الجذور
ليغفرْ لي الأستاذ هيكل استعارتي عنوان هذه الحلقة من كتابه، وربما كان عذري أنه هو بدوره قد استعارها من كتاب «أليكس هيلي» المشهور، وكان موفَّقًا في استعارتها، لا لأن الحديث فيها كان يدور حول الأصول العائلية الأولى للسادات فحسب؛ بل لأن هذه الأصول العائلية كانت، في حالة السادات، مثلما كانت في حالة بطل أليكس هيلي، زنجيةً أفريقية، كما يحرص هيكل على أن يؤكد.
ولكن الحديث عن هذه الأصول العائلية، اقتصادية كانت أم اجتماعية أم لونية، ليس في رأيي هو «الجذور» الحقيقية لمأساة حكم السادات، بل إنني أودُّ هنا أن أتحدَّث عن «جذور» من نوعٍ آخر، أهم وأعمق بكثير، كانت تكمن فيها بذرة التطورات التالية لسياسة السادات، وأسلوب معالجته للقضايا القومية والوطنية والداخلية، هذه «الجذور» التي حددت، منذ سنوات حكمه الأولى، اتجاهاته التالية كلها، هي التي تستحق بالفعل أن تُدرَس بعمق.
يمثل عامَا ١٩٧١ و١٩٧٢م تحولًا حاسمًا في السياسة المصرية. كان عبد الناصر قد تُوفِّي في العام السابق وترك أمورًا كثيرةً معلقة، تحتمل السير في أكثر من اتجاه، وعلى رأسها مبادرة روجرز، التي كان قد أعلن قبوله لها قبل وفاته بشهورٍ قلائل، والاستعداد العسكري لمعركة العبور، الذي كان قد بلغ في ذلك الحين درجةً عالية من الإتقان، وعندما تولى السادات الحكم في أكتوبر ١٩٧٠م، كان من الطبيعي أن تظل النغمة السائدة، لفترةٍ ما، هي السير على طريق عبد الناصر، فلم يكن من الممكن أن يسير الإعلام والدعاية للرئيس الجديد في أي طريقٍ مخالف؛ لأن الإعلان عن استمرار النهج السابق هو أفضل ما يمكن عمله في مثل هذه الظروف التي يختفي فيها رئيسٌ قوي ذو شهرةٍ واسعة وماضٍ طويل، ويحلُّ محله خلف لا يزال، إلى حدٍ بعيد، مجهولًا، ولا يزال الناس يشعرون بأن كرسيَّ الحكم كبير عليه.
كانت فكرة «السير على درب عبد الناصر» هي إذن الوحيدة الممكنة في تلك الفترة الأولى، مهما كان الاتجاه الحقيقي الذي تسير فيه نوايا الرئيس الجديد وخططه، ولكن بعد حركة مايو ١٩٧١م، التي تخلَّص فيها السادات بضربةٍ واحدة من خصومه الذين شكلوا «جناحًا آخر» مناوئًا له، طوال الشهور السبعة الأولى من حكمه، بعد هذه الحركة أصبح للرئيس الجديد من حرية الحركة ما يسمح له بأن يبدأ تطبيق أفكاره الخاصة. ولكن الحكمة كانت تقتضي أن يسير كل شيء بتدرجٍ شديد، بحيث يبدو في أول الأمر أن كل شيء سيظل على حاله، ثم تطرح الأفكار الجديدة بصورةٍ عابرة في البداية؛ لمجرد التمهيد، وبعد ذلك يبدأ الإلحاح تدريجيًّا على هذه الأفكار القديمة، ومن الممكن أن تظل هذه معايشة للأفكار القديمة وقتًا ما، ولكن هذه الأخيرة تذبل شيئًا فشيئًا، إلى أن يتبلور الاتجاه الجديد، ويحتل الميدان وحده، في نهاية الأمر. كل شيء إذن ينبغي أن يتم ببطء، وحذر، وتدرج، ولكن الهدف واضح، ومحدَّد مقدمًا، وهو تحويل الاتجاه السياسي في مصر تحويلًا جذريًّا، ولا بأس من الاستشهاد، في عملية التحويل هذه، بعبد الناصر على الدوام، وخاصة إذا كان ذلك على صورة حديثٍ خاص أو أقوال أدلى بها لهذا الشخص أو ذاك، ما دام الموتى لا يستطيعون التكذيب، فالاستعانة بعبد الناصر في عملية التحول ضد سياسة عبد الناصر، هي أسلم الوسائل وأضمنها لتحقيق التغيير المطلوب بهدوءٍ وسلاسة، بحيث لا يشعر الناس به إلا بعد أن يكون قد تم.
في هذا التحول المخطَّط، المرسوم بذكاء وبراعة، كان من الطبيعي أن يكون للجهاز الإعلامي، الذي يتربَّع على قمته هيكل، دورٌ أساسي؛ إذ إن الإعلام هو الذي يهيئ عقول الناس للتغيير، وهو الذي يمهد الطريق للسياسات المرسومة، ولو تتبع المرء خط السير الذي سلكته كتابات هيكل في هذه الفترة لوجد المخطط المرسوم للتحول ينفذ فيها ببراعةٍ هائلة، وبتدرجٍ بطيء ولكنه محدد الاتجاه، ولتبين له أن عملية تهيئة الأذهان للتغيير قد أُلقيت على عاتق هيكل، الذي اضطلع بها بكفاءةٍ عالية.
فما هو هذا التغيير الذي كان يُراد في السياسة المصرية؟ كانت هذه السياسة، في السنوات الواقعة بين هزيمة ١٩٦٧م وموت عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠م، تتلخص في الاعتماد المتزايد على المساعدة السوفييتية، اقتصاديًّا وعسكريًّا بوجهٍ خاص، ولم يكن هناك مفر، في ظروف تلك الفترة، من سلوك هذا السبيل؛ ذلك لأن أمريكا كانت، قبل حرب ٦٧ وبعدها، قد انحازت كليةً لإسرائيل، وكانت شحنات الأسلحة المرسلة إليها، والتي زادتها قوةً على قوتها الأصلية، تستهدف منذ ذلك الحين أن تصبح إسرائيل متفوقة عسكريًّا على الدول العربية مجتمعة، وكان الحل الوحيد هو الاعتماد على الطرف المضاد في الصراع العالمي من أجل الحصول على أسلحةٍ تُعوِّض التفوق الإسرائيلي. وهكذا خلقت ظروف الفترة نفسها، والهدف الذي حددته السياسة المصرية لنفسها فيها، وهو إزالة آثار العدوان، خلقت وضعًا يُحتِّم مواجهة السلاح الأمريكي المتدفِّق على إسرائيل بسلاحٍ سوفييتي، دون أن يعني ذلك، بأي حال، انحياز مصر كليًّا أو جزئيًّا إلى المعسكر الشيوعي، ولذا شاع عندئذٍ استخدام تعبير «الصداقة» في وصف العلاقات المصرية السوفييتية، وتعبير «الاتحاد السوفييتي الصديق»، وكان ذلك يقتضي في المقابل زيادة حدة اللهجة المعادية لأمريكا، ومع ذلك فإن السياسة الرسمية لم تغلق أبواب الاتصالات مع أمريكا، بوصفها قوةً عظمى ينبغي أن يُعمل لها حساب، وإن كان الأمل في ممارستها ضغطًا على إسرائيل من أجل الانسحاب كان في هذه الفترة شبه مفقود. وفي السنة الأخيرة من حياة عبد الناصر ازداد الحضور السوفييتي في مصر، للرد على الغارات الإسرائيلية التي كانت قد توغَّلت إلى أعماق البلاد، وعندما زار عبد الناصر موسكو سرًّا في يناير ١٩٧٠م، كان هو نفسه الذي طلب حضور السوفييت للدفاع عن العمق المصري عن طريق الصواريخ المضادة للطائرات، ووافق السوفييت بعد تردد، وكان حضورهم هو الذي أوقف الغارات الإسرائيلية على الأهداف المدنية في مصر، ولولا ذلك لشهدت المدن المصرية تخريبًا واسع النطاق.
كانت هناك إذن حاجةٌ حيوية إلى وجود السوفييت وإلى الأسلحة السوفييتية، يقابلها تصعيدٌ متزايد للهجة العداء ضد الولايات المتحدة. وعندما اعتلى السادات الحكم، كان من الطبيعي أن يواصل السير، أول الأمر، في هذا الطريق، لا سيما وأن الوجود السوفييتي كان حتى ذلك الحين ضرورةً حيوية لحماية الأهداف المدنية في مصر، ولكن السياسة المرسومة، في المدى الطويل، كانت هي التباعد التدريجي عن السوفييت، وطرح فكرة إمكان التفاهم مع أمريكا، ثم الدعوة إلى الكف عن معاداة أمريكا؛ لأن من الممكن «تحييدها» في الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتدريج تتهيأ العقول للنتيجة المطلوبة، أعني إنهاء الوجود السوفييتي في مصر، وهو المطلب الأساسي لأمريكا، بحجة أنه يساعد على عملية «التحييد» هذه، وعندما يطمئن الأمريكيون إلى أنهم قد أصبحوا وحدهم في الساحة، وهم وحدهم حلفاء الطرفين المتنازعين، العربي والإسرائيلي، عندئذٍ يمكنهم أن يسيروا بهدوء وثقة في طريق السيطرة الكاملة على المنطقة، وتحقيق الصلح بين الطرفَين اللذين أصبحا داخلَين في نطاق ونفوذ أمريكا بلا منافس.
هذا هو المخطط الشيطاني الذي رُسم لمصر، وللمنطقة العربية بأسرها، بمجرد تولي السادات الحكم، ولكن لنقلْ مرةً أخرى إن التدرج الشديد كان جزءًا أساسيًّا من نجاح الخطة، فليس من السهل أن تظل تُقنع الناس، سنواتٍ طويلة، بأن السوفييت أصدقاؤنا والأمريكان ألدُّ أعدائنا، ثم تنتقل بهم مرةً واحدة إلى القول بأن السوفييت هم الشياطين والأمريكان يمكن أن يصبحوا أصدقاء، أو يمكن على الأقل «تحييدهم»، ومن هنا كان من الضروري تنفيذ أهداف هذا المخطط الطويل الأمد خطوةً خطوة، فتوضع الأسس أولًا، ثم تأتي الخطوات التالية واحدة إثر الأخرى، ولما كانت مرحلة الانتقال الأولى هي الأصعب دائمًا، فقد كانت تحتاج إلى حذرٍ وبراعةٍ من نوعٍ خاص.
وقبل أن نعرض المراحل التي مرت بها هذه الخطة، دعونا نتأمل تقييم هيكل الأخير، في «خريف الغضب» وفي غيره من كتاباته القريبة العهد، لما حدث في هذه المرحلة.
إن هيكل يتحدث بطريقةٍ يصفها بأنها «منصفة» عن دور السلاح السوفييتي في هذه المرحلة، فيقول: «في الحقيقة، وللإنصاف، فإن الاتحاد السوفييتي لم يقصر في معاملة مصر أثناء حرب أكتوبر أو بعدها مباشرة، ولا يمكن لأحدٍ أن يتجاهل — بصرف النظر عما قيل ويُقال — أن كل ما تحقق في حرب أكتوبر تحقق بسلاح سوفييتي، وبعد حرب أكتوبر مباشرة فإن الاتحاد السوفييتي قدم لمصر ٢٥٠ دبابة من طراز «تي يو ٦٢» هدية … تعويضًا لها عن خسائر الحرب، كما أنه باع إليها فيما بعدُ ثلاثة أسراب من طائرات ميج ٢٣ المتطورة، ومع ذلك فقد كانت مكافأته هي استبعاده من مؤتمر جنيف في ديسمبر ١٩٧٣م …
وفي أبريل ١٩٧٤م كان السادات عنيفًا في هجومه على الاتحاد السوفييتي بأنه قصر في التزامه بتعويض مصر عن كل خسائرها في القتال، دون أن يشرح الأساس الذي جعله يتصور أن هناك التزامًا سوفييتيًّا بتعويض مصر عن خسائرها.» ثم يُجري هيكل مقارنةً بين ما اشترته مصر من الاتحاد السوفييتي على مدى عشرين عامًا (١٩٥٥–١٩٧٥م) وقيمته ٢٢٠٠ مليون روبل، دفعت منها ٥٠٠ مليون روبل وبقي عليها ١٧٠٠ مليون، ودخلت بها مصر خمس حروب: السويس، واليمن، وحرب ٦٧، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر. أما السلاح الأمريكي فكانت قيمته ٦٦٠٠ مليون دولار في ست سنوات (١٩٧٥–١٩٨١م) لم تدخل بها أي حربٍ جديدة.
هكذا يتحدث هيكل الآن، وحديثه الحالي يعبر، بلا شك، عن اتجاهٍ وطنيٍّ واضح، ومن المهم جدًّا أن نتذكر تفاصيل كلماته هذه؛ لأننا سنعود الآن إلى الوراء ونستعرض بعض الفصول القديمة والهامة، لقصة علاقات مصر مع المعسكرَين الكبيرين، واتجاهات سياسة التسلح، كما يرويها هيكل بنفسه في فترة التحول الذي تحدثنا عنها منذ قليل، وكم أودُّ أن يتنبه القارئ إلى آراء هيكل في هذه الفترة الحاسمة، إذ إن أمورًا عظيمة الأهمية كانت تتقرر عندئذٍ، وبذور الشجرة التي «أثمرت» في زيارة ١٩٧٧م ومعاهدة ١٩٧٩م وتحالف حكومة مصر مع أمريكا من أجل خدمة الأهداف الأمريكية في مختلف مناطق العالم الثالث — هذه البذور كانت تُغرَس في تلك الفترة التي سنتحدث عنها ببطء، وذكاء، وتدرج، ولكن مع إدراكٍ واضح للهدف البعيد، وسوف أكتفي في معظم الأحيان باقتباساتٍ مباشرة مما كان يكتبه هيكل في ذلك الحين، مع تعليقات هنا وهناك للكشف عن تسلسل التفكير وتغير اتجاهاته، وفي ظني أن أقوال هيكل وحدها تُغني عن كل تعليق، وأن القراءة الذكية لها تكشف للقارئ عن كل شيء.
•••
فلنبدأ بما كان يقوله هيكل في عام ١٩٧٠م، وقد اخترت هذا العام؛ لأنه آخر الأعوام التي كان هيكل يكتب فيها خلال حكم عبد الناصر، أي إنه كان هنا يعرض آراءه السياسية في الوقت الذي كانت فيه سياسة الدولة الرسمية تؤيد بقوة التسلح من الاتحاد السوفييتي، وتعتبر الصداقة المصرية السوفييتية عاملًا أساسيًّا في صمود مصر، وتمكينها فيما بعدُ من إزالة آثار العدوان، بينما تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها العدو الرئيسي الذي كان أكبر عوامل هزيمتنا في حرب ١٩٦٧م، فكيف كان هيكل يكتب في هذه الفترة؟
-
«ما زالت هناك بين قوى القومية العربية عناصر تنسى إسرائيل؛ لكي تغرق نفسها في حربٍ مقدسة مع الشيوعية، بينما الدول الشيوعية هي التي وضعت سلاحها في يد العرب، ولولاه لما كان هناك أمامهم بديل عن الاستسلام.»٢
-
«منذ يونيو ١٩٦٧م … فإن دور الاتحاد السوفييتي وأثر هذا الدور هو الذي ساعد الأمة العربية على تحقيق إرادتها بالصمود ضد الأمر الواقع الذي حاول تحالف الاستعمار والصهيونية فرضه عليها عسكريًّا».
-
«المناورة الأمريكية واضحة أمام أي عربي، فهي تريد عزل العرب عن الاتحاد السوفييتي لا لكي يخرج الصراع العربي-الإسرائيلي من نطاق الحرب الباردة بين القوى الكبرى … ولكن لكي يبقى الطرف العربي تحت رحمة الأمر الواقع الذي يفرضه السلاح الأمريكي الذي تُمسك به إسرائيل.»
-
«الاتحاد السوفييتي له دور في الشرق الأوسط بحكم صداقته للعرب، وهو دور أوجده العرب بأنفسهم قبل أن يوجده الاتحاد السوفييتي لنفسه؛ ردًّا على دور الولايات المتحدة وارتباطها بإسرائيل.»٣
-
«دور الاتحاد السوفييتي الكبير والخطير ليس فقط في إعادة تسليح الجيش المصري، ولكن أيضًا في إرسال المئات من خبرائه للمشاركة في إعداد الجيش المصري للقتال على مستوى الحرب الحديثة، وهو بهذا يسجل سابقةٍ جديدة في التاريخ؛ لأن الاتحاد السوفييتي بهذه السابقة كان أول بلد أوروبي يبعث بالعسكريين من أبنائه إلى أرضٍ آسيوية وأفريقية، لا لكي يسيطروا ويستعمروا، ولكن لكي يساعدوا هذه الأرض على محاربة السيطرة والاستعمار.»
«لماذا يتخذ الاتحاد السوفييتي هذا الموقف المؤيد لنا؟ الرد: أن الأمر بالنسبة للاتحاد السوفييتي مسألة مبدأ، وهو عداء الاستعمار.»٤
-
«إن الولايات المتحدة صرحت لإسرائيل باستخدام طائرات الفانتوم في غارات بالعمق ضد الأراضي المصرية، ولم تكن إسرائيل تستطيع أن تفعل ذلك إلا بتصريحٍ أمريكي واضح.»٥
-
«إن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة وصلت الآن إلى الحد الذي لم تعد فيه السياسة الأمريكية قادرة على أن تظهر أو تمارس أي قدر من الاستقلال عن الإرادة الإسرائيلية.»٦
-
ويشير إلى موقف أمريكا فيصفه بأنه: «التعهد باستمرار تفوق إسرائيل في قوة النيران على كل ما لدى العرب مجتمعين من قوة النيران.»٧
-
«إن السياسة الأمريكية الممعِنة في عدائها للعرب، والممعِنة في تحيزها لإسرائيل، استمرت على مدى عهدَين (جونسون ونيكسون) من سنة ١٩٦٧م حتى الآن … ومعنى ذلك أن هناك تخطيطًا أعلى من أن تغيره اختلافات العهود أو الأحزاب أو الرئاسات.» ثم يقتبس هيكل في المقال نفسه أقوالًا ويشير إلى أحداث تحيزت فيها أمريكا ضد العرب بوضوح، ويعلق على ذلك قائلًا إن هذه الوقائع «تستطيع أن ترد على دعوى السياسة الأمريكية المتوازنة.»٨
-
ويُحدِّد هيكل أهداف أمريكا في المنطقة، فيقول في نصٍّ هام: «ماذا تريد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط …
- أولًا: إخراج الاتحاد السوفييتي من المنطقة، مع تجنب المواجهة المباشرة معه في نفس الوقت.
- ثانيًا: الاحتفاظ بإسرائيل قوية في الشرق الأوسط، قادرة على القيام بدور حارس المصالح الأمريكية في المنطقة.
- ثالثًا: إبقاء العالم العربي في حالةٍ من الضعف يسهل معها على الولايات المتحدة تأمين مصالحها.
- رابعًا: تحديد دور مصر في المنطقة، أو بعبارةٍ أوضح حصار دور مصر …
هذا هو مجمل مطالب الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط … في عالم السبعينيات.»
ثم يُذكِّر هيكل القراء بعبارةٍ هامة قالها كيسنجر: «إننا يجب أن نطرد expel الاتحاد السوفييتي من منطقة الشرق الأوسط بكل الطرق والوسائل.» ويُعلق عليها بقوله: «ومن المهم لنا جدًّا أن نتذكر ذلك، وألَّا يغيب عنا معناه.»٩
هذا ما كان يقوله عن السوفييت وأمريكا في الأشهر الأخيرة من حياة عبد الناصر، ومن المهم أن نؤكد المعاني الرئيسية التي كان يدعو إليها عندئذٍ: لا غناء لنا عن الاتحاد السوفييتي في التسلح – صداقة السوفييت مسألة مبدأ، لا مسألة مصالح – العرب، ومصر بالذات، هم الذين طلبوا التواجد السوفييتي، الذي لم يُفدْهم في التسليح فقط، بل في التنمية أيضًا – أمريكا تحرص على بقاء إسرائيل أقوى من العرب أجمعين – الإرادة الأمريكية أصبحت عاجزة عن الاستقلال عن الإرادة الإسرائيلية – عداء أمريكا للعرب هدفٌ دائم، يتجاوز العهود والرئاسات – سياسة التوازن بين العرب وإسرائيل هي، في نظر أمريكا، خرافة – أول أهداف أمريكا هو إخراج السوفييت من المنطقة، ثم تقوية إسرائيل وإضعاف العرب، ثم حصار مصر وعزلها عن العرب، وهذه الأهداف ليست مرحلية بل هي أهداف السبعينيات كلها.
•••
الرسالة التي يريد هيكل أن ينقلها إلى السوفييت هنا هي: اطمئنوا … لقد قضينا على أولئك الذين كانوا يزعمون أنهم أنصاركم، ولكننا ما زلنا أصدقاء بقوة.
- الأول: هو وجود تلميح إلى موقفٍ جديد من أمريكا تعرض هيكل بسببه للوم من بعض الجهات، وإن كان هيكل لا يزال يؤكد، حتى ذلك الحين، أن كل شيء على ما هو عليه.
- والثاني: هو وصف هيكل للسادات في عام ١٩٧١م بأنه صديق للسوفييت في النضال؛ نفس السادات الذي عرض علينا هيكل في «خريف الغضب» تفاصيل عن ماضيه مع أجهزة المخابرات المختلفة المتصلة بالأمريكيين اتصالًا مباشرًا أو غير مباشر.
إن تصعيد لهجة «تحييد أمريكا» كان يزداد طوال عام ١٩٧١م، وكانت المغالطة التي ارتكبها هيكل مزدوجة؛ فبعد أن كان أيام عبد الناصر يربط بين أمريكا وإسرائيل بحيث يستحيل فصلهما، وبعد أن كان يؤكد أن هدف أمريكا الدائم والاستراتيجي هو إضعاف العرب من أجل هدمهم، أصبح الآن يقدم إلى القارئ، في جرعاتٍ خفيفة أول الأمر، ثم تزداد كميتها بالتدريج — فكرة إمكان تحييد أمريكا وإيقاف فاعليتها في مؤازرة إسرائيل، بل ويرى أن الحرب بدون ذلك مستحيلة، ولكن إذا أدركنا مدى استراتيجية التحالف بين أمريكا وإسرائيل، وإذا أدركنا أن أمريكا لا بد أن تعمل ما من شأنه منع العرب، بشتى الطرق، من أن يكتسبوا القدرة اللازمة لممارسة الضغط عليها، لوجدنا إلى أي حدٍّ تؤدي «وصفة» هيكل الجديدة «لهزيمة» إسرائيل إلى طريقٍ مسدود.
وإلى هذه الفترة ينتمي مقال «تحية للرجال» المشهور (١٢مارس ١٩٧١م) الذي بالغ فيه هيكل، وكأنه جنرالٌ خبير في ميدان القتال، في وصف الصعوبات المميتة التي سيصادفها الجيش المصري، لو حاول عبور قناة السويس التي هي أخطر مانع مائي في العالم، وتحدَّث عن القوة الهائلة للجيش والطيران الإسرائيليين، وكيف أن العبور يجعل جيشنا «يواجه ما لم يواجهه جيش من قبلُ»، ولم تكن عملية التخويف هذه إلا جزءًا من السياسة الجديدة، فلم يكن من المستغرب إذن أن يثور عليه أنصار السياسة الناصرية السابقة ثورةً عارمة.
كان التحول قد اكتمل وكانت الحلقة قد أُغلقت بإحكام، وتحوَّل الصديق الذي وُصف قبل ذلك بأنه تعامل مع عبد الناصر والسادات معاملة الشرفاء، والذي «لا يوجد مصري يحترم مصريته، ولا عربي يحترم عروبته إلا وكان صديقًا له»؛ تحول إلى عدوٍّ لحضارة مصر، وأصبح خروجه علامةً على الوطنية …
كان مُدركًا أنه أكمل مهمته، وذهب ليستريح.
•••
والآن دعونا نُلقِ نظرةً هادئة على تلك الكلمة ذات المظهر البريء، التي كانت الخطة المتدرِّجة، الشديدة الحذر والذكاء، تستهدف إقناع الأذهان بها، وأعني بها كلمة «تحييد أمريكا»، هذه الكلمة تُلخِّص هدف السياسة الجديدة كلها: فبينما كان هيكل يؤكد، في ظل سياسة عبد الناصر، أن أمريكا لا تقلُّ عداء لنا عن إسرائيل، وأن مصالحهما مرتبطة ارتباطًا عضويًّا يستحيل تفكيكه، وأن الأمور وصلت إلى حد أن الإرادة الأمريكية أصبحت عاجزة عن الاستقلال عن الإرادة الإسرائيلية، وأن دفاع أمريكا عن إسرائيل وسعيها إلى إضعاف الدول العربية، إنما هو سياسةٌ دائمة وليس على الإطلاق وضعًا مؤقتًا — بينما كان هيكل يؤكد ذلك كله، أصبح في عام ١٩٧٢م يُركِّز جهوده على طرح هذا المفهوم الجديد، الذي يتناقض كليةً مع المفاهيم السابقة، وأعني به مفهوم «التحييد»، ويعني به كف يد أمريكا عن التدخل لصالح إسرائيل ضد العرب، فلنحلل إذن هذا المفهوم، ونستخلص نتائجه.
إن لعملية التحييد هذه وسيلتين:
الأولى هي تنمية القوة الذاتية العربية، اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، إلى الحد الذي تضطر فيه أمريكا إلى أن تعمل حسابًا لقوتنا، وخاصةً حين تصل هذه القوة إلى حد تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة، فكيف تتحقق لنا مثل هذه القوة؟ من الواضح أنها، لكي تصل إلى الحد الذي تشكل فيه تهديدًا حقيقيًّا، وليس مجرد تهديدٍ مظهري أو مؤقت، لمصالح أمريكا، تحتاج إلى تغييرٍ شامل في نمط الحياة في العالم العربي وفي أساليب حكمه، ولو وصلنا بالفعل إلى مثل هذا التغيير، فلن نكون عندئذٍ بحاجةٍ إلى تحييد أمريكا؛ لأننا عندئذٍ نستطيع أن ننتزع حقوقنا بأيدينا، شاءت أمريكا أم أبت، وأبلغ دليل على ضخامة حجم التغيير السياسي والاقتصادي والعسكري، المطلوب تحقيقه في مجتمعنا من أجل الوصول إلى تحييد أمريكا، أن هذا التحييد لم يتحقق حتى عندما وصل التضامن العربي، عسكريًّا واقتصاديًّا، إلى مستوًى عالٍ لم يبلغه في أي وقتٍ من قبلُ، في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، فقد زادت أمريكا من مساعداتها لإسرائيل أثناء الحرب، وقدمت إليها أضخم جسرٍ جوي من معدات القتال عرفه التاريخ؛ مما أتاح لها قلب ميزان الحرب جزئيًّا لصالحها، وإذن فطريق القوة الذاتية العربية المطلوب من أجل التحييد طويلٌ جدًّا، ولو بلغنا يومًا ما لما أصبح للتحييد عندئذٍ أي داعٍ.
أما الطريق الآخر، فهو الطريق العكسي، أعني طريق الإذعان لمطالب أمريكا، وتقديم الخدمات والتسهيلات لها، وتحقيق مصالحها في المنطقة إلى الحد الذي يأمل أصحاب هذا الطريق أن يؤدي إلى تخفيف انحيازها لإسرائيل، ما دام هناك أصدقاءُ جدد يؤدُّون وظيفة إسرائيل التقليدية، وهي حماية المصالح الأمريكية، هذا الطريق إذن لا يكمن في تهديد مصالح أمريكا، بل في التنافس مع إسرائيل على حماية هذه المصالح، ونظرًا إلى أن الطريق السابق طويلٌ وشاق، ويفترض شروطًا يحتاج تحققها إلى ثورةٍ كاملة، لو حدثت لما عدنا نحتاج إلى هذا التحييد، فإن نوع التحييد الذي يمكن تنفيذه عمليًّا، في ظروف العالم العربي الراهنة، هو النوع الثاني؛ أعني التحييد الاستسلامي، ولهذا التحييد دائمًا ثمنٌ فادح، فما الذي يدفع أمريكا إلى الامتناع عن مساندة إسرائيل أو التخفيف من انحيازها لها؟ إن إسرائيل حليفٌ قوي، يحقق لها مصالحَ ضخمة: ردع قُوَى التحرر في العالم العربي، ضمان تدفق النفط للغرب، صدُّ «الخطر الشيوعي»، وعلى ذلك فالمطلوب منا أن نقوم نحن بأداء هذه الخدمات كلها لأمريكا، حتى تدرك أن مصالحها لا تتحقق على يد إسرائيل وحدها، لا سيما وأن لدينا مزايا خاصة، هي اتساع الرقعة جغرافيًّا، واستراتيجية الموقع، والموارد البشرية والمادية الكبيرة.
هذه هي النظرية التي تبنَّتها المدرسة الساداتية، عمليًّا، وكانت أولى خطواتها هي طرد الخبراء السوفييت إرضاءً لأمريكا، وتلتها خطواتٌ أخرى: منح القواعد أو التسهيلات العسكرية، المشاركة في بعض الحروب الصغيرة لصالح الغرب (زائير والصومال وتشاد وأفغانستان وغيرها)، تغيير اتجاه الاقتصاد بحيث يصبح رهينة للبنوك الأمريكية والدولية، وتأكيد دور القطاع الخاص مع الإقلال من أهمية القطاع العام … الخ.
وهكذا يؤدي الجري وراء سراب «التحييد»، إلى أن يصبح العرب أشبه «بالزوجة الثانية» للزوج الغني والقوي: أمريكا، وككل زوجةٍ ثانية، يتعيَّن على العرب أن يتفنَّنوا في إرضاء أمريكا وإغرائها بالتنازلات حتى تنصرف عن الزوجة الأولى (إسرائيل)، ومع كل ذلك فإن إسرائيل القوية، التي يتسم نظامها بالثبات، ولا يتصف بتقلبات الأنظمة العربية ومزاجيتها، والتي تشارك أمريكا «ديمقراطيتها» واعتمادها على مؤسساتٍ ثابتة، لا على أهواءٍ شخصية؛ إسرائيل هذه هي التي تكسب «الزوج» في النهاية، بعد أن تكون الزوجة الثانية قد أعطت أعزَّ ما تملك!
هذه هي النتيجة التي توصل إليها سياسة «التحييد» عمليًّا، وقد اختبرت هذه السياسة، كما قلت، في حرب أكتوبر، فكانت النتيجة مزيدًا من التدخُّل الأمريكي لصالح إسرائيل، مما جعل السادات نفسه يقول: أوقفت القتال؛ لأنني لا أستطيع أن أحارب أمريكا! ولكن المأساة هي أن نفس اللحظة التي بلغ فيها تدخل أمريكا لصالح إسرائيل ذروته، كانت هي اللحظة التي بلغ فيها هيام أصحاب سياسة «التحييد» بأمريكا أعلى قممه. ومنذ أن بذلت أمريكا أكبر جهد تملكه من أجل تزويد إسرائيل بأضخم كمية من الأسلحة لكي تقتل بها أبناءنا وتحتل أراضينا، أصبحت هي الصديق، ثم الحليف والوليف!
في كلتا الحالتين إذن، وسواء وصلنا إلى التحييد عن طريق القوة الذاتية أم عن طريق الاستسلام، تنتهي سياسة التحييد إلى نتائجَ مناقضة لذاتها، وتلغي نفسها بنفسها.
•••
ولنتأمل بعد ذلك نتائج هذه السياسة الجديدة، التي نُفِّذت بتخطيطٍ بارع، بالنسبة إلى حرب أكتوبر.
وفي تصوري أن الجدل حول هذا الموضوع كله، بالصورة التي طرحها هيكل، جدلٌ عقيم؛ ذلك لأن هيكل يفترض أن كيسنجر لم يعرف النوايا المصرية من الحرب، إلا عن طريق تلك المراسلات السرية، ومن هنا فإنه يُوجِّه اللوم إلى من كتبها، وإلى من أعطى الأوامر بكتابتها، على حين أن كاتبها يدافع عن نفسه بحرارةٍ ضد اتهامات هيكل بشأن هذه المراسلات، وحقيقة الأمر أن أمريكا تعرف نوايا الحرب المصرية منذ أمدٍ بعيد، فهناك عواملُ كثيرةٌ كانت كلها كافية لمعرفة هذه النوايا: منها مثلًا الصراع بين هيكل والجناح الآخر من الناصريين حول طبيعة الحرب المنتظرة، ومنها الاتجاه الكامل للدبلوماسية المصرية في عهد السادات خلال السنوات السابقة للحرب، ومنها طرد الخبراء السوفييت والسعي إلى مزيدٍ من التقارب والتفاهم مع أمريكا، كل هذه التطورات لم تكن تؤدي بأي حالٍ إلى قيام حرب تحرير شاملة.
هكذا كان تصور هيكل للحرب هو أن هدفها التحريك، وتحريك من؟ الولايات المتحدة بالذات، ولماذا نبحث عن تحريك الولايات المتحدة، وليس أية دولةٍ أخرى، كهدف للحرب؟ ألا يفترض هذا أن أمريكا تملك كل، أو معظم، أوراق اللعبة؟ هكذا يدل كلام هيكل بوضوحٍ على أنه يشارك في الموقف السياسي لسياسة السادات في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي.
تأمل معي، أيها القارئ، هذا الكلام الواضح، وتأمل من جهةٍ أخرى تلك الضجة الكبرى التي يثيرها هيكل في هذه الأيام، بعد عشر سنوات من الحرب، وبعد أن نسي الناس ما قاله في الفترة الممهدة للحرب؛ أعني الضجة التي أقام بها الدنيا وأقعدها حول ما يسميه «بالعبارة الكارثة» الواردة في رسالةٍ سرية من حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري، إلى كيسنجر، نظيره الأمريكي، وتحدَّث فيها إسماعيل عن نوايا مصر في جعل الحرب محدودة، وعدم توسيع جبهاتها أو تعميق مسارها. ألم يقل هيكل أكثر من هذا قبل وقوع الحرب، في مقالاتٍ علنية لا في مذكراتٍ سرية؟ هل كانت أمريكا مضطرة إلى انتظار الرسالة السرية حتى تعرف نوايا مصر في الحرب؟ والأهم من ذلك، ألم يكن هيكل نفسه من أهم المروِّجين لسياسة احتلال مساحةٍ محدودة من الأرض، والثبات فيها، وتحريك الأزمة كلها من خلالها؛ وهو ما حدث بالضبط في حرب ١٩٧٣م؟
إن في وسع هيكل، بالطبع، أن يرد بقوله إن ما كتبه قبل الحرب شيء، وما حدث في الحرب الفعلية شيءٌ آخر، فقد أتت الحرب نفسها بمفاجأة لمخططي سياسة تحرير مساحةٍ محدودة من الأرض: هي في الواقع المفاجأة التي كان يدخرها شعب مصر «لعبقرية» السياسيين، عندما تمكن أبناء الشعب في جيشهم من العبور بسهولةٍ غير متوقَّعة، وأحرزوا نجاحًا سريعًا قليل التكاليف، مما أوقع المخطِّطين العباقرة في حيرة، وأوجد موقفًا جديدًا لم يتوقعه واضعو سياسة الحرب المحدودة، وعلى رأسهم هيكل. ولكن، هل كان من المعقول أن يحدث تغييرٌ مفاجئ للخطط السياسية في أعقاب هذا النصر الأول السريع، بعد أن ظلت الدبلوماسية الرسمية، من سريةٍ وعلنية، وأجهزة الإعلام الساداتية والهيكلية، تبني كل شيء على أساس حربٍ محدودة تحرر قطعة أرضٍ صغيرة وتحتفظ بها؟ لو كان المخططون والكتاب الصحفيون العباقرة، قد وضعوا منذ البداية بدائل، وعملوا حسابًا للموقف الذي تحقق، ضمن هذه البدائل، لربما أمكن عندئذٍ أن تتغير السياسة بسرعةٍ تماشيًا مع الوضع الجديد، ولكن كل شيء كان مرسومًا على أساس حرب التحريك المحدودة، ولم تنتظر أمريكا رسالة حافظ إسماعيل السرية لكي تعرف ذلك، بل كان يكفيها أن تثابر — كما أرجح أنها فعلت — على قراءة هيكل.
يبقى أمامنا أن نتساءل: ما تأثير السياسة التي اتخذت مجرًى جديدًا كل الجدة في عامَي ١٩٧١ و١٩٧٢م، على التطورات التالية في مصر وفي العالم العربي؟ إن هاتين السنتين تحملان، في رأيي، بذرة معظم التطورات التالية، وإذا كان هيكل قد قام بالدور الذي حددنا معالمه في تهيئة الأذهان لتحولٍ حاسم في السياسة المصرية، ما بين عام ١٩٧٠ وعام ١٩٧٢م، وإذا كان قد غير اتجاهه تغييرًا جذريًّا، مع تغير الحاكم وسياسته، خلال هاتين المرحلتين، فإن معنى ذلك أن مسئولية هيكل عن التطورات السلبية المتأخرة للعهد الساداتي مسئولية لا شك فيها، صحيح أن السنين تضيف عواملَ ومتغيراتٍ جديدة، ولكن هذه كلها إضافات للأسس الأولى التي أُرسيت في هاتين السنتين الأوليين، وعلى رأسها التحالف مع أمريكا، والحرب المحدودة بهدف الصلح الذي تتوسط فيه أمريكا، والامتناع عن التسلح عن طريق السوفييت والالتجاء إلى أمريكا، نفس البلد الذي يقدم لخصمنا سلاحه، ويعلن على الملأ أنه يضمن تفوقه.
ومنذ اللحظة التي قررنا فيها اللجوء إلى أمريكا، لكي تتوسط بيننا وبين إسرائيل، ومنذ اللحظة التي رفضنا فيها السلاح السوفييتي؛ لكي نختار بدلًا منه سلاحًا أمريكيًّا، حُسمت أمورٌ عديدة تَحقَّق الكثير منها فيما بعدُ، فهذا القرار ينطوي، بصورةٍ جنينية، على فكرة الصلح مع إسرائيل، وجعل العداء للسوفييت هدفًا رئيسيًّا لسياستنا، والتعاون مع أمريكا، وتطبيق أفكارها في حياتنا الداخلية، وخاصة الاقتصاد.
هذا كلامٌ خطير بقدر ما هو واضح، فأولئك الذين رسموا سياسة تنوُّع التسلح عن طريق طرد الخبراء السوفييت، والترويج لفكرة التقارب التدريجي مع أمريكا، هم الذين أداروا محركات طائرة السادات المتجهة إلى القدس؛ لأنهم ربطوا مصير بلادهم وجيوشهم بمصير راعية إسرائيل وحاميتها، ومن الواضح أن هيكل، بالنسبة إلى هؤلاء، كان كبيرهم ومفكرهم ومُوجِّههم، فالبذرة الأولى قد غرستها يد هيكل، وما يتبقى بعد ذلك ليس إلا من قبيل التفاصيل، ومع ذلك فإن هيكل نفسه هو الذي يأتي في أيامنا هذه، وينعى على السادات ركوبه تلك الطائرة، التي كان هو ذاته قد زوَّدها بالوقود، وأدار لها المحركات.
أتريد، أيها القارئ، معرفة الأصول الأولى للكارثة الحالية، و«الجذور»؟ اقرأ صفحات هذا الفصل ثانيةً، وفكِّر فيها بإمعان.