مقدمة
قبل أن يظهر كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل المشهور «خريف الغضب» في الأسواق، نُشر على هيئة سلسلة من المقالات في صحيفة «الوطن» الكويتية، وطوال الوقت الذي كانت تُنشر فيه هذه المقالات، كانت سلسلةٌ أخرى من الأفكار تتفاعل في ذهني وتتبلور يومًا بعد يوم. كان كتاب هيكل، بغير شك، هو السبب المباشر في إثارة هذه الأفكار، ومع ذلك فقد كانت أصولها أبعد من ذلك وأعمق بكثير؛ إذ كانت في نهاية المطاف تأملات في تلك الأزمة العقلية الشاملة التي شوَّهت تفكيرنا، حُكامًا ومحكومين، في النصف الثاني من القرن العشرين. وحين اطلعت على ردود الفعل التي أثارها كتاب هيكل، أو ما نُشر منه، في الأوساط الرسمية والإعلامية والثقافية المصرية، والطريقة التي استجاب بها الناس له، ما بين موافقٍ ومخالف، ازدادت الأمور في ذهني وضوحًا، وتبيَّن لي أن المناخ السائد، الذي تولَّدت عنه هذه الأزمة العقلية، يلف الجميع، من مؤيدين ومعارضين، مهما بدا من اختلاف ردود أفعالهم في الظاهر، وكانت المهمة التي أخذتها على عاتقي هي أن أُحدِّد أبعاد هذه الأزمة، وأثبت أن المشكلة ليست مشكلة هيكل وحده، أو مشكلة التضاد بين هيكل وتلك القوى التي وقفت تحتجُّ وتعترض عليه، وإنما هي أوسع من ذلك وأخطر، فقد تشوَّهت أشياءُ كثيرة في عقولنا، بفعل فترة القمع الطويلة التي لم تسمح لفكرنا بأن ينمو ويتطوَّر بحرية، وإذا كان هذا التشويه قد ظهر بوضوحٍ كامل في معركة «خريف الغضب»، بين أنصار هيكل وخصومه، فإن هذه المعركة لم تكن في الواقع إلا مظهرًا واحدًا لداءٍ أصبح مُتأصِّلًا في عقولنا، ولطريقةٍ في التفكير فرضت نفسها على مختلف أطراف الصراع السياسي والاجتماعي الراهن.
في ضوء هذه الفكرة المحورية سجَّلتُ آرائي في هذا الموضوع في عشر مقالات كتبتها في عشرة أيام، وإن كان مضمونها حصيلة تفكيرٍ طويل، وظهرت في صحيفتَي «الوطن» الكويتية، و«الرأي» الأردنية في وقتٍ واحد، ونُشرت خلال شهرَي يونيو، ويوليو ١٩٨٣م، وكانت ردود الفعل على هذه المقالات دليلًا واضحًا على صحة تشخيصي للأزمة، التي انتابت العقل العربي نتيجة لعهود القمع الطويلة.
منذ اللحظة الأولى اتخذت صحيفة «الوطن» الكويتية، موقفًا مناوئًا لي ومُجاملًا لصاحب «خريف الغضب»، وكان جزء من هذا الموقف راجعًا إلى النفوذ الضخم، الذي يمارسه صاحب ذلك الكتاب على قطاعاتٍ هامة من الصحافة العربية، وجزءٌ آخر راجعًا إلى إحساس الكثيرين، من المسئولين عن النشر في تلك الصحف، بأن الأفكار التي أحللها وأنقدها تُزعزع كثيرًا من المعاني والقيم الراسخة في نفوسهم، وقد ظهر ذلك بوضوحٍ صارخ فيما بعد، حين قامت هذه الصحيفة بحذف الجزء الأساسي من المقال التاسع، الذي يتناول علاقة هيكل الخاصة بأمريكا، وعنوانه: «عمنا سام». وكان المُضحك المُبكي في عملية الحذف هذه هو أن الجزء المحذوف، كان في معظمه اقتباسًا طويلًا من كتابٍ سابق لهيكل نفسه، وهو اقتباس يستطيع القارئ أن يستنتج منه بسهولة، أن أمريكا تتوقع من هذا الصحفي الكبير أن يُلبِّي لها طلباتٍ غير عادية، لا هدف لها سوى تحقيق المصالح الأمريكية الخاصة، ولم أكن في هذا الجزء بالذات إلا ناقلًا لكلام هيكل ذاته، مع بعض التعليقات البسيطة، ومع ذلك فإن الصحيفة الناشرة كانت تخشى على هيكل من هيكل نفسه، فأدى بها حرصها على إرضائه إلى الامتناع عن نشر كلماته ذاتها!
على أن ردود فعل الجمهور على ما نشرت كانت تستحق التأمل؛ فقد وجد ما كتبتُه صدًى طيبًا لدى فئتين؛ فئة الشباب من جهة، وفئة الكبار الذين كان وعيهم السياسي والاجتماعي، قد بدأ يتبلور قبل ثورة ١٩٥٢م من جهةٍ أخرى. كان الشباب متحمسين لما كتبتُ؛ إذ كانوا يرون فيه طابعًا غير مألوف، يستجيب لرغبتهم في نقد الأوضاع الفاسدة من الجذور، وكان النقد الحاد الذي وجَّهتُه إلى أسلوب التفكير السائد في عهدٍ كامل، يتمشى مع ما يلمسونه حولهم كل يوم من مظاهر الانهيار الناجمة عن أخطاء ذلك العهد، ويتجاوب مع طموحهم إلى تشييد بناءٍ جديد، مختلف بصورةٍ جذرية عن الأوضاع القائمة والمتوارثة. أما الكبار فكانوا سعداء بما كتبتُ؛ لأنه يُمثل خروجًا عن الأطر الضيقة، التي ظل الفكر السياسي يدور فيها، حتى في كثير من أوساط المعارضة، طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
أما الفئة التي وقفت موقف المعارضة مما كتبت، فكانت تنتمي إلى الجيل الأوسط، أعني ما يُطلَق عليه جيل الثورة، ولست أعني بذلك أن جميع أفراد هذه الفئة قد اتخذوا من كتابتي موقفًا سلبيًّا؛ إذ إن الكثيرين منهم أبدوا تحمُّسًا واضحًا، ولكن ما أعنيه هو أن الجزء الأكبر من المعارضين كانوا ينتمون إلى هذه الفئة.
كان عدد غير قليل من هؤلاء المعارضين من ذوي الارتباطات السابقة بثورة ٢٣ يوليو، وكان همهم الأكبر هو الدفاع عن هذه الارتباطات، وتلك في الواقع ظاهرة مؤسفة في حياتنا السياسية المعاصرة. فيكفي أن يكون المرء قد احتل يومًا ما موقعًا في الاتحاد الاشتراكي، أو منظمة الشباب، أو التنظيم الطليعي، حتى يهبَّ لمهاجمة كل من يتصدَّى بالنقد لممارسات ثورة يوليو، وكأن هذا الناقد يوجِّه إليه هجومًا شخصيًّا يتعيَّن عليه أن يصده بهجومٍ مضاد، يدافع به عن ارتباطه السابق ويبرره، في ثنايا دفاعه عن النظام كله وتبريره. والأمر الذي فات هؤلاء هو أن المنظور الذي كتبت منه لا علاقة له بالأشخاص وانتماءاتهم، وإنما هو منظورٌ أوسع من ذلك بكثير، يرصد التيارات والاتجاهات ويوضح جوانب القصور فيها، مستهدفًا غاية أسمى بكثيرٍ من الانتقام من عهدٍ معين أو تصفية الحساب مع المتعاونين معه. والأهم من ذلك أن التدهور الذي أصاب كافة جوانب حياتنا، كان كفيلًا بأن يجعل أصحاب الارتباطات السابقة، ينسون أشخاصهم ويركزون تفكيرهم في أوضاعنا المتردية، وفي أفضل السبل لإنقاذ وطننا من الهاوية التي ينزلق إليها بسرعةٍ رهيبة. ولكن يبدو أن الحرص على تبرئة الذات وتبرير تاريخها السابق، أهم لدى الكثيرين من مدِّ يد المعونة إلى الوطن الغارق.
وهكذا اعتقد الناصريون أنني لم أقصد، من كل ما كتبت، سوى عبد الناصر، وأغمضوا عيونهم عن جميع الشواهد القاطعة، التي تدل على أنني تصدَّيت لأسلوب في الحكم، لا لأشخاص، ولم أتعرَّض لعبد الناصر أو للسادات أو لهيكل، إلا بقدر ما كانوا يجسِّدون هذا الأسلوب في فكرهم أو ممارساتهم، واعتقد بعض اليساريين أن انتقادي لهيكل، في الوقت الذي كان يخوض فيه معركة ضد المؤسسة الساداتية، كان نوعًا من السذاجة السياسية التي تؤدي موضوعيًّا إلى خدمة المعسكر الساداتي. ولو كان هؤلاء قد أمعنوا التفكير فيما كتبت؛ لتبيَّن لهم أن النقد الذي وجَّهته إلى أسس النظام الساداتي كان أكثر فعالية بكثيرٍ من انتقادات هيكل؛ ذلك لأن صورة السادات عند هيكل تظل دائمًا مهتزَّة غير محددة المعالم؛ فهو يصوره مغامرًا غير وطني في شبابه قبل الثورة، ثم واحدًا من أقرب المقربين إلى زعيمٍ وطنيٍّ كبير، ثم رئيسًا للبلاد أعطاه هيكل، خلال سنواته الأولى والحاسمة، كل تأييده، آملًا أن «يمنحه فرصة» يمحو فيها تاريخه القديم المشين، ثم قائدًا لا يعرف كيف يدير — سياسيًّا — معركته العسكرية الكبرى، ثم زعيمًا متهاونًا ومستسلمًا أمام أعداء الوطن … إنها صورةٌ خالية من التماسك والاتساق، وما كان من الممكن إلا أن تكون على هذا النحو؛ إذ إن مواقف هيكل نفسه من السادات كانت أبعد ما تكون عن الاتساق، وكانت تتراوح بين التأييد المطلق والعداء المطلق، مع إنكار العداء السابق وقت التأييد، وإنكار التأييد السابق وقت العداء. وهكذا كان الاهتزاز في صورة السادات، كما رسمها هيكل، تعبيرًا عن التذبذب الحاد في مواقف هيكل نفسه. فهل هذا الموقف الأعرج هو الذي يمكن الاعتماد عليه في نقد الظاهرة الساداتية؟ ألن يكون النقد المتسق، المتماسك، الصادر بدوافعَ موضوعية لا تُشوِّهها ارتباطات أو تبريرات، هو الأقدر على كشف السمات الحقيقية لهذه الظاهرة؟
ولقد كان الوجه الآخر لهذه الرؤية الضيقة، هو تصدي بعض الناصريين للدفاع عن هيكل بوصفه رمزًا للناصرية، ناسين تمامًا تلك المعركة التي خاضها بكل ضراوة، جنبًا إلى جنب مع السادات، في عام ١٩٧١م، ضد الكتلة الرئيسية من الناصريين الذين أطلق عليهم اسم «مراكز القوى»، وتلك الخلافات الحادة التي نشبت بينه وبين أشد العناصر الناصرية إخلاصًا لمبادئها، وذلك الدور الحاسم الذي لعبه في سنوات السادات الأولى، من أجل تهيئة عقول الناس للتحول الحاسم، الذي كان يخطط له بذكاء من أجل هدم دعائمَ أساسيةٍ للناصرية.
•••
أعود فأقول إن ردود الأفعال هذه كانت دليلًا آخر على صحة التشخيص، الذي قمتُ به في هذا الكتاب للتشويه الذي لحق عقولنا بعد سنواتٍ طويلة من الممارسات الملتوية المقيدة بألف قيد، فقد ظهر لي بوضوحٍ كامل أن عددًا لا يُستهان به من مثقفينا، ما زالوا يُصرُّون على تصنيف المفكرين السياسيين، في إطار تلك الثنائية المحدودة؛ الناصرية أو الساداتية. فأنت في نظرهم لا بد أن تكون هذا أو ذاك، وإذا انتقدت أحدهما فلا بد — في رأيهم — أن يكون هذا النقد لحساب الآخر، أما أن يتخذ المفكر لنفسه موقعًا خارج نطاق هذه الثنائية، ويقف من الطرفين معًا موقفًا ناقدًا متحرِّرًا، كما حاولتُ أن أفعل في هذا الكتاب، فهذا ما يعجزون عن تصوره أو استيعابه.
والحق أن هذا الكتاب سيكون قد حقَّق الهدف، الذي يرمي إليه كاتبه لو استطاع أن يُقنِع القارئ بأن مصر أوسع وأرحب، من أن تُختزَل إلى هذه الثنائية الضيقة المحصورة في إطار ثورة يوليو، وبأن العهدين الناصري والساداتي، وإن اختلفا تمامًا في مضمونهما وأهدافهما، قد أخضعا مصر لأسلوبٍ فردي في الحكم، كان هو المسئول عن القدر الأكبر من هذا التدهور، الذي نلمسه في كل جوانب حياتنا، وهذا الانهيار القاتل في معنويات الإنسان، ولو لم يدرك القارئ عن وعي طبيعة المنظور الاستقلالي الذي كُتبت به هذه الصفحات، لأَفلتَ منه الخيط الأساسي الجامع بينها، وعجز عن فهم الهدف الحقيقي الذي يرمي إليه كاتبها.
أبريل ١٩٨٤م