس لديهم ما يخشَونه» ما هو إلا محض هُراء؛ فالجميع، سواء كانوا مُذنبين أو أبرياء، يُحتمَل أن يخضعوا لمُراقبة دقيقة لا تطرُف لها عين على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع على مدار حياتهم من قبل الذكاء الاصطناعي.

وهذه التقنيات لا تقلُّ بالطبع عن التقنيات التمكينية لدولة مراقبة عالمية، وذلك على الرغم من أنه لا أحد يعترِف بذلك بالقدْر نفسه. في حين أنه من المنطقي أن يتطلَّب مجتمع مُعقد يتكوَّن من عشرة مليارت شخصٍ المزيد من القوانين والتشريعات وإنفاذ اللوائح عمَّا كان العالَم عليه في القرن التاسع عشر الذي بلغ فيه عدد الناس نصف مليار نسمة؛ فظهور المُراقبة الكمية سيتجاوز ويقضي على معظم جوانب الحرية الفردية. فدون إجراءات وقائية صارمة وشفافية ورقابة عامة، يُمكن أن تجعل هذه التقنية المُتطوِّرة كل الأشخاص في حُكم ممتلكات الدولة. طبقًا للاتجاهات الحالية، يُحتمل تحقيق ذلك بالتعاون مع القطاع الخاص عبر شركات الإنترنت والبنوك، وبالموافقة الساذجة للناخبين المخدوعين بطمأنة الادعاءات الحكومية بأن التجسُّس على الجميع أمر «ضروري للأمن القومي». ومع وجود العديد من الشركات العابرة للحدود الوطنية التي تُصبح في الوقت الحالي أكبر وأغنى وأقوى من الدول أو الحكومات المُنفردة، سيكون أحد الأهداف الرئيسية لنظام المُراقبة العالمية هو التسويق، أي استهداف كل فردٍ بعَينه وإغراقه بمجموعة هائلة من المنتجات والخدمات التي تتنبَّأ بكل رغبة، حتى قبل أن يُدركها الشخص نفسه. وأخيرًا، قد تستغل الأحزاب السياسية والهيئات الدينية التكنولوجيا ليس للتجسُّس على خصومها فحسْب، بل لضمان ولاء المؤيدين، الذين قد يُجبَرُون بعد ذلك بعد خضوعهم للتهديد بفضح جوانب من حياتهم الخاصة. هذا هو فجر النانوقراطية، إنه فجر حُكم الأسياد الأقزام (انظر باملين وآخرون، ٢٠١٥).

مثل جميع التقنيات المُتقدمة — وعلى الرغم من كل الدعاية التي تخدم المصالح الذاتية للعلماء الذين يعملون عليها — ليس هناك ما يضمن أن تُستخدَم هذه القدرة المطلقة بطريقة حكيمة وغير ضارة وأخلاقية، أو أنها ستخضع للتنظيم والإشراف العام، أو حتى أن تُعرَف تفاصيل عملها على نطاقٍ واسع. في الواقع، الاحتمالات هي أن النُّخَب السياسية والاقتصادية والدينية ستُوظِّفها للتجسُّس على من يرَون أنهم يشكلون تهديدًا لسلطتهم أو معتقداتهم أو ثروتهم أو حُرية تصرفهم والتحكم فيهم؛ أو أن تكون فرصةً لتحديد العملاء أو الموظَّفين المُحتمَلين أو الوكلاء المؤثرين. صرَّح إدوارد سنودن — الذي شهد ولادة العصر السرِّي للتجسُّس العالَمي وفَضَحَهُ — لشبكة إيه بي سي الأسترالية في مايو عام ٢٠١٥ أن القدرة على البحث في كلٍّ من المحتوى والبيانات الوصفية الخاصة بنا، «تُمَكِّن الحكومات بشكلٍ لا يُصدَّق، وتضعف المجتمع المدني بشكلٍ لا يُصدَّق أيضًا.» وهو ما يمكن أن يؤدي إلى ما أسماه «الاستبداد الجاهز» الذي تدَّعي فيه الحكومات أنها تتَّبع الإجراءات القانونية الواجبة، ولكنها تُصَعِّدُ سرًّا من مستوى تدخُّلها في الحياة الخاصة للناس دون الإفصاح. وحذَّر قائلًا: «إنهم يجمعون معلومات عن الجميع في كل مكان، بغضِّ النظر عما إذا كانوا قد ارتكبوا أي خطأ» (سنودن، ٢٠١٥).

في حين أنَّ معظم الناس سيعتبرون أنَّ مثل هذا التطفُّل الإلكتروني يُشكِّل تهديدًا للحرية الفردية أو الخصوصية بشكلٍ أساسي، إلَّا أنَّ هناك جانبًا أكثر خطورة يخصُّ هذه الممارسات يؤثر على مصير جنسنا البشري. واحدٌ من أكثر الدروس المستفادة المدهشة من الشيوعية، والنازية، والمكارثية، واليعقوبية الفرنسية أو من التعصُّب الديني في القرنين الماضيَين، هي الطريقة التي فرضُوا بها المراقبة على مُجتمعاتهم، وأجبروا مُواطنيهم على الإبلاغ بعضهم عن بعض، ودفع الأفراد إلى فرْض الرقابة الذاتية على أنفسهم، حتى إلى حدِّ قمع أفكارهم الشخصية الخاصة التي تتعارَض مع العقيدة السائدة.

إنَّ الخطر الذي يُشكله مثل هذا التطوُّر الواقع على نطاقٍ عالمي على المُستقبل البشري في القرن الحادي والعشرين هو قدرته على تثبيط أو منع النقاش والتغيير الضروريَّين لبقائنا. وقد ظهر بالفعل الدليل على أن المراقبة يُمكن أن تُثبِّط النقاش العام أو التعبير عن الرأي في دراسة أجرتها إليزابيث ستويشيف من جامعة وين ستيت وجدت فيها أن «القُدرة على مراقبة الأنشطة الإلكترونية … للمُواطنين خلسةً من شأنها أن تجعل مناخ التعبير عن الرأي عبر الإنترنت فاترًا للغاية.» وتُضيف أنه «في حين أن مؤيدي برامج (المراقبة الجماعية) يُجادلون بأنَّ المراقبة ضرورية للحفاظ على الأمن القومي، فهناك حاجة إلى مزيدٍ من التدقيق والشفافية حيث تُظهر هذه الدراسة أنها يُمكن أن تُسهم في إسكات وجهات نظر الأقليات التي تُمثل حجَر الأساس للخطاب الديمقراطي» (ستويشيف، ٢٠١٦).

كثير من الناس بطبيعتهم مُستكشفون للأفكار الجديدة، ومغامرون، ومُتَحدُّون للآراء المعمول بها، ومُصلِحُون، وليبراليون، وباحثون، ومحافظون على البيئة، وروَّاد، ومُبدعون، ومبتكُرون. لقد قاد هؤلاء الأفراد الموهوبون كلَّ تحوُّل اجتماعي وتكنولوجي أساسي منذ بداية الحضارة. إنهم العوامل التي تُثبِّط طبيعتنا المُحافظة واللامبالية، وهم المُستكشفون ومصادر الإلهام في رحلة تفوُّق الإنسان. تعتمد المجتمعات التقدُّمية والمزدهرة والديناميكية على مثل هؤلاء الأفراد لإلهامنا وقيادتنا نحو مستقبل أكبر وأكثر جرأةً وحِكمة.

ومع ذلك، ففي ظلِّ النانوقراطية، سيُنتَقى هؤلاء الأشخاص وسيتعرَّضون لمحاولات تهدف إلى «تثبيط عزيمتهم» بسهولة، لا سيما إذا كانت التغييرات التي يَقترحونها تُهدِّد من يُحقِّقون استفادةً كبيرة من «الوضع الراهن». حتى لو لم يخضعُوا للرقابة المباشرة، فسيميل مُعظم الناس إلى ممارسة الرقابة الذاتية على أنفسهم بدلًا من أن يخضعوا للمُراقبة. تاريخيًّا، غالبًا ما يدفع الإصلاحيُّون وذوو الرؤى والمُعارضُون، بداية من سقراط ويسوع وصولًا إلى جاليليو ومارتن لوثر كينج ونيلسون مانديلا ثمنًا باهظًا. في ظلِّ النانوقراطية، لن يَحظى مثل هؤلاء الناس بالفرصة من الأساس، إذ سيتعرَّف الذكاء الاصطناعي عليهم سرًّا، وسيَخضعُون للإسكات من البداية قبل أن تُتاح لهم الفرصة لإثارة أي مشكلة.

إن حرمان الجنس البشري من الراديكاليِّين، وأصحاب الرؤى، والليبراليين، والمُبشِّرين، والمُبتكِرين والمُغامرين لن ينتج عنه سوى جنس مُعاق وعاجز يُشبه تلًّا من النمل الأبيض، وليس مُجتمعًا. قد يكون مُستقرًّا ومنظَّمًا ومجتهدًا، ولكنه كذلك سيكون أقلَّ تقدُّمية وإبداعًا ومرونة، لأنه سيميل إلى قمع الأصوات والآراء التحذيرية التي تتعارَض مع الأعراف الاجتماعية أو التي تُجادل بغرَض الإصلاح. سيكون نوعُنا أقلَّ قدرةً على تجنُّب التهديدات الوجودية الرئيسية — كما هو الحال مع تغيُّر المناخ والتسمُّم الوبائي — لأنَّ ذلك قد يؤدي إلى تهديد المصلحة الذاتية للنُّخَب الحاكمة.

قد يُشكل ظهور أجهزة الكمبيوتر الكمية والمراقبة العالمية نذيرًا بوجود عقبةٍ شديدة في مسار التطوُّر البشري، مما يخلُق نوعًا أقلَّ حكمةً وأقل قُدرة على البقاء في تلك المرحلة الدقيقة من التاريخ التي سيكون فيها البقاء على قيد الحياة على المحكِّ أكثر من أي وقتٍ مضى (كريب، ٢٠١٦).

توزيع الثروة

في حين تُوجد أدلة وافرة في جميع أنحاء العالَم على أن الإنسانية تُصبح أكثر ثراءً وتُحقِّق مستويات معيشية أعلى ككل، توجد أدلة أيضًا على أن الثروة لا توزَّع بالتساوي عبر المجتمعات الكثيرة، وأنها تتركَّز في قبضة مجموعةٍ أقل من الناس. أو كما يقول القول المأثور القديم: يَزداد الأغنياء غنًى، ويزداد الفقراء فقرًا، نسبيًّا. يحتفظ البنك الدولي بمؤشِّر يصنف البلدان وفقًا للمساواة أو عدَم المساواة في الدخل (البنك الدولي، ٢٠١٥ب) وهو ما يَميل لتأكيد هذا القول المأثور، هذا في حين تزعُم منظمة الإغاثة الدولية «أوكسفام» بأنَّ نصف ثروة العالم لا يَملكُها سوى ١٪ فقط من سُكَّانه.

لقد وَلَّدَ هؤلاء الأفراد الأثرياء ثرواتهم الضخمة وحافظوا عليها من خلال مصالحهم وأنشطتهم في عددٍ قليل من القطاعات الاقتصادية المُهمَّة، بما في ذلك التمويل والتأمين وصناعة الأدوية والرعاية الصحية. تُنفق الشركات العاملة في هذه القطاعات ملايين الدولارات كلَّ عام على ممارسة الضغط لخلق سياسةٍ بيئية تحمي مصالحها وتُعزِّزها بشكلٍ أكبر. تُوَجَّه أكثر أنشطة الضغط غزارة … على المسائل المُتعلقة بالميزانية والضرائب؛ وهي موارد عامة لا بدَّ من توجيهها لصالِح السكَّان كافة، لا أنْ تعكس مصالح جماعات الضغط القوية. (هاردون، ٢٠١٥)

وفقًا لصحيفة «الجارديان» البريطانية، كان ثمانون شخصًا على كوكب الأرض في عام ٢٠١٤، هم من يُسيطرون على ثروة أكثر من مجموع ما يمتلكه ثلاثة مليارات و٦٠٠ مليون شخص من الأكثر فقرًا (إليوت، ٢٠١٥). وجاء «تقرير الثروة العالمي كريدي سويس» في عام ٢٠١٥ بتقديرٍ مُماثل، وهو أن ١٪ من السكان يُسيطِرُون على نصف الأصول (الممتلكات) الأُسرية في العالم (معهد كريدي سويس للبحوث، ٢٠١٥). في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، بَيَّنَ الاقتصادي توماس بيكيتي أنَّ مستوى عدَم المساواة في الدخل في أمريكا الشمالية وبريطانيا وأستراليا قد ارتفع بثباتٍ لمدة ثلاثة عقود، وأنه بحلول عام ٢٠١٠ سيعود الوضع ليُصبح كما كان عليه في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين! (بيكيتي، ٢٠١٤). في الولايات المتحدة، كان أصحاب الدخول الأعلى، والذين يُشكِّلُون ١٪، يسيطرون على دولارٍ واحد تقريبًا من كل خمسة دولارات من دخل الدولة (بزيادة من ٨٪ في عام ١٩٨٠ إلى ما يقرُب من ١٨٪ بحلول عام ٢٠١٠). ارتفعت الحصة الغنية للمملكة المتحدة من ٦ إلى ١٥٪، بينما نمت حصَّة كندا من ٨ إلى ١٢٪. سارع العديد من المُعلقين بعزو صعود السياسات المُتطرِّفة والشخصيات الديماجوجية إلى خيبة الأمل التي يشعُر بها الناخبون حول حِصَّتهم المتضائلة من الرخاء الوطني. إذ كما تقول صحيفة «نيويورك تايمز»: «يستخدِم الأغنياء ثرواتهم للتأثير على العملية السياسية للحفاظ على امتيازاتهم» (بورتر ٢٠١٤).

قدَّم ميان وزملاؤه في دراسة للنتائج السياسية للكساد الاقتصادي العالمي بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ الحُجَّة القائلة بأن عدم المساواة في الدخل تؤدي إلى جمودٍ تشريعي وتردُّد حكومي (ميان وآخرون، ٢٠١٢)، مُشيرين إلى أنه، «… سياسيًّا، تُصبح البلدان أكثر استقطابًا وتجزئةً بعد الأزمات المالية. وينتُج عن ذلك جمود تشريعي، وهو ما يُقلِّل من احتمالية أن تؤدي الأزمات إلى إصلاحاتٍ اقتصادية كلية ذات معنًى.» كما يُوضِّح جوزيف ستيجليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فإنَّ ذلك يؤثر أيضًا على الترابط بين الأجيال. يقول ستيجليتز: «هذه الحقائق الثلاث — الظُّلم الاجتماعي على نطاق غير مسبوق، وعدم المساواة الهائلة، وفقدان الثقة في النُّخَب — تصف اللحظة السياسية الراهنة، وهو أمر عادل … لكننا لن نتمكَّن من حلِّ المشكلة إذا لم نضعْ أيدينا عليها. شبابنا يفعلون ذلك، إنهم يُدركون غياب العدالة بين الأجيال، وهم مُحقُّون في شعورهم بالغضب» (ستيجليتز، ٢٠١٦).

من منظور بقاء الحضارة والنوع البشري، لا يُمثِّل التفاوت المالي تهديدًا مباشرًا، بل إن مُعظم المُجتمعات قد تدبَّرت أمورها لفتراتٍ طويلة وهي تمرُّ بدرجاتٍ متفاوتة من عدم المساواة في الدخل. عندما يتعلَّق الأمر بالجنس البشري، الذي تجاوزت أعداده ومَطالبه بالفعل الحدود المحدودة للكوكب الذي يَتشاركونه، يكمُن القلق في قُدرة عدم المساواة على تدمير التماسُك الاجتماعي؛ ومن ثمَّ تقويض احتمالات وجود جُهد تعاوني تُشارك فيه الإنسانية ككُلٍّ لمُعالجة التهديدات الوجودية المُتعدِّدة التي نُواجهها. الأغنياء ضدَّ الفقراء، هي وسيلة جيدة لتحويل مسار النقاش، ومن ثمَّ عرقلة اتخاذ إجراءات لحل مسألة المناخ، أو نزع السلاح، أو تنظيف الكوكب أو الأمن الغذائي.

يؤدِّي الانقسام إلى خسارة الانتخابات في المعترك السياسي؛ ويؤدي نشوب الخلافات بين القادة وقواتِهم إلى هزيمةٍ عسكرية؛ ويؤدِّي الافتقار إلى روح الفريق إلى الفشل الرياضي؛ بينما يَعني عدم الانسجام ضعف الأوركسترا أو الأداء التجاري؛ وعادة ما تُؤدِّي الخلافات العائلية إلى الخلل الوظيفي والعُنف. كل هذه الدروس معروفة ومُصَدَّقة في جميع مناحي الحياة. ومع ذلك، يتغاضى البشر باستمرارٍ عن الثمن الباهظ للظلم والانقسام الاجتماعي الاقتصادي عندما يتعلق الأمر بالتعامُل مع المخاطر المشتركة التي نواجهها كنوع.

كي تبقى الحضارة ويَنجح نوعُنا في البقاء والازدهار بشكلٍ مُستدام على المدى الطويل، يُعتبَر التفاهُم المشترَك والتعاون ضرورِيَّين لرأب جميع الصدوع التي تفرق بيننا، سواء أكانت سياسيةً أم إثنية أم دينية أم اقتصادية. لن يُمكننا العيش في عالَم مُستدام، ولن يُمكن لجنسنا البشري البقاء إلا إذا تمكَّنَّا من تقليص فجوات الفقر وعدَم المساواة، هذا إن لم نَسدَّها بالكامل. وهي ليست مسألة سياسية أو أيديولوجية كما قد يُجادل الكثيرون، بل إنها الدرس نفسه في التعاون والحِكمة الجماعية الذي تعلَّمه البشر الأوائل لأول مرة في السافانا الأفريقية منذ مليون ونصف مليون سنة مضت: باتِّحادنا نصمد، وبانقسامنا نسقط.

ليست هذه المسألة سوى قضية تعايُش وبقاء مُشترَك. فلا الأغنياء ولا الفقراء سيَستفيدُون من حالة انهيار الحضارة، والعالَم غير المُستدام سيَقتل الأثرياء كما سيقتُل المحرومين سواء بسواء.

ما الذي يجِب علينا فعله؟

  • (١)

    إعادة تخطيط مُدن العالم بحيث تُعيد تدوير ١٠٠٪ من مياهها ومُغذياتها ومعادنها ومواد بنائها.

    كيفية التطبيق: «يأتي دور المُخطِّطين العمرانيين والقادة المدنيين في المقام الأول، وقد بدأ الكثيرون بالفعل في تطوير «المدن المستدامة». تُشارك هذه المدن معارفها وتقنياتها وخبراتها كلٌّ منها مع الآخر حول العالَم عبر الإنترنت؛ وهو أمر عادةً ما يجعل المدن تَسبق الدول بكثيرٍ في التعامُل مع قضايا مثل المناخ، والمياه، والطاقة، وإعادة التدوير وما إلى ذلك. على الأرجح، يُمكن أن يكون التطوُّر الأكثر فائدة هو إنشاء مكتبة افتراضية على غرار «مكتبة الإسكندرية»، يُمكن من خلالها مشاركة جميع الخطط والأفكار والتقنيات والنصائح والحلول الحضرية في لمح البصر مع باقي المدن في جميع أنحاء العالم. كما ستُساعد الشراكة بين المدن المُتقدِّمة والمُتخلفة. وكذا، فإعادة تدوير المياه والمُغذِّيات يُعتبر أولوية قصوى.»
  • (٢)

    التوقُّف عن تدمير الغابات المَطيرة والبرية حيث يُجبِر ذلك الفيروسات الحيوانية على اللجوء إلى البشر.

    كيفية التطبيق: «ثمَّة حاجة ماسَّة إلى وعي وتعليم عالميَّين بأن الأمراض الجديدة تنتج عادة من النظم البيئية المُدمِّرة، وما يُدمِّر تلك البيئات هو مؤشراتنا الدولارية كمُستهلكين. ومن ثم، فاقتصاديات المستهلك هي التي تدفع المخاطر المتزايدة للأوبئة، وبالمِثل تُقدِّم حلًّا من خلال المُستهلكين الواعين والشركات المُلتزمة أخلاقيًّا والصناعات المُستدامة. وكذا تعزيز الجهود الدولية لاستعادة التُّربة والمياه والمساحات الخضراء والمُحيطات. بالإضافة إلى بناء مؤشرات أسعار للمنتجات الغذائية والمنتَجات الأخرى القائمة على الموارد بما يُتيح إعادة استثمار رأس المال الطبيعي.»
  • (٣)

    إنشاء أنظمة إنذار مُبكِّر عالمية للأوبئة الجديدة. والتمويل العلني لمجهود عالمي يهدف إلى تطوير مُضاداتٍ حيوية ومضادات فيروسات جديدة.

    كيفية التطبيق: «تَعمل منظَّمة الصحَّة العالمية والهيئات الطبية العالمية على ذلك بالفعل. ولكن يجِب أن يَقترن ذلك بنُظُم تنبُّؤية مُخصَّصة للأنظمة البيئية التي تُواجه ضغوطًا شديدة، والتي من المُرجَّح أن تَنتشِر منها مُسبِّبات الأمراض الجديدة.»
  • (٤)

    تدمير جميع مخزونات الأوبئة المُنقرضة. وحظر التطوير العلمي لمُسبِّبات الأمراض الجديدة التي يُمكن أن تضُرَّ البشر.

    كيفية التطبيق: «يُعرقِل هذا المسار رفض الدول المسلَّحة نزْع أسلحتها، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للأسلحة النووية. ولا يستطيع أن يُلزِمها بذلك سوى مواطنيها وناخبيها.»
  • (٥)

    فرض مدوَّنة للأخلاقيات والشفافية العامة على جميع الأبحاث العلمية — وإلا تتعرَّض للاستبعاد ورفْض النشر والعقوبات الجنائية — التي يُحتمَل أن ينتُج عنها إنشاء ذكاء آلي مُستقل أو أجهزة روبوتية تتَّخِذ قراراتها ذاتيًّا بقتْل الناس.

    كيفية التطبيق: «لقد حان الوقت لجميع التخصُّصات العلمية أن تفرِض مُدوَّنة للأخلاقيات على ممارسيها لتقليل احتمالية استخدام العِلم لأغراضٍ شريرة أو تُشكِّل خطرًا وتهديدًا وجوديًّا. لذا، لا بدَّ أن تبدأ المناقشات في المؤتمرات العلمية العالمية حول هذا الأمر فورًا.»
  • (٦)

    إرساء حقٍّ جديد من حقوق الإنسان يتمثَّل في حظر المُراقبة الجماعية لمجتمعاتٍ بأكملها وتقييد جمع البيانات من المَهد إلى اللَّحد على الأفراد غير المُشتَبَه في ارتكابهم لأي جريمة.

    كيفية التطبيق: «سيكون الإصلاح الدستوري ضروريًّا في مُعظم الحالات لمنع الحكومات، وكذا صياغة قوانين خصوصية أقوى لمنع الشركات من تجميع البيانات عن جميع المواطنين وإساءة استخدامها؛ وسيكون موقف المواطنين والناخبين ضروريًّا لحثِّ هذا العمل. يجِب أن تُصبح الشفافية بشأن جمع البيانات والرقابة العامَّة عليها هي الركيزة الأساسية للديمقراطية.»
  • (٧)

    القضاء على الفقر في جميع البلدان وإعادة توزيع الثروة البشرية بشكلٍ أكثر عدالة كمُتطلَّب أساسي لتحقيق التلاحُم الاجتماعي الضروري للحفاظ على الحضارة خلال الفترة التي تواجه فيها أكبر تَحدِّياتها على الإطلاق.

    كيفية التطبيق: «إنَّ فكرة القضاء على الفقر مُتجذِّرة بالفعل في التخطيط العالمي لحملة «أهداف التنمية المستدامة»، ولكن من الضروري إشراك الشركات العابرة للحدود الوطنية بشكلٍ كامل في هذه المهمة، حيث إنها تتحكَّم الآن في معظم ثروة العالَم. لقد بدأت الحوارات حول هذه المسألة بالفعل، ولكنها تحتاج إلى إحراز تقدُّمٍ أسرع مدفوعًا بالوعي بالمخاطر الوجودية لكل ما سيُوقِعُه بنا الانقسام.»

ما الذي يُمكنك فعله؟

  • عِش حياةً أكثر استدامة. اختَر جميع مُشترياتك بحِكمة؛ ومن ثمَّ شارك هذه الحِكمة عبر التأثير القوي لاقتصاديات السوق.

  • تدرَّب على ممارسة الفن البشري القديم للبقاء على قيد الحياة من خلال توقُّع المخاطر. أمام كل تقنية جديدة قوية، اسأل نفسك «ماذا يعني هذا لأحفادي؟» ومَيِّز بين التهديدات المُحتملَة والُفرَص.

  • كناخبٍ، طالِبْ بسنِّ القوانين التي تكشف علانيةً عن أوجه التقدُّم في الذكاء الاصطناعي وعِلم النانو، بحيث يُمكن أن يكون هناك نقاشٌ عام حُر وعادل حول أيٍّ من جوانب هذه التقنيات الجديدة القوية يجِب أن يكون حرًّا، وأي منها لا بدَّ من تقييده أو حظره.

  • اتَّخِذ موقفًا أخلاقيًّا ضدَّ الآلات التي يُمكن أن تقتل البشر بناءً على قرار ذاتي.

  • اتَّخذ موقفًا أخلاقيًّا ضدَّ جمع البيانات والمراقبة العالمية، وإساءة استخدامها. طالِب بإصلاح دستوري لحماية حريتك من التجسُّس.

  • افهم أنَّ التوزيع الأكثر عدلًا للثروة البشرية سيُقلِّل العبء على كوكب الأرض، ويزيد من احتمالات السلام والوفرة للجميع. وكذا، سيُرسِّخ التلاحُم الاجتماعي اللازم لمواجهة التهديدات الوجودية الرئيسية للحضارة والوجود البشري. ادعم العدالة الاجتماعية وكذلك العدالة القانونية.

  • لا تَشترِ مُنتَجاتٍ أو حصصًا في شركات تستغلُّ وتُفقر أشخاصًا آخرين؛ أو تضر بالمساحات الخضراء أو المياه أو الموارد اللازمة لبقاء الإنسان؛ أو تتجسَّس على عملائها. لا تُكافئ الأثرياء على سلوكهم الأناني.

  • اشترط الأخلاق واللياقة والعدالة في كلِّ من تتعامل معهم. وعزِّز ذلك من خلال خياراتك الاقتصادية والديمقراطية السياسية.

هوامش

(1) Th e Andromeda Strain was a classic 1971 science fi ction movie. http://www.imdb.com/title/tt0066769/.
(2) 1918 Flu Pandemic. History Channel. http://www.history.com/topics/1918-flu-pandemic.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤