عمنا سام
لست أدري لِمَ اختار هيكل أن يوجِّه كتابه عن السادات إلى الجمهور الأمريكي على وجه التحديد، ولكن الأمر المؤكد هو أنه، طوال هذا الكتاب، كان يضع في ذهنه هذا الجمهور، وهو يشرح هذه النقطة أو تلك، ويقوم بهذا التحليل أو ذاك؛ مما أعطى الكتاب، في مواضعَ غير قليلة، طابعًا غير مألوف لدى القارئ العربي.
فمنذ اللحظة الأولى، يركِّز هيكل على صفة «النجومية»، وعلى «صناعة النجم»، وكأنها هي التي تلخِّص شخصية السادات، مع أنها — من وجهة نظر كاتب هذه السطور — لا تزيد عن كونها أسلوبًا ملائمًا لجمهورٍ أجنبي، اعتاد التهريج السينمائي حتى أصبحت صفة «النجومية» أساسية عنده، حتى في اختياره لرئيس جمهوريته، وهكذا يتحدث «خريف الغضب» في مقدمته عن نجوم العصر، فيضع ضمنهم «جاكلين كيندي»، ويشعر القارئ العربي بأنه تلقى لطمةً، وهو يقرأ عن هذه النماذج المنحلة، وإن كان القارئ الأمريكي لا يرى أية غرابة في ذلك، والواقع أن السادات لم يكن في وقتٍ من الأوقات نجمًا بالنسبة إلى شعبه، أعني المصريين والعرب على حدٍّ سواء، بل كان نجمًا في نظر الأمريكان وبعض الأوروبيين؛ وذلك لأسباب لا علاقة لها بشخصه، وإنما بسياسته.
إننا نعلم جميعًا أن أجهزة الإعلام الغربية، والأمريكية بوجهٍ خاص، قد تعمدت أن تضخم صورة السادات، ولم يكن ذلك راجعًا فقط إلى إعجاب هذه الأجهزة بذلك الصديق المخلص الجديد، أو إلى صفاتٍ معينة في شخصيته، أهَّلته لكي يكون في نظرها «نجمًا»، وإنما كان يرجع قبل كل شيء إلى رغبتهم في الحصول منه على المزيد من التنازلات، عن طريق خدعة الإعجاب الإعلامي الزائد؛ فقد كان من الواضح أن لدى السادات، شأنه شأن معظم الحكام الفرديين، وربما بصورةٍ أشد تطرفًا من الباقين؛ ميلًا شديدًا إلى الإحساس بأهميته وخطورته، وكان ذلك يتجلى بوضوحٍ حين تنشر الصحف المصرية، على الدوام، تعليقات الصحف والإذاعات الأخرى على خطاباته؛ لكي تبين مدى إعجاب الآخرين به. وقد أتقن الأمريكيون فن دراسة نقط الضعف في شخصيات الزعماء، وخاصة في العالم الثالث، للاستفادة من نقاط الضعف هذه بقدر ما يستطيعون. وهكذا كان كل مقال يُكتَب عن السادات في صحيفةٍ أمريكية، وكل صورة له أو لأسرته، على غلاف مجلة أمريكية، تعني مزيدًا من التنازلات، ومزيدًا من الترحيب بالنفوذ الأمريكي، ومزيدًا من الامتيازات الاقتصادية أو العسكرية التي تُمنح للغرب بوجهٍ عام.
لم تكن المسألة إذن مسألة «نجومية»، وإنما كانت «صناعة النجم» هذه، في حقيقتها، استغفالًا واستغلالًا لغرور حكام العالم الثالث، ومع ذلك فإن هيكل أراد في كتابه أن يُصحِّح فكرة الجمهور الأمريكي عن «معبوده» الجديد، وأن يرسم له الصورة التي يعتقد أنها حقيقية، في مقابل الصورة المتطرفة في الإعجاب، التي صورتها أجهزة الإعلام الأمريكية للسادات. ولكن، ما الذي يدعونا إلى تصحيح فكرة المجتمع أو الرأي العام الأمريكي عن السادات؟ وما الذي سنجنيه من ذلك؟ إن أمريكا هي العدو الأول لأماني الشعب العربي وتطلعاته، فلماذا نجهد أنفسنا لكي نقدم إليها الصورة الصحيحة، إن كانت بالفعل صحيحة؟ لماذا لم يوجِّه الكتاب، مثلًا، إلى المعسكر الاشتراكي، أو إلى العالم الثالث، أو إلى الشعب العربي، ولماذا يحرص المؤلف منذ الصفحات الأولى على أن يؤكد أن صورة السادات عند الغرب لم يكن لها ما يبررها؟ ألا يزال عندنا نوع من «الأمل» في أمريكا حتى نتعشَّم منها خيرًا عندما تصحح فكرتها عن زعمائنا؟
إن دور النشر الأمريكية أقدر من غيرها على ترويج الكتب، هذا صحيح، ولكن هناك فارقًا بين كتاب ينشر في دارٍ أمريكية، وكتاب يؤلَّف من وجهة نظر تستهدف مخاطبة الجمهور الأمريكي، وأعتقد أن اهتمام هيكل بمحور «الممثل» و«النجم»، وبالعوامل والعقد النفسية في النشأة الأولى، واستخدام تشبيه «ترومان» لتبرير تعاونه مع السادات في السنوات الأولى من حكمه، كل ذلك يدل على أن هيكل كان يخاطب في الأساس جمهورًا أمريكيًّا ولم يكن ينشر في دارٍ أمريكية فحسب.
على أن الهدف الذي كان يرمي إليه هيكل من هذا كله هدفٌ عقيم؛ فمن العبث أن يحاول أي مؤلف تصحيح صورة حاكم، أُعجب به الجمهور الأمريكي لأسباب لا علاقة لها، في الواقع، بشخصه أو مسلكه؛ إن ما يهم أمريكا، شعبًا وحكومةً وصحافة وإعلامًا، هو المصالح، وليس خفة دم هذا الحاكم أو طيبة قلب ذاك، ومن الممكن بالفعل أن يعجب الأمريكيون بحاكمٍ من أجل هذه الصفات الشخصية، ولكن «بعد» أن يكون هذا الحاكم قد خدم مصالحهم، أما إذا تعارضت سياسته مع المصالح الأمريكية، فعندئذٍ لن يشفع له في نظرهم أن يكون في خلقه الشخصي قديسًا. وهكذا فإن الأمريكيين لا يكوِّنون صورتهم عن أي زعيمٍ على أساس فضائله الداخلية أو الشخصية، أو حتى طريقته السليمة في الحكم، بل على أساس ما يمكن أن يجنوه منه من فوائد، فالسادات كان معبود الأمريكيين، لا لأن شخصيته كانت محبَّبة لديهم؛ بل لأنه حقق لهم أكثر مما كانوا يحلمون في الشرق الأوسط كله، فأخرج السوفييت من أهم بلدٍ عربي، وفتح الأبواب للأسلحة والخبراء الأمريكيين، وأعطى الاستراتيجية الأمريكية قواعد أو ركائز أو تسهيلات (سَمِّها ما شئت، فالحقيقة واحدة)، وجعل محاربة الشيوعية هدفًا له الأولوية المطلقة على مكافحة الصهيونية، وتطرف في تحديد المقصود ﺑ «الشيوعية» حتى أدمج فيها كل حركةٍ وطنية تكافح الاستعمار والاستغلال، أما مسألة ما إذا كان حاكمًا جيدًا أو سيئًا، وما إذا كان قادرًا على حل مشاكل شعبه أم مشاركًا في تخريبه، فهذه مسائل لا تهم الأمريكيين كثيرًا، وكم من طاغيةٍ في أمريكا اللاتينية، مثلًا، كانت فضائحه وجرائمه على ألْسنة الناس في العالم أجمع، ومع ذلك كان الأمريكيون معجبين به أشد الإعجاب، ويساعدونه بكل طاقتهم في تثبيت حكمه الإرهابي، كما حدث في حالة سوموزا، وباتستا، وما يحدث حاليًّا في حالة بينوشيت. وأستطيع أن أقول إن هذا ليس الموقف الرسمي للحكومة الأمريكية وحدها، بل إن الشعب الأمريكي ذاته قد تشكَّلت عقوله، بحيث يوجِّه إعجابه بأي حاكمٍ أجنبي في اتجاه مصالحه، لا في اتجاه مصالح البلد الذي يحكمه هذا الحاكم. وهكذا فإن محاولة هيكل أن يفتح عيون الأمريكيين على حقيقة السادات محاولةٌ فاشلة، بل إنها تفترض منذ البداية صفات في الجمهور الأمريكي لا يمكن أن توجد فيه، وهنا لا يملك المرء إلا أن يُكرِّر السؤال الذي بدأنا به هذا المقال: لماذا اختار هيكل الجمهور الأمريكي لكي يوجه إليه حديثه في هذا الكتاب؟
إن المرء يستطيع أن يقول، باطمئنان، إن علاقة هيكل بأمريكا علاقةٌ حميمة، خاصة جدًّا، فمنذ البداية كانت أمريكا هي الموضوع الرئيسي الذي دار حوله الخلاف بينه وبين الأجنحة الناصرية الأخرى، فضلًا عن اليسار بطبيعة الحال، وكان إيمان هيكل بقوة أمريكا وتأثيرها ودورها وعدم إمكان تجاهلها، إيمانًا راسخًا لا يتزعزع، أما الكتابات التي هاجم فيها أمريكا في السنوات الأخيرة من حكم عبد الناصر، فلا تمثل أي اتجاهٍ دائم لديه، وإنما كان هذا الهجوم ضرورة تكتيكية في ظل الظروف السائدة بعد هزيمة ١٩٦٧م، وما إن استتبَّ الأمر للسادات، حتى عاد الاتجاه الأمريكي للظهور، وكان التحول الذي طرأ على اتجاه السياسة المصرية نحو أمريكا في عام ١٩٧٢م، والذي دعا إليه هيكل بحماسةٍ بالغة، هو نقطة البدء الحقيقية في التغلغل الأمريكي في المنطقة العربية كلها، وليس اتفاقية فض الاشتباك، كما يؤكد هيكل باستمرار.
ومما يلفت النظر أن هيكل، في كتابه عن السادات وفي أحاديثه الصحفية عن فترة ١٩٧٣ و١٩٧٤م، التي تزايدت بصورةٍ ملموسة في الآونة الأخيرة، لم يذكر شيئًا عن حصار الجيش الثالث في الضفة الشرقية للقنال، من حيث هو أحد الأسباب الرئيسية للتوقيع على اتفاقية فصل القوات، أو فض الاشتباك، التي بدأ فيها الخلاف يظهر بين السادات وهيكل؛ ذلك لأن الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على هذا الجيش، كان هو الأساس الأهم للصفقة التي تمت بين السادات وأمريكا؛ إذ تعهدت هذه الأخيرة بأن تحفظ للسادات ماء وجهه، ولا تسمح لإسرائيل بتجويع الجيش الثالث أو بدفعه إلى الاستسلام، وفي مقابل ذلك اعترف السادات لأمريكا بالجميل، لكي يظل قادرًا على القول إن جيوشه كانت في الضفة الشرقية حتى نهاية الحرب، ووقع اتفاقية فضِّ الاشتباك الأولى، وهذه جرَّت الثانية، كما جرَّت معها مزيدًا من النفوذ لأمريكا في المنطقة، فما سبب تجاهل هيكل لهذا العامل الحاسم، على الرغم من أحاديثه المسهبة حول هذه الفترة؟
لقد تم هذا الحصار وتحقق بمساعدةٍ مباشرة من أمريكا، وكانت الدبابات تنزل من سفن الشحن أو الطائرات الأمريكية إلى ساحة المعركة مباشرة، كما لعبت الأقمار الصناعية ووسائل التجسس الأمريكية دورًا أساسيًّا في تحديد مكان الثغرة التي أدت آخر الأمر إلى هذا الحصار، وهو موضوع شرحه هيكل بالتفصيل في مقالاته التي كتبها عن هذه الفترة، فما الذي جعله يمتنع عن الخوض في هذا الموضوع الحيوي في كتابه الأخير؟ هل يرجع ذلك إلى أنه لم يشأ أن يقول للجمهور الأمريكي، الذي وجَّه إليه الكتاب، إن الوضع السيئ الذي وجد فيه الجيش الثالث نفسه كان من صنع أمريكا؟ هل يرجع إلى أنه لم يشأ أن يتحدث عن الصفقة التي يمكن أن تكون قد عُقدت بين السادات وأمريكا، بحيث يقايض السادات إنقاذ أمريكا له من الكارثة المحلية والفضيحة الدولية المترتبة على خنق الجيش الثالث وإحكام القبضة على عنقه بالتدريج، مقابل إبداء الاستعداد التام لقبول المطالب الأمريكية؟ إننا هنا ندخل منطقة البحار العميقة، التي تمسُّ صميم الصفقات والاتفاقات السرية، والتي يصعب الكلام عنها إلا عن طريق الاستنتاج، ولكن تسلسل الأحداث جاء كما يلي: أخذت السياسة المصرية تتجه منذ عام ١٩٧١م، نحو الميل إلى الطرف الأمريكي والابتعاد عن الطرف السوفييتي، وتقدم هيكل بالنظرية التي تقول بإمكان إيقاف فاعلية أمريكا في مساعدتها لإسرائيل، في ظل ظروف وتوازناتٍ دوليةٍ معينة، وطبقت هذه السياسة عمليًّا، وكانت أهم خطواتها طرد الخبراء السوفييت بطريقةٍ مدوية، ثم قامت حرب أكتوبر، وكانت لدى أمريكا معرفةٌ كاملة بالطبيعة المحدودة لهذه الحرب، في ضوء اتجاهات السياسة المصرية كلها، وفي ضوء كتابات هيكل الصريحة والواضحة حول هذا الموضوع. ولكن السياسة الجديدة التي كان النبي المبشر بها هو هيكل، أتت بنتائجٍ عكسية تمامًا؛ فبدلًا من «تحييد» أمريكا، قامت أمريكا بأعظم وأسرع عملية إنقاذ في التاريخ، زودت فيها إسرائيل عبر جسرٍ جويٍّ جبار بما يكفيها للصمود في وجه الأداء المصري والسوري الممتاز في الأيام الأولى للحرب، ثم الانتقال إلى الهجوم الذي أسفر، في سوريا، عن تهديد دمشق ذاتها، وفي مصر عن ثغرة أخذت تتسع بالتدريج حتى حاصرت الجيش الثالث كله حصارًا كاملًا، كان هذا الانقلاب في الميزان العسكري من صنع أمريكا في المحل الأول، وعندما أمسكت بكل الخيوط في أيديها، بدأت تحركها كما تشاء، وبدلًا من أن تتمكن السياسة المصرية من «تحييدها»، أصبح الجيش الثالث وسمعة مصر وهيبة النظام ورجاله رهينة في أيديها، وبدأ مسلسل توقيع الاتفاقات الاستسلامية.
هذا الجانب من الموضوع سكت عنه هيكل تمامًا وسط الضجيج الهائل الذي أثاره في كتابه الأخير، وفي أحاديثه الصحفية الكثيرة هذه الأيام، حول حرب أكتوبر، فهل كان سكوته شعورًا بالحرج من أن تنكشف النتائج المأساوية لدعوته إلى سياسة «التحييد»، أم كان امتناعًا عن الغوص في البحار العميقة، التي تهدد من يقترب منها بالغرق؟
أيًّا ما كان الجواب، فإن هذه هي المرحلة التي أقام فيها السادات اتصالًا وثيقًا مباشرًا مع الأمريكيين، وفيها يروي هيكل قول السادات لكيسنجر، عندما اجتمع به في بداية محادثات فض الاشتباك الأول، «لماذا لم تأتِ من قبلُ؟» وفي رأيي الشخصي أن هذا الاتصال المباشر الذي أقامه السادات مع الأمريكيين منذ ذلك الحين، والذي ازداد توثقًا مع الأيام خلال السنوات التالية، كان من الأسباب الرئيسية للجفوة ثم الخلاف بين هيكل والسادات؛ إذ كان السادات قبل هذه الفترة يعتمد كثيرًا على هيكل في كل ما يتعلق بالاتصال بالأمريكيين، على أساس الصلات الوثيقة التي كانت تربط هيكل بهم، وعلى أساس ما كان شائعًا عنه من أنه يفهم الأمريكيين أكثر من غيره، ولكن منذ أن أقام السادات جسوره المباشرة بنفسه، ومنذ أن فتحت قنوات اتصال واسعة بينه وبينهم، لم يعد في حاجةٍ إلى صلات هيكل أو خبرته الأمريكية، وبدأ يتجه إلى الاستغناء عنه، وفي الوقت ذاته فإن هيكل، عندما شعر بأنه يُستبعَد بالتدريج، أخذ يوجه انتقاداته إلى سياسة السادات، لا سيما وأن هذا الأخير قد سكر بنشوة الغرام الأمريكي، إلى حد أنه أوقع نفسه في أخطاءٍ لا حصر لها، بينما كان هيكل يعرف جيدًا أن أمريكا لا ترتبط طويلًا بالعشيق الولهان بحبها أكثر مما يجب، والذي يفصح عن هذا الحب علنًا ودون مواربة، أنها سرعان ما تنبذ كل من يفضح غرامه بها؛ لأنها تفضل دائمًا العلاقات الخفية، المستورة، الشديدة الفعالية، ولا بأس — حتى — من مهاجمة أمريكا في العلن من آنٍ لآخر، حتى تظل الروابط الخفية قائمة. هذا هو قانون الغرام الأمريكي الذي لم يفهمه السادات، فدفع حياته ثمنًا لعدم الفهم.
•••
وهنا نصل إلى منطقةٍ أخرى من مناطق البحار العميقة، مرَّ عليها هيكل في كتابه سريعًا، وعالجها بطريقةٍ غير متعمِّقة، مع أنها كانت تستحق وقفةً متأنية وتحليلًا متعمقًا — وأعني بها موضوع مقتل السادات، واحتمال وجود دور لأمريكا فيه، فهيكل قد حرص على تبرئة الأمريكيين من أية شبهة في هذا الحادث، بعد مناقشةٍ موجزة تنم عن رغبته في أن يَنفُض يديه بسرعة من هذه المسألة الشائكة، في الوقت الذي حرص فيه على أن يتقصى خبايا مسائل أقل أهمية من هذه بكثير.
فحين طرح هيكل النظرية القائلة بوجود مؤامرة أمريكية في قتل السادات، استبعدها بسرعة لثلاثة أسباب تبدو في نظرنا غير مقنعة على الإطلاق.
السبب الأول أن نظام السادات كان أحد الدعائم الرئيسية في سياسة ريجان المعادية للشيوعية في المنطقة، واستطاع التدخل في بعض بؤر المتاعب الأفريقية (متاعب من وجهة نظر أمريكا بالطبع، أما من وجهة نظر العالم الثالث فهذه «المتاعب» هي حركات تحرير وطني)، والسبب الثاني أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل سقوط شاهٍ آخرَ بعد أقل من سنتين من سقوط الشاه الأصلي في إيران. أما الثالث فهو أن من الصعب تصور وجود تلاقٍ في الفكر أو العمل بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبين التنظيمات الإسلامية.
هذه الأسباب لا تكفي على الإطلاق لتبرئة أمريكا من تهمة التآمر على قتل السادات؛ إذ إن محاربة السادات للشيوعية تتوقف على مقدار فاعليته كحاكم، بين شعبه والشعوب العربية الأخرى، أما فقدان السادات لفاعليته بين الشعوب العربية فكان قصةً معروفة، بدأت منذ فض الاشتباك الأول، وانتهت إلى قطيعةٍ تامة بعد اتفاقية كامب ديفيد، وهو أمر ينبغي أن تضعه أمريكا في اعتبارها، عندما تحسب مدى فائدته لها كصديق، وأما فاعليته بين شعبه فقد شهد بضياعها كثير من الأمريكيين، ومنهم سفراء في المنطقة نشروا تقاريرَ مشهورةً تضمنت نقدًا مريرًا لسياسة السادات، وكان الشاهد الأكبر على فقدان السادات فاعليته كصديق ينفع أمريكا في تحقيق سياستها في المنطقة، هو حركة اعتقالات سبتمبر، التي أغضبت الجميع، ولم تترك للسادات صديقًا في مصر، بدءًا بأقصى اليمين، حتى أقصى اليسار، مرورًا بأحزاب المعارضة والسياسيين المخضرمين، فما قيمة هذا الصديق الذي يفقد فاعليته في بلده إلى هذا الحد؟ إن من اللافت للنظر أن حجم الانتقادات التي وجهت إلى أسلوب حكم السادات، بعد اعتقالات سبتمبر، التي سبقت اغتياله بشهرٍ واحد، كان هائلًا إلى درجة أدهشت السادات نفسه، فقد ثارت الصحافة الغربية، في أمريكا بوجهٍ خاص، ثورةً عارمة على ممارسات السادات غير الديمقراطية، وهو أمر ليس من عادتها أن تقوم به بالنسبة إلى أصدقائها في أمريكا اللاتينية، مثلًا، الذين يُصفُّون الألوف من معارضيهم جسديًّا، دون أن تتحرك الصحافة إلا فيما ندر، وهكذا كان واضحًا أن نفس أولئك الذين «صنعوا النجم»، قرروا أن وقت أفوله قد حان.
أما عدم تحمل أمريكا لسقوط شاهٍ آخر بعد أقل من سنتين، فهو حجة لا تُقنع أحدًا؛ إذ إن أمريكا تستطيع أن تتحمل سقوط ألف شاهٍ ما دامت واثقة من أنها ستجد البديل، ولا ننسى أن الشاه كان يؤكد دائمًا أن أمريكا هي التي ألقت به بعيدًا «كالفأر الميت»، بل إن احتمال اشتراك مخابراتها في التعجيل بموته، قد أثير بقوةٍ في كثير من الأوساط.
تبقى أخيرًا مسألة استبعاد وجود تلاقٍ في الفكر أو العمل، بين المخابرات المركزية الأمريكية والتنظيمات الإسلامية، وهذه في الواقع حجة شديدة السذاجة، لا يملك المرء إزاءها إلا أن يقول لهيكل: أنت تعرف خيرًا من ذلك! فالمخابرات الأمريكية لن تتلاقى مباشرة بالطبع، في الفكر أو العمل، مع أي تنظيم كذلك الذي قتل السادات، وإنما ستعمل من خلال «وسائط» قريبة من فكر هذا التنظيم وعمله، وما أكثر هذه الوسائط في البلاد الإسلامية، ولا بد أن يكون أسلوب العمل هو الاتصال عن بعد، بحيث لا يشعر المنفِّذون الأصليون بوجود أي تحريضٍ خارجي على الإطلاق، وتظل دوافعهم الدينية الأصلية هي التي تدفعهم طوال الوقت، وينبغي أن نلاحظ أن تغلغل أجهزة المخابرات العالمية في الجماعات الشديدة التطرف، يمينًا ويسارًا، هو أسهل الأمور، وهو حادث بالفعل على نطاقٍ عالمي. وعلى أية حال فإننا هنا ندخل منطقة من أخطر مناطق البحار العميقة، التي ينبغي فيها على شهرزاد أن تسكت عن الكلام المباح، وإلا فلن يدركها الصباح!
إن إبداء رأي قاطع في مثل هذه الأمور، التي هي بطبيعتها شديدة الخفاء، والتي تُدبَّر بإحكامٍ وتكتُّمٍ بالغ، هو أمرٌ مستحيل، ويكفي أن رئيس جمهورية أمريكيًّا مشهورًا هو جون كنيدي قد اغتيل في ظروف مريبة إلى أقصى حد، وشعر الكثيرون أن أجهزةً أمريكيةً خفية هي التي قتلته، ولكن الموضوع ظل حتى يومنا هذا غامضًا، يُثير علامات استفهام كبرى، بعد أن قدَّمت هذه الأجهزة شخصًا على أنه القاتل، ثم قتلت هذا القاتل، ثم قتلت قاتل القاتل! إنها أمورٌ لا تتكشف حتى لأدق لجان التحقيق، ولكن «الضحايا» الذين يعرفون أساليب هذه الأجهزة خيرًا منا جميعًا، لأنهم تعاملوا معها طويلًا؛ غالبًا ما يفهمون طبيعة ما حدث. فقد أدرك شاه إيران، كما قلنا، أن سلبية قادة جيشه إزاء المظاهرات العارمة في أيامه الأخيرة، لا بد أن تكون راجعة إلى أوامرٍ من أسيادهم الأمريكان، وكانت زوجة السادات وأسرته، كما قال هيكل نفسه، من أقوى المؤيدين لنظرية المؤامرة الأمريكية، ولم يعدلوا عنها لأسبابٍ منطقية، بل لأسبابٍ مصلحية: «فقد وجد أفراد الأسرة أنها (أي النظرية) لا تستطيع أن تصل بهم إلى شيء، بل بالعكس قد تضر مصالحهم مع قوةٍ يعتبرون أنها قادرة على حمايتهم.»
إنها كما قلت موضوعاتٌ شديدة التعقيد، يكاد يستحيل كشف وقائع ملموسة تُلقي الضوء على خباياها، وكل ما يملكه المرء إزاءها هو أن يستنتج، ويرجح الفرض الذي يفسر أكبر عددٍ ممكن من الظواهر، وأحسب أن افتراض وجود مؤامرةٍ أمريكية، بالصورة التي عرضناه بها، أقدر من غيره على تفسير أشياء كثيرة، فضلًا عن أنه لا يتعارض مع الفرضين الآخرين، أعني وجود مؤامرة داخل الجيش، ووجود تنظيم إسلامي واسع النطاق هو الذي تولى تنفيذ العمليات، فمن الممكن أن يكون لهذه الجهات الثلاث معًا دور في تلك العملية، التي خُطِّطت ونُفِّذت بإحكام يفوق الوصف، وهو احتمال لم يعرض له هيكل، في حرصه الشديد على استبعاد الفرض الأمريكي بسرعة.
ولكن، إذا تركنا هذا الميدان الشديد الغموض، المحفوف بالمخاطر، وانتقلنا إلى التحليل السياسي المرتكز على أرضٍ أكثر صلابة، لوجدنا أن أمريكا، إن لم تكن قد خططت لقتل السادات، فإنها حكمت عليه بالإعدام سياسيًّا، بعد أن استهلكته واستنفدت أغراضها منه.
فبعد أن وقَّع السادات معاهدة كامب ديفيد، بما فيها من بنودٍ مفصَّلة، بشأن انسحاب إسرائيل من سيناء والتطبيع معها، وبما فيها من إشاراتٍ قليلة شديدة الغموض عن القضية الفلسطينية، وبعد أن ثارت ثائرة العالم العربي على هذه المعاهدة، وقطعت معظم بلاده علاقاتها بنظام السادات، كانت أمريكا تستطيع أن تسلك طريقًا من طريقين:
الطريق الأول هو أن تدعم السادات وتضمن مستقبله السياسي، عن طريق إثبات صحة موقفه أمام العالم العربي، ويقتضي هذا الأمر أن تتطور الاتفاقية بحيث تصبح أكثر من مجرد صلح منفرد بين إسرائيل ومصر، أي أن تسير — كما طالب السادات مرارًا — في طريق التسوية الشاملة. مثل هذا المسلك سيكون فيه إنقاذ للسادات؛ لأنه رهن مستقبله السياسي، وعلاقاته مع العالم العربي بأسره، على هذا التوقع، ولو سارت أمريكا، ومعها إسرائيل، في هذا الطريق، وحققت للسادات على الأقل جزءًا مما يريد، خارج نطاق التسوية المحلية بين مصر وإسرائيل، لاستطاعت أن تعيد إليه مكانته في العالم العربي، ولأمكنها أن تربط كثيرًا من البلاد العربية بعجلة الاتفاقية الجديدة.
ولكن هذا الطريق كان ينطوي، من وجهة نظر أمريكا، على عيوبٍ واضحة: إذ إنه يؤدي إلى دفع ثمنٍ باهظ، هو الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة بعد ١٩٦٧م، وإلى توحيد البلاد العربية في خطٍ سياسيٍّ واحد، يقوِّي جبهتها في المطالبة بالحقوق الفلسطينية، وقد يؤدي في المدى الطويل إلى إنشاء كيانٍ فلسطيني على مستوًى معقولٍ، فضلًا عما تؤدي إليه التسوية الشاملة، بشروطٍ معقولة، من توفيرٍ ضخم للأموال والطاقات العربية في اتجاه التنمية والتعمير.
أما الطريق الثاني، الذي يرجح أن إسرائيل قد ألحَّت عليه، واستجابت لها أمريكا بعد أن اقتنعت بأنه أكثر تحقيقًا لمصالحهما المشتركة، فهو عدم مجاملة السادات، وعدم بذل أي جهد من أجل إنقاذه من ورطته، ما دام قد أدى مهمته الأساسية، وعدم التنازل لبقية العرب عن شيء، هذا الطريق يتضمن من وجهة النظر الأمريكية-الإسرائيلية، مزايا عديدة: بقاء العالم العربي ممزقًا وفي حالة ضعفٍ شديد، والاستفراد بكل دولة بعد الأخرى وعزلها عن الباقين، وإخراج مصر نهائيًّا من الصراع العربي الإسرائيلي، وضمان حرية الحركة الكاملة لإسرائيل. وهكذا فإن مزايا هذا الطريق أعظم بكثير، من وجهة نظر جبهة الأعداء، من الطريق الآخر.
وكان الثمن الوحيد الذي ينبغي دفعه في حالة اتباع هذا الطريق الثاني، هو التضحية بالسادات …
والآن، تخيل نفسك أيها القارئ أمريكيًّا مخلصًا، حريصًا على مصلحة بلدك وعلى ارتباطات هذا البلد بالدولة الصهيونية، التي تحقق له كل أهدافه في المنطقة، فأي الطريقين تختار؟ تهديدك لمصالح بلدك وحلفائك من أجل فردٍ واحدٍ مخلص لك، أم التضحية بالفرد وبمستقبله، مهما كان إخلاصه، من أجل ضمان مصالحك وزيادة مكاسبك؟
لقد كان جواز المرور الوحيد لدى السادات أمام العالم العربي، والمبرر الوحيد لتوقيعه المعاهدة، هو أن تستمر قوة الدفع إلى أن تتحقق التسوية الشاملة، ولكن الطرف الآخر — وله كل الحق فيما فعل، من وجهة نظره الخاصة — وجدها فرصة ذهبية لتوريطه، وتركه عاريًا في منتصف الطريق، فضمن المكسب وتجنب الخسارة، وهكذا، فمنذ اللحظة التي ساندت فيها أمريكا حليفتها إسرائيل في تعنتها، ومنذ اللحظة التي قررت فيها أمريكا ألا تضغط على إسرائيل إلى الحد الذي يلزمها بالسير قدمًا نحو التسوية الشاملة؛ منذ هذه اللحظة كانت قد حكمت على السادات بالإعدام.
ولقد أدرك هذه الحقيقة بوضوحٍ تام السفير الأمريكي الأسبق في مصر، لوشيوس باتل، وعبر عنها بكلماتٍ بالغة الدلالة في المقال الذي كتبه في رثاء السادات: «كلما كانت الولايات المتحدة تضغط عليه للدخول في كامب ديفيد، كانت تَعرُّضه للخطر يزداد، فلن نقبل نحن ولا الإسرائيليون نتائج الأخطار التي كنا ندفعه إليها، ولقد كانت الطريقة الوحيدة التي كان يمكن بواسطتها أن يصبح لاتفاقيات كامب ديفيد معنًى في نظر السادات، هي افتراض إمكان التقدم نحو صلحٍ شامل. وكان من الضروري أن تظهر علاماتٌ واضحة على أن طريقه هو الصحيح، حتى يحذو العرب الآخرون في الوقت المناسب حذو السادات، وهو أمر كان يقتضي فهمًا من جانب إسرائيل وضغطًا من الولايات المتحدة على الفريقين لتحريك مباحثات الحكم الذاتي وخفض عدد المستوطنات في الضفة الغربية، ولكن بدلًا من ذلك، زادت المستوطنات، وأُضيفت إهانة ضرب المفاعل في العراق وقصف بيروت، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئًا. وهكذا أصبح السادات شهيدًا لنفسه وللعالم الغربي، ولكن ليس للشرق الأوسط، سواء منه العربي أو الإسرائيلي.»
في هذه الشهادة المباشرة، يظهر بوضوحٍ أن السادات كان، بالنسبة إلى أمريكا، قد استنفد أغراضه، وأدى ما هو مطلوب منه ثم تُرك لمصيره المحتوم، ولم يعد مجديًا بعد ذلك أن يحاول استرضاءهم بتصريحاتٍ حامية ضد الشيوعية؛ إذ إنهم كانوا قد أداروا له ظهورهم، وعندما زارهم قبل مصرعه بشهرين، كان واضحًا أنه لم يعد في نظرهم الزعيم المفضَّل الذي كان، ومنذ كامب ديفيد، بل منذ زيارة القدس، أدرك أصدقاء أمريكا، الأكثر منه ذكاءً والأبعد منه نظرًا، أن السفينة غارقة لا محالة، وهكذا قفز منها إسماعيل فهمي، ثم منصور حسن، ثم هيكل، الذي كان على أية حال واعيًا بأبعاد الأزمة قبل الجميع، ولو لم يكن القتل الفعلي قد تم بتدبيرٍ من أمريكا، لأمكن القول — على أقل تقدير — إن أمريكا هي التي قيدت يدَي السادات بالسلاسل، وأمسكت برأسه وشدتها إلى الوراء، ولم يبقَ إلا السكين التي تذبح.
ومن هنا فإني أرى أن مرور هيكل السريع على مسألة دور أمريكا في مقتل السادات واستبعاده أي فرض يُحمِّلها مسئولية ما حدث لصديقها العتيد، هو أمر لا يمكن تفسيره إلا بأحد أمرين: إما أن هيكل يشعر بالخطورة الشديدة لخوض هذا الموضوع، الذي لا بد أن «أرشيفه» يمتلئ بالوثائق والمعلومات عنه، وإما أنه يريد أن يبعد عن ذهن القارئ أي احتمال لتورط أمريكا، بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، في هذه العملية.
•••
إن المنحى العام لكتابات هيكل، في مراحلها المختلفة، يُقنع كل من يتابعها بدقةٍ بأنه كان يرتبط بأمريكا في علاقةٍ حميمة جدًّا، أما الانتقادات التي يوجِّهها إليها فإنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؛ لأن أصدقاء أمريكا، إذا كانوا أذكياء، لا بد أن يهاجموها من آنٍ لآخر، بل إنها هي ذاتها التي تطالبهم بذلك.
وأنا أعرف أن هذا الموضوع يثير حساسيةً خاصة لدى هيكل؛ ولذلك فإنني سأتبع في إثباتي لما أقول، أكثر الطرق أمانًا، وأعني به الاستعانة بما يقول هيكل نفسه.
في أحد المواضع في كتاب «مدافع آية الله» يتحدث هيكل عن وساطةٍ، طلبتها منه أمريكا من أجل حل مشكلة الرهائن الذين كانوا مُحتجَزين في السفارة الأمريكية بطهران، مرة قبل محاولة أمريكا الفاشلة لإنقاذ الرهائن بالقوة الأولى في صحراء تاباز، ومرةً أخرى بعد قيام هذه المحاولة وفشلها الذريع. في المرة الأولى سأله هارولد سوندرز، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية، عما إذا كان على استعدادٍ لمساعدة الرئيس كارتر، فأجاب هيكل بأنه على استعدادٍ لمساعدة الإيرانيين، ومن الواضح أن السؤال أهم ألف مرة من الجواب، فما الذي يدفع موظفًا رسميًّا أمريكيًّا إلى أن يسأل صحفيًّا مرموقًا في دولةٍ يوجد بينها وبين أمريكا تضاربٌ شديد في المصالح، عما إذا كان على استعدادٍ لمساعدة رئيس دولته؟ وعلى أي أساسٍ بنى توقعه بإمكان قيام هيكل بهذه الخدمة للرئيس الأمريكي؟
«واتضح أنها عبارة عن اقتراح، القصد منه أن أقوم أنا باستخدامه في محاولةٍ جديدة لمفاتحة السلطات في طهران، وكانوا يأملون أن أوافق على هذه الخطوة، وكانت الوثيقة غريبة بالفعل، ولعل أفضل طريقة لإظهار مدى ابتعاد التفكير الأميركي عن الواقع هو أن أورد الوثيقة كما هي:
الفكرة هي أن يذهب هيكل إلى إيران، ويقدم إلى بني صدر طريقة تمكن الإيرانيين من استخدام كارثة عملية الإنقاذ؛ لإطلاق سراح الرهائن، وأن يضعوا نهاية لهذه القضية، كما يقوم هيكل بإقناعه أن مثل هذا العمل، فرصةٌ نادرة ليركب موجةً قوميةً إسلامية لتدعيم مركزه، ويمكن تقديم نفس الفكرة إلى الخميني باعتباره مشاركًا في نفس الرغبة للتخلُّص من المشكلة.
- (أ)
إن نجاح الثورة الإيرانية أمر قد اتضح وتمت البرهنة عليه من جراء الهزيمة المخزية لبعثة الإنقاذ الأمريكية، فلقد بيَّن الله سبحانه وتعالى للعالم، أنه مهما كان العدو جبارًا، فإن الحق في جانب المظلومين وفي هذه الحالة ستتاح للجميع فرصة ليشهدوا التسامي الخلقي للجمهورية الإسلامية؛ ولهذا:
- (ب)
خدمت قضية الرهائن الغرض الذي كانت ترغب فيه إيران، فقد كانت بمثابة الأداة التي أظهرت للعالم، وبشكلٍ مُثير، مساوئ حكم الشاه ودعم الحكومة الأمريكية له، إن عجز الحكومة الأمريكية عن القيام بعملية إنقاذ لهو الشهادة الثانية والأخيرة على عدالة أخذ الرهائن، (ولو على سبيل المثال: أدى الفعل الإيراني إلى رد فعل أمريكي، نتج عن فشله تأكيد للرسالة، التي كانت إيران تود أن تنقلها أساسًا)؛ لذلك لم يعد هناك أي حاجة للرهائن.
- (جـ)
سيتم الإفراج عن الرهائن؛ لأن إيران لم تكن تنوي أبدًا إلحاق الأذى بهم، وهذه اللفتة ستظهر بشكلٍ مثير وواضح مدى سماحة الإسلام ورحمته، وليس هناك شعور بالكراهية تجاه الشعب الأمريكي، وإنما ينصب الكره على الحكومة وحدها (فيطلق سراح الرهائن الآن، وليظهر غباء الأمريكيين وعدم مهارتهم أكثر من ذي قبل ولتنقلهم الطائرات من تاباز نفسها أمام مندوبي الصحف، ولتدون كل ملاحظاتهم الساخرة المستخفة بالولايات المتحدة … إلخ)، ولتظهر إيران والجمهورية الإسلامية بمظهر المنتصر ذي الأخلاق السامية.
- (د)
وهكذا يظهر مختطفو الرهائن بمظهر المنتصرين والأبطال القوميين، فهم لم يلحقوا الأذى بأحد، كما أنهم نفذوا تعاليم الإمام، وستقوم الحكومة بمكافأتهم بسخاء، ويعترف الإمام بفضلهم بشكلٍ خاص، قد تكون هذه هي آخر فرصة لقوة المختطفين لترك مجمع السفارة، دون حدوث ضرر لأحدٍ في إيران.
- (هـ)
يجب أن تعلن إيران نفسها قرار الإفراج، وكأنه حدثٌ درامي يدل على الرحمة والعطف بالرهائن، وهي خطوة اتخذها الخميني بنفسه، وإجراءات الإفراج عن الرهائن ستمنح إيران فرصةً هائلة للدعاية، تغطي بها الخمسة أشهر البائسة بمسحةٍ من الأخلاق الحميدة والرحمة، وهكذا تجدد إيران صورة الإسلام، وهذا شيء يسعد كافة المسلمين في العالم، وتهاجم الحكومة الأمريكية مرةً أخرى لعدائها للقضايا العادلة، وهذا لا يقلل من معركة إيران مع الحكومة الأمريكية، ولا يمثل أي نوع من المهادنة معها.
انتهت الرسالة.
ولقد تلقيت رسائل أخرى من واشنطن بعد ذلك، لكن حسب معلوماتي التي كانت ترد من طهران، كانت كل خطوط الاتصال مع الأمريكيين قد تداخلت بشكلٍ يبعث على اليأس، فلم يكن لدى الإيرانيين أي فكرة عن المفترض فيه أن يتحدث معهم، ولا حتى عن تلك الإشارات التي كانوا يتلقَّونها من الأمريكيين وتعبر عن الموقف الأمريكي الحقيقي.»
•••
آمل أن تكون، أيها القارئ، قد قرأت هذه الصفحات المنقولة حرفيًّا بإمعان، فلم يكن ما تطلبه أمريكا هنا من هيكل مجرد وساطة، بل إنهم اختاروه شخصيًّا للقيام بعملية خداع واستغفال لعقول الإيرانيين، مستغلًا مشاعرهم الإسلامية، بحيث يتعامل معهم كما لو كانوا مجموعة من الهنود الحمر البدائيين، الذين يمكن الحصول على كل شيء منهم مقابل عقد من الخرز الملون، وبالطبع فقد تصور هيكل أنه يدافع عن نفسه، حين قال إنه لم يقم بتنفيذ المهمة المطلوبة منه، ولكن هذا، في الواقع، ليس دفاعًا على الإطلاق؛ إذ إن المشكلة لا تكمن في التنفيذ أو عدم التنفيذ، وإنما في الطلب ذاته.
المشكلة الكبرى هي أن الأمريكيين «كانوا يأملون أن يوافق على هذه الخطوة.» فعلى أي أساس جاءهم هذا الأمل؟ كيف تصوَّروا أنه سيقبل الاشتراك في عملية خداع الحكام الإيرانيين ومعاملتهم كأنهم أطفال؟ من أين جاء كل هذا الأمل، وكل هذا «العشم» في هيكل؟ وكيف توقعوا منه أن يتجاوز مهمة الوساطة ويقوم بتمثيلية خداعة على الإيرانيين باسم الإسلام، أي أن يخاطبهم وفي نيته أن يغشهم ويستغل سذاجتهم لصالح أمريكا؟ وما هو نوع الروابط التي تربطه بهم حتى يطلبوا منه شيئًا كهذا؟
إن هيكل يستطيع أن يقول، بالطبع، إنه ما دام قد نشر الرسالة فلا بد أنه كان حسن النية، ولكن الواقع أنه لا يدرك ما يمكن أن تكشفه رسالة كهذه عن الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون إليه، فمن المستحيل أن تطلب أمريكا من إنسانٍ عادي — مهما كانت مكانته — أن يعرض نفسه للأخطار من أجل أداء كل هذه الخدمات لصالحها، وحتى لو كانت أمريكا قد أساءت التقدير، وتصوَّرت خطأ أن هيكل يمكن أن يقوم بهذا كله لحسابها، فإن لهذا الخطأ ذاته دلالته البالغة؛ لأنهم لا يمكن أن يكشفوا أوراقهم على هذا النحو لأي شخصٍ غير ملتصق بهم، ومن جهةٍ أخرى فقد كان المفروض، في حالة خطأ أمريكا، أن يردَّ عليهم هيكل بشدة، لا معتذرًا فقط، بل مستنكرًا هذا الطلب بكل قوة، كان المفروض أن يردَّ عليهم ردًّا شديد العنف، يقول فيه، مثلًا: هل تتصورون أنكم تخاطبون شخصًا يشتغل لحسابكم حتى تطلبوا مني شيئًا كهذا؟ وكيف تتخيَّلون أنني سأقوم بعملية خداع واستخفاف بعقول أناس وضعوا ثقتهم فيَّ؟ ولكن هيكل لم يفعل ذلك، والدليل على هذا هو أن كل ما انتقده على الأمريكيين، في تعليقه على رسالتهم، هو «ابتعاد تفكيرهم عن الواقع»، والدليل الأهم على أنه لم يستنكر، ولم يوقف الأمريكيين عند حدهم، هو أنهم عادوا فبعثوا إليه برسائلَ أخرى.
إن هيكل لم يدرك النتائج الخطيرة للكلمات التي قالها، وكل ما طاف بذهنه هو أنه كان في هذه القصة رجلًا مهمًّا، يسعى إليه وزير الخارجية الأمريكي ويختاره شخصيًّا للتوسط بين دولتين، إحداهما أكبر وأقوى دولة في العالم، وفي نشوة الإحساس بالسعادة الناتج عن الشعور بأهميته، لم ينتبه إلى المعاني الواضحة التي يستطيع أي عقل على قدرٍ ضئيل من الذكاء أن يستخلصها من روايته.
وفي ضوء هذه الاعترافات الخطيرة، غير المقصودة، التي أدلى بها هيكل، ألا يشعر المرء بالإشفاق حقًّا على الإيرانيين الذين فتحوا له أبوابهم، وأطلعوه على أخطر وثائق السفارة الأمريكية، بعد أن خدعتهم شهرته المرتبطة بجمال عبد الناصر، ثم خرج هو من الزيارة بكتابٍ تضمن كثيرًا من السخرية من الإيرانيين، وربما خرج بما هو أكثر من ذلك؟
إنني، إدراكًا مني لحساسية هذا الموضوع عند هيكل، حرصت على ألا أستخدم نوع الألفاظ الذي يغضبه، ولكن الأهم من ذلك أنني لم آتِ بشيءٍ من عندي، وكل ما فعلته هو أنني تركت هيكل يدين هيكل.