الدرس الثاني
في محاضرتي الأولى رسمت لحضراتكم الصورة الروحية لعصر ديكارت، أي البيئة التي يجب أن نضع فيها «المقال في المنهج» لكي نستطيع فهمه، أما اليوم فسنُعنَى بدراسة المقال نفسه.
كم كنت أود لو استطعت أن أتلوه عليكم بأكمله، وأن أشرحه صفحة صفحة، بل جملة جملة، ولم يكن ذلك لِيُعَدَّ إسرافًا؛ بالنظر لما فيه من الثراء والرصانة، ولكنه قد يستغرق سنة، فلا محيص من العدول عن مثل هذا الشرح.
لنمر مرًّا سريعًا على الصفحات الأولى حيث يقص علينا ديكارت تاريخ أولى أزماته الروحية، أزمة الشباب غداة مغادرة المدرسة، وكانت أزمة شك وخيبة.
وهاكم بالتقريب ما يقول لنا، يقول إنه غذي بالآداب منذ حداثته، درس في مدرسة «لافليش» لليسوعيين، وكانت من خير مدارس العالم المسيحي، تلقى العلم فيها على خير المعلمين، وكان تلميذًا نجيبًا فتعلم كل شيء، تعلم كل ما كان مألوفًا أن يتعلمه من يريد «الانتظام في سلك الألبَّاء»، قرأ كل ما وقع له من الكتب، ونال درجة الماجستير في الآداب، والليسانس في الحقوق، فما بلغ العشرين حتى لاحظ أن كل هذا عديم القيمة، أو على الأقل لا يساوي شيئًا كثيرًا.
فأحس الخيبة، وأحس أنه قد خدع، فقد قيل له: تعلم الآداب والفنون تُصِبْ بها معرفة واضحة محققة بكل ما هو نافع للحياة. فصدق القول، وها هو ذا مرتبك بالشكوك والأخطاء ومرغم على الإقرار بأن «ليس في العالم مذهب هو على ما كانوا قد عللوه به»، أجل لم يكن كل ما علموه عديم القيمة بالمرة؛ «فاللغات مثلًا ضرورية لفهم الكتب القديمة، والقصص اللطيفة توقظ الفكر، والأفعال المجيدة التي ترويها التواريخ ترفعه، ومتى قرئت باعتدال عاونت على تكوين أصالة الرأي، وللبلاغة قوة وجمال لا نظير لهما، وللشعر لطائف رائعة، وللرياضيات مكتشفات هي في غاية الدقة، واللاهوت يعلِّم كيف تُكتسب الجنة، والفلسفة تؤهل صاحبها لأن يتحدث حديثًا مقبولًا في كل شيء، وأن ينال إعجاب من هم أقل علمًا منه، والفقه والطب يعودان بالثروة والكرامة على أصحابهما»، ولكل هذا قيمته من غير شك، ولكن المعلمين كانوا قد منَّوه شيئًا آخر، كانوا قد منَّوه معارف واضحة محققة، وعلمًا لا غنى عنه لإصابة الحكم وحسن التدبير في الحياة، وبالجملة كانوا قد منَّوه علمًا وحكمة، ولم يعطوه هذه ولا ذاك.
فإن شيئًا مما علموه لم يكن ضروريًّا كل الضرورة، بل لم يكن نافعًا ولا محققًا، ما خلا الرياضيات، أجل إن قراءة الكتب القديمة والقصص والتواريخ تُزين الفكر، ولكنها قد تُفسده؛ «فإن القصص تحمل على الاعتقاد بإمكان حوادث هي في الواقع مستحيلة»، وأصدق التواريخ «لا يروي الحوادث كما وقعت»، فليس باستطاعتها أن تعاوننا على تكوين أصالة الرأي، بل بالعكس إنها تحملنا على الخلط بين الحق والباطل، والبلاغة والشعر شيئان جميلان ولكنهما لا يُتعلمان، إنهما موهبتان، ولا يُكتسبان بالدرس، ولإقناع الناس ينبغي أن نكلمهم كلامًا واضحًا ليستطيعوا فهمنا، لا أن نرهقهم بمحسنات البديع والبيان.
أما اللاهوت «الذي يُعلِّم كيف تُكتسب الجنة» أفليس هو «علمًا» عديم الفائدة أصلًا من حيث إن طريق الجنة «مفتوح للجهلاء والعلماء على السواء؟» بل أليس هو علمًا كاذبًا ممتنعًا كل الامتناع «من حيث إن حقائق الوحي تفوق العقل»، وإن من الواضح «أنه يلزمنا للشروع في الفحص عنها والتوفيق في هذا الفحص معونة سماوية خارقة ترفعنا فوق مرتبة الإنسان؟»
الرياضيات وحدها تنجو من نقد ديكارت «لما لبراهينها من اليقين والوضوح»، ولكنه لا يرضى عنها إلا بعض الرضى؛ لأن الذين تقدموه لم يفهموا ماهيتها ومنفعتها الحقة، وهي تغذية النفس بالحقيقة وتمكينها من معرفة العالم، وظنوا أن منفعتها قاصرة على الفنون الآلية، فلم يُوفقوا إلى بناء شيء على هذه الأسس المكينة.
فلا يبقى إذًا، أو لا يكاد يبقى شيء من تحصيله المدرسي، وهذا مفهوم، فإن العلوم جميعًا إنما تستمد مبادئها من الفلسفة، والفلسفة في مقدمة المعارف اختلاطًا وريبًا، فلا يستبقي ديكارت سوى المعارف التي لا تمت إلى الفلسفة بصلة؛ أي الإيمان بالله وبالرياضيات.
فلنسجل ذلك، إن له أهميته، فإن فلسفة ديكارت ستحاول أن تربط بين هذين اليقينين وأن تُسند أحدهما إلى الآخر.
هل وصل ديكارت إلى حالة الشك بنفسه؟ إن هذا جائز، هل تأثر بالكتب التي قرأها؟ إن هذا راجح، هل تأثر بتلك البيئة المثقفة التي اختلف إليها بعد مغادرة المدرسة؟ إن هذا محقق، والأمر يعد قليل الخطر.
إن العقلية التي يصفها ديكارت هي عقلية عصره، عقلية الرجل المثقف الذي قرأ بيير راموس، ومونتاني، بومبوناس، وكردان، أجريبا، وبيكون، والذي أرهقته «دقائق الفلسفة المدرسية» فازدرى ما كان لزمانه من «علم رسمي» وولاه ظهره، وسوف يحذو ديكارت حذوه، فهو يقول: «حالما أذنت لي السن بالخروج من سلطة أساتذتي تركت دراسة الآداب بالمرة، واعتزمت ألا أطلب من علم إلا ما قد أجده في نفسي أو في كتاب العالم الأكبر، (وفي هذا يشبه مونتاني تمام الشبه)، وقضيت بقية شبابي في الترحال والتردد على قصور الملوك والأمراء، والاتصال بالجيوش، ومعاشرة الناس على اختلاف أمزجتهم وطبقاتهم، والتزود من التجارب، وامتحان نفسي فيما كان الحظ يعرض عليَّ من أحوال، والتفكير في كل مناسبة بحيث أخرج منها بفائدة، فقد كان بي دائمًا شوق بالغ لأن أتعلم التمييز بين الصواب والخطأ للتبصرة في أفعالي والمضي باطمئنان في هذه الحياة.»
لقد كانت أسفار ديكارت موضوع جدل غير قليل فيما سلف من الزمان. كانت رحلته الأولى إلى هولندا وهو في العشرين ليخدم في جيش أجنبي، غريبة جدًّا في نظر الفرنسي الملازم لبلده من أهل القرن الماضي، وفي نظر الأديب الذي لم يكن يتصور الحياة ممكنة في غير باريس؛ لذلك كانوا يتلمسون لهذه الأسفار أسبابًا عميقة خفية، ولكنا نعلم اليوم أنهم كانوا مخطئين.
إن المثل القائل: «الأسفار تكوِّن الشباب» يرجع إلى أبعد من أمس، وقد كان التنقل في أنحاء أوروبا جزءًا من تربية «الرجل المثقف» في زمن ديكارت، والواقع أن اكتساب «التجربة والآداب الاجتماعية» التي تميز «المثقف الرجل» لا يتأتى بغير السفر، ومعاشرة الجند وأهل القصور، والتفرج على البلدان الأجنبية.
وليس من المستغرب كذلك أن يكون ديكارت قد قصد إلى هولندا، فقد كانت هذه الدولة حينذاك قوة بحرية عظيمة، وكانت حليفة لفرنسا، وكانت غاصة بالفرنسيين من أساتذة وطلاب وعسكر وشباب الأشراف يفدون إليها ليتعلموا فن الحرب في جيش موريس دي ناسو، أكبر قائد في عهده، وكان ديكارت أحد هؤلاء، أجل إنه كان من طبقة متواضعة بين الأشراف هي طبقة رجال القضاء، ولكنه كان شريفًا على كل حال واتخذ له اسمًا شريفًا «سيد دي بيرون» للتنويه بمكانته.
فالسفر أو على الأقل، سفرة ديكارت الأولى كانت تكملة طبيعية للمدرسة، كانت مدرسة الحياة، أفاد منها مثل غيره، زعزعت الأسفار ما تبقى من يقين؛ أي آراءه الموروثة، ولكنها عوضته منها شيئًا من سعة الفكر، فإنه يقول: «كنت أتعلم ألا أغالي في تصديق ما أقنعتني به القدوة والعرف، وبذلك تخلصت شيئًا فشيئًا من أخطاء كثيرة تحجب ضوءنا الطبيعي وتدعنا عاجزين عن إدراك الحق.»
للآن كل ما صدقناه فهو طبيعي، وما ترجمة ديكارت إلا ترجمة أي فرد من الناس، وفي استطاعة كل واحد من قراء ديكارت، كل «رجل مثقف» من قراء «المقال» أن يصيح قائلًا: إن هذه لترجمتي، وقد قلت لكم في المحاضرة الماضية: إن تاريخ ديكارت كما يقصه علينا يلخص عقلية عصره.
وللآن لم نبرح موقف مونتاني، ولكن ديكارت يعقد العزم ذات يوم على «أن يدرس في نفسه، وأن يستخدم قوة عقله لاختيار الطرق الواجب اتباعها» كما فعل مونتاني. وهنا يحدث الصدع.
يقول لنا ديكارت: «كنت حينذاك في ألمانيا حيث دعتني الحروب التي ما تزال ناشبة فيها» وكلنا يعلم الحكاية المشهورة عن «المدفأة» التي لجأ إليها، ومع ذلك فلست أريد أن أحرم نفسي لذة قراءتها، يقول: وفيما كنت عائدًا من تتويج الإمبراطور، أقصد إلى الجيش، وقفتني بداية الشتاء في محلة لم يكن لي بها حديث يلهيني، ولم يكن لي بحمد الله شواغل أو أهواء تُدخل الاضطراب على نفسي، فكنت أقضي سحابة يومي في حجرة دافئة مغلقة عليَّ وحدي أقلب أفكاري، وكان من أول ما خطر لي أن المصنوعات المركبة من قطع عدة والتي اشترك فيها صناع عديدون، كثيرًا ما لا تحوي من الكمال بقدر ما تحويه المصنوعات الخارجة من يد صانع واحد، ويستنتج ديكارت من ذلك أنه كما أن البيت الذي يبنيه بناء واحد أجمل من البيت الذي يشترك في بنائه بناءون عديدون، وكما أن المدينة التي تشيدها أجيال متعاقبة أقل نظامًا من المدينة التي تشيد دفعة واحدة، فإن العلوم لما كانت قد تكونت شيئًا فشيئًا فهي خلو من كل يقين، وليست تعلم النظام الحقيقي، ومن ثمة فيجب أن يشرع واحد في إقامتها من جديد وفي ترتيبها.
إن ما تعلنه لنا عبارات «المقالات» على ما فيها من تلميح وحذر إنما هو ثورة علمية حقًّا، فهي ترمي إلى استبعاد كل ما عمل من قبل وإلى استئناف الفلسفة كأن أحدًا لم يفلسف، وإلى تجديد البناء، أو بعبارة أدق: إلى البناء لأول مرة ونهائيًّا، بناء المجموعة الحقة للعلوم، المجموعة الحقة للعالم.
إن المشروع من العظمة بحيث يتولانا الذهول من جرأة ديكارت، ولكن ديكارت يسير في حديثه بهدوء فيقول: «وفكرت أنَّا كنا أطفالًا قبل أن نصير رجالًا، وقضينا زمنًا طويلًا تحت سيطرة شهواتنا ومعلمينا، وللشهوات والمعلمين تأثيران متعارضان في أكثر الأحيان لا يوجهاننا إلى الخير دائمًا، فيكاد يستحيل والحالة هذه أن تكون أحكامنا نقية ثابتة كما لو كان أتيح لنا استخدام العقل كاملًا منذ ميلادنا، ولم يحكمنا إلا العقل.»
أجل كان يكون جميلًا جدًّا لو كنا منذ ميلادنا متمتعين بالعقل كاملًا لا بالعقل الذي نحن حاصلون عليه اليوم في سن النضوج والذي ملؤه الأخطاء، بل بالعقل الذي كنا نحصل عليه حينذاك، العقل الكامل «الجوهري» كما كان يجب أن يكون عليه، كما كان يحصل عليه رجل مثل آدم يُخلق بالغًا بعقل خارج من يدي الطبيعة، أو الله مباشرة؛ إذًا لما كنا ندعه يقع في الخطأ، ولما كان يطرأ عليه أي وهم يحجب ضوءه الطبيعي.
ولأجل تنقية العقل من شوائبه بدا لي أن خير ما أصنع إنما هو أن أشرع في أن أنتزع من فكري كل الآراء التي كنت صدقتها لذلك الوقت؛ لأحل محلها آراء خيرًا منها، أو نفس الآراء بعد أن ألائم بينها وبين عقلي.
ثورة عقلية أو بالأحرى ثورة روحية تسند الثورة العلمية وتعلن بجرأة منقطعة النظير قوة العقل وقيمته وسلطانه المطلق.
أجل إن ديكارت سيحاول أن يحد من هذا السلطان الذي أعلنه وأن يتلافى ضرره، وسيقول لنا مخلصًا كل الإخلاص: إن نقد العقل لا يجب ولا يمكن أن يتناول الحقائق الدينية، أي الحقائق الموحاة من حيث إنها بماهيتها أسمى من العقل، وسيحاول حصر الدمار ونفض يديه من النتيجة المؤلمة التي قد تنتج والتي ستنتج بالفعل.
لم يكن ديكارت بالرجل الثوري، بل كان يحرص مخلصًا على الطمأنينة العامة والنظام العام، فإنه كان بحاجة إليهما ليستطيع متابعة أبحاثه العلمية، وكان يحرص بالأخص على طمأنينته الشخصية، ولست ألومه في ذلك، لقد كان من السهل على بوسويه أن يسميه «الفيلسوف الشديد الحرص» فلم يكن بوسويه يستهدف لخطر، ولم يكن أتى بشيء يُذكر، ولعل ديكارت لم يستهدف لخطر، ولكنه جاء بكنز، فليس من المستغرب أن يطلب الطمأنينة؛ لذلك هو يسرع إلى توفيرها لنفسه، وهذا دليل واضح على أنه كان يعلم خيرًا من أي إنسان ما لمنهجه من قيمة «كلية».
هو يقول إنه لا يقصد إلى إصلاح الدولة ولا الهيئات العامة الكبرى، بل لا يقصد إلى إصلاح «نظام العلوم» أي مناهج المدارس، فإنه لا يعنيه، يقول: «لا أستطيع بحال أن أقر أصحاب الأمزجة القلقة الذين لا يدعوهم داعٍ من حسب أو مال للعناية بالشئون العامة، فلا يخلون مع ذلك من تصور إصلاحات جديدة، ولو كنت أعلم أن شيئًا من هذا الكتاب من شأنه أن يحمل الناس على أن يظنوا بي مثل هذا الجنون لكنت آسَفُ جدًّا لنشره.» على أن أفكاره ملكه الخاص، وله كل الحق أن يصنع بها ما يشاء، وهو يقول لنا إنه لا يريد بحال أن يجاوز ذلك الحد، بل لا يريد إصلاح أفكار الآخرين، وإنما يقتصر على إصلاح أفكاره ليس غير، «للذين قسم لهم الله من نعمه أكثر مما قسم له أن يتوخوا أغراضًا أسمى»، أما هو فغرضه يكفيه.
من غير شك إن إصلاح المنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا أو بالأحرى خلق هذه العلوم خلقًا جديدًا — أي خَلْق عالم بأكمله — يكفي هذا الرجل المتواضع.
لنقف هنا لحظة فقد بلغنا الوقت الحاسم، بلغنا بداية الفلسفة، في رأي ديكارت على الأقل، ومن هنا يبدأ كتابه «التأملات». إن الإنسان بحاجة — والإنسانية أيضًا من غير شك — لأن ينزع عنه مرة في حياته كل ما سبق له من آراء، وأن يهدم كل ما سبق له من معتقدات ليعرضها كلها على حكم العقل.
أليس التخلص من جميع الآراء وهدم جميع المعتقدات هو أيضًا التحرر منها؟ أَوَليس عرضها على حكم العقل يتضمن القول بسلطان العقل وحريته؟
وهذا هو المنهج الديكارتي وهذا هو الدواء الديكارتي، المنهج يعني الطريق المؤدي إلى الحقيقة، والدواء هو الذي يشفينا من التردد والشك.
إذا أردنا أن نستعيد ما كان لعقلنا من نقاء فطري وأن نبلغ إلى يقين الحقيقة فيجب التخلص من جميع الأفكار والمعتقدات؛ أي التحرر من جميع التقاليد والسلطات، فإن الشاك — وأقصد مونتاني — على حق في أن يشك، أليس هو بإزاء آراء مريبة بل خاطئة؟ قد يكون على غير حق أحيانًا، ولعل هناك إلى جانب الأفكار الكاذبة أفكارًا صادقة، ولكن ما السبيل إلى العلم بذلك؟ يجب أن نتمكن من الحكم عليها جميعًا؛ أي التمييز بين الصدق والكذب وكيف نستطيع ذلك ونحن آمنون من الخطأ ما دمنا نحتفظ برأي واحد بغير امتحان، وقد يكون كاذبًا فيفسد علينا الحكم؟
لا سبيل إذًا إلا أن نُفرغ العقل بالمرة، وسيقول ديكارت في رسالة للأب ميلان: «إذا كان لدينا سفط من التفاح بعضه فاسد مفسد للبعض الآخر، فكيف العمل إلا أن تفرغه بأكمله وتتناول التفاح واحدة واحدة فتُعيد الجيد منه إلى السفط وتطرح الرديء؟»
ولنلاحظ أن هذا العمل يتم على دورين: نبدأ بإفراغ السفط، ولكنا لا ندعه فارغًا؛ لأنا سنعيد إليه التفاح غير الفاسد، فكيف وبم نمتحن الآراء لاستبقائها أو اطراحها حسبما توافق العقل أو لا توافق؟ بالعقل نفسه، بذلك الضوء الطبيعي الذي إن خلصناه من جميع الآراء التي تملؤه استعاد كماله الطبيعي وصار من ثمة قادرًا على التمييز بين الصواب والخطأ.
وكيف صنع ذلك؟ هنا أيضًا الأمر بسيط غاية البساطة، نشك في الأفكار التي نستطيع أن نتبين فيها غموضًا واختلاطًا، إن الأفكار التي نستطيع الشك فيها تحتوي بكل تأكيد شيئًا غامضًا مختلطًا؛ لذلك نحن نمتحنها بالشك، والشك هو محكنا، كل فكرة تتأثر بهذا الحامض المحلل فهي كاذبة، أو على الأقل فهي من طبيعة أدنى، هي تفاحة فاسدة، وإذًا فنحن نطرحها ولا نستبقي إلا التي «تعرض للفكر بوضوح وجلاء لا يستطيع معهما الشك فيها.»
الشك محك الحقيقة، هو الحامض الذي يحلل الأخطاء؛ لذلك يجب أن نجعله أقوى ما يمكن، وأن نشك في كل شيء ما استطعنا إلى الشك سبيلًا، حينئذ فقط نكون على يقين أنَّا لا نستبقي إلا ذهب الحقيقة الخالص.
وسيغلب الشك بنفس أسلحته، إنه يشك، ونحن سنعلمه الشك، لن يكون شكنا «حالة» حالة ريب متكاسل، بل سيكون فعلًا، فعلًا إراديًّا، وسنمضي به إلى نهايته، وشتان بين حالة الشك وفعل الشك، لقد فزنا بالنصر مبدئيًّا؛ إذ إن الشاك يذعن للشك، أما ديكارت فيزاوله، وهو إذ يزاوله بحرية يسيطر عليه ومن ثمة يتحرر منه، إنه حاصل على محك وقاعدة لم تكونا لمونتاني، وإذًا فيستطيع التمييز بين الصواب والخطأ ووضع الأفكار التي ستكوِّن عالم العقل في مواضعها ومزاولة «النقد»؛ أي الحكم والاختيار.
ما هذه الأفكار التي هي من الوضوح والجلاء، أو بعبارة أدق: فإن لكل لفظ أهميته في هذا المقام، ما هذه الأفكار التي «تعرض» للعقل على نحو هو من الوضوح والجلاء بحيث لا يبقى لديه سبب للشك فيها؟ ما هذه الأفكار التي لا يتبين العقل فيها غموضًا ولا اختلاطًا، والتي هي بالطبع متلائمة مع العقل، والتي بسبب ذلك تكوِّن النموذج والقاعدة والمقياس الذي يقيس به العقل سائر الأفكار؟ وما هو هذا العقل الذي سيقوم بهذا القياس؟
هذه الأفكار هي الأفكار الرياضية، وهذا العقل هو العقل الرياضي كذلك، ففي الرياضيات دون سواها بلغ العقل الإنساني إلى الوضوح واليقين، وأفلح في إقامة علم بمعنى الكلمة «يتقدم فيه بوضوح وجلاء من أبسط الأشياء إلى أشدها تعقيدًا.»
لذلك كان المنهج الديكارتي مأخوذًا عن الرياضيات، ذلك المنهج الذي يقول لنا ديكارت إنه كوَّنه لنفسه بانتقائه خير ما في «الفنون أو العلوم الثلاثة التي كان درسها بعض الشيء في صباه» وهي: المنطق، وتحليل المهندسين، والجبر.
أجل ليس المراد أخذ مناهج الرياضيات في الاستدلال وتطبيقها هي هي على موضوعات أخرى، فمع «أن الرياضيين وحدهم من بين الذين سبق لهم البحث عن الحقيقة في العلوم، هم الذين وجدوا براهين، أعني أسبابًا محققة بينة»، إلا أن طرائقهم، أو بكلمة أدق صناعتهم، خاصة بموضوعاتهم ليس غير، وهي «موضوعات غاية في التجريد، تلوح بعيدة عن كل فائدة عملية» وإن تحليل القدماء مقصور على اعتبار الأشكال بحيث لا يروض العقل دون أن يجلب للمخيلة عناءً كبيرًا، وإن علم الجبر عند المحدثين من الخضوع لبعض القواعد والأرقام أصبح «فنًّا مختلطًا غامضًا يرهق العقل بدل أن يثقفه»، فيجب إذًا البدء بإصلاح الرياضيات أنفسها، وذلك بتعميم مناهجها، أو إن شئتم باستخراج ماهية الاستدلال الرياضي والروح المنبث في «سلسلة الأسباب البسيطة السهلة التي يستخدمها المهندسون ليبلغوا بها إلى أعسر براهينهم.»
ماهية الاستدلال الرياضي — وهو يختلف عن الاستدلال القياسي البحت أو المنطق — نقول: ماهية الاستدلال الرياضي وروحه تقوم في أن الرياضي مهما تكن موضوعات بحثه معادلة جبرية أو شكلًا هندسيًّا فهو يحاول أن يوجد بينها علاقات أو «نسبًا» مضبوطة، وأن يربط بينها بسلاسل من العلاقات المنظمة.
فاستكشاف علاقات ونظام بين العلاقات تلك هي ماهية الفكر الرياضي، ذلك الفكر الذي لا يعني لديه «السبب» إلا علاقة أو نسبة، والعلاقة أو النسبة توجد بذاتها «نظامًا» وتنمو بذاتها حتى تصير سلسلة. وقواعد المقال تعلمنا قوانين هذا الفكر، أو على الأقل القواعد الثلاث الأخيرة: القاعدة الأولى هي: ألا نسلم أبدًا شيئًا إلا بعد أن نكون قد عرفنا بوضوح أنه حق، وهذه القاعدة تُعبر عن ضرورة تطهير العقل بالشك. القاعدة الثانية: أن نقسم كل صعوبة ما وسعتنا القسمة، وما اقتضى الحال لحلها على أحسن وجه، وهذا يعني «قسمة» كل علاقة أو نسبة مركبة إلى ما يستطاع من العلاقات أو النسب البسيطة.
القاعدة الثالثة: أن نقود أفكارنا بنظام مبتدئين بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة للتدرج إلى معرفة أكثر الأفكار تركيبًا، وهذا يعني الابتداء بأبسط العلاقات أو المعادلات؛ أي التي هي من الدرجة الأولى، ثم التدرج منها بنظام إلى العلاقات أو المعادلات التي هي من درجة أعلى، فارضين نظامًا حتى بين التي لا يصدر بعضها عن بعض بالطبع، وذلك بإدماج حدود بين طرفي السلسلة، وفرض الحدود جميعًا قابلة لأن تربط في سلسلة. القاعدة الرابعة: أن نقوم بإحصاءات تامة واستعراضات عامة بحيث نتحقق أنا لم نغفل شيئًا، أي لم نتحرز من ترك حد ما أو مجهول ما من مجهولات المسألة غير مرتبط بسائر الحدود، ومن وضع معادلات أقل عددًا من المجهولات.
لا سبيل إلى الشك في أن هذا «المنهج» وهذه القواعد التي يزعم ديكارت أنه اكتشفها في مدفأته لم تُكتشف إلا بعد ذلك بمدة طويلة، من حيث إنها عبارة عن تلخيص غامض بعض الشيء لأنواع الاستدلال المستخدمة في رسالتي «البصريات» و«الهندسة»، وبالأخص لطريقة وضع مسألة جبرية في معادلة، على أن علم الجبر الجديد وتطبيق الجبر على الهندسة ذلك التطبيق الذي يحرر الهندسة من المخيلة، ويحيل المكان ماهية معقولة تمام المعقولية، هو بالإضافة إلى ديكارت نفسه وإلى معاصريه وخلفائه أمثال مالبرانش وسبينوزا، وبالإضافة إلينا أعظم فتوحاته العقلية هو الفتح الذي مكن ديكارت من إقامة علم طبيعي نظري، ومن الرد على انتقادات أرسطو ومن اجتياز العقبة التي وقفت في سبيل أفلاطون.
ومهما يكن من قول ديكارت فإنه في الواقع يدلنا على الطريق الواجب سلوكه، لا الطريق المتشعب الوعر الذي سلكه هو، وليس يهمنا أن يرجع إفصاحه عن مكتشفاته بوضوح إلى سنة ١٦٢٨ أو ١٦٣٦ فإن أصلها أول حدس سطع في فكره، يرجع من غير شك إلى سنة ١٦١٩؛ أي إلى عهد المدفأة.
وفي الواقع حين جاء ديكارت يقيم في مدفأته أوائل شتاء ١٦١٩ لم يكن قد شغل سنيه الماضية بالسفر ومخالطة الناس ليس غير، بل كان قد سلخ سنتين في العمل والكشف؛ لم يكن قد صرف وقته سدى في هولندا، وإذا كان لم يتعلم شيئًا يُذكر من فن الحرب فيما يلوح، فإنه كان قد اكتشف منهجًا حسابيًّا ممهدًا لحساب التكامل وطبقه على مسائل العلم الطبيعي، فسماه صديقه بكمان منذ ذلك الحين ﺑ «الطبيعي الرياضي الكامل»، وكوَّن منهجًا للتحليل هندسيًّا بحتًا في بادئ الأمر، من قبيل تحليل العالم «فرما»، فلما استحثه بكمان على ترك الرياضيات التطبيقية وتوجيه قواه العقلية نحو الرياضيات البحتة بدا له أن يعمم مناهج الهندسة، وأن يطبق مناهج التحليل على علم الجبر، ومن هذه الفكرة سيستخرج فيما بعد الهندسة الجبرية أو الهندسة التحليلية كما تُسمى اليوم، أجل إنا ما نزال بإزاء محاولات لن تنتهي إلى غايتها إلا بعد أن يصلح ديكارت علم الجبر بأكمله بتركيبه ورموزه، وكان ديكارت في مدفأته ما يزال بعيدًا من الغاية، ولكنه اكتشف حينذاك من غير شك الفكرتين الأساسيتين اللتين ستسيطران على علمه وفلسفته، وهما فكرة وحدة الرياضيات، وفكرة وحدة العلوم، وهذه أعمق وأهم من تلك.
لن أتتبع هنا خطوة فخطوة تاريخ نمو فكر ديكارت، بل سأحذو حذوه فأعرض عليكم هذا التاريخ كما يبدو في عهد «المقال». إن وحدة الرياضيات لازمة من أن نفس المناهج، وهي المناهج الجبرية، تطبق في الهندسة والحساب؛ أي تطبق على العدد والمقدار على السواء، ونعني بقولنا «نفس المناهج» نفس خطوات الفكر، وهذا يبين لنا أن المهم ليس الموضوعات — أعدادًا كانت أو خطوطًا — بل خطوات الفكر وأفعاله في ربط الموضوعات وكشف العلاقات ومقارنتها وقياسها بعضها ببعض ونظمها في سلاسل، فيحصل على نظام خصب حي يعارض النظام الجامد المكون من الأنواع والأجناس في المنطق المدرسي، يحصل على نظام هو نظام الإيجاد لا نظام التصنيف. كل حد من حدوده يتبع الحد السابق ويعين الحد اللاحق، ولكن إذا كان الأمر كذلك، إذا كان النظام والعلاقة هما اللذين يكونان ماهية الرياضيات كما أسلفنا، فمن المستطاع التعبير عن كل علاقة عددية بعلاقة مكانية، وإحالة الأعداد خطوطًا والخطوط أعدادًا، واستخلاص علم أعم، هو علم العلاقات والنظام، وهو علم عقلي بحت بيِّن للعقل، من حيث إن العقل لا ينظر فيه لغير أفعاله الخاصة وأسبابه الخاصة.
هذه هي الرياضيات الحقة التي سيستبدلها ديكارت بتحليل القدماء وجبر المحدثين، وسيستطيع العقل بذلك أن «يمد الأسباب البسيطة السهلة في سلاسل طويلة» دون أن يقف عند حد، سواء أكانت هذه الأسباب معادلات أو علاقات، وأن يربط بينها ويركبها بعضها مع بعض ويصوغها في نظام «طبيعي كامل» من العلاقات؛ أعني من الموضوعات المتدرجة في التعقيد والثراء.
وإذا كان الأمر كذلك، إذا كان كمال الرياضيات وخصبها آتيين من أن العقل يوجِد فيها علاقات ويُركِّب هذه العلاقات بعضها مع بعض، ويوجِد نظامًا بين عناصرها، وهي الأعداد والخطوط على السواء، أفليس من البين — والأمر بين عند ديكارت — أن هذا هو نموذج كل علم إنساني وماهيته، وأن العلم الإنساني واحد كما أن العقل واحد، من حيث إن العلم ما هو إلا العقل الإنساني ناظرًا في مختلف الموضوعات.
وإذا كان المعول على العقل لا على الموضوعات فيصبح من المضحك تقسيم العلوم بحسب موضوعاتها، وإذًا فلأجل إقامة العلم يجب ويكفي أن نضع أو نكشف نظامًا وعلاقات معقولة واضحة بين أبسط معاني العقل، وأن نتدرج منها بنظام إلى الأشياء الأكثر تعقيدًا «فإن الأشياء التي تقع في معرفة الناس تتعاقب على نحو واحد، فإذا امتنعنا من التصديق بشيء إلا أن يكون حقًّا، وإذا حافظنا على النظام اللازم لاستنباط الأشياء بعضها من بعض فما من شيء إلا بلغنا إليه مهما يكن بعيدًا، وما من شيء إلا كشفناه مهما يكن خفيًّا» فبالابتداء بأفكار العقل دون إدراك الحواس، وباتباع نظام التركيب الخاص بالعقل وبأفكاره نهتدي إلى النظام الحقيقي في العلوم؛ ذلك النظام الذي هو الآن خفي محجوب.
وأغلب الظن أن توقع ديكارت هذه النتائج المدهشة سبب تدوينه في مذكراته أنه في العاشر من نوفمبر سنة ١٦١٩ غمره «حماس عظيم، وبدأ أن يفهم أسس العلم العجيب» ذلك العلم الكلي، تلك الرياضة الكلية للعلم التي عرضتها الآن، على أنَّا نسأل: ماذا كانت تلك الأسس؟
أعتقد أنا أن ديكارت يجيب عن هذا السؤال في موضع آخر من مذكراته، فإنه يقول: «إن فينا بذور العلوم»، ومعنى ذلك أن العقل ليس فارغًا، ليس «لوحًا مصقولًا» معدًّا لأن يقبل كل شيء من خارج عن طريق الحواس والمخيلة كما يعتقد أرسطو والمدرسيون، بل بالعكس إن فينا ما يكفي لإقامة العلم، ونحن نحمل في أنفسنا مبادئ العلم، فإذا ما رجع العقل إلى نفسه استطاع وهو واثق بنفسه أن يستنبط دون أن يخرج من ذاته تلك السلاسل الطويلة للأسباب التي يحدثنا عنها «المقال».
بذور العلوم فهي فينا؛ ذلك هو السبب في أن مشروع ديكارت ليس وهميًّا، وذلك هو السبب في أنه يمكن — بل يجب — أن نحاول تخليص عقلنا من كل ما طرأ عليه من الخارج من كل ما اكتسبه أثناء الحياة.
«بذور العلم» هذه أو كما سيسميها ديكارت فيما بعد حين يهتدي إلى ما كان لأفلاطون من تصور عميق، دون أن يعلم أنه لأفلاطون، «المعاني الفطرية» و«الحقائق الدائمة» و«الطبائع الحقة الثابتة»؛ أي ماهيات معقولة بحتة ومستقلة تمام الاستقلال عن اكتساب الإدراك الحسي، معاني يكشفها الشك في النفس، ذلك الشك المنهجي الإرادي المطلق الذي راض ديكارت نفسه عليه، تلك هي الأسس الوطيدة التي لم يهتدِ إليها مونتاني، والتي يستطيع الإنسان أن يقيم عليها حكمه.
أرجو أن أنجز كتابي حوالي عيد الفصح، وحينئذ أبحث عن الناشر.
لم يظهر هذه الكتاب قط، هل حُرِّرَ؟ هل ذهب ديكارت إلى أبعد من العنوان «بحث في العقل الجيد»؟ إني أشك في ذلك شكًّا قويًّا، فإن ديكارت على ما يقول باييه — أول مترجم له: لم يلبث أن أدرك أن هدم «جميع» الأفكار التي قبلتها النفس ليس بالأمر الهين، وأن أهون منه بكثير إحراق بيت، بل تخريب مدينة، أما تجديد البناء … أجل إن «المقال» يصرح بأنه ميسور، ما علينا إلا أن نبدأ بأبسط الأفكار، ولكن ما هذه الأفكار التي هي أبسط الأفكار وأوضحها وأسهلها، هذه الطبائع الحقة الثابتة، هذه المعاني الفطرية كما سماها فيما بعد، هذه العناصر المطلقة لعالم الفكر؟ المسألة بعيدة من أن تكون بسيطة، بل إنها أعسر المسائل، وسيعترف ديكارت بذلك فيقول: من المحقق أن أفكارنا الواضحة حقة جميعًا، غير أنه من الصعب جدًّا أن نعين هذه الأفكار بالضبط.
على أن إخفاق هذه المحاولة الأولى لا يوقف ديكارت، فهو يقول لنفسه ولنا: إني ما أزال شابًّا والمستقبل كفيل بالنجاح، ثم يجعل من الضرورة فضيلة ويستأنف السفر، وتطول أسفار ديكارت ست سنين، ست سنين نكاد لا نعلم عنها شيئًا، في سنة ١٦٢٢ نلقاه بفرنسا، وفي سنة ١٦٢٤ في البندقية، فروما، وفي سنة ١٦٢٦ يعود إلى باريس.
ماذا صنع أثناء هذه السنين الست؟ نحن نجهل ذلك، إنه من غير شك ثابر على الدرس، وعلى ملاحظة العادات والأخلاق، وعلى التفكير النافع أينما حل، ومن غير شك تابع مهمته الكبرى، مهمة تنظيف عقله والبحث عن تلك الأمور البسيطة السهلة التي يجب البدء بها، لقي بباريس الجو المعهود، بل كان الجو قد ساء، أصبح الرجل المثقف شاكًّا صراحة، لا يحفل بشيء، ويسخر من كل شيء، أصبح زنديقًا، بل إن مرسين يزعمه ملحدًا، ويعد خمسين ألف ملحد بباريس. الخطر عظيم! لذلك حشد الدين قواته جميعًا للنضال، وانهالت على الملحد المسكين كتب ضخمة بأقلام جاراس ومرسين وسيلون وغيرهم.
لم يساهم ديكارت في هذا النضال بادئ الأمر، الحق أنه مشغول جدًّا فإنه اهتدى أخيرًا إلى الأمور البسيطة التي يجب البدء بها، وهي بالذات الأفكار التي كان يعتبرها الفلاسفة أصعب الأفكار، الحركة والامتداد والمدة، وبالأخص اللامتناهي، وهو شارع في وضع أسس العلم الجديد، العلم الذي يبدأ بالفكرة لا بالموضوع ويتبع نظام الأسباب لا نظام المواد، إنه يدون منطقه «قواعد تدبير العقل»، يعارض فيه عقم القياس الصحيح صوريًّا بثراء الحدس العقلي للحقيقة وخصبه، وهو إلى ذلك مختلف مع أنصار الدين.
إنه مؤمن من غير شك، بل إنه متدين تدينًا عميقًا، وإن كان ذلك على طريقته هو، ولكن من يدري لعلها خير الطرق؟ أجل لم تكن ديانته ديانة بسكال، ولكنها لم تكن دونها صدقًا ولا عمقًا، إنه ينكر الإلحاد، وهو لا يحب الشُّكاك «الذين يشكون لأجل الشك»، وهو إلى جانب الأسرار المقدسة التي جاء بها الوحي يؤمن بحقيقة دينية في متناول العقل البشري، يؤمن بوجود الله، ووجود النفس، ويؤمن بإمكان البرهان على هذه الحقيقة الدينية ووجوبه.
وسينهض ذات يوم بهذا البرهان بتشجيع بيريل، وجيبيف، وبتأثير القديس أوغسطينوس.
كيف يستطيع أن ينقم من الشكاك والزنادقة عدم اقتناعهم ﺑ «البراهين» والحجج المنصبة عليهم؟ ليس لهذه البراهين من قيمة، وإنه ليعلم ذلك، وإنه الوحيد الذي يعلم ذلك حق العلم، أما أنصار الدين فلا يعلمون، ومن ثمة فلا قيمة لما يصنعونه.
ماذا يصنعون؟ ماذا يصنع مرسين مثلًا؟ الأمر في غاية البساطة؛ إنهم يجمعون كل ما اخترعه الناس من أدلة، ويبرهنون على وجود الله بجميع الوسائل: بالمنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا، يسردون جميع التقاليد وجميع الحوادث «العجيبة» التي تدل على وجود فائق للطبيعة، ولا يعرضون لهذه الحوادث والتقاليد بأقل نقد، هم ليسوا مؤمنين فقط، هم أكثر من ذلك، هم سُذَّج، وديكارت يعلم أن أول واجبات العقل أن يُخْضِع كل هاته الحوادث والتقاليد للنقد والقياس والحكم، وأنه إذا فعل لم يجد فيها سوى حديث خرافة؛ إذ إن العقل لا يستطيع أن يقبل ما هو معارض له.
أما الأدلة المنطقية والطبيعية والميتافيزيقية فليست تساوي شيئًا هي الأخرى، إنها كلها أو أكثرها ساقطة؛ لأنها كلها أو أكثرها قائمة على المنطق القديم والعلم الطبيعي القديم والتصور القديم للكون، وقد هدم ديكارت هذا كله.
فهو بكتابه «قواعد تدبير العقل» يُعارض المنطق القياسي القديم الذي وضعه أرسطو — منطق المتناهي — بمنطق جديد حدسي قائم على تقدم اللامتناهي في حكم العقل، وهو يستبدل بالعلم الطبيعي القديم الذي يبدأ بالإدراك الحسي للعالم الملون الصائت الذي نعيش فيه علمًا طبيعيًّا قوامه الأفكار الواضحة، علمًا طبيعيًّا رياضيًّا يستبعد من العالم الواقعي كل كيفية ويقدم لنا صورة أو فكرة من العالم أغرب وأبعد عن التصديق من كل مخترعات الفلاسفة، إلا أنها مع ذلك صحيحة.
أما الكون، ذلك الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى فقد كان العلم الحديث هزَّه بأيدي كوبرنك وغليليو وكبلر، فجاء ديكارت يهدمه هدمًا.
لست أدري أيقدر كل الناس ما لهذا الاكتشاف، أو بتعبير أدق، ما لهذه الاكتشافات، فإنها تكوِّن كتلة واحدة وتؤلف جميعًا ما سُمِّيَ ﺑ «الثورة الديكارتية» من مغزى عند الإنسان في عصر ديكارت وعند الإنسان بالإجمال.
الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى عالم منظم محدود، منظم من حيث المكان ومن حيث القيمة ومن حيث الكمال، عالم مرتب ترتيبًا محكمًا تتقابل فيه درجات الوجود ودرجات القيم، هو سلم يصعد من المادة إلى الله.
هذا الكون جميل جدَّا يروع نفس اليوناني، وينطق صاحب الزبور بقوله: إن السماء والأرض تسبحان الله، وتمجدان صنع يديه، الحكمة الإلهية تتلألأ في هذا الكون حيث كل شيء موضوع في مكانه، وحيث كل شيء مرتب على أحسن وجه.
العلم يكشف عن هذا النظام الكامل والترتيب الكامل، فإن لكل شيء مكانه في هذا الكون، وإن في كل شيء ميلًا لبلوغ مكانه والاستقرار فيه، وإنما يُعْنَى العلم الطبيعي باستكشاف هذه الميول الطبيعية.
وفوق ذلك فإن هذا الكون، والأرض مركزه، مشيد كله لأجل الإنسان، لأجل الإنسان تشرق الشمس وتدور السيارات والسماوات، والله الغاية القصوى والمحرك الأول، وقمة هذا السلم المرتب، هو الذي ينفخ في الكون الحياة ويبعث الحركة.
والإنسان في مثل هذا الكون المصنع لأجله، أو على الأقل المصنوع على قدره موجود في بيئته.
هو يعجب بهذا الكون المملوء عقلًا وجمالًا، بل قد يعبده، ولكن العلم الطبيعي الذي أنشأه ديكارت يهدم هذا العلم الجميل هدمًا تامًّا.
ماذا يضع مكانه؟ الحق أنه لا يضع شيئًا يُذكر، لا يضع غير الامتداد والحركة، امتداد لا متناهٍ ذهب منه النظام والترتيب والجمال، ملؤه لا شيء، فيه حركات بغير علة ولا غاية ولا نهاية، انتفت منه «الأمكنة الخاصة» للأشياء، وتساوت فيه الأمكنة جميعًا والأشياء جميعًا، فما الأشياء إلا مادة وحركة، ولم تعد الأرض مركزًا للكون، بل لم يعد هناك مركز، ولم يعد هناك كون، وليس العالم مرتَّبًا للإنسان، بل ليس مرتَّبًا بالمرة، ولم يعد على قدر الإنسان، بل صار على قدر العقل.
هذا هو العالم الواقعي لا العالم الذي تظهرنا عليه حواسنا الخداعة، وإنما هو العالم الذي يجده العقل في ذاته، العقل الخالص الصافي المعصوم من الخطأ.
أنا هنا بإزاء انتصار حاسم فاز به العقل، ولكنه فجيعة إذ لم يعد في هذا العالم اللامتناهي الذي شيده العلم الديكارتي، مكان للإنسان ولا لله.
لذلك لا نبحث عن الله في العالم، في هذا السكوت الدائم للفضاء اللامتناهي، بل في النفس.