ورَّثه مصر، ونسى!
في كتاب هيكل عن السادات نقطتان تتسمان بالضعف الشديد، مرَّ عليهما المؤلف بتعجلٍ وبغير تحليلٍ مقنع، وإنما حاول أن يقدم لهما تعليلات أدَّت في الواقع إلى زيادة موقفه ضعفًا، هاتان النقطتان تأتيان عند بداية علاقة السادات بعبد الناصر والثورة المصرية، وعند نهاية عهد عبد الناصر واختياره أنور السادات لخلافته، فكيف يصف هيكل هاتين اللحظتين الحاسمتين: لحظة انضمام السادات إلى تنظيم الضباط الأحرار، التي حصل فيها على جواز المرور إلى تاريخ مصر، ولحظة تعيين عبد الناصر للسادات نائبًا به، قبل وفاته بوقتٍ قصير، وهي اللحظة التي ضمنت له دخول هذا التاريخ من أوسع أبوابه؟
يقول هيكل في «خريف الغضب»: «في أواخر سنة ١٩٥١م أصبح أنور السادات عضوًا في تنظيم الضباط الأحرار، وقد كان كل أعضاء اللجنة التأسيسية للتنظيم يعارضون انضمامه باستثناء جمال عبد الناصر، كانوا يعرفون السجل بطبيعة الحال، وكان عبد الناصر يعرف يقينًا بكل هذه الوقائع.»
ما هي هذه الوقائع التي أدت بأعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار إلى رفض انضمام أنور السادات إلى تنظيمهم، والتي أصرَّ عبد الناصر على قبوله في التنظيم على الرغم من معرفته اليقينية بها، وعلى الرغم من معارضة جميع أعضاء اللجنة الآخرين لهذا القبول؟ كانت هذه الوقائع، كما شرح هيكل في كتابه بإسهاب، تشمل: الانضمام إلى الحرس الحديدي الذي كان يخدم أغراض الملك – السعي إلى تخليص الملك من أقوى خصومه السياسيين بالتصفية الجسدية – الاتصال برجال القصر وعلى رأسهم «يوسف رشاد» وتلقي رشوة مقدارها ألف جنيه من هذا الأخير «لكي يؤثث بيتًا ويشتري سيارة، ويبدأ حياة جديدة.» وغيرها من الوقائع المثيرة للارتياب.
كيف إذن أصرَّ عبد الناصر على قبول السادات في التنظيم، وتحمَّل بذلك مخاطرة أن يوصف بالدكتاتورية؛ لأنه رجَّح صوته الوحيد على أصوات جميع الأعضاء الآخرين الرافضين؟ يقدم هيكل في هذا الصدد ما يسمِّيه «اجتهادات» يحاول بها تفسير هذا الإصرار، وهي اجتهادات لا تفسر في الواقع شيئًا، بل يمكن الرد عليها بسهولةٍ تامة، فمن الجائز أن عبد الناصر أراد معرفة أخبار القصر مستغلًا علاقة السادات بيوسف رشاد، ولو صح هذا التعديل لكان من الواجب أن يبعد السادات عن التنظيم بمجرد نجاح الثورة وإغلاق القصر وطرد صاحبه من البلاد، فما فائدة الاحتفاظ بعميلٍ سابق للقصر بعد أن انتهت مهمته؟ ومع ذلك فإن السادات لم يكن أول من خرج من أعضاء مجلس الثورة، وإنما خرج الجميع وبقي هو!
وينطبق هذا الكلام نفسه على التعليل الآخر الذي قدَّمه هيكل، وهو تضليل القصر عن أخبار الضباط الأحرار من خلال الصلة السابقة نفسها، ففي هذه الحالة أيضًا كان من الواجب أن تنتهي مهمة السادات بمجرد نجاح الثورة.
أما تعليل عبد الناصر نفسه، كما رواه لهيكل فيما بعدُ، فهو «أردت أن أضع في إطار الحركة كل هؤلاء الضباط الذين اقترن اسمهم بالعمل السياسي في مصر.» هنا أيضًا نجد أنفسنا غير مقتنعين: هل أي ضابط اقترن اسمه بالعمل السياسي يمكن أن يقبل في التنظيم، حتى لو كان العمل السياسي الذي مارسه عمالةً مزدوجة وخدمة لأهداف القصر، أي بكلمةٍ واحدة، حتى لو كان هذا العمل السياسي «خيانة»؟ لو افترضنا أن حاجة التنظيم في بدايته إلى عناصرَ نشطةٍ وممارسة كانت هي التي أرغمت عبد الناصر على قبول شخصيةٍ مثيرة للشبهات كهذه، فإن هذه الحاجة تنتهي تمامًا بمجرد أن ترسخ أقدام التنظيم ويصبح هو الذي يحكم مصر بلا مُنازع، ويبدو أن أعضاء مجلس الثورة قد نظروا إلى الأمر على هذا النحو، بدليل قول هيكل إن هؤلاء الأعضاء، بعد يوليو ١٩٥٢م مباشرة، «تجددت شكوكهم فيه، بل وبدأ معظمهم يوجه إليه في حضوره بعض الملاحظات الجارحة، ولكن عبد الناصر كان يحميه.»
هناك إذن سر في موضوع دخول السادات في تنظيم الضباط الأحرار، واستمرار عضويته فيه بعد أن انتفت الأسباب التي يُقال إنها هي التي دعت إلى قبوله، ولا تقدم إلينا رواية هيكل أي تعليل مقنع لهذا السر، بل إنها تترك الموضوع عائمًا، وتكاد توحي بأن عبد الناصر كان لديه ميلٌ خاص، غير مفهوم إلى السادات، على الرغم من علمه بتاريخه.
تلك إذن لحظةٌ حاسمة في تاريخ السادات، وفي تاريخ ثورة ٢٣ يوليو، تركها هيكل غير مفهومة، فهل كان هيكل يستخفُّ بأهمية هذه اللحظة، حين قدَّم تعليلاته غير المقنعة، أم كان يخفي شيئًا لا يريد أن يعلن عنه، أم كان يستخفُّ بقدرة القارئ على الشك والتساؤل، أم كان — أخيرًا — يؤمن بحق عبد الناصر المطلق في أن يفعل ما يشاء بغير أسباب؟
لنترك هذه اللحظة مؤقتًا، ولننتقل إلى لحظةٍ أخرى أهم منها بكثير، لحظة كانت مصيرية بحق، هي تلك التي قرَّر فيها عبد الناصر أن يعين السادات بالذات، ومن دون أبناء مصر الذين كانوا عندئذٍ يزيدون على الثلاثين مليونًا، ليكون نائبًا لرئيس الجمهورية، وخليفته في حكم مصر.
ونستمع، مرةً أخرى، إلى ما يقوله هيكل.
في فصل بعنوان «في ظل عبد الناصر»، يقول هيكل:
«كان طبيعيًّا أنه حين تعرض عبد الناصر للنوبة القلبية الأولى في سبتمبر ١٩٦٩م أن يضع السادات على رأس لجنة تضم بعض القريبين منه، وتتولى تسيير شئون الدولة في غيابه، وعلى أي حال فإن هذه اللجنة لم يُقدَّر لها أن تباشر عملًا حقيقيًّا، فما لبث عبد الناصر أن نسي نوبته القلبية وعاد يمارس شواغله ومسئولياته، وفي ديسمبر عام ١٩٦٩م كان على عبد الناصر أن يشارك في أعمال مؤتمر القمة العربي في الرباط بالمغرب … وعندما دعاني إلى الجلوس بجانبه بعد إقلاع الطائرة كما كان يفعل دائمًا، فإنه أشار إليَّ بالجلوس وعلى وجهه ابتسامة، وفوجئت به يقول: «هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟» ولم أكن أعرف، وقال لي: «كان أنور السادات سيمرُّ علي؛ لكي يصحبني إلى المطار، وطلبت منه أن يجيء معي بمصحفه، ولم يفهم ما عنيت بهذا الطلب، وعندما جاء فقد جعلته يقسم اليمين ليكون نائبًا لرئيس الجمهورية في غيابي.» وأبديت دهشتي وسألت عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، ومدَّ عبد الناصر يده إلى ملف كان قد وضعه أمامه، وكانت فيه برقية، تقول إن هناك معلومات بأن الجنرال أوفقير يتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في محاولة لاغتيال عبد الناصر أثناء وجوده في المغرب، وقد فكرت في أنه إذا فُرض وصدقت المعلومات هذه المرة وحدث شيء، فإن أنور يصلح لسد الفترة الانتقالية، وفي فترة الانتقال فإن دور أنور سيكون شكليًّا.» ثم أضاف عبد الناصر: «إن الآخرين جميعًا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابًا لرئيس الجمهورية إلا أنور، ولعله دوره الآن … وعلى أي حال فهي فترة أسبوع على أرجح الأحوال.»
وتلا ذلك حديثٌ طويل عن شواغل عبد الناصر الكثيرة خلال الفترة التالية، تخلَّله حديثٌ آخر عن فضيحة ارتكبها أنور السادات «وكان يمكن أن تكلفه منصبه كنائب رئيس الجمهورية، وتغير بالتالي مجرى تاريخ مصر الحديث»، وهي استيلاؤه بالقوة، وعن طريق قرارٍ جمهوري، على قصر في الهرم كان يملكه ضابطٌ سابق اشتغل بالأعمال الحرة، ثم حانت ساعة موت عبد الناصر، «كان السادات لا يزال حتى ذلك الوقت هو نائب الرئيس رسميًّا، وبكل الشواغل التي ألحَّت على العمل الوطني، من مؤتمر الرباط إلى زيارة موسكو السرية إلى استمرار حرب الاستنزاف إلى مبادرة روجرز إلى المواجهة بين الملك حسين والثورة الفلسطينية في الأردن، فإن وضع أنور السادات كنائب للرئيس كان قضيةً منسية حتى وإن كان قد خطر للبعض — بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه — أن الأمر قابل لإعادة النظر فيه، وهكذا بقي أنور السادات في مكانه حتى هذه اللحظة الحزينة.»
معذرةً، أيها القارئ العزيز، على هذا الاقتباس الطويل، ولكن هذه اللحظة التي يصفها هيكل، وهي اللحظة التي يجد فيها مناسبة لاستعراض مكانته (أجلسني بجانبه كما كان يفعل دائمًا)، والتي تحدث فيها عبد الناصر إلى هيكل بابتسامة وفاجأه بسؤاله الذي يحمل معنى الدعابة: هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟ هذه اللحظة هي التي قررت مصير مصر، ومعها الأمة العربية، حتى يومنا هذا، في هذه اللحظة بدأت المسيرة المشئومة المؤدية إلى زيارة القدس، والصلح والتطبيع، وترك لبنان والفلسطينيين لمخالب الوحش الصهيوني، والانفتاح، ونهب مصر، ووصاية البنوك الدولية والأمريكية على اقتصادها … هذه اللحظة التي يعرضها هيكل باستخفافٍ شديد، بل وينتهز الفرصة للتفاخر بذاته وبقربه الدائم من الرئيس، هي التي فتحت الطريق لكوارث مصر والعرب في السبعينيات، ولهذا اقتبستها من كتاب هيكل بالتفصيل.
ولكنني لم أقتبسها فقط لكي أُبيِّن التضاد المحزن بين جو الخفة والسهولة الذي كان يصفه هيكل في سطوره، وبين شبح المصير المأساوي الذي يطلُّ من بين سطور هيكل، ساخرًا من القارئ ومن هيكل، ومن عبد الناصر، بل ومن الأمة العربية جمعاء … كلا، لم أقتبسها لغرضٍ كهذا فقط، وإنما اقتبستها لكي أشرك معي القارئ في محاولةٍ طويلة لاستخلاص المعاني البشعة التي تنطوي عليها هذه السطور.
أول هذه المعاني هو البساطة العجيبة التي اتُّخذ بها قرارٌ خطير كهذا ونفذ على الفور: عبد الناصر يطلب إلى السادات أن يجيء معه بالمصحف أثناء مروره عليه ليصحبه إلى المطار، السادات لا يعرف السبب، ولكن المفاجأة تنتظره، يقسم اليمين، وبذلك يتحدد من سيكون رئيس جمهورية مصر القادم، هيكل نفسه لم يكن يعرف، ولكن يتضح أن السبب هو تقرير عن مؤامرةٍ محتملة في المغرب لاغتيال عبد الناصر، مؤامرة لم ينظر إليها عبد الناصر بجدِّية، ولكن لا بأس من الاحتياط! هكذا، بلا استشارة حتى من أقرب المقربين، يحدد الحاكم من سيخلفه في حكم بلاده في مرحلةٍ من أحرج المراحل التي مرت بها طوال تاريخها الحديث، ويقرر بذلك مصير أمته من بعده! لست أدري ماذا يكون شعور القارئ حين يقرأ هذه السطور، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بالإهانة حين وجدت مستقبلي ومستقبل أبنائي وبلدي، يحدد بمثل هذا الاستخفاف، دون أن تكون لي، كمواطن، كلمة ولا رأي، ودون أن يصل صوتي عن طريق القنوات التي صاغتها تجاربُ طويلةٌ للشعوب، والتي تتيح للناس في المجتمعات التي تحترم مواطنيها أن يختاروا من سيتحمل مسئولياتهم في مستقبل الأيام.
ولكن لدى هيكل، بالطبع، إجابةٌ جاهزة، إنه يقول للقارئ: لم يكن هناك عندئذٍ ما يدعو إلى الانزعاج، ولا حتى إلى الاهتمام، فقد كانت المسألة مؤقتة، لن تطول أكثر من أسبوع، وكانت مجرد احتياط من أن تقع مؤامرة الاغتيال في المغرب، وكل ما في الأمر هو أن السادات قد خدمه الحظ، طوال السنوات التالية؛ لأن عبد الناصر وضعه على كرسي الخلافة ونسي أن يبعده عنه — وهو معذور في هذا النسيان، فقد كانت الأحداث جسامًا، ولم يكن لديه من الوقت ما يسمح له بأن يتذكر هذا الموضوع التافه، موضوع تعيين السادات خليفة له في حكم مصر!
مرةً أخرى، لست أدري، ماذا يكون شعور القارئ وهو يستمع إلى حجة هيكل هذه، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بإهانةٍ أخرى، إهانة لعقلي وتفكيري وآدميتي يوجهها إليَّ واحد من أولئك الذين عاشوا طويلًا في جو الاستخفاف بعقول الناس والاستهانة بهم.
فحسَب أقوال هيكل نفسه، وقع اختيار عبد الناصر على السادات لتسيير شئون الدولة مرتَين، لا مرةً واحدة، الأولى عند إصابته بنوبةٍ قلبية، والثانية عندما قرأ تقارير الأمن عن المؤامرة المغربية الأمريكية المحتملة، وهذا معناه أن الاختيار لم يكن عشوائيًّا على الإطلاق، بل كان متعمدًا مقصودًا، ولا شك أن الإصابة بنوبةٍ قلبية هي إنذارٌ كافٍ لأي إنسان، أي أن احتمالات النهاية لا بد أن تكون قد طافت، ولو من بعيد، بذهن عبد الناصر؛ وعلى ذلك فحين يختار خلفًا له، فإنه يعلم أن هذا يمكن أن يكون اختيارًا لمستقبل بلاده، وحتى لو كانت مؤامرة المغرب مجرد إشاعة، فإنها تستدعي اختيار أصلح العناصر للخلافة، على سبيل الاحتياط أيضًا.
ولكن الكارثة الكبرى في الموضوع كله تكمن في نقطتَين: الأولى هي قول عبد الناصر: «إن الآخرين جميعًا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابًا لرئيس الجمهورية إلا أنور، ولعله دوره الآن.» إذن كان حكم مصر «بالدور»! مجموعة الضباط الذين شكلوا مجلس قيادة الثورة، يتناوبون على المنصب الخطير واحدًا بعد الآخر، وفي النهاية، وفي لحظة مرض القلب والتهديد بالاغتيال، بقي واحد منهم، فلا بد إذن أن يأخذ نصيبه، ونصيبه هو أن يكون خليفة لحاكم مصر.
إنني لا أشك لحظةً واحدة في ذكاء هيكل الذي كان بالفعل غير عادي، ولكن الأمر الذي يذهلني بحق هو: كيف فات على هيكل، بكل ذكائه، المغزى الواضح والصارخ لهذا الكلام؟ كيف يعجز هيكل الموهوب عن أن يُدرك أنه، بكلامه هذا، يسيء إلى عبد الناصر أبلغ إساءة، ويهين مصر كلها إذ يصوِّرها على أنها «عزبة» لا بد أن يتناوب على امتلاكها مجموعة الضباط هؤلاء «بالدور»؟ فكر جيدًّا أيها القارئ في المقياس الذي يتم على أساسه الاختيار: ليس الكفاءة، التي لم يثبت السادات خلال حكم عبد الناصر — حسب كلام هيكل — شيئًا منها، وليس الوطنية، فقد كان عبد الناصر وهيكل يعلمان أنه كان في وقتٍ ما عميلًا مزدوجًا، وليس وجود برنامج لإنقاذ الوطن لديه، فقد كان بشهادة هيكل عاكفًا على حياته الخاصة، عزوفًا عن القراءة والاطلاع وتثقيف نفسه، وإنما المقياس هو أنه الوحيد الذي لم ينل بعدُ نصيبه من الفطيرة؛ هو أن «عليه الدور»!
أما الكارثة الثانية، في هذه القصة الحزينة، فهي أن عبد الناصر، بعد أن وضع السادات في هذا المنصب الخطير، تركه فيه لأنه «نسي»، هكذا يريدنا هيكل أن نصدق أن شيئًا بالغ الأهمية كهذا يمكن أن يُنسى بمثل هذه السهولة؛ ولكي يُبِّرر لنا هذه الحجة الهزيلة يُعدِّد أمامنا المشكلات التي انشغل بها عبد الناصر خلال الفترة التي كان السادات فيها «منسيًّا» في منصب الرجل الثاني في مصر، لقد كانت تلك مشكلاتٍ خطيرةً حقًّا، ولكن خطورتها ذاتها كانت تفرض على عبد الناصر أن يزداد تذكرًا لموضوع خلافته، لا أن ينساه، فالسادات أمامه كل يوم، وهو بالقطع لم يحصل على قرار التعيين نائبًا لرئيس الجمهورية ثم أسرع يختبئ في مكانٍ بعيد، داعيًا الله أن ينساه الرئيس إلى أن يموت! وخطورة المشكلات التي كان يواجهها عبد الناصر هي ذاتها أقوى مبرر لكي يتذكَّر في كل لحظة أن الوطن في خطر، وأن من يخلفه في حمل الأمانة ينبغي أن يكون على مستوى المسئولية.
وحتى لو لم تذكِّره بموضوع الخلافة تلك الأحداثُ الجسام، فإن تصرفات السادات ذاتها لا بد أنها أدَّت إلى تذكيره بنوع الاختيار الذي قام به؛ فقد حدثت فضيحة القصر الذي استولى عليه السادات، بإلحاحٍ من زوجته، من ضابطٍ سابق اشتغل في الأعمال الحرة (لا أدري من أين استولى عليه هو الآخر، أو من أين أتته الأموال لشرائه)؛ حدثت هذه الفضيحة «بعد» تعيين السادات نائبًا للرئيس، وحسب رواية هيكل فإن عبد الناصر غضب غضبًا شديدًا عندما علم بما حدث، ومع ذلك فإن هيكل يذكر، بطريقةٍ غير مفهومة ولأسبابٍ غير واضحة، أن عبد الناصر عندما هدأ غضبه كافأ السادات بقصر على النيل! وهكذا فإن عبد الناصر، كما يصوِّره لنا هيكل، تلقَّى إنذارًا واضحًا بنوع السلوك الذي يمكن أن يسلكه السادات عندما يترك له حكم مصر، فإذا لم تكن المشكلات الدولية والقومية والوطنية الخطيرة التي كانت تشغل عبد الناصر، عندئذٍ، كفيلة بأن تذكره بضرورة اختيار خليفةٍ وطنيٍّ قادرٍ على التصدي لها، ألم يكن اغتصاب السادات لبيتٍ لا يملكه، لمجرد أنه أعجب زوجته، كافيًا لكي ينبِّه عبد الناصر إلى عيوب الرجل الذي ائتمنه على أمته كلها من بعده؟ ومع ذلك فإن عبد الناصر، حسب رواية هيكل، كافأ السادات بقصرٍ على النيل بعد فترة غضب قصيرة! أيريد هيكل أن يوحي لنا بأن تصرفاتٍ مثل الاستيلاء على بيوت الآخرين لم تكن تصدم الحس الأخلاقي لعبد الناصر؟ أيريد أن يقنعنا بأن مغتصب مال الغير كان في نظره يستحق مكافأة؛ مكافأةً عاجلة هي قصر على النيل، ومكافأة آجلة هي النيل كله، بأرضه وشعبه؟
إن قصة خلافة السادات لعبد الناصر، والاختيار المشئوم الذي حدث في أحد أيام ١٩٦٩م، هي قصةٌ فريدة من نوعها، ولقد كانت الرواية التي أوردها هيكل عنها مليئة بالمتناقضات والمفارقات التي تستخفُّ بعقل القارئ وتهين ذكاءه، ولا أظن أن أحدًا، حتى هيكل ذاته، يمكن أن يقتنع بهذه الرواية المهلهلة، وهنا يبرز سؤالٌ هام: إذا كان تفسير هيكل لاختيار عبد الناصر للسادات مكشوفًا في ضعفه إلى هذا الحد، فلما الذي جعله يلجأ إليه؟
أغلب الظن أن هيكل اضطر إلى ترويج هذا التفسير الهزيل؛ لأنه وجد نفسه أمام سؤالٍ محرج، تسأله تلك الأجيال الشابة الجديدة التي تنظر إلى عبد الناصر على أنه أعلى نماذج الوطنية، والتي رأت بنفسها ما لحق بمصر والعرب من انهيارٍ في عهد السادات، هذا السؤال هو: كيف اختار زعيمٌ كبير كعبد الناصر خليفةً مختلفًا عنه في كل شيء مثل أنور السادات؟ ومما يزيد هذا السؤال تعقيدًا، أن هيكل أكد بصورةٍ قاطعة أن عبد الناصر كان يعرف كل شيء عن السادات، كان يعرف ماضيه مع القصر، وميله إلى الاستمتاع بحياته بكل الطرق في حاضره، وانبهاره بالأمريكان، أعداء الوطن العربي الألدَّاء منذ عام ١٩٦٧م على الأقل، وإذن يعود السؤال بإلحاح: كيف يقبل زعيمٌ وطني أن يأتمن شخصًا مناقضًا له في كل شيء على وطنه من بعده؟ من أجل محاولة الإجابة على هذا السؤال المحرج، اضطر هيكل إلى أن يتحدث عن تعيين نواب رئيس الجمهورية «بالدور»، وعن «نسيان» الرئيس لنائبه في مكانه إلى أن خلفه بعد موته، أعني، بالاختصار، اضطر هيكل إلى أن يلفق إجابة لا تقنع أحدًا.
وفي اعتقادي، أولًا، أن هذا سؤالٌ خطير وجوهري ينبغي ألَّا يُقابَل بأي استخفاف؛ لأنه يتعلق بمصير الأمة العربية كلها، الذي قامر به السادات على مائدة أمريكا بعد أن أعطاها ٩٩٪ من أوراق اللعبة، ومن ثم فلا بد من أن نلحَّ في المطالبة بتفسير له، وفي اعتقادي ثانيًا أن من المستحيل تقديم إجابةٍ مقنعة عن هذا السؤال في إطار الموقف الذي يمثله هيكل: أعني موقف الدفاع على طول الخط عن عبد الناصر، والهجوم على طول الخط على السادات؛ فلكي نُجيب عن هذا السؤال الحيوي إجابةً مقنعة، لا بد أن نكون أكثر تعمُّقًا في تحليلنا من أن نتقيَّد بهذا الاستقطاب الناصري-الساداتي. وسأقوم، من جانبي، بمحاولة لتفسير هذه الظاهرة التي تبدو مستعصية على الفهم، آملًا أن ينظر القارئ إلى هذا التفسير على أنه حافز للتفكير، من حقه أن يقتنع به أو لا يقتنع، ولكن من واجبه أن يفكر فيه بإمعان.
إن الزعيم الذي يحكم حكمًا غير ديمقراطي لا يقبل بجانبه إلا الأعوان الذين يطيعون، وينحنون ولا يعارضون، وحين يسود الطابع الفردي في الحكم، يظل الأعوان المحتفظون بكرامتهم والمتمسكون بآرائهم ومواقفهم، أو حتى أولئك الذين يخالفون الزعيم لمصالح شخصية؛ يظل هؤلاء يُستبعدون واحدًا بعد الآخر، حتى لا يبقى في النهاية إلا الرجل الذي يقول دائمًا: نعم. ولقد اقترب هيكل من الحقيقة دون أن يشعر حين قال، في نفس الفصل الذي اقتبسنا منه من قبلُ: «كما حدث من قبلُ، وكما سيحدث فيما بعدُ، فإن طبيعة أنور السادات المستعدة للخضوع أمام الأقوى كانت هي التي حكمت موقفه، كانت أحسن أيامه هي تلك التي كان يستطيع فيها أن يلتصق بشخصيةٍ قوية، وإذا كان هيكل قد قصد بهذه الشخصية القوية، في كلامه السابق، المشير عبد الحكيم عامر، فإن هذا الحكم يمكن أن ينطبق على مسلك السادات بوجهٍ عام، وإن كان ذلك المسلك في نظرنا واعيًا متعمدًا، وليس مجرد تعبير عن شخصيةٍ ميالة للخضوع والالتصاق بالأقوياء.
كان السادات أذكى من الجميع؛ لأنه أدرك قانون اللعبة: اترك الزعيم يمارس قوته وإياك أن تقول له «لا» مهما فعل، ولكن ما ينبغي أن نتذكَّره هو أن هذا القانون يحتاج إلى طرفين: طرف يلتزم بالقبول والخضوع، وطرفٌ آخر — هو الزعيم — يجعل مقياس قرب الناس منه هو مدى خضوعهم له، ومدى تخلِّيهم عن إراداتهم الخاصة لكي يكون هو صاحب الإرادة الشاملة. فلكي ينجح «الأذكياء» ممن يجيدون فن طأطأة الرأس (حتى يعلو فيما بعدُ، كما تقول أغنية سيد درويش المشهورة)، لا بد أن يكون الطرف الآخر الذي يتعاملون معه من ذلك النوع الذي لا يستطيع أن يتحمل أي شخص يبدي استقلالًا في رأيه؛ ولذا كان من المستحيل أن ينجح «أهل الطأطأة» مع أي زعيمٍ ديمقراطي.
وليتأمل القارئ دلالة العبارة التي يقول فيها هيكل: «كان بيت السادات في الهرم هو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه جمال عبد الناصر أن يذهب لكي يقضي بين حينٍ وآخر ساعات مع صديقٍ لم يكن يضغط على أعصابه بإثارة مناقشاتٍ سياسية أو عسكريةٍ مُلحة.» هكذا كانت «الراحة» هنا تكمن في أن يكون الصديق مطيعًا لا يناقش في الأمور الهامة، بينما الذين كانوا يناقشون ويعارضون، في ظروف ما بعد هزيمة ٦٧ التي كانت تقتضي إعادة النظر في كل شيء، هؤلاء لم يكونوا «مريحين».
وهكذا نصل إلى القاعدة الهامة التي تحكم عملية الخلافة على السلطة في الحكم غير الديمقراطي: إن الحاكم، نتيجة لانفراده بالسلطة، يشعر بأهمية القوة ويستأثر بها، وبالتالي لا بد أن يزيح من طريقه كل من يحاول الحد من هذه القوة عن طريق المعارضة، وكل من يرفض انفراده بالقرار، وهكذا يكون الضعيف الراضخ، هو الذي يبقى في النهاية بعد سلسلة التصفيات، وبعبارةٍ أشدَّ وضوحًا، فإن ظاهرة السادات إفرازٌ طبيعي للحكم المطلق، وأسلوب الحكم الذي انتهجه عبد الناصر كان لا بد أن يؤدي في النهاية إلى خليفةٍ مثل أنور السادات.
وهنا تتضح لنا صفة تبدو على قدرٍ كبير من الغرابة، ولكنها تُفسِّر الموضوع الذي نحن بصدده تفسيرًا كاملًا: فالحاكم القوي يؤدي في هذه الحالة — بصورةٍ حتمية — إلى الحاكم الضعيف، والمتشدد أمام قوى الاستعمار في الخارج والطبقات العليا في الداخل يفرز المهادن للاستعمار، الذي يستسلم أمام الطبقات العليا ويسير في ركابها، وبعبارةٍ أخرى فإن كل مظاهر الاختلاف بين عبد الناصر والسادات لا تتعارض مع كون الثاني استمرار للأول ونتيجة طبيعية له، هذه حقيقة ينبغي أن نتنبه إليها جيدًا؛ إذ إن من يسمع أحدًا يتحدث عن وجود استمرارية بين عبد الناصر والسادات، يتصور أنه يقصد وجود تشابه بين العهدين فقط، ولكن حقيقة الأمر أن هناك استمرارية مع التضاد، أعني أن يكون الحاكم المهادن والمستسلم هو الامتداد الطبيعي للحاكم القوي المتشدد، على الرغم من كونه نقيضًا له، بل «بسبب» كونه نقيضًا له.
هذا هو التفسير الذي أعتقد أنه هو وحده القادر على الإجابة عن ذلك السؤال المحرج، المحير، الذي طرحناه من قبلُ، وأعني به: كيف يمكن أن يختار الحاكم الوطني، بنفسه، خليفةً غير وطني، يأتمنه من بعده على أمته وهي تمر بأخطر مراحل حياتها، وتسعى بمشقةٍ شديدة إلى التخلص من براثن عدوان جاثم على صدرها؟ فلنقلْ إن هذا، على الأقل، هو اجتهادي، ومن حق أي شخص أن يعترض عليَّ، ولكنه سيكون مُلزَمًا بأن يقدِّم تفسيرًا أفضل، يُعلِّل جوانب الظاهرة كلها، وكل ما آمله هو ألَّا يبلغ به الاستخفاف بعقولنا حدًّا يجعله يُكرِّر شيئًا مما قاله هيكل في هذا الموضوع.
وسواء أكان التفسير الذي أقدِّمه مقبولًا أم غير مقبول، فليتذكر القارئ دائمًا أن الهدف من هذا الحديث الطويل، بل من كل ما قلته وسأقوله في هذا الكتاب، ليس إحراج هيكل، ولا انتقاد السادات أو عبد الناصر، وإنما هو قبل كل شيء دعوة إلى التفكير في ذلك الجو العام الذي عاش فيه كل من شارك في مأساة العرب خلال العقود الأخيرة.
ذلك الجو الذي يسمح للحاكم أن يختار خليفته بأكثر الطرق عشوائية، وكأنه يُغيِّر لونًا لملابسه ويستبدل به لونًا آخر، دون أن يستشير أحدًا، أو يحتكم إلى شعب، أو حتى أن يسأل صديقًا مقربًا …
ذلك الجو الذي يتم فيه للحاكم اختيار خليفته وهو على علمٍ تام بسجله الطويل غير المشرف، بعد أن تجمعت النذر التي توحي إلى الحاكم بأن نهايته يمكن أن تحين …
ذلك الجو الذي يكون فيه معيار اختيار حاكم المستقبل هو أن «عليه الدور» وأنه مطيع، مريح، لا يجادل ولا يناقش، أي بالاختصار، بحث الحاكم الموجود عن راحته هو، بدلًا من تفكيره فيما يمكن أن يحدث لأمته في مستقبلها المحفوف بالأخطار، لو تولى أمورها خلفٌ من هذا النوع …
ذلك الجو الذي يختار فيه الحاكم خليفته ثم «ينسى»، ويمتد به النسيان شهرًا وراء الآخر، في أحرج فترات التاريخ، حتى يموت ناسيًا …
وأخيرًا، ذلك الجو الذي يسمح لكاتب بأن يروي لنا هذا كله دون أن تطرف له عين، ودون أن يرى فيه أي خطأ، بل يحكي قصة التلاعب بمصير أمة وكأنها حكاية مُسلِّية، ويجد مع ذلك من يدافع عنه، ويصفِّق له، ويعامله كما لو كان شهيدًا للحرية والديمقراطية.
إنها قصةٌ حزينة، وأشد جوانبها مدعاةً للحزن هو أن كل الأطراف فيها مدانون، وكلهم يسهمون في تلك الجريمة الكبرى التي لم ترتكب النظم اللاديمقراطية ما هو أفظع منها، جريمة هدم العقول.