الفصل الثالث عشر
كلا! بل هذه الدار كما عرفتها رشيقة أنيقة، مغرية مطمعة، لا ترد طارقًا ولا تصد راغبًا، ولا تتجهم لزائر ولا تنبو بضيف، وإني لأراها من بعيد فأسرع إليها الخطوة كأنما أُدفع إليها دفعًا أو كأنما تدعوني ملحة فأستجيب للدعاء، وإني لأرى دخانًا يصدر عنها وينشر في الجو فلا أتمثل النار التي يصدر عنها في المطبخ وإنما أتمثل الطباخ ومن حوله من الخدم يذهبون ويجيئون وأسمع ما يقولون، وكأني أشاركهم فيما يأتون من حركة، وأجاذبهم ما يلفظون به من حديث، وإني لأدنو من الدار فأرى نافذة مفتوحة فلا أتمثل غرفة خديجة وما فيها من أداة وأثاث، وإنما أتمثل خديجة نفسها قد جلست إلى بعض ما كانت تلعب به، أو عكفت على درس تستظهره أو كتاب تنظر فيه، وكأني أشاركها في اللعب أو أشاركها في الاستظهار أو أسمع بعض ما تقرأ. وإني لأدنو من الدار فأتمثل حياة الدار كلها كأنها قد غمرتني وكأني قد رجعت إلى مثل ما كنت منذ أشهر جزءًا من هذا الكل، وشعاعًا منتشرًا مستفيضًا في هذه الحياة التي تملأ الدار حركة ونشاطًا واضطرابًا.
وهأنذا أبلغ باب الحديقة فلا أتردد في ولوجه، وأمضي أمامي مصممة كأنما أعود إلى الدار بعد ليلة من تلك الليالي التي كنت أقضيها مع أمي وأختي في ذلك المنزل الحقير، وإني لأمضي كما تعودت مسرعة لا ألوي على شيء، وإني لأصعد في السلم لا ألتفت إلى يمين ولا إلى شمال، وإني لأبلغ غرفة خديجة فأدخلها وأصادف سيدتي وصديقتي عاكفة على كتاب تنظر فيه، ولكنا كنا نلتقي على الضحك والعبث فمالنا الآن لا نضحك ولا نعبث …؟! أما هي فواجمة ذاهلة قد أُخذت على غرة، وأما أنا فمغرقة في البكاء.
ثم هي تسألني: أين كنت …؟ ومن أين أقبلت …؟ وماذا صنعت في هذا الوقت الطويل …؟ وأنا لا أجيب. وأنَّى لي أن أجيب بغير هذه الدموع التي تنهمر، وهذه الزفرات التي تنفجر، وهذا الشهيق الذي يتردد في حلقي متصلًا بعضه ببعض يزداد شدة وعنفًا حتى يكاد ينتهي بي إلى أزمة من هذه الأزمات التي تفسد أعصاب النساء حين يلح عليهن البكاء …!
وسيدتي وصديقتي قد أقبلت عليَّ فتتلطف لي وترفق بي وتهوِّن عليَّ بعض ما أجد، وإن كانت لا تعرف شيئًا مما أجد، ثم يسمع الشهيق وإذا سيدة البيت قد أقبلت، وإذا هي ليست أقل دهشًا ولا وجومًا من ابنتها، ولكنها تصرف الفتاة عني صرفًا شفقة عليها من هذا المشهد الذي قد يؤذي نفسها الشابة الناشئة، ثم تدعوني إلى أن أتبعها، ثم تهدئ روعى وتتلطف لي في الحديث وتسألني عن أمري فلا أجيبها بشيء، أو لا أكاد أجيبها بشيء، إنما هي جمل متقطعة غارقة في الدموع فيها ذكر للرحيل على غير موعد، وفيها ذكر للقرية ورؤية أهلنا فيها، وفيها ذكر لمصاب عظيم قد ألمَّ بنا هنا لم نكن ننتظره ولا نقدره ففقدنا أختي، وفيها ضيق بحياة القرية في ذلك الحزن المتصل، وحنين إلى السادة الذين لم ألقَ في خدمتهم إلا خيرًا وبرًّا، ثم فيها ذكر العودة المنفردة في الطريق الطويلة الملتوية المخوفة، ثم انهمار للدموع وانكباب على سيدتي أقبل يديها وقدميها كأني أشفق أن تردني ردًّا أو تدفعني عن الدار دفعًا؛ ولكنها حدبة عليَّ، رفيقة بي، تقيمني وتنهضني وتأمرني أن أذهب إلى حيث أصلح من أمري وأستأنف عملي في الدار، كأني لم أفارقها أشهرًا، وكأني لم أفارقها فجأة في غير استئذان، وكأني لم أزد على أن غبت يومًا أو أيامًا ثم عدت إلى مثل ما كنت فيه …! وأنا أذهب إلى حجرتي فأراها كما تركتها لم يشغلها أحد، ولم تسكنها خادم بعدي، ثيابي فيها كما تركتها وأدواتي فيها كما غادرتها لم ينقل شيء منها ولم يحول عن مكانه، ثم ما هي إلا أن ألقى الخدم ويلقوني بشيء من الدهش والوجوم، وآخذ في بعض الحديث، ثم أنظر فإذا كل شيء قد استقر وإذا أنا واحدة في الدار من أهل الدار كأن لم يكن بيني وبين الدار فراق.
ثم أعلم ما أعلم من حزن خديجة عليَّ ووجدها بي، وإبائها على أهلها أن يتخذوا لها خادمًا غيري ونزول أهلها عند ما كانت تريد.
ثم أستأنف الحياة مع السادة والخدم كما كنت أحياها من قبل، ومع ذلك فما أكثر ما لقيت من الخطوب، وما أشد ما احتملت من الآلام، وما أطول ما أنفقت بعيدة عن الدار من الشهور! وكيف لا تطول هذه الأشهر القصار وقد كان فيها من الأحداث ما كان، وقد لقيت فيها من الشر كل ما لقيت، وقد واجهت فيها الموت، وقد عانيت فيها المرض، وقد تعرضت فيها للجنون أو لمثل الجنون، وقد تعرضت فيها لكل ما تعرضت له من ألوان الفتنة والمحنة والخوف …؟
إن أهل الدار لا يعلمون من هذا كله شيئًا وهم من أجل ذلك لا يكادون يشعرون بأني فارقتهم أو غبت عنهم، ولكن أنا أعلم من هذا كله ما أعلم، وأنا من أجل هذا أشعر بأني قد فارقتهم وقتًا طويلًا، أو أطول مما يظنون وأطول مما أظن، وأطول مما يحسب الناس. إنهم قد نسوا رحلتي ونسوا عودتي وانصرفوا إلى أمرهم لا يفكرون فيَّ ولا يسألون عني، ولكني أنا لم أنس من هذا شيئًا. بل أنا أشعر شعورًا غريبًا، أشعر أني قد أخذت من أهل الدار فتاة فدفنتها هناك في قرية بعيدة من قرى الريف تظلها هضبة من هذه الهضاب التي تلي الصحراء، ثم رددت عليهم فتاة أخرى لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها شيئًا، أخذت منهم آمنة الضاحكة في أكثر الوقت، الباسمة دائمًا؛ أخذت منهم آمنة الغرَّة الساذجة التي تؤثر اللعب أو تكاد تؤثره على كل شيء، والتي لا ترى في الحياة إلا لعبًا، والتي تخدم وكأنها تلعب، وتدرس كأنها تلعب، وتتعلم من الخدمة والدرس ما تتعلم وكأنها تلعب، لا تعرف الهم ولا تتمثله، ولا تعرف أن للحياة أثقالًا وتكاليف وإنما تؤمن بأن الحياة ابتسام للنهار إذا أشرق، وابتسام لليل إذا أظلم، وابتسام لما يملأ النهار من نشاط، وابتسام لما يملأ الليل من أحلام؛ أخذت منهم آمنة التي كانت تنشأ وتنمو كما تنشأ هذه الشجيرات في الحديقة وتنمو، فيها نضرة ولين، وفيها بهجة وجمال.
أخذت منهم آمنة هذه ففرَّقت نفسها تفريقًا، في الطريق حين كنت ذاهبة إلى الغرب، تركت بعضها في بيت العمدة الذي ضيَّفنا، حين سمعت لحديث أختي وحين سمعت لحديث أولئك النساء، وتركت بعضها لهذه الأشباح الحمراء التي كانت تتراءى لنا حين كنا نتحدث على سطح الدار أو حين كان يمضي بنا الجملان في الطريق الصامتة وقد تقدم الليل وثقل، ثم تركت أكثرها في ذلك الفضاء العريض فسال مع الدم الذي سال، ودفن مع الجثة التي دفنت وسُوِّي عليه معها التراب ثم صب عليه معها الماء، ثم تركت سائرها نهبًا لتلك العلة التي ذهبت بما بقي من نفسي، وإن أبقت على بقية ضئيلة من جسمي أخذت الحياة تعود إليها بعد البرء قليلًا قليلًا. أخذتُ منهم آمنة هذه وفرقتها على هذا النحو بين المدينة والقرية ثم رددت عليهم آمنة أخرى قد تشبه تلك في بعض ملامح الوجه، وقد تشبهها فيما بقي من اعتدال القامة، وقد تشبهها في طبيعة الصوت وبعض الحركات، ولكنها تخالفها بعد ذلك في كل شيء.
رددت عليهم آمنة الحزينة دائمًا، الواجمة في أكثر الوقت حتى كأنها بلهاء غافلة، رددت عليهم آمنة التي رأت الشر بشعًا والإثم عريان والجرم منكرًا، فملأت نفسها من هذا كله وإذا هي سيئة الظن بكل إنسان، وإذا هي شديدة الإشفاق من كل شيء ومن كل إنسان، وإذا هي عابسة للنهار إذا أشرق عابسة للَّيل إذا أظلم، وقد اتخذت لنفسها من ظلمة الليل الحالكة ثوبًا كثيفًا ضافيًا فأسبغته عليها إسباغًا وحالت به بينها وبين كل نور وأمل وابتهاج وابتسام.
نعم، رددت عليهم آمنة هذه التي لا تمسك الدموع إلا ريثما ترسلها، ولا تبسط الوجه إلا ريثما تقبضه، ولا تقبل على شيء إلا ريثما تنصرف عنه، ولا ترى في اللعب إلا ثقلًا، ولا ترى في الخدمة والدرس إلا عناء وجهدًا. ويح أهل الدار! أيقبلون مني هذه الفتاة التي رددتها عليهم ويتسلون عن تلك الفتاة التي أخذتها منهم؟ ويحي أنا من أهل الدار إن لم يعرفوني ولم يألفوني كما عرفوا تلك الفتاة وألفوها! ولكنهم قوم كرام لا يضيقون بي ولا ينفرون مني ولا يلقونني إلا بالعناية والرعاية والعطف، أولم أتحدث إليهم بذلك المصاب العظيم الذي قد ألمَّ بنا فملأ قلوبنا حزنًا وبؤسًا؟ وإذن فهم يعزونني ويأسون جراح قلبي، وهم لا ينظرون إليَّ كما ينظرون إلى خادم يجب أن يعمل أو إلى رفيقة يجب أن تعين فتاتهم على ما في الحياة من جد ولعب، وإنما ينظرون إلى فتاة بائسة قد آوت إليهم فهم يؤوونها مكرمين لها مشفقين عليها، يؤثرونها بالرحمة والراحة والهدوء.
وخديجة … ويح خديجة! ما كنت أحسب أن فتاة نشأت في مثل ما نشأت فيه من نعيم، ودرجت على مثل ما درجت عليه من ترف وتعودت ألا تعيش إلا فرحة ومرحة، ما كنت أحسب أن هذه الفتاة تعرف كيف تصل إلى أعماق هذا القلب الحزين، وكيف تبلغ بغريزتها ما لم يكن بد من التجربة الطويلة العسيرة لبلوغه بالعقل والإرادة، إنها لتفهمني في غير سؤال، إنها لترحمني في غير تكلف، إنها لترثي لي في غير كبرياء، إنها لتنصرف بي عما ألفت من فرح ومرح ومن دعابة ولعب، إنها لتتحدث إليَّ حديث الفتاة العاقلة الرشيدة، إنها تشغلني عن همي بما تقص عليَّ من أمرها أثناء غيبتي وبما تقرأ عليَّ مما قرأت أثناء هذه الغيبة وبما تقرئني مما لم أشاركها في قراءته، إنها لتفتح لي أبوابًا ما كانت لتخطر لي على بال، إنها لتنبئني بنبأ عجيب لم أفهمه إلا بعد مشقة وجهد وتكرار! تنبئني بأنها قد أخذت تتعلم لغة أخرى تسميها الفرنسية فلا أفهم منها شيئًا، لغة أخرى! وكيف يكون ذلك؟ إني أعرف أن هناك لغة الريف التي كنت أتحدثها، ولغة القاهرة التي تتحدثها خديجة، ولغة ثالثة نقرؤها في الكتب فلا نعجز عن فهمها وإن وجدنا فيه بعض العسر، فكيف توجد لغة أخرى، وما عسى أن تكون، وكيف يتعلمها الناس؟ إنها تظهر لي كتبًا ما كنت أقدِّر أن أراها، وإني لأنظر هذه الكتب فلا أفهم منها إلا بعض الصور، وإني لأحاول النظر في الحروف فلا أعرف لها أولًا ولا آخرًا، ولا أعرف لها رأسًا ولا ذيلًا، وإنها لتضحك في رفق وإنها لتحس شيئًا من الكبرياء لأنها تعلم ما لا أعلم، وإنها لتحاول القراءة في هذه الكتب فتبلغ من ذلك ما لا أبلغ، وإنها لتترجم بعض ما تقرأ فأفهم عنها ما تقول بالعربية وأدهش وينتهي بي الدهش إلى أقصاه …
وهذا أستاذها السوري قد أقبل وإنها لتلقاه فيتحدث إليها وترد عليه بهذا الذي لا أفهمه فأزداد بها وبه إعجابًا وفتنة، وهذه خديجة تكبر في نفسها وتكبر في نفسي وتقوم مني مقام المعلم، وإذا هي تقرؤني هذه الحروف التي لم أكن أقرؤها، وتعلمني هذه اللغة التي لم أكن أعلمها، وإذا أنا تلميذة لها في الصباح وتلميذة معها في المساء، وإذا المعلم بارع وإذا التلميذة على حظٍّ من ذكاء، وإذا أنا أجد في هذه الحياة الجديدة وفيما نقرأ معًا وما نتعلم معًا عزاء أي عزاء، ونسيانًا أي نسيان؟ وإذا الأستار تُلقى شيئًا فشيئًا بيني وبين هذا الماضي البشع القريب، وإذا كل شيء في هذا الماضي ينمحي قليلًا قليلًا إلا شخصين اثنين لا ينمحيان ولا يتضاءلان، وإنما يرتسمان في نفسي ارتسامًا قويًّا ويتمثلان أمامي تمثلًا متصلًا ملحًّا، وهما شخص أختي صريعًا يتفجر من صدرها الدم في الفضاء العريض، ويغمغم فمها بكلمات لا أفهمها، وشخص ذلك المهندس الشاب الذي أغواها ودفعها دفعًا إلى ذلك الفضاء العريض الذي صرعت فيه.