الفصل السادس عشر
وأصبحتُ ذات يوم فإذا شيء غريب يضطرب في جو الدار أحسه ولا أتبينه، وأشعر به ولا أحققه، ألمحه في وجه المأمور وفي وجه ربة البيت حين ينظران إلى خديجة ثم يسترقان نظرات فيها أمل مبتهج وحزن مكتئب، وحين يخلوان للحديث بعد الغداء أو بعد العشاء فتطول بينهما الخلوة أكثر مما تعودت أن تطول. وألمحه في هذا الابتسام الذي يهديه المأمور سخيًّا كريمًا إلى أهل الدار جميعًا، متحدثًا إلى من لم يكن يتحدث إليه، ومتلطفًا لمن لم يكن يحفل بوجوده، وفي نظرات طويلة يلقيها عليَّ أنا حين يلقاني، وفيما تُظهر ربة البيت من تَبسُّط مع الخدم وعطف عليهم والميل إلى أن تأخذ معهم بأطراف الحديث.
ألمحه في هذا كله، ولكني أجد فيه غموضًا يثير مَيْلِي إلى الاستطلاع، ويكاد يُسليني بعض الشيء عن المهندس الشاب، وعما يقع في داره من خيانة وإثم، وعما يثير في نفسي من غضب وغيرة، وأهُمُّ أن أسأل خديجة عن هذا الذي ألمحه ولا أستبينه، ولكنِّي أجدها غافلة لا تلمح شيئًا ولا تحس شيئًا فأعرض عما هممت به وأكتفي بالملاحظة والانتظار، على أن الانتظار لم يطل، فما تنقضي أيام قليلة حتى تظهر حركة في دار المهندس الشاب تستتبع حركة في دارنا، ثم تتلاحق الحوادث مسرعة، وإذا هي تملكني وتغمرني وتستأثر بي وتنسيني كل شيء وتذكرني بكل شيء في وقت واحد، وتخرجني من هذا السكون اليائس الذي لزمته إلى نشاطٍ يائس دُفعت إليه دفعًا.
هذا بيت المهندس الشاب قد ظهرت فيه الحركة وكثر فيه الاضطراب فأثاثه يُنقل من مكان إلى مكان ويناله الإصلاح والتنظيف والترتيب، ويؤتى إليه بأثاث لم يكن فيه، بعضه مشترى تظهر عليه الجدة، وبعضه مستعار يظهر عليه القدم، كأنما تتهيأ الدار لاستقبال بعض الزائرين، فهي تعدُّ لهم ما يحتاجون إليه من الغرفات والحجرات ومن الأدوات والأثاث.
والبستاني مسرف في الحركة مندفع في النشاط، أراه هنا وأراه هناك، وقد استعان باثنين أو ثلاثة من شباب المدينة يعملون معه في النقل والتنظيف والترتيب، وسكينة تعمل معهم لا راضية ولا ساخطة، لا مبتهجة ولا مبتسمة، وإنما هي تذهب وتجيء كأنها أداة لا تعرف الرضا ولا السخط، ولا تحس الحزن أو الفرح.
وهذه الحركة المتصلة في بيت المهندس قد أثارت حركة فاترة متقطعة في بيتنا! فهذا سرير يُنقل، وهذه وسائد تعار، وهذه آنية تجمع ثم تحمل، وهذه ربة البيت تكلفني راضية باسمة أن أذهب إلى بيت المهندس فأُعين الخدم على بعض ما يعملون، وأن أشرف على التنظيم والترتيب، وأن أُعنى بأن تهيأ الدار لاستقبال الزائرين تهيئة حسنة لا عيب فيها ولا نقص، ثم هذه ربة البيت تستعد في بيتها لتهيئة الطعام الذي سينقل إلى بيت المهندس إذا كان الغد، ولإعداد الوليمة التي ستقام في دارها إذا كان اليوم الذي يليه.
وما أكاد أذهب إلى بيت المهندس وآخذ مع الخدم في العمل والحديث حتى أعلم — وليتني لم أعلم — وأفهم — وليتني لم أفهم — أن أسرة المهندس مقبلة من القاهرة إذا كان الغد لتقيم مع ابنها أيامًا أو أسابيع، وأن هذه الزيارة ليست كغيرها من الزيارات، وإنما هي زيارة تتم لأمر يراد، فستُخطب بنت المأمور للمهندس الشاب، وستشهد المدينة أفراحًا لم تشهدها منذ عهد بعيد، وسيسمع أهل المدينة من ألوان الغناء ما لم يتعودوا أن يسمعوا من قبل؛ فلن يقرأ عليهم المولد هذا المغني المشهور الذي يقيم في عاصمة الإقليم، والذي يتعصب له أهل العاصمة وما حولها من القرى وما يجاورها من المدن، ولن يقرأ لهم المولد هذا المغني الآخر الذي يقيم في أقصى الإقليم نحو الشمال والذي ينافس صاحبه أشد المنافسة ويتعصب له نصف الإقليم أو ما يقرب من نصفه، ولن يقرأ لهم المولد الشيخ مدكور هذا الذي يقيم في المدينة نفسها ويحبه أهل الريف، ولكن شهرته لا تتجاوز المدينة إلا قليلًا، لن يقرأ لهم المولد واحدٌ من هؤلاء المغنيين، ولكنهم سيسمعون لمغنٍّ يأتي من القاهرة، قد يكون عبد الحي، وقد يكون الشيخ يوسف، وقد يكون غيرهما من كبار المغنيين، وستأتي العوالم من القاهرة، وستأتي مغنية مشهورة تطرب السيدات، وستقام الزينة وتولم الولائم على أحسن طراز وأجمل شكل، وسيأتي المنظمون لذلك والمشرفون عليه من القاهرة لا من المدينة ولا من عاصمة الإقليم، وكان الخدم يفيضون في ذلك، ويجرون في تفصيله مع هذا الخيال الريفي الساذج الذي يحسب أنه يمضي أمامه إلى أبعد أمد على حين لا يزال في مكانه لم يتجاوزه أو لم يكن يتجاوزه إلا قليلًا.
كانوا يفيضون في الحديث عن المغني والمغنية، وفي الحديث عن الطهاة الذين سيهيئون الطعام، وعن الفراشين الذين سينظمون الوليمة ويطوفون على الناس بالأطباق والأقداح، وعن الموسيقى التي ستأتي من القاهرة فتقضي في المدينة يومين أو أيامًا تُطرب الناس في الصباح وتطرب الناس في المساء، وعن المدعوين الذين سيشهدون الحفل والذين يُدعون إليه من قريب ومن بعيد، وفيهم البشاوات والبكاوات، وفيهم العلماء من شيوخ الأزهر.
كانوا يفيضون في هذا كله، ويجدون في الإفاضة فيه لذة يتعجلون بها الحوادث ويستبقون بها إلى ما ينتظرون من فرح وغبطة وابتهاج. وكنت أنا أسمع لأحاديثهم فأفهمها، وأعي أقلها وأهمل أكثرها، وأفكر فيما لم يكن بدٌّ من أن أفكر فيه، وهو أن هذا المهندس الشاب قد أغوى أختي ثم دفعها إلى الموت، ثم أخذ يخونها وينتهك ما كان يجب لها عنده من حرمة، ثم هو الآن ينظم الخيانة تنظيمًا، ويريد أن يأتيها ويقدم عليها ويمضي فيها جهرة باسم الدين والعرف والقانون.
نعم! ولن تكون سكينة هذه الغافلة البلهاء التي لا أعرفها ولا تعرفني إلا منذ حين، لن تكون خليفة هنادي على بيت هذا الفتى وقلبه ومجونه وإثمه، ولكن التي تخلف هنادي على هذا كله ستكون خديجة! خديجة أحب الناس إليَّ وآثرهم عندي وأحسنهم مكانًا من قلبي، خديجة التي أجد عندها — وعندها وحدها — العزاء عما لقيت من شرٍّ وما احتملت من نكر وما ألمَّ بي من مكروه، خديجة التي أستعين بها على احتمال هذا الخطب الذي أصابني في أختي وفي أهلي، هذه هي التي ستراد على أن تأخذ من قلب المهندس الشاب، ومن بيته، ومن حياته كلها مكانًا ما ينبغي لفتاة أن تأخذه بعد أن سبقت إليه هنادي وأدَّت ثمنه بذلك الدم الزكي الذي أريق في ذلك الفضاء العريض!
ولم أكن أسأل نفسي كيف يكون موقع هذا النبأ من نفس خديجة حين يُلقى إليها: أتنكره وتضيق به، أم تحبه وتبتهج له؟ ولم أكن أسأل نفسي كيف تجد خديجة موقفي منها حين أحاول أن أصدَّ عنها حب هذا الرجل الآثم وأن أردَّها عنه، وأن أبذل في ذلك من القوة والجهد ومن الحيلة والذكاء ما أملك وما لا أملك؟
لم أكن أسأل نفسي عن شيء من هذا، ولكني كنت ثائرة أشد الثورة وأعنفها، مؤمنة أشد الإيمان وأقواه بأن هذا الأمر لن يكون، مصممة أشد التصميم على ألا يكون مهما تتهيأ له الظروف ومهما تتظاهر عليه القوى.
ثم لم أكن أسأل نفسي عن كل هذه الخواطر التي كانت تجيش في صدري وتبعث فيَّ هذه الثورة وهذا الإيمان وهذا التصميم. أكانت خواطر صادقة أم كانت كاذبة؟ أكنت وفية لأختي بالعهد مشفقة على حقها أن يضيع، حريصة على أن أحتفظ لها بهذا العاشق الخائن رغم أنفه، مقاومة في سبيل ذلك قوة الفطرة وقوانين الحياة، أم كنت أتخذ هذه الخواطر حجة وعلة أخفي بها على نفسي ما لا أحب أن تظهر عليه، وأستر بها دون قلبي ما لا أجد الشجاعة على أن أواجهه به في صراحة وجلاء؟
لم أكن أسأل نفسي عن شيء من هذا، بل لم أكن أسأل نفسي عن شيء ما، وإنما كنت أفني قوتي وجهدي وتفكيري في أن أحول بين خديجة وبين هذا التدبير الذي يُدبر وهذا الكيد الذي يراد، وكثيرًا ما كان يخطر لي أني أحمي خديجة من شرٍّ عظيم، وأحُولُ بينها وبين خطر منكر، وأقوم دونها أن يفترسها السبع أو يغتالها الذئب، وأضن بها على أن تُبتذل لهذا المجرم الآثم الذي لا يعرف حقًّا ولا يرعى حرمة ولا يرجو وقارًا لخُلق ولا دين، وكثيرًا ما كنت أقدر أن قيامي دون خديجة وحمايتها من هذا الخطر الذي يوشك أن يلم بها فرض يأخذني به الوفاء لما بيننا من مودة، والرعاية لما لها عندي من جميل، وكثيرًا ما كان هذا كله يجتمع ويأتلف بعضه إلى بعض ويتمثل أمام نفسي مجتمعًا مؤتلفًا قد اتخذ من الوفاء والنصح والإخلاص زينة خلابة، فإذا هو أمامي مرآة نقية صافية، أنظر فيها فترد إليَّ صورة نفس كريمة عظيمة قد ارتفعت عن كل نقيصة، وأصبحت مثالًا للبطولة والشهامة والتضحية في سبيل الأخت التي اغتالها الخطر، والصديق التي يوشك الخطر أن يغتالها.
ولو أني حولت وجهي عن هذه المرآة بعض الشيء في ذلك الوقت، ولو أني نظرت في نفسي ولم أنظر أمامها ولا من حولها، ولو أني تعمقت قلبي وتبينت قرارة ضميري، لرأيت شرًّا يا له من شرٍّ، ولشهدت هولًا يا له من هول، ولعرفت أني لم أكن أفي لأختي ولا لصديقي، وإنما كنت أؤثر نفسي بما أراه خيرًا وشرًّا، وأقف هذه النار المضطرمة المتأججة على نفسي وأحميها من أن يحترق بها غيري!
نعم! ولكني لم أكن أنظر في نفسي ولا أحاول النظر فيها، وإنما كنت مدفوعة إلى إفساد هذا الأمر الذي يُدبر، ومنع الأسباب أن توصل بين خديجة وبين هذا المهندس الشاب الذي كان لأختي منذ حين، والذي يجب أن يكون لي بعد حين، كأنما ورثته عنها بعد الموت!
والغريب أن هذه الخواطر المضطربة كلها لم تفسد من أمري شيئًا، ولم تغير من شكلي ولا من نظام حياتي الذي ألفه أهل الدار قليلًا ولا كثيرًا، إنما كنت أصبح وأمسي، وأذهب وأجيء، وأعمل وأكسل، وأنشط وأفتر، كما رآني أهل الدار من قبل، بل خيرًا مما تعودوا أن يروني في الأيام الأخيرة، فقد ذهب عني الذهول، وفارقني الوجوم، واستقرت عيناي وهدأتا واستقامتا، فليستا تضطربان ولا تقدحان الشرر أو ما يشبه الشرر، ولا تنظران هذه النظرات التي كانت تخيف مني وتثير في النفوس من حولي شكًّا وريبًا وإشفاقًا، عدت إلى هدوء غير مألوف، وانطلق لساني بالحديث، بل تردد الابتسام على شفتيَّ، وأخذ الإشراق يترقرق في وجهي من حين إلى حين، حتى لم يشك أحد في أن هذا الفرح الطارئ قد شفاني مما كنت أجد، وردَّ إليَّ ما كان قد فارقني من اعتدال المزاج.
ثم نُصبح وإذا الزائرون قد أقبلوا، وإذا النشاط المبتسم السعيد يملأ الدار جميعًا، وإذا أنا أشارك مَن حولي في مظاهر ما يجدون من فرح وبهجة، وأنفرد وحدي بلوعة لا تنقضي وحزن لا تخمد ناره.
يا لقوة النساء! لقد آمنت منذ ذلك الوقت بأنها لا حدَّ لها. يا لمكر النساء! لقد أمنت منذ ذلك الوقت بأنه لا آخر له ولا قرار، يا لقدرة النساء على الكيد وبراعتهن في التلوين ونهوضهن بأثقل الأعباء وثباتهن لأفدح الخطوب!
لقد أكبرت نفسي، بل أكبرت المرأة في نفسي حين رأيتني أضطرب في هذا التمثيل وكأني أضطرب في الحياة الواقعة لا يأخذني أحدٌ ولا آخذ نفسي بتصنع أو تكلف أو محاولة، وإنما أنا أكذب وأنافق وأصطنع الرياء وأخفي ما أخفي وأظهر ما أظهر في سهولة ويسر، كما أتنفس وكما أفتح عيني وأغمضها، وكما آتي ما تدفعني الغريزة إلى أن آتي به من الحركات! ومع ذلك فبعض ما عرض لي من الخطب، وبعض ما ألم بي من الهم كان خليقًا أن يحول بيني وبين الحياة فضلًا عن الحياة الهادئة المطمئنة، فضلًا عن هذه الحياة المضاعفة التي يملؤها الكذب ويجري فيها من الرياء كما يجري الماء في الغصن الرطب.