ثالثًا: كيفية ثبوتها

إذا وجبت الإمامة، وكانت ضرورية بالسمع وبالعقل وبالمصلحة، فكيف تثبت؟ وما الطريق إلى تثبيت الإمام؟ الحقيقة أن الاختيارات عديدة، سواء من حيث العقل أو من حيث الواقع، من حيث الاحتمال النظري أو من حيث التحقيق التاريخي. قد تثبت الإمامة بالنص والتعيين، سواء كان هذا النص في أصل الوحي في القرآن أو في السنة، أو وصية من إمام على إمام. وقد يكون النص كافيًا بمفرده، أو يُصاحبه دليلٌ آخر من المعجزة أو العقل أو الفعل بالخروج على الإمام الظالم. وقد يُشير النص إلى الإمام باسمه وعينه، وقد يُشير إليه بصفته ورسمه دون تعيين له كشخص، ثم يسهل التعرف إليه بمطابقة الأوصاف في الأشخاص وتحقُّقها فيهم. وفي الاتجاه نفسه قد تكون الإمامة وراثة، ويقوم الدم فيها بدور النص أو الوصية. وفي اتجاهٍ مُعارِض تمامًا تكون الإمامة بالبيعة. والبيعة اختيار وعقد، إما من جمهور الأمة وعامة الناس، أو من أهل الحل والعقد، مُمثلي الأمة، المُحافظين على الشرع، والمُدافعين عن مصالح الناس. وقد يتحدد الاختيار للإمام بناءً على كثرة الأعمال، أي عن استحقاق شخص للإمام، أو عن تحقُّقها بالغلبة والقهر. وفي هذه الحال تفقد البيعة أساسها الأول، وهو الاختيار الحر. وبالرغم من وجود احتمالات أخرى تجمع بين النص والاختيار، ولكنها في الحقيقة تعينات لهما في التاريخ، ووصف لحوادث معيَّنة، مثل قبول النص في الأئمة الثلاثة الأوائل ثم إلغاء البيعة بعد ذلك، أو قبول البيعة للأئمة الثلاثة الأوائل ثم مبايعتهم بعد ذلك، مما يدل على حدوث الخلاف بعدهم؛ فقد ظل الاختيار بين اتجاهين رئيسيين، ألا وهما ثبوت الإمامة بالنص والتعيين، أو ثبوتها بالعقد والاختيار.١ أما الاحتمالات الأخرى فقد اندرجت تحت التيارين الرئيسيين ولم يتم تطويرها؛ إذ تندرج الإمامة بالوصية أو الوراثة تحت الإمامة بالنص والتعيين، كما تندرج الإمامة بكثرة الأعمال وبالغلبة تحت الإمامة بالعقد والاختيار، ولكل حالة واقعٌ تاريخي. وكأن هذا الواقع التاريخي هو الذي فرض نفسه كحالةٍ نظرية؛ مما يجعل أمر تجريد النظرية من ملابساتها التاريخية أمرًا صعبًا (الفصل بين التعيين وإمامة علي والاختيار وإمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز)، حتى لَتصعب الإجابة على سؤال: أيهما أصل وأيهما فرع؟ هل النظريتان تنظير للواقع التاريخي، أم أن الواقع التاريخي تحقيق للنظريتين؟ ووصية إمام على إمام بعينه قد تكون صحيحة، ولكنها غير واجبة إذا ما تغيَّرت المصالح والظروف، خاصةً وأن اختيار الجماعة خير من اختيار الفرد حتى ولو كان إمامًا. وقد يتغلب الهوى على الإمام في وصيته، حتى ولو كان أتى عن بيعة. ويمكن للوصية أن تكون مجرد افتراض، ولا تصبح شرعية إلا ببيعة تُعلن عن قبول الناس لها. وفي هذه الحالة لا يستمد الإمام شرعيته من الوصية الأولى، بل من البيعة الثانية. والوصية جائزة في كلتا الحالتين؛ النص والتعيين من ناحية، والعقد والاختيار من ناحيةٍ أخرى. الأولى من إمام إلى إمام دونما حاجة إلى توثيقها ببيعة، في حين أن الثانية تبدأ من إمام إلى إمام، ثم تنتهي عن طريق التوثيق بالبيعة.٢ أما الوراثة فإنها تثبت في حال النص والتعيين وتُنفى في حالة العقد والاختيار، ولكن الواقع التاريخي أحيانًا يُناقض الوراثة حين إثباتها.٣ أما كثرة الأعمال فهي أدخل في شروط الإمام بالعقد والاختيار. أما الإمامة بالغلبة والقوة فهي مجرد تبرير لواقع دون تأصيل نظري؛ إذ إنها مُناقضة للبيعة والاختيار.

(١) هل تثبت الإمامة بالنص والتعيين؟

قد تثبت الإمامة بالنص وحده، وقد يكون النص ضروريًّا — وإن كان هناك اختلاف في تأويله — أو جليًّا ظاهرًا لا خلاف عليه، أو خفيًّا مستنبَطًا مع ذكر العلة. وقد يكون النص مقرونًا بدليل من معجزة أو عقل أو خروج.٤

(١-١) النص الجلي والنص الخفي

والحقيقة أن جواز الإمامة يكون بالنص عند جمهور الأمة بصرف النظر عن فريقها، ولكن الخلاف هو هل تُعقَد بالاختيار أيضًا أم بالنص وحده.٥ وفي هذه الحالة يكون النص جليًّا واضحًا ظاهرًا على إمامة شخص بعينه، هو الإمام الرابع، وإنكار ذلك يرتقي إلى مرتبة الكفر. وإن لم يكن النص جليًّا واضحًا على اسمه وشخصه فإنه يُشير إلى صفته ورسمه. والنص من الله إلى الرسول، ثم من الرسول إلى الإمام. وقد يشفع ذلك الوصية من الإمام على من بعده، فالوصية استمرار للنص في التاريخ. وكل إمام يأتي دون الإمام المنصوص عليه يكون إمامًا ظالمًا مُغتصبًا للسلطة، ويضل من بايعوه، ويصل هذا وهؤلاء إلى حد الكفر.٦ ويثبت النص بحجتين؛ الأولى: أن الاجتهاد باطل لأنه يعرض للخطأ، والإمامة لا تحتمل الخطأ، فهي أصل من أصول الدين. والحقيقة أن هذا إبطال لأصل من أصول التشريع في علم أصول الفقه، ولا يمكن إثبات أصل في علم أصول الدين بإنكار أصل من علم أصول الفقه، فكلاهما علم الأصول، وإلا لتنافت الأصول، وأبطل بعضها بعضًا. والثانية: أن العصمة لا تُعرَف اجتهادًا، بل تُعرَف بالنص. والحقيقة أيضًا أن هذا إثبات للعصمة وليس إثباتًا للإمامة، إثبات للصفة وليس إثباتًا للموصوف، كما أن العصمة مُتنازَع عليها، وليست صفةً مقبولة بإجماع الأمة، ولا يمكن إثبات الإمامة اعتمادًا على شيء لم يثبت بعد. كما لا يمكن إثبات أصل، وهو الإمامة، على فرع لها، وهو العصمة، وإلا لثبت الكل بإثبات الجزء.٧ وقد يُقال إن الإمامة لما كانت واجبة بالنص فإن النص قد حصل ووقع، ولكنه لم يُنقَل. ومع ذلك تثبت الإمامة بثلاث حجج؛ الأولى: أنه إذا كان الإمام معصومًا، ولم تثبت العصمة في أحد من الصحابة، كان الإمام الرابع لأنه هو المعصوم. وهي حجةٌ تقوم على أن العصمة هي الأصل، وأنها أمرٌ قد تمَّ من قبل، كما أنها تقوم على برهان الخُلف، وهو يُثبت الشيء عن طريق نفي نقيضه، وهو برهانٌ ضعيف. والثانية: أنه إذا ثبت أن الإمام هو الأفضل، وثبت أن الإمام الرابع هو الأفضل، كان هو الإمام وإن لم يُنقَل النص. وهي حجةٌ شرطية تتوقف على صحة المشروط، وحتى لو كان صحيحًا فإنها تعتمد على إثبات في الواقع أن إمامًا بعينه هو أفضل من غيره. وكثير من الصحابة فضلاء، ويُشاركون في الفضل. وقد يكون الإمام هو المفضول لاعتباراتٍ عملية، حقنًا للدماء، ودرءًا للفتنة. والثالثة: أنه إذا صحَّ القدح في غير الإمام الرابع فإنه يكون هو الإمام، وإن لم يُنقَل ذلك نصًّا. والحقيقة أن القدح في أحد ليس حجةً ضده؛ لأنه يأتي من الخصوم، ولأن المقدوح فيه معروف له بالفضل والتقوى والصلاح، ويُشهَد له بذلك كما يُشهَد للإمام.٨
لا يمكن أن يكون طريق إثبات الإمامة هو النص الجلي، وإلا لكان رده كفرًا؛ وبالتالي أدَّى إلى تكفير الصحابة وجمهور الأمة. ولا يجوز أن يكون أمرٌ مهم في الدين، مثل الإمامة، له نصٌّ خفي ولم يُعلَم ضرورة، وإلا لجاز ورود نص في صلاةٍ سادسة أو سابعة، أو جازت زيادة أصل فيه. ولو كان هناك نصٌّ ثابت لعُلمت صحة ثبوته كالعلم بالشرع ضرورةً دون إلهام أو اكتساب؛ لأن معرفة الشرع بالتواتر. والتكليف علم في الشرع، لا يعرف البعض دون البعض. كما أن شروط التواتر تمنع من التعصب والهوى والكتمان، مثل تجانس انتشار الرواية في الزمان بين أولها ووسطها وآخرها درءًا لمؤامرات الصمت. ولا يُعقَل أن موضوعًا مثل الإمامة به صلاح الأمة، وتحقيق وحدتها، والدفاع عن أرضها، وتحقيق المصالحة فيما بين أفرادها، وأخذ حقوق المظلومين، وهو أهم من الاستنجاء والمسح على الخفين والتيمم والغائط، ولا ينقله الكافة عن الكافة. لو ثبت نص لنقله الناس، ولما سكتوا عن روايته. وإن النص على الخلافة واقعةٌ عظيمة، مثلها يجب اشتهارها بحيث يعرفها المُوافق والمُخالف. وقد اشتدَّ النزاع حولها وتطايرت الرقاب؛ مما ينفي احتمال السكوت وعدم النقل. وكيف يُمسك الصحابة، وهم المعروفون بالتقوى والصلاح، عن نقل نص ظاهر، ويُبدلونه إلى الاختيار، وهم الصفوة الأولى، والقدوة في العلم والعمل؟ ولا يمكن ثبوت الإمامة بنصٍّ خفي، فلم يخفَ شيء على الصحابة وهم المشهود لهم بالعلم وفهم المقاصد والغايات. وكيف يُمسك الرسول ذاته عن أهم الأبواب ولا ينطق فيها بنص ولا يُشير إلى شخصٍ معيَّن حتى وصلت الأمور إلى هذا الحد من الاختلاف وضياع الحق مع الباطل، وهو الذي لم يترك شيئًا في الدين إلا وبيَّنه، حتى كمل الدين وتركه على الواضحة، ليله كنهاره؟٩
وكما غاب النص على الإمامة على الإطلاق، غاب النص على إمام بعينه، الإمام الرابع؛ فقد تأخَّر عن بيعة الإمام الأول ثم بايعه دون إكراه، وبايع الإمام الثاني طواعيةً، ودخل مع الستة في الشورى دون مناداة بحقٍّ زائد. ولو كان هناك نص عليه لأظهره، ولكنه لم يفعل مع أن الصحابة قبِلوا الرد بالنصوص. وقد أظهر الإمام الرابع كثيرًا من النصوص واستدل بها دون أن يكون واحد منها نصًّا على إمامته، كما روى حديث الشورى وله نيف وسبعون دلالة، وروى أحاديث على إمامته وفضله دون أن يكون أحد منها نصًّا على إمامته، وكان الأولى أن يذكره نظرًا لعموم البلوى بها. لو كان هناك نص لنقله أهل التواتر، خاصةً وأن طالبي الإمامة لأنفسهم كانوا قلة، وكان الباقون يُعظمون الرسول ويخشون من مخالفته. وقد حدثت أسبابٌ تُوجب نصرة الإمام الرابع، وتدعو إلى إذاعة الخبر المنصوص عليه فيه، كما تدعو شجاعته وعظمة أتباعه ومطالبة الأنصار الإمامة وهو منهم، فلو كان النص موجودًا لواجههم به. ولا يتورع عن إخفاء نص أو الإمساك عنه وهو المشهود له بالشجاعة وعدم الخوف. وفي مثل هذا الحدث الضخم لا ورع ولا تقوى يُغْنيان عن المجابهة. ولم يذكر النص وهو في ستة من الشورى. وبعد مبايعته كإمامٍ رابع لم يُبايعه الناس بناءً على نص، بل عقدًا واختيارًا. وإن حجة التاريخ أقوى حجة، وهي عدم إنكار إمامة الخلفاء الثلاثة الأوائل، وعدم إنكار الخليفة الرابع لهم، فلا يُعقَل ألا يعترض أحد وألا يعترض الخليفة الرابع نفسه.١٠ فإذا بطل التعيين بالنص صح الاختيار بالعقد. وإن أكبر دليل على بطلان النص هو الاختلاف حول المنصوص عليه باسمه، وعدم ظهور علم ثابت يحسم الأمر، ولو كان هناك نص لقيل أمام الجمهور فيصبح متواترًا، أو أمام واحد واثنين فيصبح آحادًا. والأول غير منقول، والثاني لا يورث العلم. ولو كان واحدًا لبيَّنه الوحي وتعلَّمته الأمة. وإذا كان النص يُعلَم ضرورةً أو جوازًا فلا ضرورة من العقل يقتضي التخصيص على شخصٍ معيَّن. والجواز من خبر الآحاد، وهو لا يورث العلم. والنص الجلي لا ينكتم، ولا يمكن إخفاؤه، والنص الخفي لا سبيل إلى علمه إلا بتأويلٍ مظنون. وإن معظم النصوص المرويَّة إنما تهدف إلى استعمال حجة السلطة ضد حجة العقل، وتهدف إلى زعزعة النظام القائم؛ فهو سلاحٌ سياسي أكثر منه برهانًا علميًّا.١١ وقد يبطل النص بالنظرية العامة في الخبر على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؛١٢ فبالرغم من كون الإمامة أحد الموضوعات الظنية، إلا أن كيفية ثبوتها هو من الأمور القطعية، ويتطلب ذلك الاعتماد على الحديث والأخبار كنظريةٍ مستقلة في المعرفة ابتداءً من تعريف الخبر وأقسامه حتى شروط التواتر؛ فالخبر جملةٌ خبرية لا إنشائية، قولٌ يحتمل الصدق والكذب، وينقسم إلى ما يُعلَم صدقه قطعًا، وما يُعلَم كذبه قطعًا، وما يحتمل الاثنين. الأول ما وافق المعلوم قطعًا بضرورة أو دليلٍ قاطع، مثل الخبر عن المحسوسات وعن الضرورات، والثاني ما خالف الأول، والثالث ما يجوز فيه الصدق والكذب أو النفي والإثبات. الأول فقط يُفيد العلم القطعي، ونموذجه الخبر المتواتر، في حين أن الثاني لا يفيد العلم القطعي، أما الثالث فلا يُفيد إلا الظن. فالخبر المتواتر يُعلَم باضطرار لأنه يُخبر عن حس أو بديهة طبقًا لمجريات العادات، وليس عن نظر أو استدلال، كما أن عدد رواته يكون كافيًا بحيث يؤدي إلى درجة حصول اليقين، والرواة عادةً مستقلون عن بعضهم البعض، الأمر الذي يمتنع معه التواطؤ على الكاذب. والنص الذي تجب به الإمامة ليس خبرًا متواترًا؛ وبالتالي لا يفيد العلم القطعي؛ وبالتالي فلا بد أن تجد بعض مسائل علم أصول الدين حلها في علم أصول الفقه.١٣

(١-٢) النص المقرون بدليل المعجزة أو العقل أو الخروج

وقد تقف المعجزة وحدها كدليلٍ بديل عن النص أو معه، فيختلط إثبات الإمامة بإثبات النبوة. وإذا لم تكن المعجزة دليلًا على النبوة فالأولى ألا تكون دليلًا على الإمامة.١٤
وقد تثبت الإمامة بالنص مقرونًا بالعقل؛ لأن العقل يقتضي أن تكون الإمامة نصًّا وليس اختيارًا، تعيينًا وليس عقدًا. لا يمكن القول بالنص وحده دون تدخل العقل، إما في ضرورة وجوبه أو في إثباته أو في فهمه ومعرفة علته ومعناه. وهذه أشبه بالحجج العقلية على ثبوت الإمامة بالنص، منها: أن أمرًا مهمًّا في الدين كهذا لا يُترَك لاختيار الأمة، بل لا بد من النص عليه. وكأن الاختيار ليس موضعًا للثقة. والنص أدعى إلى الاتفاق من الاختيار الذي يوقع الخلاف ويُسبب الشحناء والبغضاء. مع أن الخلاف على تأويل النصوص ليس بأقل من الخلاف في الاختيار والعقد. كما أن الصلاح يقتضي النص على الإمام وتعيينه. وكأن الاختيار أسوأ من النص وأقل صلاحًا منه، مع أن به ضمانًا أكثر نظرًا لأنه يقوم على الاجتهاد والاختيار الحر. وأخيرًا لو جاز ثبوت الإمام بغير نص لجاز ثبوت النبي. وكأن الإمامة مثل النبوة، مع أن النبوة تبليغ للوحي، فهي قضية دين ودنيا، في حين أن الإمامة تنفيذ للوحي، فهي قضية دنيا فحسب، وليس فيها تبليغ وحي، وظيفة عملية صرفة، وليس لها أي دور معرفي مثل النبوة.١٥ وإن كل الشُّبه التي وردت لتأسيس التعيين بالنص على العقل مردود عليها؛ أولًا: إذا كان الإمام حجة ومستودَعًا للشرعية وقيِّمًا يحفظها ويؤديها، فإن ذلك يستدعي بالضرورة تعيينه بالنص، بل يمكن ذلك بالاختيار، فالناس أدرى بشئون دنياهم. ولكن الإمام ليس حجة الشريعة يحفظها ويؤديها، ويُفسرها ويُئولها، بل الإمامة وظيفةٌ تنفيذية خالصة، يقوم بها أي إنسان قادر، ولا يعرف ذلك إلا الناس. إذا كانت الإمامة معرفة فهي معرفةٌ بعدية وليست قبلية يتم الحصول عليها باستقرار قدرات البشر بعد الخلق، وليس تعينًا قبل الخلق. هي اختيار مسئول تتحمل الأمة تبعاته. ثانيًا: إذا كان الإمام يقوم بمصالح الدين فلا يجب بالضرورة أن يكون معصومًا، وإن العصمة لا تُعرَف إلا بالنص. يلزم فقط أن يكون قويًّا قادرًا على أداء الأمانات، والقيام بالولايات. وأول شرط لذلك هو اختيار الناس له حتى تتم الطاعة له؛ فالعصمة ليست شرطًا في الإمامة لأنها تقوم على اجتهاد وإجماع، وتعتمد على النصيحة والشورى، ويُراقبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يمكن معرفة العصمة بالنص لأن العقل يرفضها، والنص يُطابق العقل ويؤكده. هناك فرق إذن بين الإمامة والعصمة. إثبات الإمامة ممكن بالاختيار، في حين أن العصمة لا اختيار فيها، ولا عصمة لأحد، وتنفيذ الأحكام وتطبيق الحدود يستلزم معرفة الشريعة التي تقتضي أيضًا المعرفة بأحوال الأمة، ويتدخل فيها الاجتهاد؛ لذلك توجد السلطات القضائية لمراجعة أفعال الإمام. ثالثًا: لا توجد في الإمام صفةٌ زائدة مثل العصمة أو غيرها، ولا اجتهاد فيها، ولا بد أن تكون بنص، وإلا كان هناك تكليف بما لا يُطاق؛ فالصفة هي مجرد الشرط الذي يجب توافره في الإمام ضمن باقي الشروط، مثل العدل والقوة. ويمكن معرفة ذلك بالعقل والمشاهدة، بالرؤية والتجربة، كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين، وليس في ذلك أي تكليف بما لا يُطاق. رابعًا: إذا كان الإمام أفضل الناس فيمكن معرفة ذلك من خلال السلوك وليس من النص؛ فالنص لا يُشير إلى أشخاص بعينهم، بل إلى حالاتٍ عامة أو أنماطٍ سلوكية مثالية تتحقق في هذا الفرد أو ذاك، وإلا فقد النص شموليته. كما يصعب الانتقال من النص إلى الشخص دون إسقاط أو تدخل هوًى، وكل مُفسر يرى فيمن يحب الشخصَّ المُشار إليه. تُعرَف الأفضلية كالشرط تجريبيًّا وواقعيًّا وليس قبليًّا. لا يعني الوحي الأفضل لأنه مُتناهٍ والخلق لا مُتناهٍ. هذا بالإضافة إلى جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل في ظروفٍ معيَّنة إن كان تولي الأفضل يُسبب ضررًا على الأمة، مثل الشقاق أو الفتنة.١٦
وقد يُقرَن النص بالخروج، النظر بالعمل، الفكر بالواقع، الشرع بالاستحقاق، فيكون الطريق إلى ثبوت الإمامة هو النص والخروج، فإذا انطبق النص وحده على الأئمة الثلاثة الأوائل من آل البيت، فإنه لا يكفي بعد ذلك إلا مقرونًا بالدعوة والخروج؛ فكل من شهر سيفه وخرج لنصرة الأمة، ونابذ الظَّلمة، استحقَّ الإمامة وانقياد الناس له. وإذا كان النص قد ورد على أئمة بعينهم، فإنه يكفي الخروج لتحقيق النص والتطابق معه.١٧
ويبدو في ذلك تنظير للأحداث السياسية التي أوجبت الخروج بعد الأئمة الثلاثة الأوائل من آل البيت، واستتباب الأمر للسلطة، وتحوُّل المعارضة إلى خروج بالسيف دفاعًا عن الحق ومقاومةً للظلم. ومع أن الخروج على الإمام بالسيف حق إذا خان الإمام أو استسلم للأعداء أو تهاون في تطبيق الشرع أو الذب عن البيضة وبناء الثغور وتقوية الجسور، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إلا أن ذلك لا يحدث إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين. كما أن الخروج ليس دعوة للذات طلبًا لبيعة الناس، بل لمقاومة الإمام الظالم حتى يأتي الناس ببيعةٍ جديدة لإمامٍ عادل. وقد تتكاثر الأئمة إذا ما خرج الكثير على الإمام الظالم لمقاومته، فيستحيل بعد ذلك اختيار أحدهما إمامًا ومبايعة الناس له. قد يحدث ذلك في حال تنصيب إمامين، فيتمُّ الخروج على أحدهما والدعوة إلى الآخر، وليس في حالة الاتفاق على إمامٍ واحد. وقد يستعصي الحل السلمي إذا ما نُظر إلى الأفضل والأزهد أولًا، فإن تساويا نُظر إلى الأمتن والأحزم، فإن تساويا انفلت الأمر وتحوَّل إلى حرب بينهما، كلٌّ منهما يدَّعي الإمامة ويُفتي ضد الآخر، لدرجة إباحة دمه واستحلال حرماته. ونظرًا لغياب العقل ينتهي الأمر كله إلى التقليد.١٨ والحقيقة أنه في مجتمعٍ يقوم فيه كل شيء بالتعيين، ولا أثر فيه للاختيار الحر، تكون الإمامة فيه بالتعيين أضرَّ، والاختيار لها أصلح، وفي مجتمعٍ آخر يضيع فيه الاختيار، ولا تنعقد له بيعة، قد يصحُّ فيه ضبطه بالنص وبحجة السلطة. ومع ذلك فلا يمكن إخراج أحكام من نصوص؛ إذ تأتي الأحكام من تحليل الواقع. وقد أتت النصوص من قبلُ نموذجًا لأحكامٍ صدرت بعد تحليل الواقع وتجربتها فيه.

(١-٣) الواقع التاريخي

ويتحقق التعيين بالنص في الواقع التاريخي، وكأن التاريخ يسير وفقًا للنص، وليس النص تبريرًا لوقائع التاريخ، وما أسهل أن يجد الحدث التاريخي له أصولًا في النصوص. ولما كان الحدث التاريخي فعلًا إنسانيًّا واختياريًّا إجماعيًّا، وكان النص الديني وحيًا مدوَّنًا، فإن الحدث التاريخي يفرض نفسه على النص، ويجد نفسه مقروءًا فيه. ولما كان الحدث التاريخي خاصًّا، والنص الديني عامًّا، فرض الخاص نفسه على العام، فخصص العام وطبق على الخاص. وتنازع النصَّ اتجاهان؛ الأول: للمحافظة على عمومه خارج التاريخ كمبدأٍ نظري عام. والثاني: من أجل تخصيصه على حدثٍ معيَّن أو شخص بعينه حتى يكون تعيين الإمام بالنص. فإذا ما اختلف الخياران الإنسانيان حدث الجدال حول النص، وتحوَّل الموقف كله إلى جدل ومحاجَّة لتبرير المواقف السياسية المسبقة. ويحدث ذلك إما بالشك في صحة الخبر من أجل تقويض مواقف الخصوم السياسيين، أو إعادة تأويل معناه بحيث لو ثبتت صحته يكون ضد الخصم وليس معه. ويكون أيضًا بإيراد خبر مُضاد في مُقابل خبر الخصم حتى تتكافأ الأدلة، وإبراز معنًى ضد معنًى، ولا يكون أحدهما أولى من الآخر. فالأول جدلٌ سلبي، والثاني جدلٌ إيجابي. الأول ينزع من الخصم سلاحه ويردُّه إليه، والثاني يُوجه إليه سلاحًا جديدًا.

وما أكثر النصوص لإثبات التعيين بالنص على الإمام الرابع، بل إن مجرد اختلاف صياغاتها تدل على عدم صحتها؛ وبالتالي يؤدي إلى الشك فيها. وإن الاختلاف في حجمها وتردُّدها بين الطول والقِصر، بين العموم والخصوص، ليُشير إلى قدر الوضع فيها من أجل تبرير إمامة شخص بعينه في مجتمعٍ النصُّ الديني فيه حجة ومصدر سلطة، كما أن كثرة النصوص من الحديث وزيادتها على نصوص القرآن تدل على احتمال الوضع؛ لأنه سهل في الحديث، مستحيل في القرآن. فمثلًا آيات المُوالاة في القرآن بالرغم من كون بعضها قد نزل بمناسبة شخص بعينه، حتى ولو كان الإمام الرابع، إلا أنها عامة وليست خاصة، كما أن الولاية لا تعني الإمامة؛ فالولي هو الناصر وليس المُتصرف، مثل تحريم موالاة اليهود؛ فالولاية اسمٌ مشترك تعني النصرة، وليس الإمامة الواجبة الطاعة؛ فالله ولي، والرسول ولي، والمؤمنون أولياء بمعنى نصراء، وليس بمعنى أئمة. والله لا يؤم الناس، ولكن ينصرهم. ولماذا يعني الرسول بالموالاة الإمامة، فيخرج الاسم عن مدلوله، ويختلف المسلمون في تأويله، مع أن أمرًا مهمًّا كهذا، أصلًا من أصول الدين، كان يمكن لو صح النص والتعيين فيه أن يقوله الرسول صراحةً؟ ولكن الشرعية التاريخية الضائعة في مجتمع الاضطهاد وضعت نصوصها كنوع من المقاومة لمجتمع القهر، وكأن الذات تخلق الموضوع دفاعًا عن وجودها فيه.١٩ وهناك نصوصٌ أخرى أكثر صحةً من الأولى، ولكنها تدل على اختيار النبي للإمام الرابع باعتبار النبي بشرًا، وليس باعتباره نبيًّا؛ نظرًا لقربه منه ومودته له، وإعلانًا عن ذلك وسط جموع المنافقين، وردًّا على إنكارهم عدم تولي الإمام الرابع إمارة الجيش في إحدى الغزوات الأخيرة. والقصد هو إعلان القرب والمودة في حياة النبي، وليس الخلافة له بعد مماته. كما يدل على شد الأَزر والاستعانة به دليلًا على الأفضلية، وليس إعلانًا عن المشاركة في النبوة أو النص على الخلافة. ولفظ الاستخلاف عام لا خاص، يدل على الخلافة في الصلاة وفي غيرها، وليس على الإمامة وحدها. كلٌّ له فضله، الإمام الرابع وغيره؛ هذا في المودة والقرب، وذاك في العلم، وثالث في التشريع … إلخ. وما أكثر النصوص التي قيلت في الكثيرين، وهي كلها أخبار آحاد لم يحتجَّ بها أحد على خلافته، وأطاعوا الإمام الذي بايعه الناس وعقدوا له واختاروه.٢٠ أما الإعلان عن الإمامة الصريحة نصًّا وتعيينًا فإن كل الأخبار الواردة بشأنها موضوعةٌ متواطئة، ولو كانت صحيحةً متواترة لأثَّرت في مجرى الحوادث، ووجَّهت اختيار الإمام الأول. وقد نُقلت أخبارٌ أخرى صحيحة مُعارضة، وتمَّت معارضتها بأخبارٍ أخرى دون أن تظهر أخبار النص والتعيين في مجال المعارضة وهي على أشدها. وإن تأخُّر الإمام الرابع عن البيعة مثل تأخُّر غيره لانشغاله في موضوعاتٍ أخرى؛ مما يدل على أن الإمامة لم تكن قصدًا موجَّهًا له ولا غاية له. ولم يمنع الإمام الرابع من بيعة الإمام الأول أو الثاني أو الثالث، ورضي بالبيعة عقدًا واختيارًا، وشارك فيها. وكيف تكتم الجماعة المشهود لها بالحق نصًّا لتعيين الإمام الرابع وهم يحرصون على نقل النصوص وجمعها؟ وقد تم نقل نصوص في موضوعاتٍ أقل أهمية، فكيف لا تُنقَل نصوص في الموضوعات الأهم مثل الإمامة؟ وإن النصوص حول إمامة غيره أقوى من النصوص على إمامته، ولم يحتجَّ أحد بها. وقد نُقلت نصوصٌ حول عدالة الإمام الرابع وشجاعته، فكيف لا تُنقَل نصوصٌ صحيحة وصريحة على إمامته، وقد وُجد في بيئةٍ مُنقسمة عليه بين أنصار وأعداء، والنص سلاح الخصوم؟٢١ وإن كثيرًا من النصوص الأخرى لتخلط بين الإمامة والفضل، بين الإمامة والعصمة، بين الإمامة والقربى، بين الإمامة والمودة، بين الإمامة والأخوة، بين الإمامة والطاعة.٢٢ أما النصوص الأخرى فإنها تدل على فضائل الإمام الرابع وليس على إمامته. وهي فضائل يمكن ردها إلى الصفات التي يجب توافرها في الإمام وفي شروطه، وكثير منها قد يدل على العصمة أو الطاعة أو الفضل أو القربى أو المودة، وليس بالضرورة على الإمامة. وبالإضافة إلى أن كثيرًا منها أخبار آحاد؛ فإن مثلها كثير في فضائل باقي الصحابة، وكثير منها عام في جميع المؤمنين، وبعضها يشير إلى النبوة لا إلى الإمامة. وكان الإمام الرابع يُثبت خلافة الإمامين الأول والثاني، ولا يعتبر نفسه أحق منها.٢٣ أما الصفات الشخصية مثل العلم والعدالة والشجاعة، فإنها تؤهِّل للإمامة اختيارًا لا نصًّا ضِمن شروط الإمام، وهي صفاتٌ مكتسَبة بجهد الإنسان واستحقاقه، وليست مخلوقة سلفًا فيه. والقضاء والعلم والسلام والشفقة كلها شيء، والإمامة بنصٍّ صريح شيءٌ آخر. وكل ذلك يمكن حمله على تعظيم الإمام الرابع في الدين، وعلى علوه فيه، لا على الإمامة، وعظمته في الدين مثل عظمة باقي الجماعة وصونها من الفسق والنفاق. وقد بلغت الأخبار بذلك مبلغ التواتر.٢٤ وقد تكون هناك عدة وقائع أبلغ من النص الإجمالي أو الجلي، مثل استخلاف الإمام الرابع في حياته. ولكن مثل هذا الاستخلاف كثير وعام في غيره، ولا يخص الإمامة.٢٥ وهناك حججٌ معنوية أخرى لإثبات الإمامة بالنص والتعيين تعتمد على العقل! وهو تناقضٌ منهجي يقوم على إثبات النص والتعيين عقلًا، ولا يُثبت الإمامة عقلًا؛ فمثلًا لا يجوز أن يكون عالمًا باحتياج الخلق إلى الإمام وفقًا لما وردت به الأدلة السمعية، وإلا كان قدحًا في نبوته. كما لا يجوز أن يكون عالمًا بذلك دون أن ينص عليه، وهو أهم من الاستنجاء والتيمم، وإلا وقعت الأمة في الخطأ. والحقيقة أن الرسول علِم أن الإمامة لا تتم إلا اختيارًا، فتركها كذلك بيعة للأمة وشورى بينها. والنص حجز لقدرات الأمة وقيد عليها. يُبين الرسول الاستنجاء والتيمم لأنها أمورٌ شرعية، أما الإمامة فعقليةٌ مصلحية لم يُبينها الرسول لأن الناس أعلم بشئون دنياهم. وإذا كان الإمام تكميلًا للدين فإن تركه بيعةً واختيارًا ليس معصية، بل إن التنصيص عليه حجر على الأمة وحصر لمصالحها. ولا يمكن إجماع الأمة على أئمة بعينهم محصوري العدد دون غيرهم، وإبطال الجميع إلا واحدًا يكون هو الإمام الحق؛ لأن السَّبر والتقسيم في عِلل الأحكام وليس في إجماع الأمة على الأئمة. الأئمة ليس لهم عددٌ معلوم طالما أن الزمان قائم والأمة في التاريخ.٢٦
ويستمر التعيين في التاريخ وراثةً أو وصاية؛ فالدم المنبثق عن الإمام الأول مثل النص عليه في الوحي. ويعود النص من جديد من إمام على غيره، فتكتمل الدورة في النص إلى الدم، ومن الدم إلى النص.٢٧ وهل نص الإمام الرابع على إمامة بنيه؟ هل هناك صراع بين الأخ والابن في نسق القرابة؟ ولماذا لا تكون الوراثة في الأبناء وحدهم وتكون في الآخرة أيضًا؟ وما العمل إذا ما وقع خلاف في شجرة الأنساب؟ ولماذا يتم اعتبار مؤسس الفرقة إمامًا وهو ليس من نسل الإمام الرابع، وكأن الوصية تُعادل الوراثة؟ هل يمكن ضبط ذلك بنسق للقرابة؟٢٨ ماذا يحدث لو كان الإمام الوريث صبيًّا أو طفلًا رضيعًا؟ أليس العقل والبلوغ من شروط الإمام أو وصيته لهم؟ وما العمل لو لم تتحقق من الإمام المنصوص عليه أو الموصى إليه شروط الإمامة؟ ماذا لو كان مجنونًا أو فاسقًا؟٢٩ وقد تكون الوصية شفاهًا؛ وبالتالي تكون نصًّا غير مكتوب. وهنا تخضع الوصية لمناهج النقل الشفاهي. وهل يُعادل نص الوحي على الإمام على بنيه؟ كل هذه تساؤلات من أجل إعادة الواقع التاريخي إلى أسسٍ نظرية دون تحويل هذا الواقع نفسه إلى نظريات. ولما كان التعيين في التاريخ يتم في مجتمع الاضطهاد في مواجهة مجتمع القهر، فإنه ينشأ محاطًا بمؤامرة الصمت والظلم ضد الإمام المعيَّن. وإن خفَّ ضغط القهر يصبح الإمام المعيَّن مجرد أفضل الناس وقع عليه غبنٌ غير مقصود، ودون مؤامرة الصمت والإبعاد. وإن خفَّ ضغط القهر أكثر وأكثر تطيب نفس الإمام المبعَد زهدًا في الدنيا وترفعًا عليها. وإن زاد ضغط القهر والظلم فقد تخرج الإمامة عن نسل الإمام، إما بظلم غيره أو بتقية منه، ويعود أحد الأبناء ليخرج شاهرًا سيفه، ويُصحح مسار الإمامة في التاريخ، عائدًا بها إلى حظيرة الدم ورحم الولادة.٣٠ فإذا ما ظهرت عيوب التعيين بالنص على إمام بعينه، اكتفى النص بالإشارة إلى وصفه أو فعله دون اسمه أو رسمه. وقد يكون نصًّا خفيًّا لا نصًّا جليًّا؛ فإذا ما استمرَّ الخلل يمكن حينئذٍ الجمع بين النص والشورى، النص أولًا حتى أحد الأبناء، وبعدها الخروج والدعوة.٣١
وقد ساعدت البيئات الدينية المُجاورة في إعطاء نماذج للوراثة والوصاية، لما كان الواقع الاجتماعي يُفرز بنيته التي تحتاج إلى نموذجٍ ذهني سرعان ما يتسرب إلى البيئة الأصلية.٣٢ وقد يصل الأمر إلى تكفير الجميع، كل من اغتصب الإمامة من الإمام المنصوص عليه؛ فالتاريخ مؤامرة، والحق مهضوم، والشرعية ضائعة. ويحدث الفصام بين جماعة الحق وجماعة الباطل، براءة من الله ومن المشركين. وفي هذه الحالة يُنسَخ القرآن ويُرفَع إلى السماء، فلا بقاء له في صدور المُغتصِبين، ولا ولاية لهم عليه، ويصبح مُغتصبو السلطة هم المحرَّمات والطواغيت. وقد نشأ الصراع منذ قديم الأزل بين الخير والشر، بين الشرعية واللاشرعية، والأمانة هي حمل الإمامة والعودة إلى الشرعية.٣٣ يختلط الواقع بالأسطورة أو يتحول إلى حلم. إذا ما ضاع الحق واستشهد الإمام فإنه يبقى حيًّا لا يموت، يعود عن قريب، وينتظره الناس. وإذا ما أفاقت الجماعة فإنها تدرك أن إمامها قد خدعها، فتثور عليه وتقتله. وكلما ضاع الواقع جعلت الأمة همَّها كله في الإمامة. ضياع الأسفل يتحول إلى وجود الأعلى، وغياب القاعدة يؤدي إلى التركيز على القمة. وكلما ضاق الخناق وقل الانفراج على الخارج، ازداد التقاتل على الداخل، مثل الطفولة اليسارية في حركات المعارضة. وتصطدم الشراذم بالسلطة، وينكشف أمرها، وتزداد تشتتًا.٣٤ والحقيقة أن التعيين بالنص رجوع إلى الوراء، وإسقاط للماضي على الحاضر، وإعادة قراءة الماضي بناءً على الوضع النفسي الحاضر؛ فالنص لا يتحدث ولا يتحول إلى معنًى، بل يجعله المُتأول يتحدث طبقًا لما يريد؛ فالأصل هو الواقع الحالي، وهو الذي يُعطي النص مضمونه ومحتواه. وبدلًا من تحليل الواقع ذاته ومكوناته يتم الاعتماد على حجة السلطة في مجتمعٍ النصُّ فيه مصدر سلطة. أما الواقع التاريخي فكله أصبح بغير ذي دلالة. وماذا يفيد الواقع الآن لمعرفة أيهما كان على حق أو أي الفريقين كان أحق بالخلافة؟ إن الوقائع التاريخية المحدَّدة ليست جزءًا من الإيمان أو مضمونًا للعقيدة، إنما الدلالة في التعيين بالنص أو العقد بالبيعة. إن إحالة موضوع الحكم إلى الواقع التاريخي القديم لهُو تعويض عن الحاضر الضائع والاغتراب عنه، تشبُّث بالأسلاف في ضياع الأحفاد، والبحث عن الحق بينهم وفي خلافاتهم عجزًا عن البحث عنه بيننا وفي خلافاتنا. وبالرغم من جماهير أهل السنة التي نعيش بينها إلا أن الحكم لدينا أقرب إلى الشيعة؛ أي تعيين الإمام بالنص أو الوصية، ضابطًا عن ضابط أو أميرًا عن أمير أو ملكًا عن ملك. وبالرغم من أن الشيعة تقول بالنص والتعيين إلا أنها كانت أقدر على الثورة على الحكم الظالم. وهو تناقض في الصلة بين الموروث القديم والنية الحالية يبعث على التساؤل من جديد: إلى أي حد يقبع الموروث في البنية النفسية للعصر؟

(٢) الإمامة عقد واختيار

ليست الإمامة عقدًا واختيارًا بناءً على نص من الوصي، أو بناءً على عهد من الإمام السابق إلى الإمام اللاحق، فهذه شروط الابتداء وليست حالة الاختيار. فالاختيار تعبير عن واقع، والعقد إقرار لمصلحة. ولما كان النص كذلك في نشأته تعبيرًا عن واقع بفعل أسباب النزول، وحفاظًا على مصلحة بناءً على مقاصد الشريعة، الْتقى الاختيار مع النص. فبالرغم من ثبوت الإمامة بالنص وبالعهد وبالإجماع إلا أن ذلك هو البداية فقط؛ أي مجرد افتراض أو اقتراح لا يتحقق إلا بالعقد والاختيار، ببيعة الأمة. فالنص والعهد والإجماع كلُّ ذلك يقوم على حسن الاختيار للأمة. فالعهد يتم بحضور الرفاق، بعض أهل الحل والعقد، ولا يُنكره أحد منهم، ومن حقهم الاعتراض على المعهود إليه؛ فالعهد اختيارٌ ضيق قبل البيعة كاختيارٍ موسَّع. وإن تُوفي الإمام دون أن يعهد إلى إمامٍ بعده يُنادي رجلٌ مستحق لها فيدعوها لنفسه، ثم تأتي البيعة العامة اختيارًا من الأمة وعقدًا عليه. وفي هذه الحال لا يتحول النداء الذاتي إلى إمامة إلا بالبيعة العامة. فإذا ما عهد الإمام حين وفاته إلى اختيار إمام من كثير، فإن ذلك الاختيار يكون أيضًا عقدًا من الرفاق تتلوه بيعة الأمة. ويتم ذلك في أقصر وقت منعًا للشقاق، وحرصًا على المصلحة العامة. ولا يمكن تأجيل رضا الجماعة حتى في حال موت الإمام، أو الاقتصار على رضا الرفاق، أو استنادًا إلى العهد دون بيعة عامة. وقد يُعهَد الأمر إلى رجلٍ ذي شوكة وثقة، فيتولى عقد الجماع واختيار الإمام لجمع الآراء وعقد الحوار واختيار الأصلح.٣٥ والحقيقة أن كل هذه النظريات إنما هي تنظير لحوادث التاريخ وتبرير لوقائعه في كيفية اختيار الأئمة الثلاثة الأوائل اختيارًا أم عهدًا أم تفويضًا، ومع ذلك يبقى التقابل بين التعيين بالنص والاختيار بالبيعة والعقد تقابلًا نظريًّا يتجاوز حوادث التاريخ، ويُعبر عن حقائق الواقع المستمر.

(٢-١) صفة العقد

لما كان كل عقد يشمل صفة العقد وصفة المُتعاقدين، فإن صفة العقد هي أن يقع ممن يصلح للإمامة، ولا يكون ذا عهد من إمام وإلا يُقارن هذا العقدَ عقدٌ لمثله من يصلح للإمامة؛ أي به الشروط نفسها التي للإمام ولا يكون إمامًا. فلا يصح أن يعقد إمام لإمام أو أن يكون ذا عهد مع إمام أو أن يعقد لمثله. ويمكن معرفة من يصلح للإمامة عن طريق الشروط التي تتوافر في الإمام. والعهد يحتاج فقط إلى بيعة وقبول دون عقد، فالعهد من الإمام السابق إلى الإمام اللاحق بمثابة العقد الجديد. والعقد يكون واحدًا حتى لا يُعقَد لإمامين في وقتٍ واحد. ويقتضي العقد القبول والرضا عن طريق البيعة وإظهار الانقياد لذلك، فلا يكفي في الرضا مجرد التصفيق أو التهليل وإضمار المخالفة خوفًا أو نفاقًا، بل يتطلب القبول، والقبول صراحةً دون تأويل. وقد يُقبَل عقد دون قبول؛ إذعانًا للمصلحة العامة، وتسليمًا بإرادة الغالبية.

والبيعة تجبُّ النص، وتقوم على الاختيار الحر؛ فالنص لا يُعين أحدًا، خاصةً لو كان نصًّا من الوحي، وحتى لو كان مُتفقًا مع البيعة. ومع ذلك لا يجوز إثبات العقد والاختيار عن طريق إبطال التعيين بالنص، كما أنه لا يجوز إثبات التعيين بالنص بإبطال العقد والاختيار. فهذا هو برهان الخلف، إثبات الشيء عن طريق إبطال نقيضه، وهو برهانٌ سلبي خالص لا يكفي للإثبات؛٣٦ لذلك اشتمل الاختيار على ثلاثة جوانب لا اثنين فقط: ماذا تعني البيعة؟ من هم المُبايعون أو الذين لهم حق العقد والاختيار؟ ما الدليل عليه؟ فإذا كان من يصلح للإمامة لا يصبح كذلك إلا بعقدٍ يصير به إمامًا، وبتوافر شروط معيَّنة، فإن الشروط وحدها تُحقق المساواة بين الأئمة، إلا أن ما فصل بينهم هو الاختيار. هناك إذن مقياسٌ موضوعي واختيارٌ حر بين مُتعادلين؛ فالإمامة عقد وبيعة واختيار. والتعيين غير ثابت بالنص، بل بالاختيار؛ وبالتالي كان عقدًا وبيعة. ويقوم الاختيار على الاجتهاد وإعمال الرأي والتفضيل.٣٧ وقد يُستعمل لفظ الشورى كمُرادف للاختيار.٣٨ ولكن هل تجوز الإمامة اغتصابًا من صاحب شوكة، حتى ولو بايعته الأمة بعد ذلك عن رضًا وقبول؟ إن إقرار الواقع وهو اغتصاب السلطة لا يجعلها شرعية. وفي هذه الحالة لا بد من البيعة والرضا والاختيار والقبول. وإن لم تحدث البيعة يصبح الإمام مُغتصبًا للسلطة لا حق له في الإمامة.٣٩ والدليل على ذلك الإجماع. فكل من انتدب لنصرة الأمة، وقاوَم الظلمة، ودافع عن البيعة، وأقام الثغور، وأعطى الحقوق للمستضعَفين، فهو الإمام.٤٠ وهناك علاقة بين الوجوب وكيفية الثبوت؛ فالوجوب على الله يؤدي إلى إثبات الإمامة بالنص والتعيين، والوجوب السمعي أو العقلي على العباد يؤدي إلى إثبات الإمامة بالعقد والاختيار.
وبالرغم من الشبهات التي تُلقى على العقد والاختيار فإنه يمكن إزالتها، ويظل الاختيار هو الطريق الوحيد أمام الجماعة لتنصيب إمامها، فيُقال مثلًا: لو كان الأصل هو العقد والاختيار لكان الطريق إليها إما العقل أو الشرع؛ والعقل لا يجوز لأن الإمامة حكمٌ شرعي، والطريق إليها شرعي؛ والشرع إما الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس فيها عقد أو اختيار. والحقيقة أن ذلك بناءٌ نظري مغلوط؛ فالاختيار طريقه العقل، وبالرغم من أن الإمامة حكمٌ شرعي إلا أن الشرع يقوم على العقل، وهي وظيفةٌ عملية مصلحية تُدرَك بالعقل. وإذا كان حكمها شرعيًّا في الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن الشورى منصوص عليها في الكتاب والسنة، أجمع عليها المسلمون وأقرَّها الاجتهاد. والإمام ليس خليفة لله أو للرسول لا يجوز إلا بالنص، بل هو خليفة لمن اختاره؛ فالله لا يخلُفه أحد، والرسول أيضًا لا يخلُفه أحد.٤١ والرسول لا يتولى الإمامة بنفسه، ولا يوكِّلها إلى غيره، بل يقضي بها بعد إبلاغ الرسالة، ويقوم الإمام نائبًا عن الأمة وليس خليفة للرسول. وفرقٌ بين النبوة والإمامة، ولا قياس بينهما؛ فالنبوة تعيين ونص، في حين أن الإمامة عقد واختيار. وإذا اختص النبي بالعلم عن طريق الوحي، فإن الإمام يختص بالعلم عن طريق الاجتهاد. وإذا كانت وظيفة النبوة نظرية فإن وظيفة الإمامة عملية. النبي يُبلغ الوحي ويُعلم الشريعة، والإمام يُنفذه ويُطبقها. الاختيار إذن ليس حتمًا نصًّا من الرسول وإن كان كذلك، بل نابع من طبيعة العقل وضرورة المصلحة. وإن القول بالاختيار نصًّا مثل القول بالنص عقلًا. ولا خوف من الخطأ في الاختيار؛ فالأمة لا تجتمع على خطأ، والناس أدرى بشئون دنياهم. وإن تحقيق المصلحة يكون طبقًا للغالب، والاجتهاد في النهاية أصل من أصول الشريعة. وفي القياس أصول وقواعد تحميه من الخطأ وتحرسه من الوقوع فيه. وإن من شروط الإمام التقوى والورع اللذان يمنعان ازدواجية الظاهر والباطن؛ حتى لا ينخدع الناس في الاختيار. وإن جواز الوصية والعهد لا يطعن في جواز الاختيار؛ لأن العهد إنما هو اختيارٌ مبدئي في حاجة إلى تصديق من اختيار الأمة في بيعةٍ عامة بقبول جميع الناس ورضاهم. ولا حاجة إلى معصومٍ يُعلم الناس كيف يختارون، فالاختيار يتم طبقًا لشروط موضوعية في الإمام، ويحتوي على أكبر قدر من الصحة في الحكم، حكم الجماعة وليس حكم الفرد. وإن اختلاف الأمة إلى مذاهب وفِرق لا يمنعها من الإنفاق على إمام، فالمصلحة العامة واحدة، والخلاف لا يُفسد في الود قضية. ولا يحتاج الاختيار إلى ضبطٍ آخر غير شروط الإمام وصفات المُتعاقدين، ولا توجد إلا رقابة الأمة، ولديها أدوات لخلع الإمام والثورة عليه. وإن خطأ الإمام محدود بالاجتهاد، ومصحَّح بالرقابة عليه والتذكير والنصح له.٤٢ وقد تُثار شبهاتٌ حول طبيعة الاختيار والتناقضات فيه، وهي كلها وهميةٌ يسهل إزالتها. فإذا كان الإمام واجب الطاعة فإن الاختيار يوجبها أيضًا طالما التزم الإمام بشروط العقد، فلا تناقض بين الطاعة والاختيار. الاختيار يوجب الطاعة المشروطة، بعكس التعيين الذي يوجب الطاعة المطلَقة. وإذا أوجب الاختيار العزل فإن ذلك لا يجعل النص أفضل منه؛ لأن الإمام إذا ما تهاون في الدفاع عن البلاد، أو ظلم وتجبَّر وقهر، ولم يستمع لنصح أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجب عزله. العزل إذن واجب كالاختيار، في حين أن المعيَّن بالنص لا يمكن عزله.٤٣ ولا قياس لمنصب القضاء على الإمامة إذا لم يقع الأول بالبيعة؛ فالقضاء حكم في الخصومات طبقًا للشرع، ولا فرق بين قاضٍ وآخر إلا في الحصافة. والقاضي معيَّن من الإمام الذي اختاره الناس؛ وبالتالي يكون مقبولًا تعيين القاضي على أساس من الاختيار غير المباشر. القضاء جزئي، والإمامة كلية. القضاء فرع، والإمامة أصل. ولا ضير أن يكون الفرع بالتعيين، والأصل بالاختيار؛ فالفرع يلحق بالأصل وليس العكس.٤٤ وتقيم باقي الشبهات في المختار، سواء الذي يقوم بالاختيار أو الذي يقع عليه الاختيار، كما يقع البعض الآخر في فعل الاختيار، اختيار إنسان لإنسانٍ آخر كي يُمثله نيابةً عنه. فإن قيل في فعل الاختيار: لو جاز لمن يختار الإمام ليُقيم الحدود لجاز له ذلك بنفسه، وهو أولى؛ لأن الإمام مفوَّض من الجماعة لتنفيذ الشرع، وليس الفرد مفوضًا. ولو كان الفرد كذلك لكان عدد الأئمة مُساويًا لعدد المؤمنين، كل مؤمن إمام. ولكن الإمام يُمثل إرادة الجماعة، ويرعى المصلحة العامة؛ ومن ثَم لزم التمثيل، ووجبت النيابة؛ لذلك لو اختارت جماعة من الأمة الإمام لجعلته خليفة على أنفسها. والخلافة تكون على الغير كما تكون على النفس. الإمام تمثيل للنفس وللغير، ونيابة عن الأنا والآخر. وعلى الرغم من كون الإمام أعلم الناس إلا أنه يمكن اختياره لذلك ممن هو أقل منه علمًا، ولا يكون ذلك طعنًا في الاختيار. العلم شيء، والاختيار شيءٌ آخر. الاختيار تعبير عن إرادة الجماعة لا عن علمها. صحيحٌ أن الاختيار يكون إما من كل الأمة، وهذا إهمال للإمامة؛ أو من البعض، وهذا تعسُّف؛ فليس البعض أولى من البعض الآخر، ولكن لا حل آخر لتسيير أمور الأمة، إما تمثيل الكل للكل، وهو مستحيل عمليًّا، نظرًا لاختلاف قدرات الناس في العلم والفضل؛ وإما تمثيل البعض للكل، وهو الممكن عمليًّا، والسائد واقعيًّا. ولا مكان للقرعة أو للتحكيم؛ فالإرادة الحرة أفضل من المصادفة العشوائية في الاختيار، والقصد خير من الرجم بالغيب. وصحيح أيضًا أن الاختيار ليس من واحد ولا في الكل، بل من البعض، وأن صفاتهم ليست أولى من الأخرى، ومع ذلك فصفات العلم والفضل والقصد إلى رعاية مصالح الناس صفاتٌ موضوعية تجب الكل والجزء، الجمع والفرد. وهي صفات المُتعاقدين في حدود الإمكان البشري. وإن عظمة الإمامة لا تستوجب تركها لغير البشر؛ فالبشر هم المئوِّلون والمفسِّرون للنصوص، ولكن بضماناتٍ أكثر من العامة والخاصة. من الجماهير والعلماء يمكن اختيار الإمام، ولا يوجد بديلٌ إنساني آخر. وإن اختيار البعض دون البعض لا يُسبب فتنة أي الفريقين يتبع الآخر؛ فالإمامة مسئولية وبلية، وحسابها عسير من الله ومن الناس، في الدنيا والآخرة. ومن يطلب الإمامة لنفسه تسقط عنه؛ فلا خوف من الشقاق. البعيد عنها خير من القريب منها، والرافض لها أكثر أمنًا من الطامع فيها. كما أن وحدة الأمة تمنع الشقاق. تندفع الفتنة لأنه لا تجوز البيعة ثانيًا بعد البيعة الأولى. وإن التشكك في صفات المتعاقدين، أهل الحل والعقد، لأنهم لا يعرفون أمورهم، فكيف يُولون عليهم غيرهم؟ أو لأنهم لا يتمثلون بصفات العصمة والعلم، والإيمان يقوم على طلب المستحيل، وليس على تحقيق الممكن. فيمكن للإنسان ألا يعرف أموره، ومع ذلك يكون قادرًا على اختيار من ينوب عنه في ذلك. وليس مِنا معصوم، وكل علم أو إيمان يكون في مقدور الإنسان.٤٥
ولو عُقِد لإمامين في وقتٍ واحد فالإمامة للبيعة الأولى لو كانت هناك أسبقية، ولكن هل تجوز القرعة لو كانتا في وقتٍ واحد؟ إن القرعة حكم بالمصادفة، وتحكيم للعشوائية، ونفي للقصدية. في هذه الحالة يتم الاختيار من جديد عن طريق الأفضل طبقًا لمقاييس التفضيل. ويجوز أيضًا تنازل أحدهما للآخر؛ لأن من يطلب الإمامة لنفسه تسقط عنه، والتمسك بها في حالة اختيار إمامين في وقتٍ واحد نوع من طلبها للنفس. الإمام هو المتقدم وليس المتأخر، وكان من واجب المتأخر بيعة المتقدم. لا وجود للقرعة أو للاحتكام، فالقرعة مصادفة، والاحتكام يمكن للأهواء أن تتدخل فيه، والأضمن تطبيق الشروط، ورعاية المصلحة، ووحدة الأمة، وتنازل الأخير للأول. فلو لم يتنازل أحدهما لكان كلٌّ منهما راغبًا في الإمامة؛ وبالتالي تسقط عنه.٤٦
ومع ذلك فقد يختلف الأمر إذا اختلف الزمان والمكان، إذا تم العقد لإمامين في وقتين مختلفين نظرًا لصعوبة الاتصال الفوري، أو في مكانين مختلفين نظرًا لاتساع الرقعة وترامي الأطراف؛ فالأولوية للزمان المتقدم على المكان. وقد تكون الأولوية في المكان لبلد الإمام المتوفى على غيره من البُلدان. ومع ذلك فالاتصال اليوم قائم، وتم تجاوز البُعدَين الزماني والمكاني معًا، بل قد يكشف الإسراع في الزمان عن سوء نية وطلب للنفس، كما قد يدل على الغيرة على الحق واهتمام بشئون الجماعة. أما أولوية المكان فتجعل الإمامة محصورة في بلد بعينه لا تتعداها إلى بلدٍ آخر، مع أن المشهود لهم بالتقوى والصلاح ومن تتوافر فيهم شروط الإمامة يتجاوزون بلد الإمام المتوفى.٤٧ وما الفائدة من وجود إمامين أحدهما ناطق والآخر صامت؛ إذ كيف يُدبر الصامت شئون الرعية أو يُراجع على الإمام الناطق؟٤٨ وما الفائدة من وجود إمامين ناطقين في الوقت نفسه؟ أليس ذلك شقًّا للأمة وانشقاقًا فيها؟ وقد يكون هذا الجواز تبريرًا لحدثٍ تاريخي خالص في وقتٍ احتار فيه المسلمون بين إمامين، ووجب الاختيار حتى وقعت الفتنة واندلعت الحرب. وقد يهدف تنصيب الإمامين إلى إزالة الصراع بين الشرعية واللاشرعية حتى تضعف الشرعية وتقوى اللاشرعية، ويتكافأ الحق والباطل بدعوى حقن الدماء ووحدة الأمة؛٤٩ لذلك لا يجوز إلا إمامٌ واحد تعبيرًا عن وحدة الأمة وحرصًا على مصالح الجماعة.٥٠ وقد يُصاغ التساؤل بطريقةٍ أخرى، مثل: هل يجوز أن تجتمع الأمة على أمرٍ تختلف في مثله؟ أو: هل يجوز أن تختلف الأمة في الشيء في وقتٍ تجتمع عليه بعد الاختلاف؟ أو: هل يُعَد خلاف أهل الأهواء إذا خالفوا الأحكام إطلاقًا؟٥١ وهي صياغاتٌ أدخل في صفة المُتعاقدين، وأقرب إلى باب الإجماع في علم أصول الفقه. والحقيقة أن الأمة لا تجتمع على خطأ ثقةً في العقل البشري، وقدرة الإنسان على إدراك المصلحة، وقدرة الجماعة على الحرص على المصالح العامة. والوحي لا يأتي إلى عقلٍ خاطئ مُضل، أو إلى صاحب هوًى وميل. فاجتماع الأمة في أمرٍ خلافي ممكن، كما أن اختلافها في أمرٍ تجتمع عليه وارد. أما أهل الأهواء فإنهم ليسوا من أهل الحل والعقد؛ فالهوى ليس أصلًا في التعاقد، ولكن اختلاف الفِرق لا يمكن الحكم عليه بمقياس فرقة أهل الحق؛ إذ إن كل فِرقة تدَّعيها. كما لا يجوز استعمال سلاح التكفير والتفسيق والتضليل دون الحوار والإقناع وفهم الرأي الآخر؛ فلا استحالة في عقد الإمامة أيام الفتنة والاتفاق على أكثر الموضوعات خلافًا.٥٢

(٢-٢) صفة العاقدين

العاقدون هم أهل الحل والعقد. ولا يعقد الإمام البيعة لنفسه؛ إذ إن العاقد غير الإمام. كما لا يعقد المتعاقد من أهل الحل والعقد الإمامة لنفسه، بل يعقدها لغيره.٥٣ فمن شروط المعقود عليه ألا يطلبها لنفسه حياءً وزهدًا، وضرورة اعتراف الغير به، وعقد إرادة الأمة عليه؛ فالحكم مسئولية يتطلب زعامةً شعبية وإجماع إرادة الأمة عن بكرة أبيهم، وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي إذا كانت البيعة والعقد. هل لا بد من إجماعٍ تام على اختيار الإمام أم يكفي البعض؟ وما مقدار هذا البعض؟ قد يصعب إجماع الخاص. وهي القضية نفسها في الإجماع في أصول الفقه، وقضية الاستقراء في المنطق.٥٤ ولكن مع السيطرة على بعد المكان وتشابك وسائل الاتصال وسرعة الانتقال، فإن الإجماع التام تقلُّ صعوبته، ولكن تبقى قضية اختلاف المصالح باختلاف الأماكن والعادات والأعراف. وقد يكون الإمام المحلي أقدر على فهم مصلحة أمته من الإمام العام للأمة الموحدة مجموع الأمم. وفي هذه الحالة يمكن الجمع بين الاثنين عن طريق الإمام الواحد والولاة المُتعددين. ومع ذلك قد يحدث في مراحل الضعف والانهيار أن يضعف الإمام ويقوى الوالي، فيستقل بأمته، وتنشأ حركات الانفصال كما وقع في التاريخ.
فإن كان البعض هو الممكن، فما مقداره؟ هل يكفي واحد؟ ولكن الواحد مفرد وليس جمعًا، والاثنان مثنًّى وليس جمعًا، كما أنهما لا يستبعدان التواطؤ، فهل أقل الجمع ثلاثة لإمكانية عقد باثنين، أي بأغلبية اثنين ضد واحد؟ ولكن في هذه الحالة يعود أقل الجمع إلى المثنى من جديد؛ وبالتالي لا تمتنع إمكانية التواطؤ. إذا كانوا أربعة فإنه يمكن التعادل فيه، اثنان في مقابل اثنين؛ وبالتالي تستحيل البيعة. فإذا ما كان الإجماع ثلاثة في مقابل واحد، فإمكانية العقد وتواطؤ ثلاثة أصعب من تواطؤ اثنين. فإذا كان العدد خمسة، وكان الإجماع ثلاثة في مقابل اثنين، فإنه يكون إجماعًا ضئيلًا، وإن كان أربعة في مقابل واحد يكون الإجماع أكثر قوةً، وتزداد صعوبة التواطؤ. وإذا كان ستة كما حدث في التاريخ في اختيار الإمام الرابع، فإن التعادل ثلاثة في مقابل ثلاثة وارد، والأغلبية أربعة في مقابل اثنين، أو خمسة في مقابل واحد، يُعقَد بها البيعة، وتزداد صعوبة التواطؤ كذلك. أما تحديد العدد ببلد الإمام أو أهله أو ولايته، فإن ذلك أدعى إلى العصبية وأخذ الإمامة لأنفسهم؛ لذلك فإن العدد هو الذي يمنع من التواطؤ قلَّ أو كثر، كما هو الحال في العدد الكافي في التواتر وفي الإجماع، بالإضافة إلى شروط العاقدين وصفات أهل الحل والعقد؛ فالعقد بواحدٍ يُخشى منه الهوى والعقد بجميع من في أقطار الأرض تكليف بما لا يُطاق.٥٥ وصفات العاقدين أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة. ويشمل الاجتهاد أعمال الرأي والنظر، والقدرة على الاستدلال، وحصافة الحكم، وسعة العلم. أما العدالة فتشمل القدرة على النصيحة، والدفاع عن المصالح، والتقوى والفضل. ولا فرق في ذلك بين الخاصة والعامة، بمعنى الأقلية والأغلبية، أو الصفوة والدهماء. وأهل الاجتهاد والعدالة قادرون على التعبير عن المصالح العامة للغالبية، والجهر بها في مواجهة الحكام. وهو فرض كفاية عليهم، إذا قاموا به سقط عن غيرهم.٥٦ ولا بد من شهود حتى يحضر العقدَ للإمام قومٌ من المسلمين أسوةً بالعقود والشهود عليها، وإلا ادَّعى عقدًا سريًّا لا يعلمه أحد. وليست الإمامة بأقل من النكاح الذي لا يتوافر فيه الإعلان. والإمامة خَطبٌ عظيم، وأمرٌ جلل تعمُّ به البلوى، ويمسُّ كل المؤمنين. ولا يوجد حدٌّ معيَّن للشهود، أربعة أو غير ذلك أو أكثر كما هو الحال في عدد العاقدين، يكفي الشهود العدل، أو العدد الذي به تتحقق شهادة العدل.٥٧

(٢-٣) الواقع التاريخي

يُثبت تحقُّق الإمامة في التاريخ أنها كانت من أوائل الموضوعات التي نشأ حولها الخلاف إن لم يكن أولها على الإطلاق، ويدل ذلك على نشأة علم أصول الدين كله نشأةً سياسية.٥٨ وقد تم تفسير الواقع التاريخي بطرقٍ مُتعددة، كلٌّ منها يفهمه طبقًا لنظريته المسبقة التي تدعم اختياره وتُقوي موقفه. ومع ذلك يبدو بعض التناقض بين النظرية وتفسير الحدث التاريخي.٥٩ فإذا كانت الإمامة عقدًا واختيارًا، فإن الإمام الأول يكون قد تم تنصيبه بناءً على إجماع الأمة ورضا المسلمين به، وليس بنص من الله أو بتوقيف من الرسول، سواء كان نصًّا جليًّا أم إشارة يُقاس عليها مثل إمامة الصلاة. ويمكن أن تكون أفعاله ضِمن شروط الإمام مثل قتال أهل الردة. إن كل الحجج النقلية هي في الحقيقة تركيب للنصوص على فرد معيَّن، واستعمال لنص الوعي كنبوءة أو توجيه، ثم اختيار واقعة تاريخية معيَّنة كتحقيق لهذه النبوءة، وتحقيق لهذا التوجيه. وذاك خطأ في التفسير؛ إذ لا يجوز إسقاط الحاضر على الماضي وقراءته فيه، فليست مهمة نص الوحي الإخبار عن المستقبل، بل تأسيس نظرية. ولا يتم اختيار واقعة معيَّنة إلا بناءً على مصلحة أو هوًى، أو طبقًا لرغبة واختيار إنساني؛ مما يجعل الواقعة هي المُفسرة للنص، وليس النص هو المُفسر للواقعة.٦٠ والحق أن البيعة تجبُّ النص، فالنص لا يُعين أحدًا، خاصةً لو كان نص الوحي، وحتى لو كان متفقًا مع البيعة. فالإمامة عقد واختيار كأساسٍ نظري في الوحي وفي الواقع. وعلى هذا الأساس تم اختيار الخليفة الأول بإجماع الأمة بعد أن توافرت شروط الإمامة فيه.٦١ وإن كل الشبهات التي أُلقيت عليه لم تمنع من إجماع الأمة على إمامته، كما أنه يسهل إزالتها؛ فمنعه ميراث النبي إنما يستند إلى النبوة ذاتها، فالأنبياء لا تورِّث ولا تورَّث، ما يتركونه صدقة. والخلاف على مبدأ لا يُراعى فيه الأشخاص حتى ولو كانوا بنات النبي. وإن كثيرًا من الأخبار حول سوء معاملتهم موضوعة، وإن القسوة في محاسبة النفس لدرجة الإحساس بأن هناك شيطانًا يعتريها أمرٌ يحتاج الحكام إليه. أما طريقة بيعته فقد كانت فلتةً عصمت الأمة من الشقاق والفتنة. ولا يعني ذلك أنها خطأ، بل أكَّدت الاختيار والبيعة. أما استدراك الأفعال ومراجعة النفس في آخر العمر فهو إحساس بالمسئولية، وتعلُّم بالتجربة، وليس ضعفًا أو خطأً. وعهده إلى الخليفة الثاني اجتهاد منه، وليس خروجًا على النبوة وتقليدها. عهدٌ أكَّده الناس بالبيعة عن قبول ورضًا. وإن تأخير جيش لهُو اجتهاد قائد في حاجة إليه داخليًّا قبل الحاجة إليه خارجيًّا، كما أن عدم توليته بعض الأعمال وتولية آخرين إنما هو اختيار طبقًا للقدرات، ولا يدل على أي نقص أو شك. ونقص العلم ليس عيبًا، إنما يحتاج الإمام إلى العلم النافع في تسيير أمور الرعية دونما حاجة إلى تفقه وتعمق في الدين يُحسنه المتفرغ له. وإن إيقاف الحدود لهُو من سلطة الإمام كالتعزير، وإيقاف حد على سيف الله المسلول نصرةً للأمة وإيثارًا للجهاد على الأفعال الفردية. لم يسمِّ نفسه خليفة، بل سمَّاه الناس كذلك. ولم يستنكره نظرًا لأنه كذلك بالمعنى الحرفي قبل أن يتحول اللفظ إلى نظرةٍ شرعية. أما دفنه مع صاحبه فكذلك فعل آخرون إيثارًا للصحبة، وليس عصيانًا لأمر.٦٢ وكانت إمامة الخليفة الثاني بعهد من الخليفة الأول تلته البيعة أمام جمع من الشهود. والغلاة وحدهم هم الذين لا يتولَّون الشيخين.٦٣ وقد تم الاتفاق على الخليفة الثالث بعد الشورى، وعُقدت له البيعة بالرغم من بعض الشبهات حول أفعاله عن خطأ في الاجتهاد.٦٤ وتمَّت إمامة الخليفة الرابع عقدًا واختيارًا بإجماع الأمة. ولما حدث الشقاق، وانفصمت عرى الإجماع، ونُصب إمامٌ آخر أقل فضلًا من الأول، بدلًا عن أن يتنازل الثاني، تحوَّلت البيعة إلى نص كردِّ فِعل على سوء اختيار البشر وتحكُّم الهوى والمصلحة الفردية.٦٥ وبعد ذلك تحوَّلت الإمامة إلى ملكٍ عضود إلى حكمٍ وراثي في نسل الإمام دون وراثة الروح.٦٦ والحقيقة أن تحقُّق الإمامة في التاريخ وإن اختلف فيها القدماء، فإنها لم تعد مشكلة اليوم أو مجالًا للاختيار والتحزب. لم تعد الواقعة نفسها بذات دلالة إلا من حيث تحليل المواقف التاريخية في الدراسة العلمية للتاريخ، ورؤية أي المواقف كانت أكثر ثورية من الآخر طبقًا للالتزام السياسي لروح هذا العصر. ولا يبرأ هذا التحليل من قراءة الحاضر في الماضي، ورؤية الواقع في التاريخ. ومع ذلك فالدخول فيه وكأننا طرف فيه هو هروب من العصر، ونقص في الالتزام، وابتعاد عن الاختيارات الأساسية فيه. حينئذٍ يكون الماضي تعويضًا عن الحاضر، ويكون التاريخ مَهربًا.٦٧
١  الكلام في فِرق الإمامة. اختلف الناس فيها إلى عدة فِرق: (أ) النص، وتقول به الإمامية والبكرية. (ب) النص في الأئمة الثلاثة، والدعوة والخروج في الباقي. (ﺟ) الموارثة عند العباسية. (د) العقد والاختيار عند المعتزلة والمُجبرة. (ﻫ) كثرة الأعمال عند الجاحظ وعباد. وذهب عباد إلى مثل ذلك في النبوة. (و) الغلبة عند الخوارج (الشرح، ص٧٥٣-٧٥٤). واختلفوا في الإمامة، هل هي بنص أم قد تكون بغير نص، إلى فرقتين: (أ) لا تكون إلا بنص من الله وتوقيف، وكذلك بغير نص ولا توقيف، بل بعقد أهل العقد (مقالات، ج٢، ص١٣٢). واختلفوا في تعيين الإمام هل هو ثابت بالنص أم بالإجماع. والقائلون بالنص اختلفوا هل هو على شخص بعينه أو ورد بذكر صفته. والقائلون بالإجماع اختلفوا هل هو إجماع الأمة التام أم جماعة أهل الحل والعقد (النهاية، ص٤٨٠-٤٨١).
٢  اختلفوا في مهامِّ الإمام وحقوقه، هل له أن يوصي إلى غيره من جهة وجوب الإمامة؟ أجاز ذلك قوم، وأنكره آخرون (مقالات، ج٢، ص١٣٧). واختلفوا في الوصية بالإمامة إلى واحد بعينه، أيصلح لها أم لا، إلى عدة فِرق: (أ) عند الأصحاب وقوم من المعتزلة والمرجئة والخوارج، الوصية صحيحةٌ جائزةٌ غير واجبة. وإذا أوصى بها الإمام لمن يصلح لها وجب على الأمة إنفاذ الوصية، كما أوصى أبو بكر بها إلى عمر، وأجمعت الصحابة على متابعته. وإن جعلها الإمام شورى بين قوم بعده جائز كما فعل عمر. (ب) عند سليمان بن جرير، للإمام الوصية بالإمامة إلى واحد بعينه، ولكن لا يلزم الأمةَ تنفيذُ الوصية إلا بعد الشورى، وتشهد قصة أبي بكر وعمر ببطلان ذلك، وهو يقول بصحة إمامتَيهما. (ﺟ) عند قوم من الإمامية لا مَدخل للوصية في الإمامة، وأن طريقها النص من الإمام على من يكون بعده (الأصول، ص٢٨٥-٢٨٦). وعند البشرية أصحاب محمد بن بشر والقرامطة، أوصى موسى بالإمامة إليه (المحصل، ص١٧٧).
٣  وقد اختلفوا في الإمامة، هل تتوارث، إلى فرقتين؛ الأولى تُثبتها، والثانية تنفيها (مقالات، ج٢، ص١٣٦). ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أنه لا يجوز التوارث فيها، سواء بلغ أم لم يبلغ، حاشا الروافض، فإنهم أجازوا كلا الأمرين (الفصل، ج٥، ص٧). اختلفوا هل تكون موروثة إلى ثلاث فِرق: (أ) كل من قال بإمامة أبي بكر قال إنها لا تكون موروثة. (ب) الراوندية القائلة بإمامة العباس مختلفون إلى فرقتين؛ الأولى: من زعم أن العباس استحق الإمامة بنص النبي ينفي أنها وراثة منه. والثانية: من زعم أنه استحقها وراثةً من النبي لأنه كان من عصبه دون بني أعمامه. (ﺟ) والقائلون بإمامة علي مُختلفون إلى فرقتين؛ الأولى: الزيدية الجارودية تقول بأن النبي نص على إمامة علي بالوصف دون الاسم، ثم ورثها عن علي ابناه الحسن والحسين، ثم إنها على الميراث في هذين البطنين لا في واحد بعينه. ولكن من خرج منهم شاهرًا سيفه يدعو إلى سبيل ربه، وكان عالمًا صالحًا، فهو الإمام. أما الثانية: وهم أكثر الإمامية، فإنها تقول بأن الإمامة موروثة. وهذا خطأ على أصولهم لقولهم إن الإمامة بعد أن كانت للحسن ثم للحسين، فلو كانت وراثة لصارت بعد الحسن لابنه دون أخيه. وعند الكيسانية، الإمامية بعد الحسن (الحسين) لأخيه محمد ابن الحنفية. وهذا خلاف الميراث من الأخ (الأصول، ص٢٨٤-٢٨٥).
٤  المُخالفون على ضروب، من يقول: (أ) بالنص فقط. (ب) النص الضروري وإن اختلفوا في حقيقته. (ﺟ) النص الظاهر. (د) النص بدليلٍ مستنبَط كسائر الأدلة مع ضرورة ذكر العلة فيه. (ﻫ) النص والإعجاز (الإمامة، ص١٢). ولا يخلو النص من وجهين: (أ) أن يبلغ مبلغًا يعرف قصده، عليه السلام، ودينه ضرورةً. (ب) ألا يعرف ذلك، وهو على ضربين؛ الأول: نفس النص يُعلَم ضرورةً مثل القرآن، ويرجع الاستدلال. والثاني: نفس النص يثبت استدلالًا، إما على وجهٍ لا يحتمل، أو على وجهٍ يحتمل (الإمامة، ص١١٢-١١٣).
٥  أجمعت الأمة على أنه يجوز إثبات الإمامة بالنص، ولكن اختلفوا فيما إذا كان يجوز بالاختيار أم لا (المعالم، ص١٥٨-١٥٩).
٦  عند الإمامية بالسمع والتعيين فيها مستنده النص (الغاية، ص٣٧٤؛ المِلل، ج١، ص٣٥، ٣٦). عند الإمامية، الطريق إلى إمامة الاثنَي عشر النصُّ الجلي الذي يكفُر من أنكره، ويجب تكفيره؛ فكفَّروا لذلك صحابة النبي (الشرح، ص٧٦١). قالت الإمامية بالنص الجلي على إمامة علي، وكفَّروا الصحابة ووقعوا فيهم (المواقف، ص٤٢٢). وبايعت الشيعة عليًّا على الخصوص، وقالوا: إمامته وخلافته نصًّا ووصاية إما جليًّا (المِلل، ج٢، ص٦٨). وعند الإمامية، إمامة علي بعد النبي نصًّا ظاهرًا ويقينًا صادقًا من غير تعريف بالوصف، بل إشارة إليه بالعين لأنه أهم موضوع في الدين (المِلل، ج٢، ص٩٤-٩٥). وعند الإمامية الجارودية الزيدية والراوندية (العباسية)، الإمامة طريقها النص من الله على لسان رسوله على الإمام، ثم نص الإمام على الإمام بعده (الأصول، ص٢٧٩-٢٨٠). وعند الإمامية، نص النبي على تولية علي، وعلى أن من تولَّاها غيره فهو ظالم (الإرشاد، ص٤١٩). وعند الاثنَي عشرية، نص النبي على إمامة علي نصًّا جليًّا لا يقبل التأويل (المحصل، ص١٥٩). وأجمع جمهور الرافضة على أن النبي نص على إمامة علي باسمه، وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر الصحابة ضلُّوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي، وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف، وهم يُدعَون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي (مقالات، ج١، ص٨٧-٨٨).
٧  لهم حجتان: (أ) إبطال الاجتهاد. (ب) وجوب عصمة الإمام. والعصمة لا تُعرَف بالاجتهاد، وإنما يُعرَف المعصوم بالنص (الأصول، ص٢٧٩-٢٨٠). احتجَّ المُخالف أنه يكون واجب العصمة، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنص ومبينًا، أو وجوب العصمة باطل (المعالم، ص١٥٨-١٥٩). وقد مال النظَّام إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة. قال أولًا لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرًا مكشوفًا. وقد نص النبي على علي في مواقع، وأظهره إظهارًا لم يشتبه على الجماعة، إلا أن عمر كتم ذلك، وهو الذي تولَّى بيعة أبي بكر يوم السقيفة (المِلل، ج١، ص٨٦).
٨  إن الإمامة إذا لم تكن بنص فيجب أن يكون النص حاصلًا وإن لم يُنقَل، وذلك بطرقٍ ثلاث: (أ) إذا كان الإمام لا بد أن يكون معصومًا، ولم يثبت في الصحابة من نعلم عصمة غيره، فيجب أن يكون هو الإمام. (ب) إذا ثبت أن الإمام لا يكون إلا الأفضل، وثبت أنه الأفضل، كان النص على إمامته وإن لم يُنقَل. (ﺟ) إذا صح في غيره أنه لا يصح للإمامة لوجوه من القدح في أبي بكر وغيره، فيجب أن يكون عليًّا وإن لم يُنقَل بنص (الإمامة، ص١٣١–١٣٣).
٩  لو كان النص فإما أن يكون جليًّا أو خفيًّا. لا يجوز أن يكون جليًّا، وإلا لكان الرادُّ له كافرًا، وذلك تكفير للصحابة. ولا يجوز أن يكون خفيًّا نظرًا للعلم الضروري وللشهود مثل الصلاة. وأما النص الخفي فإنه لا يفوت على علم الصحابة (الشرح، ص٧٦٢-٧٦٣). لو كان ثابتًا لعُلِم صحته وثبوته دون شك، كالعلم بالشرع ضرورةً دون إلهام أو اكتساب؛ لأن معرفة الشرع بالتواتر. والتكليف عام في الشرع، ولا يُعرَف البعض منه دون البعض، وشروط التواتر تمنع من التعصب (الإمامة، ص١١٣–١٢٠). ويُعطي أهل السنة حججًا ثلاثة: (أ) كيف أمسك الصحابة عن نص ظاهر الاختيار وهم الصفوة الأولى؟ (ب) كيف يحتاج الخلق إلى معرفة من يجمع شملهم، ويرفع الخلاف بينهم، ويحملهم على مناهج الشرع، ويُنصف المظلوم من الظالم، ويُحاجج المخالفين باللسان والسيف، أحوج من مسائل الاستنجاء والمسح على الخفين والتيمم بالتراب، ولا يُنقَل الأول ويُنقَل الثاني؟ (ﺟ) كيف أمسك الرسول عن أهم الأبواب ولم ينطق به نصًّا ولا أشار إلى شخص معيَّن يوصف حتى بقيت الأمة على اختلاف وباطل وجهل؟ هل يترك الرسول الأمر فوضى؟ (النهاية، ص٤٨٥–٤٨٧). لم يثبت النص، ولو ثبت لنُقِل، ولما تُصُوِّر سكوت القوم في موضع اختلاف الناس (النهاية، ص٤٩٠). مات الرسول ونفوذ جمهور الصحابة بالآلاف، ولا يُعقَل اتفاق عشرين ألف مُتنابذ بذي المهم والنيات على إخفاء عهد. لم توجد رواية لنص حتى لمجهول. وتأخَّر عليٌّ ستة أشهر، وما أكرهه أحد على البيعة، ثم بايع عمر غير مكرَه، وقبِل دخول الشورى في ستة (الفصل، ج٤، ص١١٤-١١٥). النص على الخلاف واقعةٌ عظيمة، ومثلها يجب اشتهارها بحيث يعرفها المُوافق والمُخالف (المحصل، ص١٥٩–١٦٢). لو ورد نص على إمام بعينه لعرفته الأمة وتواتر مثل باقي الأمور الشرعية (النهاية، ص٤٨٠-٤٨١).
١٠  قبِل عمر رد علي له في إقامة الحد على الحامل، ورد معاذ له، ورد امرأة له، وقوله: لولا علي لهلك عمر، لولا معاذ لهلك عمر، كلكم أفقه من عمر حتى المخدَّرات في البيوت (الشرح، ص٧٦٣-٧٦٤). ولو كان هناك نص لكان إما أن يُوصله النبي إلى أهل التواتر أو لا يُوصله. والأول باطل لأن طالبي الإمامة لأنفسهم كانوا قلة، والباقون يُعظمون الرسول، ومخالفته تعني العذاب، خاصةً وقد حصلت أسبابٌ تُوجب نصرة علي، منها شجاعته أمام ضعف أبي بكر، وأتباعه كان في غاية الجلالة (فاطمة، الحسن، الحسين، العباس، وأبو سفيان في غاية البعض لأبي بكر، وحث على طلب العمامة من أبي بكر وانتزاعها من يده، وسل الزبير السيف على أبي بكر)، بل إن الأنصار طالبوا الإمامة لأنفسهم فمنعهم أبو بكر، فلو كان النص موجودًا لوُوجِه به أبو بكر. أما ألا يوصل الرسول النص لأهل التواتر فبعيد؛ لأن الآحاد لا يكون حجة، وهذه خيانة للرسول. وإن عليًّا كان راويًا، وذكر جملة النصوص الخفية دون نص التعيين (المحصل، ص١٥٩–١٦٣). ولا يجوز القول بأن عليًّا أمسك عن النص خوف الموت وهو الأسد شجاعةً. حدث نزاعٌ ضخم ولم يقل أحد بنص، ولماذا لم يقم معه قومٌ يُدافعون عنه؟ ولماذا لم يذكر النص ثلاث مرات في فرض تولية أبي بكر وعمر وعثمان؟ وقتل علي للقوم كان في الحرب التي يبغيها الجميع استشهادًا، وبايعه الناس جميعًا بعد مقتل عثمان دون أن يذكر أحد نصًّا (الفصل، ج٤، ص١١٥–١١٩). عند أهل السنة ليس من النبي نص على إمامة واحد بعينه، على خلاف قول من زعم من الرافضة أنه نص على إمامة علي نصًّا قطعوا بصحته. ولو كان كما قالوه لنقل ذلك نقل ثلة، ولا يفصل من ادَّعى ذلك في علي مع عدم التواتر في نقله ممن ادَّعى مثله في أبي بكر أو غيره مع عدم النقل فيه (الفرق، ص٣٤٩). ما نص النبي على إمامة أحد بعده وتوليته، ولو نص ذلك لظهر وانتشر كما اشتهرت تولية الرسول ولاية، وكما اشتهر كل أمر خطير (اللمع، ص١١٤-١١٥). لأنه لو رد نصًّا فهو إما أن يكون قطعيًّا أو ظنيًّا، لا جائز أن يكون قطعيًّا، والعادة تُحيل الاتفاق من الأمة على تركه وإهمال النظر لموجبه وإن كان ظنيًّا بالنظر إلى المتن والسند، أو بالنظر إلى أحدهما، فادعاء العلم بالتنصيص إذ ذاك يكون مُحالًا، والاكتفاء بمحض الظن مما لا سبيل إليه هنا لما فيه من مخالفة الإجماع القاطع من جهة العادة. لم يرد في ذلك شيء من الأخبار، ولا نُقل شيء من الآثار على لسان الثقات والمعتمَد عليهم من الرواة، ولا متواترًا، ولا آحادًا، غير ما نُقل على لسان الخصوم، وهم فيه مدَّعون، وفيما نقلوه مجتهدون، ولا سيَّما مع ما ظهر من كذبهم وفسقهم وبدعتهم، وسلوكهم طرق الضلال، والبهت بادِّعاء المُحال، ومخالفة العقول، وسب أصحاب الرسول (الغاية، ص٣٧٦-٣٧٧). لو كان نص لما خفي والدوافع تتوافر على نقله (المِلل، ج١، ص١٥٧-١٥٨).
١١  يذكر أهل السنة حججًا كثيرة لإبطال النص، منها أن المنصوص عليه باسمه عليه اختلاف بين فِرق الشيعة، وأن شدة الحاجة إليه لم تُساعد في ظهور علم أحد منهم، لو قال النبي نصًّا لقال إما أمام الجمهور فيتواتر، أو أمام واحد أو اثنين فيكون آحادًا لا يورث العلم (التمهيد، ص١٦٤–١٦٩). ولو كان واجبًا على الرسول لبيَّنه وتعلَّمته الأمة (الأصول، ص٢٨٠). هل يُعلَم النص ضرورةً أم جوازًا؟ الطريق إلى الضرورة العقل، والعقل لا يقتضي التنصيص على شخصٍ معيَّن. والخبر إما تواتر أو آحاد، ولا يوجد تواتر، والواحد لا يورث العلم. النص الجلي لا يُكتَم أمام الجمهور، والنص الخفي لا سبيل إلى علمه (الإرشاد، ص٤١٩–٤٢١). في أن النص على الإمامة غير واجب ولا ثابت من جهة السمع (الإمامة، ص١١٢). وإذا فسد النص صح الاختيار، ولا يوجد إلا هذان الطريقان (التمهيد، ص١٦٤-١٦٥). رواية الشيعة للخبر من وضع ابن الراوندي أولًا ثم أشهره الشيعة (المحصل، ص١٥٩–١٦٣). ويأخذ الخيَّاط موقف المُتشكك من نوايا الشيعة في القول بالنص داخلًا في القلوب ومُفتشًا في الضمائر، ونحن لا نأخذ إلا بالأقوال والحجج (الانتصار، ص١٣٤–١٣٧، ص١٦٣-١٦٤).
١٢  الباب الأول: المقدمات النظرية، الفصل الثالث: نظرية العلم، مناهج الأدلة.
١٣  نذكر القواطع منها ونميز المجتهدات عن القطعيات. والترتيب يقتضي الكلام في الأخبار ومنازلها، فإنها معنى الإمامة. حقيقة الخبر ما يوصف بالصدق والكذب. وهو من أقسام الكلام مثل الأمر والنهي والتلهف والاستخبار، وهي لا توصف بالصدق أو الكذب. قسمة الخبر إلى: (أ) ما يُعلَم صدقه قطعًا، وهو ما وافق مخبره المعلوم قطعًا بضرورة أو دليلٍ قاطع، كالخبر عن المحسوسات وعن الضرورات. (ب) ما يُعلَم كذبه قطعًا، وهو ما يُخالف السابق. (ﺟ) ما يجوز فيه الصدق والكذب إلى النفي والإثبات. قسمة الخبر أيضًا إلى: (أ) ما لا يترتب عليه العلم بالمخبر عنه. (ب) ما يترتب عليه العلم بالمخبر عنه، وهو الخبر المتواتر إذا توافرت شروطه وتكاملت صفاته (الإرشاد، ص٤١٠–٤١٣؛ الشرح، ص٧٦٨–٧٧٠). الكلام في النص إما أن يكون متواترًا يقتضي الإقرار، أو الخبر الذي يصفون به ما نعلم معه أنه حجة، وإما أن يكون من أخبار الآحاد (الإمامة، ص١١٣). ومن شروط التواتر: (أ) أن يكونوا عالمين بما أخبروا عنه ضرورةً من حس أو بديهية، وليس عن نظر أو استدلال، وجريًا وراء العادات دون خرقها. (ب) أن يزيد عددهم عن التواطؤ في العُرف دون تحديد للعدد بخمسة أو ثلاثة أو أقل الجمع. أما شروط العدالة ففي الآحاد، أما صحة الإجماع فمكانه في علم أصول الفقه (الإرشاد، ص٤١٧-٤١٨). انظر أيضًا رسالتنا الأولى: Les méthodes d’Exègèse, ière partie.
١٤  المعجزات لا تظهر إلا على الأنبياء، وليس على الأمراء والولاة أو العمال (الإمامة، ص١١٣). انظر أيضًا الفصل التاسع: تطور الوحي، هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
١٥  في أن الإمامة لا يجب أن يكون طريقها النص من جهة العقل. المُخالف فريقان: (أ) من يزعم أن العقل يقتضي أن الإمامة لا يصح أن تثبت إلا بنص. (ب) من لا يوجب ذلك عقلًا. وبعض هؤلاء يقولون إن السمع قد أوجب ألا يكون إلا بنص دون رأي أو اجتهاد، كلًّا أو جزءًا. والبعض الآخر أوجب السمع عن نص وعدم جواز خلافه (الإمام، ص٩٩–١٠٢). وذلك أنه عند الشيعة تتلقى الواجبات من العقل (النهاية، ص٤٩٠–٤٩٢).
١٦  وهناك أربع شُبَه أخرى لتأييد النص بالعقل، وهي: (أ) الإمام حجة ومستودَع الشريعة، وقيِّمًا يحفظها ويؤديها، فلا بد من تعينه بنص. (ب) إذا كان يقوم بمصالح الدين كإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وقسمة الفيء والغنيمة وجباية الخراج، فلا بد أن يكون معصومًا، وذلك لا يكون إلا بالتعيين الذي لا يكون لا بنص أو معجز. (ﺟ) لا بد لمن يكون إمامًا أن يكون على حال وصفة، ولا طريق للاجتهاد فيها، فلا بد أن تكون بنص. وربما هذه الصفة كونه معصومًا حتى لا يكون هناك تكليف بما لا يُطاق. (د) الإمام أفضل الناس، وذلك لا يُعرَف إلا بنص (الإمامة، ص١٠٣–١١١).
١٧  اتَّفقت الزيدية على أن الطريق إلى إمامة علي والحسن والحسين هو النص الخفي، وأن الطريق إلى إمامة الباقين هي الدعوة والخروج، ثم اختلفوا هل يجب تفسيق من أنكر النص على هؤلاء الثلاثة؛ فقال بعضهم يجب تفسيقه (الجارودية)، وقال آخرون لا يجب (الجارودية) (الشرح، ص٧٦١). ويدل على ذلك الإجماع؛ فلا خلاف بين الأمة على أن من انتسبت لنصرة الإسلام، ونابذ الظلمة، وكان مُستكملًا لهذه الشرائط التي اعتبرناها، فإنه يجب على الناس مبايعته والانقياد له. وكذلك فقد اتفق أهل النبي على أن طريق الإمامة إنما هو الدعوة والخروج (الشرح، ص٧٥٤). عند الزيدية يجوز بالنص، ويجوز بسبب الدعوة والخروج مع حصول الأهلية (العالم، ص١٥٨-١٥٩). كل فاطمي عالم خارج بالسيف وادَّعى الإمامة، صار إمامًا (المِلل، ج٢، ص٨٤-٨٥؛ المُغْني، الإمامة، ص٢٥٢-٢٥٣، ص٢٥٩–٢٦٧). الخروج شرط في كون الإمام إمامًا (المِلل، ج٢، ص٨٤-٨٥). كل فاطمي مستحق لشرائط الإمامة دعا الخلق لنفسه شاهرًا سيفه على الظلم (المحصل، ص١٨٠). أن يخرج على الظلم شاهرًا سيفه يدعو إلى الحق (تلخيص المحصل، ص١٨٠). وعند الصالحية والأبترية، كل من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين، وكان عالمًا زاهدًا شجاعًا، فهو الإمام (المِلل، ص٢، ص٤٩٣؛ الإمامة، ص٢٧٣–٢٧٨).
١٨  الخروج بعد أن يكون فاطميًّا يلزمهم أن يكون في كل صقع إمامٌ واجب الطاعة، فيكون في الأرض ألف إمام نافذ الأمر واجب الطاعة (النهاية، ص٤٨٧؛ الشرح، ص٧٥٦-٧٥٧). لهم خبطٌ عظيم في إمامين، وحدث فيهما هذه الشرائط، وشهرَا سيفهما، يُنظَر إلى الأفضل والأزهد، وإن تساويا يُنظَر إلى الأمتن رأيًا والأحزم أمرًا، وإن تساويا تقابلا فينقلب الأمر عليهم كلما يعود الطلب جذعًا والإمام مأمورًا والآمر مأمورًا. ولو كانا في قُطرين انفرد كل واحد منهما في قُطره، ويكون واجب الطاعة في قومه. ولو أفتى أحدهما بخلاف الآخر كان كل واحد منهما مُصيبًا وإن أفتى باستحلال دم الإمام الآخر. وأكثرهم الآن مُقلدون لا يرجعون إلى رأي واجتهاد؛ في الأصول معتزلة، وفي الفروع على أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة مع الشافعي. يُعظمون المعتزلة أكثر من تعظيم آل البيت (المِلل، ج٢، ص٩٣-٩٤).
١٩  يذكر الشيعة عدة نصوص لإثبات تعيين النص لعلي، منها: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، ويرونها خاصةً في علي، وليست عامة في كل المؤمنين (الشرح، ص٧٦٥–٧٧٦؛ المُغْني، ج٢٠، الإمامة، ص١٣٣–١٣٩). وقد نزلت الآية في علي وهو يُصلي عندما سأله سائل فأعطاه خاتمه راكعًا (الطوالع، ص٢٤٤). والولي هو الناصر أو المتصرف، أي الإمام (المحصل، ص١٧٣-١٧٤). وكذلك: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وهي عامة، وصحة الاستثناء عند الشيعة على الإمامة، وعلي من أولي الأرحام. وأيضًا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، مع أنه عموم وليس خصوصًا. وعند أهل السنة، المراد الناصر وليس المتصرف، مثل تحريم آيات موالاة اليهود (المواقف، ص٤٠٤-٤٠٥). وهو أيضًا رأي هشام بن الحكم (التنبيه، ص٢٥، ص٣٠). وأيضًا: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ …، وصالح هو أمير المؤمنين (المُغْني، ج٢٠، الإمامة، ص١٣٩–١٤٢). ومن الحديث: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» (المِلل، ج٢، ص٩٦-٩٧؛ المحصل، ص١٧٤-١٧٥؛ الغاية، ص٣٧٥؛ المُغْني، ج٢٠، الإمامة، ص١٤٤–١٥٨). وفي صياغةٍ أخرى: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من كنت مولاه …» وبالتالي يكون النبي قد ذكَّرهم بوجوب طاعته والانقياد له، وذلك يوم غدير خم. وفي صياغةٍ أخرى: «اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.» وقد فهم عمر من ذلك الخلافة، وهنَّأه وقال: «بخ بخ يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة» (النهاية، ص٤٩٣-٤٩٤). ويرد أهل السنة على ذلك بأن المعنى المقصود من الموالاة هو التصرف والنصرة لابن العم والجار المظهر للحلف، وليس الإمام واجب الطاعة؛ فهو اسمٌ مشترك (التمهيد، ص١٦٩–١٧٢؛ الإرشاد، ص٤٢١-٤٢٢؛ الشرح، ص٧٦٦؛ الغاية، ص٣٧٨-٣٧٩). وإن صح فهو خبر آحاد، وليس خبرًا متواترًا (الإرشاد، ص٤٢١-٤٢٢؛ المواقف، ص٤٠٥-٤٠٦). ولماذا لم يقل الرسول ذلك صراحةً «هذا إمامكم بعدي، الواجب طاعته، فاسمعوا له وأطيعوا»؟ (التمهيد، ص١٧٢-١٧٣).
٢٠  وذلك مثل: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (النهاية، ص٤٩٤؛ المحصل، ص١٧٥؛ الغاية، ص٣٧٤). ويرد أهل السنة على ذلك أن الرسول قد قال «إني استخلفتك على أهل المدينة» في غزوة تبوك ردًّا على أهل النفاق، وقولهم: أبغض عليًّا وخلَّاه. ومنزل هارون من موسى هو أنه شريك في حياته وليس بعد موته؛ لأن هارون مات قبل موسى، وخلفه يوشع بمائون (التمهيد، ص١٧٣–١٧٥؛ الإرشاد، ص٤٢٢؛ الفصل، ج٤، ص١١٢-١١٣؛ الطوالع، ص٢٣٤؛ الشرح، ص٧٦٦). انتفاء التخصيص (الغاية، ص٣٧٧-٣٧٨؛ المواقف، ص٤٠٦). شد الأزر به باستثناء المشاركة في النبوة؛ مما يدل على الأفضلية لا على الإمامة. استخلاف الرسول غيره مثل استخلاف أبي بكر في الصلاة، وأسامة، عموم اللفظ لا خصوصه (المُغْني، ج٢٠، الإمامة، ص١٥٨–١٨٠). وقد قال الرسول عن عائشة: «خذوا دينكم من الحُميراء.» وقوله: «أفقههم في الدين ابن عباس.» وأيضًا: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ» (الإمامة، ص١٨٢–١٨٥). وفي صياغةٍ أخرى: «أنت أخي وخليفتي في أهلي، وماضي ديني، ومُنجز عداتي.» وقد قال الرسول في الصحابة كثيرًا من هذا في أبي بكر وعمر، ومعظمها أخبار آحاد، لم يظهر الاحتجاج بها يوم السقيفة، بل انقاد علي لأبي بكر وعمر (التمهيد، ص١٧٥–١٧٨؛ الغاية، ص٣٧٥–٤٧٨؛ المواقف، ص٤٠٦؛ الإمامة، ص١٨٢–١٨٥). والنص يعني فيما يتعلق بالأصل وليس بالدنيا؛ ففي صياغةٍ ثالثة: «سلموا على أمير المؤمنين، هذا خليفتي فيكم بعد موتي، فاسمعوا وأطيعوا.» وهو من أخبار الآحاد (الطوالع، ص٢٣٤).
٢١  وذلك مثل: «أنت الإمام من بعدي.» أو «هذا الإمام بعدي.» ويرد أهل السنة على ذلك بأنه يمكن لكل طائفة أن تقول في إمامها كذلك. لم ينقله الجميع. به تواطؤٌ محتمل. وكتمان ذلك لا يجوز. لم يستشهد به أحدٌ يوم البيعة بالرغم من نقل أشياء مُضادة، مثل قول الحسن لأبي بكر: «انزل عن منبر أبي.» ومثل أمر فدك وفاطمة، وتأخُّر علي والزبير عن البيعة أيامًا، وتأخُّر خالد، وقول أبي سفيان: «أرضيتم يا عبد مناف أن يلي عليكم يتم؟» ولم يمنع علي من استخلاف أبي بكر وعمر، ورضي الجميع بالشورى بعد عمر. ولا يجوز أن يكون الرسول قد دعا لعلي على الأشهاد ولا يدعو له أحد. وشبهات استخلاف أبي بكر أقوى، مثل إمامته في الصلاة، ولا يدَّعي أحدٌ النص فيه. وقد نُقل ما هو أقل أهمية، فكيف بالأهم؟ وكيف يجوز التكاتم والتواطؤ في مجتمع الإعلان والتبليغ؟ وإن لم يتكاتم الناس أفعاله، فكيف يتكاتمون إمامته وهي الأولى بالإعلان؟ والمُعادون له والمُحبون له كثيرون؛ مما يجعل الإعلان والنقل سلاحًا للخصوم (الإمامة، ص١١٩–١٢٧). وهي في النهاية أخبارٌ غير منقولة ولا متواترة (الإمامة، ص١٢٧–١٣١).
٢٢  وذلك مثل آية المباهلة؛ فقد جمع الرسول عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، وذلك يدل على أنه الأفضل وأحق بالإمامة، وهو المراد أيضًا بآية: وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ. ويرد أهل السنة بأن هذا في التفضل وليس في الإمامة. كما أن عليًّا لم يكن في المباهلة (الإمامة، ص١٤٢). وأيضًا حديث المؤاخاة، فالقصد أمرٌ زائد على الأخوة؛ فقد آخى بين علي وبين نفسه. وعند أهل السنة يدل ذلك أيضًا على الفضل والقرب لا على الإمامة. وقد آخى الرسول بين أبي بكر وعمر، وقد كان المهاجرون أهل ضيق، فأراد المؤاخاة بينهم وبين الأنصار (الإمامة، ص١٨٥-١٨٦). وكذلك آية: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، والطاعة للمعصوم، وهو أجر المؤمنين. وعند أهل السنة، هذا خطأ لأن الطاعة ليست للمعصوم، بل لموافقة إرادة الجماعة، كما أن عليًّا ليس هو أولي الأمر (الإمامة، ص١٤٢–١٤٤).
٢٣  وذلك مثل: «أنا سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغُر المحجَّلين»، «هذا وليُّ كل مؤمن بعدي»، «إن عليًّا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة». وعند أهل السنة، هناك أخبارٌ كثيرة مُشابهة في أبي بكر، وهي أخبار آحاد، تُثبت الأفضل. وكان علي يُثبت خلافة الشيخين (الإمامة، ص١٩١–١٩٧). وأيضًا: «من الذي يُبايعني على ماله؟» فبايعته جماعة. «من الذي يُبايعني على روحه، وهو وصيِّي وولي هذا الأمر من بعدي؟» فبايعه عليٌّ وحده. وكانت قريش تُعير أبا طالب: لقد أمَّر عليك ابنك (المِلل، ج٢، ص٩٥-٩٦). وأيضًا: «لأُعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.» ومثل: «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر» (الإمامة، ص١٨٦-١٨٧). «إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعِترتي أهل بيتي، ولن نفترق حتى نرد على الحوض»، «مَثلُ أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح؛ من ركِبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق» (الإمامة، ص١٩١–١٩٣). ومن الآيات: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا؛ أي عصمتهم؛ أي إمامتهم. وعند أهل السنة، هذا عام في جميع المؤمنين، مدح وتعظيم لا إمامة. وأيضًا: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، فلا إمامة للظالمين بل المعصوم. وعند أهل السنة، هذا في مورد النبوة لا الإمامة (الإمامة، ص١٩٣–١٩٥).
٢٤  وذلك مثل: «أقضاكم علي.» وعند أهل السنة، التقاضي بمعنى التخاصم، وليس بمعنى الإمامة (المِلل، ج٢، ص٩٧-٩٨). وكان عليٌّ أفضل الناس بعد الرسول (الاقتصاد، ص١٢٢؛ الطوالع، ص٢٣٤). «إنما أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها» (التمهيد، ص٤٩٤). «سلِّموا على علي بإمرة المؤمنين.» وهو عند أهل السنة حديثٌ موضوع (المواقف، ص٤٠٩). وشفقته على الأمة معلومة، وعلمه في أمور التسييس وقضاء الحاجة ودقائق آدابه (المواقف، ٤٠٤). وكل ذلك يجب حمله على تعظيم حال علي في الدين وعلو منصبه، لا على الإمامة؛ فهذه الطريقة تصون الأمة من الكفر والفسق. كما أن الأخبار الواردة في فضل أبي بكر وعمر بلغت مبلغ التواتر، والنص على تعظيم المهاجرين والأنصار في القرآن (المحصل، ص١٧٥-١٧٦). ولو كان علي إمامًا لما حارب مع أبي بكر (المسائل، ص٣٨٤-٣٨٥).
٢٥  وذلك مثل استخلاف علي في المدينة؛ وبالتالي استخلافه قياسًا في الإمامة بعد الموت (الإمامة، ص١٨١-١٨٢). وعند أهل السنة لم يؤمِّر الرسول عليًّا قط (المِلل، ج٢، ص٩٥؛ المواقف، ص٤٠٤).
٢٦  وذلك مثل: «إما أن يكون النبي عالمًا باحتياج الخلق إلى الإمام على وفق ما وردت به الأدلة السمعية أم لا، ولا يجوز ألا يكون عالمًا، وإلا كان قدحًا في النبوة وإساءة الظن به، ولا يجوز أن يكون عالمًا، وإلا كان قدحًا في النبوة وإساءة الظن به، ولا يجوز أن يقع في الخطأ (الغاية، ص٣٧٥-٣٧٦، ص٣٨٠-٣٨١). لا بد وأن يكون الرسول قد نص على إمامٍ معيَّن تكميلًا للدين، ولم ينص على أبي بكر أو علي، وإلا كان توقيفه الأمر على البيعة معصية وقت تنصيصه (الطوالع، ص٢٣٤). أجمعت الأمة على إمامة أحد الأشخاص الثلاثة، وبطلت إمامة أبي بكر والعباس، كما ثبت أن الإمام معصوم ومنصوص عليه، فوجبت إمامة علي (الطوالع، ص٢٣٤). وقرَّت عيون الرافضة المائلين إلى الاعتزال بطعن شيوخ المعتزلة في إمامة علي، وبعد شك زعيمهم واصل في شهادة علي وأصحابه (الفرق، ص١٦٣-١٦٤).
٢٧  عند الروافض، الإمامة في علي بالنص ثم الحسن ثم محمد بن جعفر. وهذا مذهب مُتكلميهم هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي وداود الرقي وعلي بن منصور وعلي بن هيثم وأبي علي السكاك ومحمد بن جعفر النعمان شيطان الطاق وأبي مالك الخضرمي (الفصل، ج٤، ص١١–١١٢، ص١٢١–١٢٣). وعند المغيرية، نص النبي على علي، ثم انتقلت الإمامة منه إلى الحسن ثم إلى علي ثم إلى محمد نصًّا، ثم إلى جعفر وصايةً. وعند البيانة، نص أبو هاشم عبد الله ابن الحنفية على إمامة بيان بن سمعان، ونصب نفسه إمامًا (مقالات، ج١، ص٦٧). ثم أوصى أبو هاشم إلى بيان، وليس إلى عقبه (مقالات، ج١، ص٩٥؛ الفرق، ص٢٣٧؛ المِلل، ج٢، ص٧٨). وعند فريق آخر من الرافضة، الإمامة حتى علي بن الحسين الذي نص على إمامة جعفر محمد بن علي الذي أوصى إلى أبي منصور، ثم اختلفوا؛ الحسينية: أوصى أبو المنصور إلى ابنه الحسين. والمحمدية: مالت إلى تثبيت محمد بن عبد الله بن الحسن إمامًا؛ فقد أوصى أبو جعفر إلى أبي منصور دون بني هاشم (مقالات، ج١، ص٩٦-٩٧؛ المِلل، ج٢، ص١٤٣-١٤٤). وعند الشميطية (يحيى بن شميط)، الإمامة نصًّا من جعفر إلى ابنه محمد. مات جعفر وأوصى بها لابنه محمد، والإمامة في أولاد محمد (الفرق، ص٦١-٦٢). والإمام اسم النبي (المِلل، ج٢، ص١٠٤). وعند الحربية أصحاب عمر بن حرب، نص أبو هاشم عبد الله محمد بن الحنفية على إمامته (مقالات، ج١، ص٦٨؛ ج٢، ص٩٤-٩٥). وتقول الإمامية بالنص الجلي على علي، والأمر بعده للنبي يفعل ما يشاء (المحصل، ص٧٧). وعند الرزامية، الإمامة من علي إلى ابنه محمد إلى ابنه أبي هاشم، ومنه إلى علي بن عبد الله بن عباس بالوصية، ثم إلى محمد بن علي، ثم أوصى محمد إلى ابنه إبراهيم صاحب أبي مسلم. ومنهم من ساق الإمامة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أبي هاشم بن محمد ابن الحنفية وصيةً (المِلل، ج٢، ص٨٠–٨٤). وعند إحدى فِرق الكيسانية، الإمامة من علي إلى الحسن إلى الحسين إلى أخي محمد ابن الحنفية بوصية أخيه الحسين (مقالات، ج١، ص٩٠). واختلفت الراوندية (إحدى فِرق الكيسانية) في الإمام بعد أبي هاشم، منهم من نقلها إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بوصية أبي هاشم (الفرق، ص٤٠). نص النبي على العباس، ثم نص العباس على ابنه عبد الله الذي نص على ابنه علي حتى أبي جعفر المنصور (مقالات، ج١، ص٩٤). وعند مجموع الإمامية، الدين كله في يد علي ثم في آل البيت (مقالات، ج١، ص١٢٨). وعند الإسماعيلية الواقفية، الإمامة من جعفر إلى إسماعيل نصًّا، وباتفاق من أولاده إلى محمد، وهم المباركية (المِلل، ج٢، ص١٠٦-١٠٧؛ ج٢، ص١٤٣-١٤٤).
٢٨  الخلاف في شجرة النسب كبير ومُتشعب، حتى لَيفقد الإنسان القدرة على المتابعة؛ فقد اختلفت الروافض بعد موت جعفر إلى: (أ) إمامة إسماعيل بن جعفر. (ب) إمامة ابنه محمد بن جعفر. (ﺟ) إمامة موسى بن جعفر (الفصل، ج٤، ص١١١-١١٢). كما اختلفت الهشامية أتباع هشام بن محمد بن الحنفية في موت محمد ابن الحنفية، وانتقال الإمامة إلى ابنه أبي هاشم، إلى: (أ) مات أبو هاشم وأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. (ب) أوصى إلى ابن أخيه الحسن. (ﺟ) إلى أخيه محمد. (د) إلى عبد الله بن حرب الكندي (المِلل، ج٢، ص٧٥–٧٨؛ المحصل، ص١٧٩). الاختلافات بعد موسى وعلي والحسن (المِلل، ج٢، ص١١٠–١١٣؛ مقالات، ج١، ص١٠١-١٠٢). عند القرامطة، الإمامة من النبي إلى علي إلى الحسين إلى علي إلى محمد إلى جعفر إلى محمد بن إسماعيل (مقالات، ج١، ص٩٨). وعند القطعية الاثني عشرية، انتقلت الإمامة من علي إلى الحسن إلى الحسين إلى علي إلى محمد إلى جعفر إلى موسى إلى علي إلى محمد إلى علي إلى الحسن إلى محمد (المِلل، ج٢، ص١٠٦؛ مقالات، ج١، ص٨٩). ثم وقعت الاختلافات بين إخوتهم وبين أعمامهم (المِلل، ج٢، ص١١٠–١١٣). وعند القطحية، الإمامة من جعفر الصادق إلى عبد الله الأفطح أخي إسماعيل (المِلل، ج٢، ص١٠٣-١٠٤). ويُسمَّون العمارية (الفرق، ص٦٢). وعند الباقرية، الإمامة من علي إلى محمد بن علي المعروف بالباقر (الفرق، ص٥٩-٦٠). ومع الباقرية الجعفرية والواقفة (المِلل، ج٢، ص١٠٠–١٠٢). وعند الناوسية، الإمامة من علي إلى جعفر بنص الباقر (الفرق، ص٦١). أما الإمامية فقد استقرَّ رأيهم على أن الإمام بعد الرسول هو علي، الحسن، الحسين، زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق، موسى الكاظم، علي الرضا، محمد المتقي، الحسن الزكي، محمد وهو القائم المنتظر (المحصل، ص١٧٦–١٧٩).
٢٩  اختلفت الروافض القائلون بإمام محمد بن موسى بن جعفر؛ لأن أباه تُوفي وهو ابن ثماني سنين أو أربع. زعم البعض أنه إمام تجب له الطاعة عامةً، والبعض الآخر أنه إمام ولكن لا يجوز أن يؤم أو يُنفذ الشريعة (مقالات، ج١، ص١٠١-١٠٢؛ الشرح، ص٧٥٨).
٣٠  القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي انقسموا طائفتين: (أ) نص الرسول على علي، وأن الصحابة اتفقوا على ظلم وكتمان نص النبي (الروافض). (ب) لم ينص النبي على علي، لكنه كان أفضل الناس وأحقهم (الزيدية). ثم اختلفت: (أ) الصحابة ظلموه، وكفَّروا من خالفه من الصحابة (الجارودية). (ب) الصحابة لم يظلموه، ولكن طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر وهما إمامان. ووقف البعض في عثمان (الحسن بن صالح الهمذاني). وعند الزيدية جميعها، الإمامة في ولد علي، من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وسل السيف معه (الفصل، ج٤، ص١١١-١١٢، ص١٢١–١٢٣). واعتقد جمهور الشيعة أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وإن خرجت فبظلمٍ يكون من غيره أو بتقية من عنده (المِلل، ج٢، ص٦٨؛ الفرق، ص٢٣٩). مذهب الزيدية أن كل فاطمي خرج وهو عالمٌ زاهد شجاع سخي، كان إمامًا واجب الاتِّباع، وجوَّزوا رجوع الإمامة إلى أولاد الحسن. منهم من وقف وقال بالرجعة، ومنهم من ساق وقال إمامة من هذا حاله في كل زمان (المِلل، ج١، ص٣٧-٣٨). الإمامة في أولاد فاطمة. كل فاطمي عالم شجاع سخي إذا خرج بالإمامة يكون إمامًا، سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين (المِلل، ج٢، ص٨١-٨٢).
٣١  عند الجارودية، نص النبي على علي بالوصف لا بالتسمية، وضل الناس بتركه والاقتداء به بعد النبي (مقالات، ج١، ص١٣٣-١٣٤). كفَر الصحابة بتركهم عليًّا، ثم افترقوا فرقتين: (أ) نص عليٌّ على إمامة ابنه الحسن، ونص الحسن على أخيه الحسين، ثم صارت بعد الحسن والحسين شورى في ولديهما؛ فمن خرج شاهرًا سيفه داعيًا إلى دينه، وكان عالمًا عارفًا، فهو الإمام (الفرق، ص٣٠-٣١؛ المواقف، ص٤٢٣، ص٤٠٠). النص الخفي بعد الرسول (المحصل، ص١٨٠-١٨١).
٣٢  مالت المحمدية إلى تثبيت محمد بن عبد الله بن الحسن إمامًا؛ فقد أوصى أبو جعفر إلى أبي منصور دون بني هاشم، كما أوصى موسى إلى يوشع دون ولده هارون. والأمر بعد أبي منصور راجع إلى ولد علي (مقالات، ج١، ص٩٦-٩٧؛ المِلل، ج٢، ص١٤٣-١٤٤). وعند الموسوية أو المفضلية، الإمامة لموسى بن جعفر نصًّا، حيث قال الصادق: «سابقكم قائمكم»، «صاحبكم قائمكم»، فسُمي صاحب التوراة، وهو شبيه بعيسى (المِلل، ج٢، ص١٠٤–١٠٦؛ مقالات، ج١، ص١٠٠-١٠١).
٣٣  تتبرَّأ إحدى فِرق الزيدية من أبي بكر وعمر (مقالات، ج١، ص١٣٧). وتُكفر الإمامية الصحابة، فقد كفَر الخلق بعد النبي إلا عليًّا وفاطمة والحسن والحسين والزبير وعمارًا وسلمان وأبا ذر ومقدادًا وبلالًا وصهيبًا (اعتقادات، ص٥٦). وعند هشام بن الحكم، كفَرت الأمة ببيعها أبا بكر، وأن القرآن نُسخ وصعد إلى السماء لرِدَّتهم (التنبيه، ص٢٥-٢٦). وعند الخطابية (الرافضة)، أبو بكر وعمر هما الجِبت والطاغوت، وكذلك الخمر والميسر (التنبيه، ص١٦٢؛ الفرق، ص٣٢١). أما الكاملية فقد كفَّرت جميع الصحابة لتركها بيعة علي (المِلل، ج١، ص١١٧؛ الأصول، ص٣٣٢). وكفر علي لأنه لم يُحارب أبا بكر (اعتقادات، ص٦٠؛ الفصل، ج٥، ص٢٣-٢٤). وعند المغيرية، أول ما خلق الله ظِل محمد، وعليٌّ قبل ظلال الكل، ثم عرض على السموات أن يحملن الأمانة لمنع علي بن أبي طالب من الإمامة فأبين، ثم عرض على الناس فأمر عمر أبا بكر أن يتحمل منعه، وضمن أن يُعينه على الغدر به على شرط أن يجعل الخلافة من بعده (المِلل، ج٢، ص١٢١). وعند الأزلية، عليٌّ قديم، وكذلك عمر. الأول خيرٌ محض، والثاني شرٌّ محض (اعتقادات، ص٦١). وتطعن الجارودية في أبي بكر وعمر (اعتقادات، ص٥٢). أما النظَّام فيستشهد بضرب عمر بطن فاطمة يوم البيعة (المِلل، ج١، ص٨٦-٨٧). ويرفض إمامة أبي بكر لأن الإمام يجب أن يكون معصومًا، ولأن البيعة لا تصلح طريقًا للإمامة، ولأن عليًّا أفضل الخلائق، ولوجود شبهات حول أبي بكر (المِلل، ج٢، ص٩٥؛ المواقف، ص٤٠٠–٤٠٣).
٣٤  اختلفت الشيعة بعد إمامة موسى بن جعفر هل مات أم لم يمت، وهم المطمورة، سمَّاهم بذلك علي بن إسماعيل «كلاب مطمورة»؛ منهم من قطع بموته وهم القطعية، ومنهم من توقَّف وقال بأنه سيخرج بعد الغيبة، وهم الواقفية (المِلل، ج٢، ص١٠٤–١٠٦؛ مقالات، ج١، ص١٠٠-١٠١). أما الشيطانية أتباع محمد بن النعمان الرافضي الملقَّب بشيطان الطاق، فقد ساق الإمامة إلى موسى بن جعفر الصادق، وقطع بموته، وانتظر بعض أسباطه (الفرق، ص٧١). وتقول الكيسانية بأن محمد بن الحنفية لم يمت وسيعود (المِلل، ج١، ص٣٥-٣٦). ومع ذلك يظهر الواقع دون الأسطورة والحلم. لما ادَّعى بكر الأعور القتَّات وصية جابر الجعفي صاحب المغيرة بن سعد، صيَّره أصحابه إمامًا، وادَّعوا أنه لا يموت، فأكل أموالهم على وجه السخرية. فلما مات علِموا أنه كان كاذبًا فخلعوه (مقالات، ج١، ص٧٣؛ الفرق، ص٢٤٢). وقد كان أبو الحنفية من أتباع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين (مع الجارودية). ولما قُتل بقي أبو حنيفة على البيعة وموالاة آل البيت. منهم من قال بإمامة يحيى بن عمر صاحب الكوفة (المِلل، ج٢، ص٨٧-٨٨؛ المحصل، ص١٨٠).
٣٥  تثبت بالنص من الرسول، ومن الإمام السابق بالإجماع (المواقف، ص٣٩٩). أو يكون بالعهد إليه من كان مولى الخلافة، كما فعل أبو بكر بحضور من الصحابة مع عمر، ولم يُنكر عليه أحد (المطيعي، ص٩٩؛ الطوالع، ص٢٣١؛ عبد السلام، ص١٥٣). تصحُّ بعهد من الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار عند موته دون هوًى. اختلف شيخانا (أبو علي وأبو هاشم) في عقد الإمام وعهده وتفويض الأمر إليه. أقرَّه أبو هاشم، ومنعه أبو علي إلا بعد رضا الجماعة، وأقلُّها ستة، وتأوَّل نص أبي بكر على عمر بأنه يصير إمامًا على ستة (الإمامة، ص٢٥٢-٢٥٣). عقد الإمامة يصح بوجوه: (أ) عهد الإمام الميت إلى إنسانٍ يختاره. (ب) إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحدٍ يُنادي رجلٌ مستحق لها فيدعوها إلى نفسه، كما فعل علي بعد قتل عثمان. (ﺟ) أن يعهد الإمام عند وفاته اختيار خليفة إلى رجلٍ ثقة، أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر، ولا يجوز التردد أكثر من ثلاث ليالٍ (الفصل، ج٥، ص٩–١١). في حال موت الإمام فقط يمكن تأجيل الرضا من الجماعة. النظر في التولية على ثلاثة وجوه: (أ) التنصيص من جهة النبي. (ب) التنصيص من جهة إمام العصر بأن يُعين لولاية العهد شخصًا معيَّنًا. (ﺟ) التفويض من رجلٍ ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة لجمع شتات الآراء (الاقتصاد، ص١٢٠). لا بد من العقد، فالصلاحية تحتاج إلى أمرٍ زائد (الإمامة، ص٢٥٩–٢٦٧). صحة العهد، عهد أبي بكر إلى عمر (التمهيد، ص٢٠١-٢٠٢).
٣٦  حكم الاختيار: إذا فُسر النص على إمام بعينه إنما يصير الإمام بعقد من أفاضل المسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، والمؤتمَنون على هذا الشأن؛ لأنه ليس لها إلا طريق النص أو الاختيار. وفي فساد النص دليل على ثبوت الاختيار (التمهيد، ص١٧٨). وإذا ثبت أن الإمامة لم تثبت نصًّا لأحد تثبت اختيارًا، ثم إذا بطل النص لم يبقَ إلا الاختيار (اللمع، ص١١٤-١١٥). لو صار إمامًا بالشرائط لوجب إما المنع من مُساواة الاثنين أو تجويز إمامين. وهذا فاسد؛ لأن الصلاحية لا بد لها من عقد، أي اختيار، ثم يلزم قبوله إذا كان مُستوفي الشروط (الإمامة، ص٢٥٠).
٣٧  عند أهل السنة والحديث تجوز البيعة والاختيار (المعالم، ص١٥٨-١٥٩). وأما معتقد أهل الحق من أهل السنة وأصحاب الحديث فهو أن التعيين غير ثابت بالنص، بل بالاختيار (الغاية، ص٣٧٦-٣٧٧). طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد (الفرق، ص٣٤٩). وعند الأشعري، الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين (المِلل، ج١، ص١٥٧-١٥٨؛ الإمامة، ص١٥١-١٥٢). من ادَّعى إمامة رجل بعينه فإنها كلها دعاوى بلا برهان (الفصل، ج٥، ص٧). وقد قيل في العقائد المتأخرة شعرًا:
وبيعة من أهل الاعتبار
في الحل والعقد والاختيار
الوسيلة، ص٩٨
وعند الجمهور الأعظم من المعتزلة والخوارج والنجارية، طريق ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل الاجتهاد، واختيارهم من يصلح لها، وإن جاز ثبوتها بالنص، غير أن النص لم يرد فيها على واحد بعينه، فصارت الإمامة فيها بالاختيار (الفصل، ج٥، ص٢٧٩). عند المعتزلة، طريق الإمامة العقد والاختيار. طريق الإمامة بالاتفاق إما العقد والاختيار أو النص، وقد بطل النص، فلم يبقَ إلا العقد والاختيار. اختلفت المعتزلة في الإمامة والقول فيها نصًّا أو اختيارًا (المِلل، ج١، ص٦٨). انقسمت الأمة إلى قسمين؛ الأول: يقول إنها تثبت بالاتفاق والاختيار. كل من اتفقت عليه الأمة أو جماعةٌ معتبَرة من الأمة، إما مطلقًا وإما بشرط (المِلل، ج١، ص١٣٥-١٣٦).
٣٨  عند المعتزلة والخوارج والمرجئة وبعض الحشوية والزيدية، الإمامة شورى (الانتصار، ص٩٩). عند الزيدية (سليمان بن جرير الزيدي)، الإمامة شورى (مقالات، ج١، ص١٣٥؛ المِلل، ج٢، ص٨٩؛ الأصول، ص٢٨٠؛ المحصل، ص١٨٠؛ المواقف، ص٤٢٣).
٣٩  عند الأصحاب والمعتزلة يحصل المقصود إذا بايعت الأمة مستعدًّا لها، أو استولت شوكته على خِطط الإسلام (الطوالع، ص٢٣١).
٤٠  مستنَد الوجوب في تنصيب الإمام هو الإجماع الدال على النص الوارد في الشرع (النهاية، ص٤٩٠). بدليل الإجماع، فلا خلاف بين الأمة أن من انتدب لنصرة الإسلام، ونابذ الظلمة، كان مُستكملًا لهذه الشرائط التي اعتبرناها، فإنه يجب على الناس مبايعته والانقياد له (الشرح، ص٧٦١). وعند الكرامية تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين (المواقف، ص٤٢٩).
٤١  الإمام إما خليفة لله ورسوله أو لمن اختاره، ولا يجوز الأول بدون نص، ولا يجوز الثاني لأنه خليفة الرسول. الإمام نائب الله ورسوله، فلا تثبت خلافته إلا بقول الله ورسوله (الطوالع، ص٢٣١؛ المواقف، ص٣٩٩-٤٠٠). كيف يوكِّل الرسول الإمامة إلى غيره ولا يتولاها بنفسه؟ لو جاز الإمام أن يكون اختيارًا لجاز في النبي والرسول، كما أن الرسول يختص بالعلم فكذلك الإمام. ولما كان الأول لا يتوصل إلى ذلك بالاختيار، فكذلك الثاني خشية الخطأ. إذا كانت الوصية جائزة فالاختيار غير جائز (الإمامة، ص٢٩٧–٣٢٥؛ الشرح، ص٧٥٥-٧٥٦).
٤٢  الاختيار قد يكون طبقًا للظاهر المُخالف للباطن، المختار إما أن يحتاج إلى من يعلمه وهذا إلى من يعلمه، أو لا يحتاج فهو المعصوم. اختلاف الأمة إلى مذاهب وفِرق تمنع الاختيار أو الإجماع على إمامٍ واحد، كلٌّ منها تودُّ إمامها. لو كان الاختيار من جماعة من أنفسهم فلا بد من تصحيحه من غيرهم. لا يجوز لمن يختار أو يوكِّل إلى من يُخطئ دون نص على من لا يخطئ (الإمامة، ص٢٩٧–٣٢٥).
٤٣  الإمام واجب الطاعة، والاختيار لا يوجبها. الاختيار يوجب العزل، والنص أفضل (الإمامة، ص٢٩٧–٣٢٥).
٤٤  من ضِمن حجج الإمامية أن منصب القضاء لا يحصل بالبيعة (الطوالع، ص٢٣١؛ المواقف، ص٣٩٩-٤٠٠).
٤٥  لو جاز لمن يختار الإمام ليقيم الحدود لجاز له ذلك بنفسه، وهو أولى. لو اختارت جماعة من الأمة الإمام لجعلته خليفة على نفسها، والخلافة تكون على الغير لا على النفس. إذا كان الإمام أعلمهم، فكيف يختاره غيره؟ الاختيار إما من كل الأمة، وهذا إهمال للإمامة، أو من البعض وهذا تعسُّف؛ فليس البعض أولى من البعض الآخر. الاختيار ليس من واحد، ولا من الكل، بل من البعض، وصفاتهم ليست أولى من الأخرى؛ نظرًا لعظمة الإمامة، فإنها لا تُترَك للعامة أو للخاصة. الاختيار للبعض دون البعض قد يُسبب فتنة أي الفريقين يتبع الآخر (الإمامة، ص٢٩٧–٣٢٥). قد يُفضي إلى الفتنة لاحتمال أن يُبايع كل فريق شخصًا فتقع الحرب، وأهل البيعة لا يتصرفون في أمور غيرهم، فكيف يُولونه عليهم. العصمة والعلم وعدم الكفر شروط لا يعلمها أهل البيعة (الطوالع، ص٢٣١؛ المواقف، ص٣٩٩-٤٠٠).
٤٦  هذا عند أبي علي وأبي هاشم (الشرح، ص٧٥٦-٧٥٧). إذا اتفق التعدد تفحص عن المتقدم، ولو أجبر الآخر فهو من البغاة (المواقف، ص٤٠٠). لا وجود للقرعة أو للاحتكام. لا بد من الاتفاق أو تفويض كل منهما رجلًا صالحًا للاختيار مثل الحكمين. ولما كان درس أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص ماثلًا في الأذهان لا بد من الأصلح واستيفاء الشروط. اختلفوا إذا بايع قوم إمامًا، وبايع آخرون إمامًا آخر في وقتٍ واحد: (أ) القرعة. (ب) أن يعتزلا ثم يُعقَد لأحدهما أو لغيرهما. (ﺟ) من امتنع عن الاعتزال لم يكن إمامًا (مقالات، ج٢، ص١٣٦). لو عُقد لأئمةٍ متفرقة، وكلهم يصلحون للإمامة، السابق ثم اللاحق ثم التنازل (التمهيد، ص١٨٠). منع عقد الإمامة لشخصين (الإرشاد، ص٤٢٥). في أن الإمام يجب أن يكون واحدًا في الزمان، ويمتنع خلاف ذلك عقلًا وشرعًا (الإمامة، ص٢٤٣–٢٤٩).
٤٧  لا يجوز عقد لإمامين في صقعٍ مُتضايق. أما في الصقع المتسع فممكن (المواقف، ص٤٠٠). واختلفوا في الإمام إذا مات ببلده فبايع من يحضره رجلًا، وبايع غيرهم آخر في الوقت نفسه أو قبله، إلى: (أ) الإمام الذي عُقد له في بلد الإمام (أولوية المكان). (ب) في الوقت الذي قبله (أولوية الزمان) (مقالات، ج٢، ص١٣٩). وعند أهل السنة، الإمامة لواحد في جميع أرض الإسلام، إلا أن يكون بين الصقعين حاجز من بحر أو عدد لا يُطاق، ولا يقدر كل صقع من مناصرة الآخر (الفرق، ص٣٥٠).
٤٨  اختلفوا هل يكون الإمام أكثر من واحد. قيل اثنان، واحد صامت والآخر ناطق (الرافضة)، وقيل ثلاثة أحدهم صامت، فعند الرافضة كان الحسين صامتًا وقت الحسن (مقالات، ج٢، ص١٣٤-١٣٥).
٤٩  أجاز محمد بن كرام السجستاني وأبو الصباح السمرقندي إمامين في وقتٍ واحد احتجاجًا بقول الأنصار يوم السقيفة «مِنا أمير ومنكم أمير»، وإمامة علي والحسن ومعاوية. وهذا خطأ؛ لأنها ولاية في الأولى وفتنة في الثانية. ونظرًا لقول الرسول: «إذا بُويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما» (الغاية، ص٣٨٢؛ الفصل، ج٤، ص١٠٧-١٠٨؛ النهاية، ص٤٩٦؛ الفرق، ص٢٢٣؛ الأصول، ص٢٧٤-٢٧٥). عند الكرامية يجوز البيعة لإمامين في قُطرين، والغرض من ذلك إثبات إمامة معاوية بالشام باتفاق جماعة من الصحابة، وإثبات إمامة أمير المؤمنين علي بالمدينة والعراقيين باتفاق جماعة من الصحابة (المِلل، ج٢، ص٢٢). وأجازت المُشبهة إمامين كعلي ومعاوية، إلا أن إمامة علي وفق أهل السنة بخلاف معاوية، لكن يجب طاعة رعيته له (المواقف، ص٤٢٦).
٥٠  عند أهل السنة لا يجوز إلا إمامٌ واحد، والآخرون تحت رايته، ومنعوا عقد الإمامة لشخصين (الإرشاد، ص٤٢٥). في أن الإمام يجب أن يكون واحدًا في الزمان، ويمتنع خلاف ذلك عقلًا وشرعًا (الإمامة، ص٢٤٣–٢٤٩).
٥١  في الصيغة الأولى جائزٌ عند الأمة، ومنعه عباد. وفي الصيغة الثانية جائزٌ الأخذ بالأول إذا كان له أصل عند فريق، وجائزٌ الأخذ بالثاني عند فريقٍ آخر. وفي الصياغة الثالثة جائزٌ عند البعض، ومُمتنعٌ عند البعض الآخر (مقالات، ج٢، ص١٥٢).
٥٢  عند الهاشمية لا تنعقد الإمامة أيام الفتنة واختلاف الناس، وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة. وعند الأصم، ضرورة إجماع الأمة عن بكرة أبيهم. وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي؛ إذ كانت البيعة أيام الفتنة من غير اتفاق جميع الصحابة (المِلل، ج١، ص١٠٩).
٥٣  الإنسان يملك العقد لوليه على الغير، وليس على نفسه. وكذلك العاقد لسلعةٍ يملك عقدها للغير وليس للذات، طبقًا لقول الرسول: «والله لا نولِّي هذا الأمرَ من يطلبه.» وهو أحد أبواب «السياسة الشرعية» (التمهيد، ص١٨٠؛ الشرح، ص٧٥٤-٧٥٥).
٥٤  عند أهل السنة لا يُشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة وإن لم تجمع الأمة على عقدها (الإرشاد، ص٤٢٣-٤٢٤). وعند الأصم والفوطي لا بد من إجماع المسلمين (مقالات، ج٢، ص١٣٣). وعند الكرامية لا بد من إجماع الأمة (المواقف، ص٤٢٩؛ الغاية، ص٣٨١-٣٨٢).
٥٥  يمكن عقد الإجماع بواحد بشرط توافر الصفة (التمهيد، ص١٧٨-١٧٩). الواحد أو الاثنان من أهل الحل والعقد؛ فقد اكتفى الصحابة بذلك كعقد أبي بكر لعمر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا إجماعًا من قِبل المدينة أو إجماع الأمة، ولم يُنكر عليه أحد (المواقف، ص٤٠٠). وعند الأشعري رجلٌ واحد من أهل العلم والمعرفة والستر. وعند السليمانية (سليمان بن جرير الزيدي) تصلح الإمامة بعقد رجلين من خيار المسلمين (مقالات، ج١، ص١٣٥؛ الفرق، ص٣٢؛ المِلل، ج٢، ص٨٩؛ المواقف، ص٤٢٣؛ المحصل، ص١٨٠؛ الأصول، ص٢٨٠). لا تنعقد بأقل من رجلين مثل الشهادة (الإمامة، ص٢٥٢-٢٥٣). وهو الموقف نفسه عند طائفة من المعتزلة. وعند القاضي عبد الجبار لا تنعقد بأقل من أربعة (الإمامة، ص٢٥٩–٢٦٧). وعند الجبائي لا تنعقد إلا بخمسة (الفصل، ج٥، ص٧)، أو ستة (الإمامة، ص٢٥٢-٢٥٣). فقد جعلها عمر في ستة لاختيارٍ واحد، فصار الاختيار في خمسة، ولكن عمر لم يقل إن تقليد الاختيار أقل من خمسة، وعمل عمر لا يلزم الأمة، وقد تبرأ الخمسة من الاختيار (الفصل، ج٥، ص٩). وقيل: لا تصحُّ إلا بعقد أهل حضرة الإمام، فإن أهل الشام دعوا ذلك لأنفسهم لبيعة مروان وابنه عبد الملك، واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام (الفصل، ج٥، ص٨-٩). في عقد الإمامة لم يثبت عددٌ معدود ولا حدٌّ محدود؛ فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقدٍ واحد من أهل الحل والعقد (الإرشاد، ص٤٢٣-٤٢٤). وعند القلانسي لا تنعقد إلا بجماعة لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب أو مظنته، إجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد، وقد يكون ذلك قدحًا في إمامة علي (المِلل، ج١، ص٤٣؛ الأصول، ص٢٨٠-٢٨١؛ الإمامة، ص٢٥٩–٢٦٧). العدد يزيد أو ينقص، واحد، اثنان، أربعة، أو جماعة من أهل الحل والعقد والاجتهاد والبصيرة بالأمور، ولو عقد واحد ولم يُسمع من الباقين نكيرٌ كفى (النهاية، ص٤٩٦). عند أهل السنة تنعقد الإمامة بمن يعقدها لمن يصلح للإمامة إذا كان العاقد من أهل الاجتهاد والعدالة (الفرق، ص٣٥٠). من قال لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل؛ لأنه تكليف بما لا يُطاق (الفصل، ج٥، ص٧-٨).
٥٦  صفة العاقدين أن يكونوا من أهل الستر والدين، ومن يوثق بنصيحته وسعيه في المصالح، وممن يعرفون الفرق بين من يصلح للإمامة وبين من لا يصلح لها، وأن يكون عالمًا يحمل الدين، وأن يكون من أهل الرأي والفضل (الإمامة، ص٢٥٢-٢٥٣). من أهل الرأي والسير والصلاح يوثق باختياره، أفضل من في الزمان حتى ولو تفرَّقوا في الزمان (الإمامة، ص٢٦٧–٢٧١). نصبه يكون بمبايعة أهل الوجاهة والاعتبار كالعلماء والأمراء الذين هم أهل حل في أمور الرعية وعقدها، ويرجع فيها إلى قولهم (المطيعي، ص٩٩). إذا قام به أهل الحل والعقد سقط عن غيرهم، لا فرق في ذلك بين زمن الفتنة أو غيره؛ فمذهب أهل السنة وأكثر المعتزلة هي أن الخلافة نيابة عن الرسول في أمور الدين والدنيا (عبد السلام، ص١٥٣).
٥٧  عند بعض الأصحاب لا بد من جريان العقد بمشهد من الشهود، فإنه لو لم يشترط ذلك لم نأمن أن يدَّعي مدَّعٍ عقدًا سرًّا متقدمًا على الحق المُظهَر المُعلَن. وليست الإمامة أحطَّ رتبة من النكاح، وقد شرط فيه الإعلان، ولا يبلغ القطع؛ إذ ليس يشهد له عقل، ولا يدل عليه قاطعٌ سمعي، وسبيله سبيل المجتهدات (الإرشاد، ص٤٢٣-٤٢٤). يجب الإشهاد به؛ فإنه خطبٌ جسيم ونصبٌ عظيم (النهاية، ص٤٩٦). قال بعض الأصحاب: يجب كون ذلك بشهادة بينة عادلة كفًّا للخصام في ادعاء من يزعم عقد الإمامة له سرًّا قبل من عُقد له جهرًا (المواقف، ص٤٠٠). والعدد دون حد معيَّن، يكفي نفرٌ منهم حتى تتم البيعة، وقيل أربعة قياسًا على ما فعل عمر في الشورى (التمهيد، ص١٧٨-١٧٩).
٥٨  أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين اختلافهم في الإمامة بعد وفاة الرسول. اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة لعقد الإمامة لسعد بن عبادة. ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قصد نحوهم في رجال من المهاجرين، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش محتجًّا بقول النبي، فأذعنوا مُنقادين بعد أن قالت الأنصار: مِنا أمير ومنكم أمير. بعد أن استلَّ جرد الحباب سيفه (مقالات، ج١، ص٣٩–٤٧). الشبهات التي وقعت في الملة الإسلامية وكيفية انشعابها (بعد مرضه، جيش أسامة، مؤتة، دفنه)، الخلاف الخاص بالإمامة (التفتازاني، ص١٤١-١٤٢؛ الإسفراييني، ص١٤١؛ الدواني، ج٢، ص٢٨٣؛ المِلل، ج١، ص٢٩-٣٠). الخلاف الثامن في تنصيص أبي بكر عمر بالخلافة (المِلل، ج١، ص٣١).
٥٩  اختلفوا في إمامة أبي بكر كيف كانت إلى: (أ) وقف النبي ونص على إمامته. (ب) دل على إمامته بالصلاة بالناس وبقوله. كما دل الله عليها. قاتل القوم. وثبت عمر إمامته. (ﺟ) عقد المسلمين له وإجماعهم عليه (مقالات، ج٢، ص١٢٨–١٣٠). اختلف الناس في الإمامة بعد الرسول إلى: (أ) النبي لم يستخلف أحدًا. (ب) نص الرسول على استخلاف أبي بكر نصًّا جليًّا، إجماع الناس على تسميته خليفة رسول الله ليس بمعنى الصلاة، ولكن بمعنى الإمامة. وقد استخلف الرسول آخرين ولم يُسمَّوا خليفة رسول الله، هناك نصوص على استخلاف أبي بكر وأخرى ضده، مثل قول عمر: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني» (الفصل، ج٤، ص١٢٤–١٢٦).
٦٠  الكلام في إمامة أبي بكر طريقان لا ثالث لهما: (أ) فساد المذاهب سوى ما نذهب إليه؛ لأن إثبات فساد النص يُثبت الاختيار. (ب) ورود الشرع في بياع أن الإمامة بالاختيار (الإمامة، ص٢٧٢-٢٧٣). الدليل على إمامة أبي بكر (على خلاف الشيعة) قول الله: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ …، وهم الموعودون بالاستخلاف والتمكين، وهو ينطبق إما على علي أو على أبي بكر، والأول باطل (نموذج لتركيب النص على فرد). (ب) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ فالداعي المحظور مخالفته ليس محمدًا ولا عليًّا؛ لأنه ما حارب الكفار أيام خلافته. (ﺟ) استخلفه الرسول في الصلاة أيام مرضه، وما عزله حتى ظل كذلك بعد وفاته. (د) قول الرسول وتنبؤه بأن الخلافة بعده ثلاثون عامًا تُحوَّل بعدها إلى مُلكٍ عضود، وكانت خلافة الشيخين ١٣ سنة، وعثمان ١٢ سنة، وعلي خمس سنوات، وقول الرسول: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر.» (ﻫ) قول الصحابة: «يا خليفة رسول الله» (المسائل، ص٣٨٤-٣٨٥). الأدلة القرآنية في اللمع، ص١٣٤–١٣٦؛ الإبانة، ص٦٧-٦٨؛ الفرق، ص٣٥٠؛ الإنصاف، ص٦٤-٦٥؛ الغاية، ص٣٨٧–٣٩٠؛ الإمامة، ص٣٢١–٣٢٧. وعند جماعة من الحشوية، إمامة أبي بكر بالنص، بالاسم أو بالنص والإشارة، إمامة أبي بكر (الحصون، ص١٢٨؛ النهاية، ص٤٧٨–٤٨٠، ص٤٩٢-٤٩٣؛ الشرح، ص٧٦٤-٧٦٥، ص٧٥٥-٧٥٦، ص٧٦١-٧٦٢؛ المحصل، ص١٦٣–١٧٢؛ البيجوري، ج٢، ص١٠٠-١٠١؛ الأصول، ص٢٨٢–٢٨٤).
٦١  والدليل على أن الإمامة لما عُقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين، ولم يتأنَّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار، ولم يُنكر عليه مُنكر، ولم يحمله على التريُّث حامل (الإرشاد، ص٤٢٣-٤٢٤). اتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر (المِلل، ج١، ص١٥٧-١٥٨). ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة (المواقف، ص٣٩٩). الإجماع على إمامة أبي بكر، فقد اشتهر ذلك في عهده وفي عهد عمر (الإمامة، ص٢٧٩–٢٨٣). أجمعت الأمة على خلافة أحد الأشخاص الثلاثة أبي بكر وعلي والعباس، وبطلت إمامة علي والعباس. الإجماع موجود في كتب السير والتواريخ (الطوالع، ص٢٣٢). مبايعة علي والعباس له، لا يجوز اجتماع الأمة على خطأ (اللمع، ص١٣٤). دليل الإجماع (الإبانة، ص٦٨-٦٩؛ المواقف، ص٤٠٠-٤٠١). رضي به الجميع (الإرشاد، ص٤٢٨-٤٢٩). قتاله أهل الردة (مقالات، ج١، ص٣٩–٤٧). لو كانت باطلة لما كان معظَّمًا عند الله، لو كانت باطلة لكانوا شر الأمم، وهم خيرها (الأصول، ص٢٨١-٢٨٢؛ اللمع، ص١١٥). الدليل إجماع المسلمين، واختيارهم له يوم السقيفة على العقد أمام الجمهور، وهم أهل الحل والعقد، ولم يتأخر أحد بلا عذر (التمهيد، ص١٨٧–١٩٤).
٦٢  تُلقى شبهاتٌ عديدة على إمامة أبي بكر، منها: (١) إزالة ميراث النبي عن ورثته. (٢) وصاية فاطمة ألا يُصلي عليها أبو بكر وعمر، وأن تُدفن سرًّا، ضرب عمر فاطمة بسوط وتهديدها بحرق بيتها. (٣) له شيطان يعتريه ويحذر الناس من نفسه، والمطالبة بإقالة نفسه، اعترافه بأنه يميل ويضل، وأنه لا يستحق هذا الأمر، وأنه ليس بأفضل القوم. (٤) قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. (٥) قال أبو بكر عند موته: ليتني سألت النبي عن ثلاث: (أ) هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ أي شكُّه في صحة البيعة. (ب) ليتني تركت بيت فاطمة ولم أتشفه. (ﺟ) ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير وكنت الوزير. (٦) في بيعته لعمر ترك التأسي بالرسول لأنه استخلف. (٧) أخَّر إنشاء جيش أسامة. (٨) لم يولِّه الرسول الأعمال وولَّى غيره. ولما ولَّاه أن يحجَّ بالناس ويقرأ سورةً عزله وجعل ذلك لعلي. (٩) نقصان علمه لما رُوي عنه في الكلالة. (١٠) ترك إقامة الحد على خالد عندما قتل مالك بن نوير وضاجع امرأته من ليلته. (١١) تسمَّى بخليفة رسول الله مع أنه لم يستخلفه. (١٢) دفنه ودفن عمر في بيت الرسول، وقد منع الرسول منه (الإمامة، ص٢٢٨–٢٥٧، ص٢٨٣–٢٩٦؛ التمهيد، ص١٩٠–١٩٧؛ المواقف، ص٤٠١–٤٠٣).
٦٣  اتفقوا على عمر بعد تعيين أبي بكر (المِلل، ج١، ص١٥٧-١٥٨). نص أبي بكر على إمامته (مقالات، ج٢، ص١٢٩-١٣٠). إثبات إمامة أبي بكر تُثبت إمامة الفاروق عمر. عهد إليه أبو بكر بمَحضر من جملة الصحابة بعد تقدمه إليهم، وأمره بالنظر في أمورهم والتشاور (التمهيد، ص١٩٧–٢٠١؛ الإبانة، ص٦٩؛ اللمع، ص١١٤؛ المواقف، ص٤٠٠؛ شرح الفقه، ص٦٠؛ الإنصاف، ص٦٥-٦٦؛ الأصول، ص٢٨٦؛ الإرشاد، ص٤٢٩-٤٣٠؛ التفتازاني، ص١٤٢؛ الإسفراييني، ص١٤١). وهو موقف أهل السنة في تفضيل الشيخين (شرح الفقه، ص٦١؛ الغاية، ص٣٩٠؛ الدواني، ج٢، ص٢٨٣-٢٨٤؛ الفرق، ص٣٥٠). الأدلة على إمامة أبي بكر وعمر (الإرشاد، ص٤٢٢-٤٢٣). وتتولى بعض فِرق الإمامية أبا بكر وعمر (مقالات، ج١، ص١٢٨). وهو موقف الصالحية والزيدية (المحصل، ص١٨٠). وكان زيد يفضل على سائر الصحابة، ويتولى أبا بكر وعمر. وقد سُموا رافضة عندما سمع بعضهم يطعن على أبي بكر وعمر، فأنكر ذلك، فتفرَّقوا، فقال لهم رفضتموني (مقالات، ج١، ص١٢٩-١٣٠، ص٨٧؛ التنبيه، ص٣٣-٣٤؛ الانتصار، ص١٣٨). وتُثبت السليمانية الزيدية إمامة الشيخين (الفرق، ص٣٢-٣٣؛ اعتقادات، ص٥٢-٥٣؛ المِلل، ج٢، ص٨٩-٩٠؛ المحصل، ص١١٨٠). وهما إمامان وإن أخطأ في التأويل (المواقف، ص٤٢٣). أثبتوا إمامة الشيخين بالبيعة اجتهادًا؛ لأنهم تارةً يُصوبون الاجتهاد وتارةً يُخطئونه، إلا أنه في حال الخطأ يكون أدنى إلى الفسق، طعنوا في عثمان وكفَّروا عائشة وطلحة والزبير ومعاوية لقتالهم عليًّا (المحصل، ص١٨٠؛ المواقف، ص٤٢٣). وكذلك اليعقوبية (مقالات، ج١، ص١٣٧؛ الفرق، ص٣٤). وتُثبت الخوارج إمامة أبي بكر وعمر، وتُنكر إمامة عثمان في وقت الأحداث (مقالات، ج١، ص١٨٩). يُكفرون عليًّا وعثمان والحكَمين وأصحاب الجمل وكل من رضي بالتحكيم (الفرق، ص٧٣-٧٤؛ المِلل، ج٢، ص٣٠؛ التنبيه، ص٤٧–٥١).
٦٤  الكلام في إمامة عثمان وصحة فعل عمر في الشورى. عقدها عبد الرحمن بن عوف له بمَحضر من أهل الشورى سوى طلحة، وبايعه طلحة لما قدِم ورضي بإمامته. فضائل عثمان: جهاده، وإنفاقه، وتجهيز جيش من ماله، زوج بنت النبي. كان الستة من أفضل الأمة (التمهيد، ص٢٠٢–٢٠٨). انقاد الجميع لعثمان (الإبانة، ص٦٩؛ الإنصاف، ص٦٦؛ التفتازاني، ص٢٤٢؛ الدواني، ج٢، ص٢٨٤). اتفقوا بعد الشورى على عثمان (المِلل، ج١، ص١٥٧-١٥٨)، باتفاق أهل الشورى، وأنكروا إمامة معاوية (ج٢، ص١٢٩-١٣٠). ومع ذلك هناك شبهات حول عثمان (رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده النبي، وبعد أن رفضه أبو بكر وعمر، نفي أبي ذر، تزويجه مروان بن الحكم من ابنته، وتسليمه خُمس الغنائم، إيواؤه عبد الله بن سعد بعد أن أهدر النبي دمه، وتوليته مصر، وعبد الله بن عامر البصرة) (المِلل، ج١، ص٣٢-٣٣).
٦٥  الكلام في إمامة علي، والرد على المواقف فيها والقادح في صحتها (التمهيد، ص٢٢٧–٢٣٩). الذي يدل على إمامته اتفاق أهل الحل والعقد (المحصل، ص١٧٩). اختلفوا في إمامة علي على ثلاثة أقوال: (أ) كان إمامًا في أيام أبي بكر وعمر بنص النبي، وإن الأمة ضلَّت عندما بايعت غيره. (ب) كانت الإمامة لعلي في حياة أبي بكر وعمر، وإنهما أخطآ في توليهما خطأً لا يبلغ الإثم. (ﺟ) أبو بكر الإمام ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهو رأي أهل السنة والاستقامة (مقالات، ج٢، ص١٢٨-١٢٩). أجمع أهل الحق على صحة إمامة علي وقت انتصابه بعد قتال عثمان، وخالفتهم طوائف: (أ) الكاملية (الرافضية)؛ لأنه رفض قتال أبي بكر وعمر. (ب) الخوارج، كان على حق إلى وقت خروج الحكمين، ثم كفر وكفر معاوية وأتباعهما. وهو موقف المُحكمة (المواقف، ص٤٢٤). (ﺟ) الأصم، لا تنفذ الإمامة إلا بإجماعٍ دون الشورى واختيار بعض الأئمة. طعن في عثمان وعلي، وكان يدعو إلى معاوية في الشام (الأصول، ص٢٨٦-٢٨٧). الإمام ليس عليًّا لأنه لم يجتمع عليه، وإن معاوية كان إمامًا لأنهم اجتمعوا عليه (مقالات، ج٢، ص١٢٩-١٣٠). أعداؤه فريقان: (أ) عسكر معاوية طعنوا فيه بأنه ما أقام القصاص، وهو أمرٌ اجتهادي. (ب) لم يرضَ الخوارج بالتحكيم (المحصل، ص١٧٩). يُعقَد من الصحابة من أهل الحل والعقد (الإنصاف، ص٦٦). وعند الصالحية والأبترية، عليٌّ أفضل الناس بعد الرسول، وأولاهم بالإمامة، سلَّم الأمر لهم راضيًا (المِلل، ج٢، ص٩٢؛ الانتصار، ص٩٩–١٠١). وعند هشام بن الحكم والجاحظ ضلَّت أكثر الأمة بتركها عليًّا (الانتصار، ص١٣٩).
٦٦  اختلفوا هل يكون بعد علي إمام، وتتراوح الإجابة بين الاحتمال والاستحالة (عباد بن سليمان) (مقالات، ج٢، ص١٣٢). واختلفوا في إمامة يزيد: (أ) كان إمامًا بالإجماع بالرغم من إنكار الحسين عليه أشياء. (ب) إمامته وتخطئة الحسين في إنكاره عليه. (ﺟ) لم يكن إمامًا (مقالات، ج٢، ص١٤٥).
٦٧  مبايعة علي واختلاف الناس بين مُنكر لإمامته وقاعد عنها ومُقاتل في سبيلها، وهو اختلاف بين الناس إلى اليوم. وعند الأشعري أن هذا إشكال إلى اليوم؛ أي حتى عصره في أواخر القرن الثالث. وهذا صحيح؛ لأن العهد كان حديثًا بالإمامة، «مع أنه لا ضرورة إلى هذه المسألة في أمر الدين على وجه اليقين» (شرح الفقه، ص٦٠). ثم بويع علي بن أبي طالب، فاختلف الناس في أمره، فمن بين مُنكر لإمامته ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته معتقدًا بخلافته. وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم (مقالات، ج١، ص٥٤-٥٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤