الفصل الثاني عشر
وإني لأراها في طريقها نحو الشرق فيمتلئ قلبي رحمة لها وإعجابًا بها وخوفًا عليها. وأي قلب لا يرحم فتاة غرَّة لم تكد تتجاوز سن الصبا وقد قذفت بها الأحداث في لجة الحياة الممتلئة بالخطوب والأهوال، وهي وحيدة ليس لها عون، قد صفرت يدها من كل شيء، وفرغ قلبها إلا من هذا الحزن اللاذع الذي يفعمه إفعامًا، وعجزت نفسها حتى عن الأمل، فهي قد فرت من بيت أسرتها فرارًا، لا تريد شيئًا إلا أن تخلص من هذه البيئة التي لم تكن تستطيع فيها مقامًا، وتفلت من هذا الشيطان المريد الذي كانت توشك أن تلقاه إن أقامت أيامًا.
وأي قلب لا يُعجب بهذه الفتاة الغرة التي لم تكد تتجاوز الصبا، والتي فرت من أهلها فهي تسعى لا تلوي على شيء، نحيلة هزيلة بائسة كئيبة لا تدري أين ينتهي بها المسير، ولا تعرف كيف يتاح لها القوت، بل لا تفكر في شيء من هذا، وإنما تمضي أمامها مسرعة في المضيِّ يدفعها عزم لا يعرف الكلال، وبغضٌ للشر لا هوادة فيه، وثقة بالعدل لا حدَّ لها.
وأي قلب لا يخاف على فتاة غرة لم تتجاوز الصبا تسعى وحدها في الطريق العامة إلى غير غاية، وقد صحبها الفقر والحاجة والضعف وحداثة السن وشيء من جمال يغري بها كل غوي، ويطمع فيها كل مفسد، وما أكثر الغواة والمفسدين في هذه الطريق العامة التي تستقيم وتلتوي بين قرى الريف!
لك الله أيتها الفتاة الناشئة! إلى أين تذهبين؟ ألم تفكري في هذه الكوارث والخطوب التي تضمرها الحياة للضعفاء والبائسين، وللضعيفات والبائسات خاصة، وتتكشف عنها شيئًا فشيئًا فإذا هي مصدر خصب للشر والضر، وينبوع غزير للسيئات والآثام؟ ألم تفكري في هذه الأقاصيص التي كان يمتلئ بها صباك والتي كانت تسلي نهارك وتروع ليلك، والتي كانت تمتلئ بأحاديث الأغوال وقد تفرقوا على الطريق يعترضون المار حين يمر بهم وقد انقطعت به السبيل فإذا هم يضمرون له الهول كل الهول، ويسرون له البغض كل البغض، وإذا هم لا يكادون يتنسمون ريحه وقد أقبل من بعيد حتى يتحلب ريقهم قرمًا إلى لحمه وعظمه، وحتى تضطرم في أجوافهم غلَّة لا يرويها إلا دمه، وهو يبلغهم خائفًا وجلًا قد ملأ الجزع قلبه وفرَّق الهلع نفسه، فإن كان قد حفظ الوصية ووعى النصيحة واستعد للقاء الغول ابتدره بالسلام فقلم أظفاره واضطره إلى السلم والموادعة، وإن لم يكن قد حفظ ولا وعى ولا هيأ نفسه للقاء الخطوب مر بالغول فالتقمه التقامًا والتهمه التهامًا، وقطع الوسائل بينه وبين من ترك وراءه ومن كان يمضي للقائهم أمامه …؟
ماذا أعددت يا آمنة لهؤلاء الأغوال فإنهم منبثون في الطريق؟ ليسوا سبعة كما كانت تتحدث إليك القصص ولكنهم سبعون، بل أكثر من سبعين، بل مائة، بل مئات قد انتثروا في الطريق، منهم من جلس ينتظر الفريسة، ومنهم من مضى يبتغيها، منهم من برز ضاحيًا ومنهم من استخفى في الحقول واختبأ في المزارع، منهم من يظهر مظهر الغول كريهًا مخيفًا لا يكاد تبلغه العين حتى يمتلئ القلب منه فرقًا وحتى تندفع الغريزة إلى اتقائه ومحاولة اجتنابه والخلاص منه، ومنهم من يظهر مظهر الوديع أو الشاب الرفيق تبلغه العين فيطمئن إليه القلب، وتأنس إليه النفس بعد وحشتها، ثم لا يجد منه اللاجئ إليه إلا غدرًا ولا يظفر عنده الواثق به إلا بالشر والنكر والبوار. منهم من اتخذ زي الرجل، ومنهم من اتخذ زي المرأة، وكلهم غول قد هيأته الأحداث لأمثالك من الفتيات الضعيفات البائسات اللاتي نبذتهن الأسرة أو اجتثتهن الخطوب من أصولهن فهن مشردات يستقبلن الحياة جاهلات بها غافلات عنها، والحياة تلعب بهن، تقذفهن من مكان إلى مكان، وتنقلهن من شر إلى شر، حتى ينتهي بهن القضاء إلى الغول الظاهر أو إلى الغول المتنكر، فإذا هن فريسة لهذا أو لذاك، يلقين العار والخزي، ويلقين البؤس والضيم، ويلقين المرض والشقاء، ويلقين الألم دائمًا، وقد يلقين الموت أحيانًا …؟!
لم تفكر آمنة في شيء من هذا حين انطلقت مع الصباح من بيت أسرتها كما ينطلق السهم، ومضت أمامها مندفعة لا تحس جهدًا ولا مشقة، بل لا تحس حركة ولا نشاطًا، بل لا تشعر بأنها تمضي كما يمضي السهم لأنها لم تكن تفكر إلا في سجن قد أفلتت منه وهي تريد أن تبعد عنه، وفي حرية قد دفعت إليها وهي تريد أن تنغمس فيها انغماسًا.
فهي تمضي وتمضي لا تقف ولا تلتفت عن يمين ولا شمال ولا تلتفت إلى وراء، كأنها بطل من أبطال هذه القصص التي تتحدث بها الجدات والأمهات، قد مضى لغايته ووعى نصيحة الناصح، فهو لا يلتفت مخافة أن يدركه البوار إن حول وجهه عن طريقه المستقيمة أمامه، والفتاة تسعى مسرعة تستقبل بوجهها المشرق الكئيب وجسمها الضئيل النشيط ضوء الشمس ونسيم الصبح واستيقاظ الحياة والأحياء، وما تزال كذلك حتى يغمرها الضحى وحتى تغمرها الحياة التي تشطت من حولها، وإنما هي مضطرة بحكم الغريزة وبحكم هذا الإعياء الذي أخذ يدرك جسمها الضعيف شيئًا فشيئًا إلى أن تمضي مبطئة وتسعى هونًا، ولا يكاد ينتصف النهار حتى تبلغ البحر وحتى تعبره، ولا يكاد يتقدم النهار نحو العصر حتى تكون قد بلغت مأمنها وأفلتت من طلب الطالبين وانتهت إلى قرية من القرى فمالت إليها تريد أن تبلغ عند أهلها حظًّا من راحة وشيئًا من طعام وأن تنفق عندهم الليل.
نعم إني لأراني في هذه الطريق وحيدة شريدة لا أملك إلا نفسي الضعيفة البائسة، وإلا جسمي النحيل الضئيل، وإلا ثيابًا بالية أو كالبالية، وأنا مع ذلك لا أحفل بما تركت ولا بمن تركت، ولا أسأل عما أنا مقدمة عليه من الأمر، ولا عمن أنا مقبلة عليهم من الناس، إنما هو الهيام في الأرض والسكر بهذا الشراب الخطر الذي نسميه حب الحرية والذي يكلفنا أحيانًا من أمرنا شططًا. أكنت خائفة …؟ أكنت آمنة …؟ لا أدري! وإنما كنت أشعر بالأمرين جميعًا يتعاقبان على قلبي كما يتعاقب الليل والنهار على الأرض وما عليها.
كنت أطمئن إلى أني لن أرى أمي ولن أسمع صوتها، ولن أرى أهل الدار وأشاركهم في شيء، ولن ألقى ذلك الرجل المجرم ذا النفس الفاجرة والقلب الغليظ، ولن أخضع لغلظته ولن أحتمل تقربه إلي وترضيه لي، فيمتلئ قلبي أمنًا وهدوءًا وتبسم لي الحياة عن أجمل الصور وأحفلها بالأماني والآمال، وأجد في ذلك قوة وشجاعة وصبرًا، فأمضي لا يدركني الإعياء ولا ينالني الكلال. ثم كنت أذكر أختي ولا سيما بعد أن عبرت البحر وأخذت الطريق تختلط علي، وأخذت أحاول أن أتعرف أين انحرف بنا خالنا المجرم عن الجادة إلى ذلك الفضاء العريض الذي اقترف إثمه فيه.
كنت أذكر أختي فما أكاد أثير ذكرها حتى يثور ظلها أمامي، وإذا أنا أراها ماثلة ذاهلة كما تعودت أن أراها منذ تركنا المدينة، وإذا أنا أهم أن أسعى إليها وأن أمسها بيدي وأن آخذ معها في الحديث، وإذا أنا أتنبه للخطب وأتبين الحقيقة الواقعة، وإذا ينابيع الحزن تنفجر في قلبي وإذا الحزن يجري مع دمي، وإذا جسمي كله نار مضطرمة ولوعة محرقة، وإذا دموعي تنهمر على خدي، وإذا أنا مضطرة إلى أن أنتبذ ناحية من الطريق لأبكي على مهل على غير مرأى من الناس.
ثم أنهض مستأنفة للسعي، وإذا أختي تسايرني، وإذا الظلال التي كنت أراها أثناء العلة تطيف بها وتطيف بي، وإذا ظلال أخرى تملأ الفضاء من حولي لا أدري أنجمت من الأرض أم هبطت من السماء، ولكني أراها تكثر وتختلط وأسمعها من حولي تصخب وتلغط حتى أخاف على نفسي الجنون.
أنا على ذلك كله ماضية تتقاذفني القرى وتتدافعني الضياع، أستضيف هؤلاء حينًا وأسأل هؤلاء حينًا آخر، أعمل في الحقول مرة وأعمل في البيوت مرة أخرى، وهذان اللونان من الشعور يختلفان على قلبي ويتعاقبان على نفسي لا يمهلانني في اليقظة ولا يعفيانني في النوم، أنا مضطربة دائمًا بين أهلي الذين فررت منهم فرارًا، وبين أختي وصاحباتها اللاتي يستجبن لي كلما ذكرتهن كأنما يسمعن دعاء فيسرعن إلى الداعي. وأنا ماضية أمامي أتقدم نحو الشرق من يوم إلى يوم، ولي من غير شكٍّ غايةٌ أعرفها وأسعى إليها، ولكني لا أكاد أتمثلها ولا أستحضرها، وإنما أنا أطلبها غير شاعرة بها كأنما تدفعني إليها الغريزة دفعًا.
أنا ماضية نحو الشرق، لا أنحرف عن غايتي إلى يمين أو إلى شمال إلا لأقضي ليلة في هذه القرية أو لأستريح ساعات أو لأستريح يومًا في هذه القرية أو تلك، ولكني على جناح سفر دائمًا، متجهة نحو الشرق دائمًا، ممعنة في الشعور بالأمن كلما ازددت من الغاية دنوًّا ومن المدينة قربًا، فالمدينة إذن هي غايتي من كل هذا السعي، فيها ألتمس الأمن، وبين أهلها ألتمس الحياة الوادعة! وبيت المأمور هو غايتي من المدينة، إليه ألجأ وإلى من فيه أفزع وبمن فيه أستعين، في ظله أريد أن أعيش، وعند أهله أريد أن أودع قلبي، وعند خديجة من أهله خاصة أريد أن ألتمس الراحة لهذه النفس المعذبة، والشفاء لهذا القلب المريض، لن آمن حتى أبلغ هذه الدار، ولن أبلَّ من علتي حتى أرى هذه الوجوه وأسمع هذه الأصوات، وأستأنف حياتي مع الخدم والسادة كعهدها منذ أشهر قبل أن تأمرنا أمنا بذلك الرحيل المشئوم. إذا بلغت هذه الدار فستقصر يد خالي دون أن تبلغني، وإذا اطمأن بي المقام في هذه الدار فلن يجد الروع إلى نفسي سبيلًا. ولكن ما خطب أهل الدار وما خطبي إن سألوني أين كنت؟ كيف أجيبهم؟ … وبم أجيبهم؟ أأقص عليهم حديثي كله أم أطويه عنهم طيًّا؟ بل ما خطب أهل الدار وما خطبي إن رأوني فأنكروني ثم أبوا أن يفتحوا لي بابهم وأن يلقوني بما أحب أن يلقوني به من الرضا والعطف والابتسام؟ ما خطب خديجة وما خطبي إن رأتني فأعرضت عني لأنها وجدت من فتيات الريف أو من فتيات المدينة من يقوم منها مقامي ويلهيها كما كنت ألهيها، ويشاركها في الجد واللعب كما كنت أشاركها في الجد واللعب؟ أين أذهب إذا نبت بي هذه الدار، وإلى من ألجأ وعلى من أعول إذا تنكر لي أهل هذه الدار؟