التاريخ والحقيقة الضائعة
من سمات عهود القمع الفكري وكبت الرأي المعارض، أنها تُنشئ أجيالًا لا تعرف التاريخ إلا في صورةٍ مشوهة، فحين تكون وجهات النظر المتباينة متاحة يستطيع العقل الناضج أن يُكوِّن صورةً صحيحة عن أحداث التاريخ وتياراته، ويُصدر أحكامًا سليمة على السياسات التي تحكمت في صياغته، أما حين يسري الحظر الكامل على وجهات النظر التي تخالف موقف السلطة الحاكمة، فكيف نتوقع من أي جيل لم يتعرَّض إلا لوجهة النظر هذه، أن يفهم أحداث التاريخ ويصدر حكمًا صحيحًا عليها؟
وأستطيع أن أقول إن الأجيال التي تقلُّ أعمارها عن خمسة وأربعين عامًا، وهي بالطبع تشكل الأغلبية في العالم العربي المعاصر، لا تعرف عن تاريخ ما قبل ثورة ١٩٥٢م سوى معلومات غير موضوعية وغير منصفة، هذا بالطبع لا يمنع من أن يكون ثمة أفراد هنا وهناك، بذلوا جهودًا مضنية في القراءة والاطلاع والبحث عن الحقائق من مصادرها الأصلية، بحيث لا يسري عليهم هذا الحكم، ولكن مثل هذه الجهود لا تتاح إلا للقلة القليلة، بحيث يمكن القول إن الجيل بوجهٍ عام لم يعد يعرف ذلك التاريخ، إلا من خلال وجهة نظر معادية له، ومن ثم فقد حرصَتْ كل الحرص على تشويهه.
كانت تجربة مصر مع الديمقراطية تجربةً فريدة بحق، فمنذ القرن التاسع عشر كانت هناك مجالسُ نيابية، حاول حكام مصر في ذلك الحين، وهم أتراك أو أنصاف أتراك، أن يستغلوها لحسابهم، وجندوا بالفعل عددًا من الأعوان والأذناب، ولكن كان هناك دائمًا من يتصدَّون للقهر والطغيان، وشهدت هذه المجالس مواقفَ مجيدة، كان نواب الشعب فيها يدافعون عن الدستور ضد سلطة الحاكم، ويؤكدون سيادة الشعب ويحمون حقوقه، كانت تجربةً ديمقراطية مبكرة، سبقت نظيراتها في كثيرٍ من البلاد الأوروبية، وكانت شهادة بالغة الدلالة على أن الشعب يستطيع أن يجني من الديمقراطية مكاسبَ هامة، مهما كانت قوة التيارات التي تقف في وجه تطوره.
ولقد كانت هذه التيارات قوية بغير شك، فقد كان هناك القصر (الخديوي في البدء، ثم الملوك بعد ذلك)، وكان هناك الإنجليز، وكان هناك أعوان يستطيع الحكام شراءهم بالوعود والمصالح، ولم يكن الطريق بالتالي سهلًا على الإطلاق، ومع ذلك فقد كان الشعب يؤكد حقوقه ويدافع عن حرياته في كل فرصة تُتاح له.
وحين قامت ثورة ١٩١٩م في مصر، لم تكن الثورة التي عمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، والتي شاركت فيها الطبقات الدنيا والوسطى وكثير من شرائح الطبقة العليا، ولم تعرف تفرقة بين مسلمٍ وقبطي في الكفاح من أجل الوطن؛ لم تكن هذه الثورة كفاحًا ضد الأجنبي المحتل فحسب، بل كانت في الوقت ذاته جهادًا من أجل تأكيد الديمقراطية والحقوق الدستورية للشعب، وكان من أبرز مظاهر النضج السياسي في ذلك الحين، وجود وعيٍ كامل بأن الكفاح من أجل الاستقلال، والكفاح من أجل الديمقراطية لا ينفصلان.
وخلال تلك الفترة الواقعة بين ١٩١٩ و١٩٥٢م، تميزت الحياة السياسية بطابع الصراع العنيف، الذي تحدَّدت معالمه بوضوحٍ تام، بين تيارَين: تيارٍ رجعي يمثله القصر والإنجليز وأعوانهما، وتيارٍ شعبيٍّ مستنير يمثله الوفد، ولم يكن الوفد حزبًا مثاليًّا، بل كانت في دواخله تياراتٌ متعارضة، كما كان يضم شرائحَ متباينةً من المجتمع إلى الحد الذي يجعله أقرب ما يكون إلى صيغة «تحالف قوى الشعب»، تلك الصيغة التي بُذلت فيما بعدُ محاولات لتطبيقها في إطار غير ديمقراطي، فلم تلقَ نجاحًا.
ومع ذلك كان في الوفد ميزتان أساسيتان: الأولى أنه كان على وعيٍ تام بأن مصدر قوته هو التأييد الشعبي الساحق، ومن ثم فقد كان في أوقات الأزمات يقف بصلابةٍ في الدفاع عن الدستور وعن حقوق الشعب التي هي رصيده الأكبر، والثانية هي مرونته وقدرته على تطوير نفسه وفقًا للأحداث؛ مما أتاح له أن يصمد صمودًا رائعًا، طوال الفترة الواقعة بين ثورتَي ١٩١٩ و١٩٥٢م، على الرغم من كل حملات التشويه والتشنيع التي كانت تُشنُّ ضده بانتظام، وبفضل هاتين الميزتين استطاع الوفد أن يكتسح أحزاب الأقلية، التي خلقها القصر والإنجليز لمحاربته، في كل انتخابات تُجرى بقدرٍ معقول من الحرية، وكان آخر انتصاراته، وأكثرها مدعاة للدهشة في نظر خصومه، هو فوزه الساحق في الانتخابات التي أجريت في أواخر ١٩٤٩م، بعد فترة بدا فيها لخصومه في الداخل والخارج، أنهم أفلحوا في تشويه صورته عن طريق اختلاق تفسيرٍ كاذب لأحداث ٤ فبراير ١٩٤٢م، وعن طريق انشقاق مكرم عبيد ونشره «كتابًا أسود» ضد الوفد، وعن طريق إنشاء دار «أخبار اليوم» الصحفية خصيصًا لخدمة أهداف الملك والإنجليز والتخصص في تشويه صورة الوفد.
إننا لا نقدم هنا استطرادًا خارجًا عن الموضوع، ولا نود أن نقطع حبل الأحداث، التي أثارها كتاب هيكل أو التي ظهر كرد فعل عليه؛ إذ إن هذه الملاحظات تدخل في صميم الموضوع، وهي في رأينا تكمن في قلب المأساة الفكرية والسياسية التي تعاني منها مصر والأمة العربية في الوقت الراهن؛ فهناك كما قلنا جيل يجهل هذه الأحداث أو لا يعرفها إلا من خلال ما كتبه عنها خصومها منذ عام ١٩٥٢م، ومن حق هذا الجيل على من شهدوا هذه الفترة بوعيٍ وفهم أن يدلوا بشهادتهم، وسواء اقتنعوا بهذه الشهادة أم لم يقتنعوا، فلينظروا إليها على أنها مادةٌ خام تساعدهم على المزيد من التحليل والتفكير.
كانت الفترة التي تولى فيها الوفد السلطة، بعد انتصاره الساحق في آخر انتخابات أُجريت قبل الثورة، وآخر انتخاباتٍ حرة في تاريخ مصر، فترةً فريدة بحق في تاريخ هذه المنطقة كلها، ومن المؤسف حقًّا أن أحداث عامَي ١٩٥٠ و١٩٥١م لم تنلْ حظها من الدراسة والتحليل، مع أن هذه الفترة بالذات تلقي الضوء على الكثير جدًّا من التطورات التالية، ولن يسمح لنا المجال ها هنا، ولا الحرص على الاحتفاظ بتسلسل المناقشة وترابطها، بأن نتحدث بأي شيء من التفصيل عن هذه الفترة الحاسمة التي تنطوي على مفاتيح تفسر أحداثًا كثيرة وقعت فيما بعدُ، ولكن حسبنا أن نشير في عجالةٍ إلى الخطوط العريضة لأحداث هاتين السنتين الحاسمتين، اللتين بدأتا عند استدارة القرن العشرين إلى نصفه الثاني، وكانتا نقطة تحول أساسية بين التاريخ السابق والتاريخ اللاحق.
- (١)
تركت الحرية للصحافة لكي تهاجم الملك — أقوى سلطة في البلد، بارتكازه على قوتي الإنجليز والجيش — واتخذ الهجوم في بعض الأحيان طابع الفضح المباشر لتصرفات الملك وأسرته، وكان مما ساعد على ضمان هذه الحرية، معركةٌ مشهورة نشبت في ذلك الحين حول تشريعاتٍ مقيدة للصحافة (وهي تشريعات لا تساوي شيئًا إذا ما قيست بالقيود الفعلية التي أصبحت تمارَس ضد حرية الصحافة بعد عام ١٩٥٢م)، واستطاع فيها الضغط الشعبي، ممثلًا في حملةٍ صحفيةٍ رائعة ضد التشريعات الجديدة، أن ينتصر في النهاية؛ فسحبت التشريعات، وتأكدت حرية الصحافة.
- (٢)
قامت الحكومة، استجابةً لمطالباتٍ شعبيةٍ واسعة النطاق أيضًا، بإلغاء معاهدة ١٩٣٦م مع الإنجليز، وبدأ عهد الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في منطقة القناة، وبقدر ما كانت حركة الكفاح المسلح ارتجالية في البداية، فإنها كانت تحمل للدول الغربية الطامعة في المنطقة، وعلى رأسها القوة الإمبريالية الجديدة (أمريكا)، نُذرًا خطيرة إلى أبعد حد، هي تكوين نواة لجيشٍ شعبيٍّ مدرب على مكافحة الاستعمار، وهو أكبر خطر تخشاه هذه القوى الأجنبية، وخاصة إذا انتقلت عدواه فيما بعدُ إلى الأقطار العربية الأخرى.
- (٣)
وُضعت أسسٌ راسخة لمبادئ العدالة الاجتماعية وديمقراطية الحكم، فطبق مبدأ مجانية التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، واتسع نطاق القبول المجاني في الجامعة إلى حدٍّ بعيد، وطبق طه حسين، حين كان وزيرًا للتعليم، مبدأ «التعليم كالماء والهواء»، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي، ليس فقط في التعليم، بل في فرص العمل وإدارة دفة المجتمع.
وهكذا كانت تلك التجربة الأخيرة لحكم الوفد هي ذروة التطور الديمقراطي الذي سارت فيه مصر طوال فترة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن، ومن اللافت للنظر أن هذه التجربة الرائعة كانت تتم في وجه عقباتٍ هائلة، ولم يكن طريقها سهلًا أو مُعبَّدًا على الإطلاق؛ إذ كان هناك ملكٌ مستبدٌّ يشعر بالخطر الذي يتهدَّده من هذه التطورات، ويتحيَّن الفرص لإسقاط الحكومة التي ستؤدي سياستها حتمًا إلى القضاء عليه، وكان هناك احتلال بريطاني يريد أن يثبت أقدامه ويتعاون مع أعداء الحكومة الوطنية بكل الوسائل، وكان هناك جيش يدين قادته بالولاء المطلق للقصر، ومع كل هذه المعوقات تحقق الكثير، وازداد الشعب التفافًا حول حكومته التي كانت تُطوِّر نفسها مع مطالب الجماهير، وكانت الأجنحة التقدمية فيها تكتسب مزيدًا من الشعبية على حساب الأجنحة الأكثر محافظة، ولم يكن أمام الملك، إزاء هذا التأييد الشعبي الجارف لحكومته، إلا أن يلجأ إلى التآمر من أجل إزاحة الحكم الوطني؛ فكان حريق القاهرة، أو الثورة المضادة التي أثبتت، بعد وقتٍ قصير، فشلها الكامل، وكشفت النظام الملكي في عجزه وتقلبه ووصوله إلى طريقٍ مسدود.
أما السبب الثاني فهو تلك المواقف غير المنصفة التي وقفها هيكل من تلك التجربة.
كان هيكل، منذ بداية نضجه الصحفي، منتسبًا إلى مدرسة «أخبار اليوم» في الصحافة، وهي مدرسة لها سماتٌ خاصة، أهمها الولاء للقصر الملكي، وتأييد أحزاب الأقلية، والدعاية لكل قوةٍ معادية لحزب الأغلبية الشعبية، أعني الوفد، وكان قطب هذه المدرسة ومعلمها الأكبر هو «محمد التابعي» وهو صحفي مخضرم كان يؤمن بأهمية الإثارة الصحفية، عن طريق الفضائح والجنس، في اجتذاب مزيد من القراء لأية جريدة. ومن الإنصاف لهيكل أن نقول إن مجرد انتمائه خلال فترةٍ هامة من حياته الصحفية، إلى دار «أخبار اليوم» لا يعني بالضرورة أنه كان يتبنى جميع الأسس التي قامت عليها هذه الدار، ولكن من الإنصاف للتاريخ أن نقول إنه لم يُبدِ أي نوع من التمرد الواضح عليها.
كانت هذه الدار التي أنشئت أساسًا لتلطيخ سمعة الوفد (وقد أثبتت انتخابات آخر سنة ١٩٤٩م أنها فشلت في ذلك فشلًا ذريعًا) هي التي مجَّدت مجموعة الشباب التي كانت ينتمي إليها أنور السادات، وعلى رأسها المغامر المشبوه حسين توفيق، وهكذا كانت تروي عنهم حكاياتٍ أسطورية، وكان الغطاء الوطني لعملياتهم هو العداء لقوات الاحتلال البريطاني، ولكن الهدف الحقيقي منها هو تخليص القصر من أعدائه، عن طريق التصفية الجسدية، كما تشهد محاولات السادات المتكررة لاغتيال رمز الوطنية المصرية في ذلك الحين؛ مصطفى النحاس.
ولقد تضمن «خريف الغضب» تعبيراتٍ كثيرة تحمل في طياتها اعترافًا بالدور الوطني الذي قام به الوفد، وبالفارق الشاسع، في هذه الناحية، بين الوفد وأحزاب الأقلية الأخرى، فهو مثلًا يتحدث عن «حزب الوفد المصري الذي يقوده مصطفى النحاس والذي كان يمثل أغلبية الوطنيين في مصر»، ويصدر حكمًا مثل: «أما الوفد — وبرغم كل محاولات تزوير الانتخابات — فقد ظل حزب الأغلبية، يتمتع بتأييدٍ شعبي لا ينازعه فيه أي حزبٍ سياسيٍّ آخر.» كما يشير إلى المعارك الدستورية المجيدة التي خاضها الوفد ضد القصر، ويؤكد أن «كفاح» السادات ضد الوفد ومحاولاته اغتيال مصطفى النحاس واشتراكه في مقتل أمين عثمان، كل ذلك كان لصالح السراي، وقد تحقق عن طريق علاقة السادات بالحرس الحديدي، الذي يبدو أنه كان يقوم بدور «عمالة مزدوجة»، لصالح القصر في الواقع، ولصالح الوطنية المتطرفة في الظاهر، وكان مثل كثير من القوى الشديدة التطرف، عاملًا لحساب قوًى شديدة الرجعية، بل إن هيكل يتحدث عن «صحافة القصر» (ويقصد أخبار اليوم، حيث كان يعمل) التي راحت تصور هؤلاء الشباب على أنهم أبطال شعبيون … وكل هذه كلماتٌ صحيحة كل الصحة، ومنصفة لتاريخ مصر في تلك الفترة.
ولكن المُفارقة تظهر حين يعود هيكل فيصدر أحكامًا مناقضة، يبرر بها استيلاء الجيش على السلطة في ١٩٥٢م، فيقول: «في ذلك المناخ (الأربعينيات) بدت السياسات المصرية التقليدية القائمة على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؛ بدت شيئًا فات أوانه؛ لأنه يفقد صلته بالحقائق الجديدة يومًا بعد يوم، كان لا بد من تغيير، ولم تكن هناك فائدةً ترجى من انتظار التغيير بواسطة حزبٍ سياسيٍّ قديم أو جديد، فلقد كان التركيب الطبقي في مصر لا يزال في حالة سيولة، الأمر الذي يمنع ظهور قاعدةٍ اجتماعيةٍ صلبة، يقوم عليها تنظيمٌ سياسيٌّ حقيقي ويزدهر، وهكذا فإنه حين جاء التغيير، كان مصدره هو القوة الوحيدة التي تمثل إرادة الاستمرار من ناحية، وتملك قدرة العمل من ناحيةٍ أخرى؛ الجيش.»
هنا يعود هيكل القديم، هيكل الخمسينيات، إلى الكلام، على الرغم من أنه كان يكتب في الثمانينيات، فمن قال إن السياسة المصرية قبل الثورة قامت على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؟ لقد كانت تقوم، كما تدل عبارات هيكل نفسه التي اقتبسناها من قبلُ، على صراعٍ واضح المعالم بين الشعب، ممثلًا في الوفد من جهة، والقصر والإنجليز وأحزاب الأقلية من جهةٍ أخرى، كان صراعًا حول قضايا متبلورة تمامًا: القضية الوطنية، الديمقراطية، حكم الدستور، توفير المطالب الشعبية، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن أول ما حرصت عليه ثورة ٢٣ يوليو كان إسكات الصراع، الذي يرمز له إعدام اثنين من العمال (خميس والبقري) بالتهمة التقليدية (الشيوعية) في الأيام الأولى للثورة، ثم ظهور مختلف التنظيمات القائمة على فكرة التوازن، لا الصراع، وأولها هيئة التحرير.
وهكذا يتحدث هيكل حينًا بطريقةٍ تدل على أنه أدرك حقيقة القوى المتفاعلة في تلك الفترة المظلومة من تاريخ مصر، ولكنه سرعان ما يعود إلى موقفه التقليدي، ذلك الموقف الذي وقفته ثورة يوليو منذ البداية، وأعني به وضع الأحزاب جميعًا في سلةٍ واحدة وكأنها كلها خانت وفشلت وتنكرت للحركة الوطنية، ثم الترويج لتلك الأسطورة التي لم يكن لها أي أساس من الواقع أو التاريخ، وأعني بها أنه «لم تكن هناك فائدة ترجى من أن يأتي التغيير من حزبٍ سياسي»، تلك الأسطورة التي تريد أن تُسدِل ستارًا من النسيان على تجربةٍ ديمقراطيةٍ عظيمة، كانت تبشر بتطوراتٍ وتصحيحاتٍ هائلة لمسارها، لو كتب لها البقاء بعد إزاحة العقبات التي كانت تعرقل مسيرتها حينًا وتبطئ حركتها حينًا آخر.
من أجل هذا يقدِّم هيكل تبريرات لمجموعة الإجراءات التي أدت إلى القضاء على التجربة الحزبية في مصر، وهي إجراءات تكررت، مع اختلاف في التفاصيل، في كثير من الأقطار العربية الأخرى حين قامت فيها حركاتٌ عسكريةٌ مماثلة، وهكذا يذهب هيكل إلى أن الشرعية التقليدية في بلاد العالم الثالث لها أساسٌ قبلي أو ديني، وحين تحاول أن تنتقل في العالم الثالث إلى شرعيةٍ ذات أساسٍ دستوري وقانوني، تستند في عملية الانتقال هذه إلى ضرورات الاستمرار، وتمثلها «البيروقراطية» بما فيها القوات المسلحة، وكذلك إلى شخصية الزعيم.
ولست أدري على أي بلدٍ من بلاد العالم الثالث ينطبق هذا الكلام، لأن عمليات الانتقال التي تركِّز على القوات المسلحة وعلى شخصية الزعيم لا تمثل في أية حالة من الحالات تحوُّلًا نحو الشرعية الدستورية والقانونية، ولكن ما أعلمه حق العلم هو أن هذا الكلام حين يُقال عن مصر بالذات، يكون عدوانًا صارخًا على الحقيقة والتاريخ، فقد كانت في مصر شرعيةٌ دستوريةٌ قائمة بالفعل، وكانت تكافِح ببطولةٍ من أجل تطهير نفسها من القوى المعادية للدستور، وليس صحيحًا أن حركة الجيش، في مصر أو غيرها، كانت محاولة للانتقال من شرعيةٍ تقليدية إلى شرعيةٍ دستورية، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ كانت الحركة في أساسها انتقالًا من تجربةٍ ناضجة في الشرعية الدستورية إلى نمطٍ في الحكم لا يكترث كثيرًا بمعنى الشرعية، ولا يعترف بالدستور إلا على الورق.
وبمثل هذه الفلسفة المضلِّلة تم تبرير كافة الإجراءات التي اتُّخذت في السنتين الأوليين للثورة، من أجل التضييق على الأحزاب (وكان المقصود بها واقعيًّا حزب الوفد وحده)، ثم فرض شروطًا صعبة التحقيق عليها، ثم الادعاء بأنها لم تتمكن من تلبية هذه الشروط، ثم يتكرر المسلسل المعتاد، الذي أصبح «نموذجًا» تحتذيه الانقلابات العسكرية في كافة أرجاء العالم الثالث: إيقاف المسار الطبيعي للدستور، وإلغاء الأحزاب والانتخابات، والعمل بموجب قرارات أو مراسيم، مدة ثلاثة أشهر، ثم ستة أشهر، ثم سنوات وسنوات، وفي كل حالة يجد النظام من يُبرِّر له إجراءاته عن طريق «فلاسفة» قادرين على إقناع الناس، أو إرغامهم على الاقتناع، بأنهم يعيشون في ظل شرعيةٍ من نوعٍ جديد، شرعية «ثورية» تتضاءل إلى جانبها المفاهيم «العتيقة» للشرعية.
هكذا فعل هيكل، وهكذا فعل كثيرون غيره من مُنظِّري الحكم التسلطي اللاديمقراطي، ولكن حساب التاريخ لهيكل سيكون أشدَّ عسرًا؛ لأنه كان أكثر من الآخرين ذكاءً ووعيًا؛ ولأنه أدرك حقائق الأوضاع في لمحاتٍ سريعة في كتابه الأخير، ولكنه سرعان ما عاد إلى طريقه المألوف، طريق العداء للديمقراطية المرتكزة على أساسٍ شعبي، والمعبرة عن الإرادة الحقيقية للجماهير.