لعبة الأحياء والأموات
حين نمضي في رحلة الكشف عن مظاهر تزييف الوعي، وانهيار العقل والمنطق، كما تمثلت في ردود الفعل على كتاب هيكل، ستظهر لنا أمثلةٌ أخرى مؤسفة لذلك الخلط، الذي أصبح سائدًا على كافة الأصعدة، بين أساليب الناس في التعامل معًا على المستوى الشخصي، وأساليبهم في النظر إلى أمور المجتمع العامة على المستوى السياسي، ولكنا سنكتشف أيضًا أن قدرة المزيِّفين على الخداع، وصلت إلى حدٍّ من الجراءة، بل من الصفاقة، يفوق كل تصور، وأنهم ما كانوا ليبلغوا هذا المدى، لو لم يكونوا قد اعتادوا النظر إلى الجمهور على أنه قطيع ينقاد، بلا عقل، في أي اتجاه يُفرض عليه، وهذا التعالي على الناس، والاعتقاد بأن أية أكذوبة يمكن أن تمرَّ عليهم، ليس إلا النتيجة الطبيعية لجو القهر المخيِّم منذ أمدٍ بعيد، والذي أشاعه عهد لا يجعل للجمهور من دورٍ سوى التصفيق والتصديق.
ولنستمع، بعد ذلك، إلى أستاذ مرموق في الطب، وأمين عام لنقابة الأطباء، وهو يهاجم الصحيفة التي نشرت مقالات هيكل الأولى قبل أن تصادر، فيقول: «هذه الصحيفة صدرت في ظل الحريات، وقانون الأحزاب التي أرسى قواعدها من أرادوا نهش لحمه حيًّا وميتًا، لا لشيء إلا لأنه اتخذ موقف الصدق مع شعبه، واستجاب لمطلب أمته وأعلن عداءه للشيوعية …»
- أولًا: حين يتحدث النموذج الأول عمن يكتبون بلا وفاء، فإنه يُسقط الاعتبارات الأخلاقية الشخصية على التقييم السياسي، وكأن المؤرخ مُلزَم، من أجل الوفاء للحاكم، إذا كان قد أسدى إليه خدماتٍ معينة، بأن يغمض عينيه عن عيوب هذا الحاكم، ويغشَّ جمهوره عندما يصدر حكمًا عليه، ثم يزداد الخلط والتشويش (الذي لا أظنه كله متعمدًا، بل هو يُعبِّر عن الطريقة التي أصبح يفكر بها الكاتب نفسه) حين يتحدث عن «سمعة الوطن»، واهدار الحرمات، والتشهير بالرجال والنساء، ويصل الضباب الفكري إلى ذروته، عندما يستخدم الكاتب تعبيراتٍ إنشائية، لا مجال لها على الإطلاق في السياق الذي يتناوله، وكل ما تؤدي إليه هو إيجاد جو من التعاطف مع «الضحية»، أو جو من النفور من «المعتدي»، مثل «العدوان على سمعة الذين هم في ذمة التاريخ» أو «تمزيق الأشلاء»، هكذا أصبح للتاريخ «ذمة»، وهذه الذمة تحمي الحاكم من أي نقد، وتجعل من يمسُّ الحكام اللاجئين إليها «مُمزقًا للأشلاء»!
- ثانيًا: أما النموذج الثاني فأمره أغرب، إنه يؤكد ببساطةٍ شديدة أن السادات، حين
أعلن عداءه للشيوعية، إنما اتخذ موقف الصدق مع شعبه واستجاب لمطلبه، وهكذا
يُقرِّر الطبيب المرموق أن مطلب الشعب المصري ليس المعيشة الآدمية، ولا
المواصلات السهلة، ولا المسكن المعقول، ولا الخبز الضروري، وإنما هو العداء
للشيوعية. ولا يخجل الكاتب من أن ينسب اللوعة والحزن إلى المصريين جميعًا
في تلك الجنازة التي شهد الأمريكان أنفسهم بأنها قُوبلت من الشعب بعدم
اكتراثٍ كامل. وأخيرًا، فإن الكاتب ينظر إلى الحاكم على أنه ولي النعم،
ويصل به تقديس الفرد، واحتقار الجماهير، إلى حد القول إنه هو الذي يمد يديه
بالخير، وهو الذي يفتح أبواب الحرية، وهو الذي يسمح للناس بالتعبير، ويرى
هذا كله وضعًا طبيعيًّا يدافع عنه بحرارة، وفي مقابل ذلك فإن المعارضين
الجاحدين، لا يردُّون على هذا الخير الذي يتصدق عليهم الحاكم به إلا بالشر
والقذف.
إن مستوى الوعي السياسي هو الذي يهم في الموضوع كله؛ فها هو ذا إنسان لا بد أنه سافر مرارًا إلى الخارج، وقرأ ذلك الكم الرهيب من «الشر والقذف» الذي تحتشد به صحف حزب العمال ضد تاتشر أو صحف الديجوليين ضد ميتران، ورأى نماذج لا حصر لها للمعارضة القاسية الضارية، التي تتقبَّلها الحكومات بكل ترحيب، ومع ذلك فهو لا يقبل لبلده إلا أسوأ نموذج؛ ذلك الذي يكون فيه الحاكم مانحًا للحرية، والمعارض الناقد معتديًا أثيمًا.
أنقول إنها عقلية عصر الانفتاح، مُنعكسة على ضمائر أقطاب العهد؟ أنقول إن الطبيب الكبير يدافع عن عهدٍ، يتيح له أن يتقاضى عن المريض الواحد، في كشفٍ يستغرق دقائق قليلة، مقدار ما يتقاضاه خريج الجامعة الحديث، إذا عُين موظفًا حكوميًّا، ليعيش به في شهرٍ كامل؟ لست أدري، وكل ما أعرفه هو أنها محنةٌ فكرية، قبل أن تكون أزمة في الضمائر.
- ثالثًا وأخيرًا: فإن النموذج الثالث، الذي يقدم إلينا حديثًا متخيَّلًا بلسان السادات،
يُكرِّر بلا مواربة أفكار النموذج الثاني عن الحاكم من حيث هو «ولي النعم»،
ويقدم مجموعةً غريبة من الأحكام لا تصدر إلا عن شخصٍ يفترض أن قُرَّاءه قد
أُلغيتْ عقولهم وحُرموا حاسة الفهم، يؤمن بأن قارئه قد نسي تمامًا، أن عهد
السادات كان فيه أيضًا زوار للفجر، وأن كثيرًا من القضايا السياسية قُدِّمت
فيه بناء على شهادة أجهزة تجسس وتنصت، وأن سيادة القانون كانت تخرق حتى على
مستوى أعضاء مجلس الشعب، ولكنه يستدرك بعد ذلك، فيستخدم لغة «الآباء
والأبناء» في وصف حركة اعتقالات سبتمبر ١٩٨١م، ويصور المسألة كما لو كان
الأب الحنون، كبير الأسرة الواحدة، قد اضطر متألمًا إلى أن يكون صارمًا مع
بعض أبنائه من أجل صالحهم.
إن جرأة الإعلام على التزييف والمغالطة، حين تصل إلى هذا الحد، فلا بد أن يكون في الأمر كله خطأٌ فادح، صحيح أن الإعلام في العالم كله يبالغ، ويخرج عن الحقائق هنا وهناك، غير أن ثمة حدًّا أدنى من الاحترام لعقول الناس، ولكن هذا الحد الأدنى لا أثر له للأسف، في إعلام عهود الحكم الفردي المطلق، ومن ثم فإن الكاتب يستبيح لنفسه أن يلوي الحقائق كما يشاء، ما دام يؤمن بأن عقول الناس قد أُلغيت منذ أمدٍ بعيد.
ومع هذا كله، فإن هناك ما هو أفدح وأخطر، وأعني به الحديث المتكرِّر عن «نبش القبور»، والسؤال الذي أصبح التفكير السياسي القاصر في هذه الأيام؛ يطرحه كما لو كان قضيةً بالغة الأهمية، وأعني به: هل ينبغي أن يُنقَد الحاكم حيًّا أم ميتًا؟
ولكن المهزلة الكبرى تتمثَّل في أن هيكل نفسه، الذي يتلفَّت الآن حواليه ببراءةٍ ويتساءل: أهذا معقول؟ كان هو نفسه من أهم من استخدموا هذه الحجة المتهافِتة، وكان من أقوى الناس نقدًا لمن يهاجمون الحكام بعد موتهم، وهكذا نجد أنفسنا إزاء «لا معقول» آخر، غير ذلك الذي يمثله خصوم هيكل، هو «لا معقول» هيكل نفسه.
فلنبدأ بتأمل رأيٍ قريب العهد لهيكل. لقد نشرت الصحف في مصر والكويت، الرسالتَين المتبادلتَين بين توفيق الحكيم وهيكل، فماذا نجد في هاتين الرسالتَين بشأن الموضوع الذي نتحدث عنه الآن؟ قال توفيق الحكيم مخاطبًا هيكل: «إن حالتي تشبه حالتك؛ فأنت كتبت كتابًا «خريف الغضب» اعتُبر هجومًا ضد السادات بعد موته، وأنا كتبت كتابًا هو «عودة الوعي» اعتبر هجومًا على عبد الناصر بعد موته.» ولكن هيكل يرفض هذا التشبيه بين الكتابين، ويهمنا في رفضه السبب الثاني الذي قدَّمه للاختلاف بينهما: «لم أكتب بعد موت أحد، كتبت في حياته رأيي، وكتبت بعد موته نتائج دراستي لما حدث.» وهو يؤكد في موضعٍ آخر أن الحكيم ألَّف كتابه «بعد ثلاث سنوات من رحيل عبد الناصر»، على حين أنه هو ذاته نقد السادات منذ فبراير ١٩٧٤م.
علام يدل هذا الحرص على نفي فكرة نقد الحاكم بعد موته؟ على شيءٍ واحد، هو أن هيكل يقف على نفس الأرض التي يقف عليها خصومه، ويُفكِّر بنفس منطقهم، ويتبنَّى نفس قيمهم؛ فالمعنى الضمني لديه هو أن نقد الحاكم بعد موته جبن، أو عمل غير أخلاقي، ومن هنا كان حرصه على تأكيد أنه نقد السادات حيًّا، ولم ينتظر ثلاث سنوات كما فعل توفيق الحكيم، وكل ما فعله بعد موت السادات هو أنه «كتب نتائج دراسته لما حدث».
وهكذا يصف هيكل توجيه النقد للحكام بعد موتهم بأنه عربدة فئران في غياب القطط، ولا يدري أنه بعد أعوامٍ قلائل من حديثه ذاك، سيجد بدوره من يُشبِّهه بنفس التشبيه، بعد أن مارس هو أيضًا شجاعته على حاكمٍ غائب، والمفارقة الساخرة أن قائل هذا الكلام هو نفسه الذي يهتف في أيامنا هذه باستنكار: هل من المعقول أن يفعل الحاكم ما يشاء فلا نناقشه في حياته، ولا نناقشه بعد مماته؟
وهكذا فإنه، عندما كان الأمر متعلقًا بنقد تصرفات لعبد الناصر، وجد هيكل في مهاجمة الأموات جبنًا، وعندما أصبح متعلقًا بالهجوم على السادات، استنكر عدم مناقشة الحاكم بعد مماته (ولاحظ أنه استخدم في هذه الحالة الأخيرة عبارة «كل حاكم» أي أنه كان يصدر حكمًا منطبقًا على جميع الحالات)، هذا التناقض يدل على أن هيكل وخصومه يقفون جميعًا على أرضٍ واحدة، ويؤمنون بمجموعةٍ واحدة من الأفكار الباطلة، التي ترتكز على نزعةٍ أخلاقيةٍ زائفة تخاطب عواطف الناس لا عقولهم، وتخلط بين الموت من حيث هو كارثةٌ إنسانيةٌ شخصية، وبين التقييم السياسي من حيث هو ممارسة لا صلة لها بالموتى أو الأحياء.
إن الجميع في الوهم والضحالة الفكرية سواء، والكل نشئوا في مناخٍ سياسي لا يسمح بالموضوعية ولا يترك مجالًا للنقاش المنطقي المجرد عن الأهواء، فالساداتيون يقولون: لقد نبشتم قبرَ السادات، وهنا يردُّ الناصري: وأين كنتم عندما نُبش قبر عبد الناصر؟ أنتم فئران! ولكنه حين ينبش هو نفسه قبر السادات، ويهاجمه خصومه لهذا السبب، يتساءل في براءة: هل من المعقول أن يمنعونا عن نقد «كل حاكم» حيًّا أو ميتًا؟
إنها أرجوحةٌ شيطانية، يتراقص فيها الجميع سكارى بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة، ويثبتون بها، على نحوٍ قاطع، طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة بعد ثلاثين عامًا من ثورة، أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم.
تظل هناك، بعد ذلك، نقطةٌ واحدة يمكن أن يلجأ إليها هيكل في دفاعه، وهي أن نقده للسادات بدأ أثناء حياته، هذا صحيح، ولكن ليقل لي الأستاذ هيكل «بصراحة»: لو كان السادات لا يزال حيًّا، أكان يستطيع أن يتكلم عن «ست البَرِّين» وعن «المجعراتي المتسول» وكأس الفودكا الذي يُؤخذ بعد كل غداء؟ ليُجب بصراحة أيضًا عن هذا السؤال: ما دام هو نفسه صاحب منطق القطط والفئران، فأين يضع نفسه، في هذه النقطة بالذات، بين هاتين الفئتين؟
إن المسألة كلها خلطٌ مركَّب، فالكلام عن الأحياء والأموات، والتفرقة بينهم في النقد، أمر لا معنى له في ظل أي وعيٍ سياسيٍّ سليم، ومبدأ «اذكروا محاسن موتاكم» ينطبق على الأقارب أو الجيران أو الشركاء، ولكنه خارج عن مجال الكتابة التاريخية والسياسية، ولو صح هذا المبدأ في تلك الميادين الأخيرة، لما استطعنا كتابة التاريخ، ولكان الموت هو شهادة البراءة لكل حاكمٍ ظالم أو فاسق أو طاغية، ولأصبح كل مؤرخ، بحكم مهنته ذاتها، نبَّاشًا للقبور، ولكن الناس الذين اعتادوا على مدى سنواتٍ طويلة، أن يحصروا تفكيرهم في شخص الحاكم، والذين عجزوا عن أن يتصوَّروا أية حقيقة تتجاوزه، هم الذين يصبغون السياسة بهذه الصبغة الشخصية، ويحكمون على تصرفات الحكام مثلما يحكمون على سلوك «كبار العائلة»، وينسون المسئوليات الخاصة «لرجل الدولة»، التي تحتم علينا أن نحاسبه على كل شيء، وفي أي وقت نشاء.
هذا الذي قلناه على الموضوع كله، من حيث المبدأ، وفي ظل أي نظام، حتى النظام الديمقراطي، أما النظام الدكتاتوري — الذي تدور في ظله كل مناقشات هيكل وخصومه — ففيه يصبح الموقف أوضح، فالنظام الدكتاتوري لا يسمح بمناقشة الحاكم «إلا» بعد وفاته، وما دام النظام الدكتاتوري تحكمه أسودٌ مهيبة وشامخة، فمن الطبيعي أن يكون على الطرف الآخر، فئران — وإلا فعلى أي شيء يستأسد الأسود؟
إن الناقد الذي يهاجم أي حاكمٍ فرديٍّ مطلَق بعد مماته، إنما يتصرف تصرفًا طبيعيًّا لا مفر منه، لو قيل له: إنك خائف، لكان رده: نعم، إنني لم أتكلم إلا الآن؛ لأنني كنت خائفًا، ولي كل الحق في أن أخاف، وحتى لو ادعى هيكل الشجاعة فأكد أنه انتقد السادات في حياته، فإن هذه ليست قاعدة يمكن أن تسري على الجميع، فهيكل قد استطاع أن يختلف مع السادات في سنواته الأخيرة؛ لأنه هيكل، بكل ما يحمله من نفوذٍ وما لديه من اتصالاتٍ عالمية، وما يحتفظ به من أسرار تبعث الرعب في قلوب أقوى الأقوياء — وهذه كلها إمكانات لا تتوافر لأي كاتبٍ آخر، حتى لو كان في منزلة توفيق الحكيم، ومع كل ذلك فإن هيكل عندما هاجم الحاكم الفرد في حياته لم يكن يمسه إلا مسًّا رقيقًا، واضطر — بكل سلطته ونفوذه وإمكاناته — أن ينتظر حتى يموت لكي يغوص في الأعماق.
إن القضية كلها — أعني الكتابة عن الحكام أحياء أم أمواتًا — هي في رأينا قضية ما كان ينبغي أن تُثار، وليس الاهتمام المفرط الذي أبداه أطراف النزاع بها إلا دليلًا على قصورٍ شديد في الوعي السياسي لدى الجميع، والمسألة ببساطة استغلال لعاطفية الجماهير واستغفال لعقولها من أجل الحيلولة دون نقد الحاكم حين لا يعود الناس خائفين، بعد أن كان نقده ممنوعًا عندما كانوا خائفين، والخطأ الحقيقي الذي ارتكبه هيكل، لا يكمن في أنه انتظر حتى يموت السادات ثم فجر قنابل المعلومات على قبره؛ إذ إن الدكتاتور لا يمكن نقده إلا بهذه الطريقة، وإنما يكمن خطأ هيكل في أنه لم يكن يدرك هذه الحقيقة طوال الوقت، بل عاش الجانب الأكبر من حياته واقعًا في وهم «القطط والفئران» والشجاعة على الحاضرين والجبن على الغائبين.