الفصل السابع عشر
وانتهى النبأ إلى خديجة، كما تنتهي هذه الأنباء إلى الفتيات من بنات الطبقات الوسطى، ظاهرًا خفيًّا، وواضحًا غامضًا، يُلقى إليها ويُستر عنها، تنبأ به وترد عنه، فتبتهج له نفسها وتستحي مع ذلك من أن تتحدث فيه، ويمتلئ له قلبها غبطة وسرورًا، ويفرض عليها الأدب مع ذلك أن تتكلف الكآبة والحزن كلما ذكر لها، وأن تعرض بوجهها إعراضًا كلما همَّ أحد أن يشير إليه من قريب أو بعيد، وأن تفرَّ منه فرارًا إذا كان الحديث فيه إليها صريحًا جليًّا، على أن صديقتي وإن تكلفت من ذلك ما يتكلفه أمثالها مع من كان حولها من أهل الدار، قد آثرتني بما كانت تؤثرني به في كل شيء من هذه الصراحة الساذجة الحلوة! فلم تخف عليَّ ما كان يملأ قلبها من فرح وغبطة، وما كان يغشى نفسها من قلق وإشفاق، وما أكثر ما تحدثت إليَّ وما أكثر ما تحدثت إليها في أمر الخطبة والزواج، وفيما يحيط بالخطبة والزواج من هذه الأمور التي لا تحصى ولا تستقصى! وما أكثر ما تحدثنا عن خطيبها المهندس وعما نعرف وما لا نعرف من صفاته وأخلاقه وأسرته وثروته! وما أكثر ما أغرقنا في الأمل ومضينا مع الخيال! وما أكثر ما فصَّلنا الأمور تفصيلًا، وأطلنا الوقوف عند الدقائق والصغائر من الأمر، فتحدثنا عن الثياب التي ستشترى، وعن الحلي وعن الأثاث، وأقمنا القصور وأتقنا إقامتها إتقانًا!
وأنا في هذا كله أجاري صديقتي مجاراة يسيرة لا أتكلف فيها ولا أحاول، حتى لم تشك لحظة في أني أشاركها في أمر الخطبة والزواج كما كنت أشاركها قديمًا في أمر اللعب، وكما كنت أشاركها إلى أمس في الدرس والقراءة والاستظهار، بل نحن نتحدث فيما سيكون غدًا أو بعد غد حين يتم هذا الأمر، وحين تستقر خديجة في دارها وتصبح ربة بيت، ونتحدث في الدرس الذي لا بد من أن نمضي فيه، وفي القراءة التي لا نستطيع أن ننصرف عنها؛ ونرتب أمرنا على أني سأنتقل مع خديجة إلى حيث تكون، وسأشاركها في حياتها مهما تكن الظروف، وما الذي يمنع من ذلك وما دخلتُ هذه الدار إلا لها، وما عملت في هذه الدار إلا معها، وما استطاعت في يوم من الأيام أن تقبل شركة أو ترضى من أهلها أن يكلفوني بما لا يتصل بها من الأمر، كنت لها طفلة وكنت لها فتاة، ويجب أن أكون لها حين تصبح زوجًا وربة بيت.
نعم! ما أكثر ما تحدثنا في هذا كله وأنفقنا فيه الساعات أثناء النهار حين كان مَن حولنا يضطربون فيما يضطرب فيه أهل الدار حين تتهيأ لإقامة الأفراح، وأنفقنا فيه الساعات أثناء الليل حين كان كل شيء من حولنا يسكن هذا السكون العميق الذي تمتاز به ليالي الريف! ولكن نفسي في هذه الساعات كلها لم تكن هادئة ولا مطمئنة، وإنما كانت ثائرة جامحة، وكنت كثيرًا ما أكفُّ عن الحديث لأفكر في هذا الشخص الغريب الذي يحتوي نفسين متناقضتين أشد التناقض: نفسًا تبتهج وأخرى تبتئس، نفسًا تَعِد وأخرى توعد، نفسًا تمضي في الحديث بما يسرُّ ويضرُّ وأخرى تمضي في تدبير ما يحزن وينفع.
وتنقضي الأيام الأولى، ويكون اللقاء ويكون التزاور، ويكون الامتحان لخديجة بالنظر والحديث، ويدنو كل شيء من غايته، ويستحيل الجو إلى الوضوح والجلاء، وتنفس أهل الدارين في جو كله سرور وغبطة وأمل ورجاء في غد.
ويدنو أهل الدارين من هذا اليوم الذي تتكشف الأمور فيه عن نفسها، وتصبح الخطبة فيه أمرًا واقعًا يعرفه كل الناس، وأنا مؤثرة للصمت آخذة فيما يأخذ فيه أهل الدارين من ألوان النشاط، ولكني أجدني في ساعة من ساعات النهار وقد آذنت الشمس أن تنحدر إلى مغربها، وانتشر في الجو هذا الحزن الضئيل اليسير الذي ينتشر فيه مع الأصيل فيهدئ من نشاط النفوس، ويخفف من وجيب القلوب، ويلقي على الآمال المشرقة بعض الشحوب، ويجري في الأصوات الفرحة نغمة لا تخلو من كآبة، أجدني في ساعة من هذه الساعات مقبلة على ربة البيت، حتى إذا بلغت غرفتها دخلت لا أستأذن، ثم أغلقت الباب من دوني لا أستأذن، ثم وقفت واجمة بين يدي سيدتي لا أقول شيئًا، وإنما تنحدر الدموع الغزيرة على خدي، وسيدتي تنظر إليَّ في غير إنكار وفي غير لوم، كأنها فهمت عني ما أردت أن أقول، وكأنها قد استجابت لدعائي، فهي ترفق بي وتؤكد لي أني لن أفارق خديجة ولن يحول بيني وبينها حائل، وأني سأنتقل معها حين تنتقل، وسأسافر معها حين تسافر، وسأقيم معها حين تقيم، وأني أحسن حظًّا منها هي! فهي مضطرة إلى أن تفارق ابنتها، أما أنا فلن أفارق سيدتي وصديقي …
وأنا أسمع هذا الحديث وأفهمه، ولكنه لا يبلغ مني ولا يؤثر في نفسي، فما لهذا الحديث أقبلت، وما حاجتي إلى أن أسمعه من ربة البيت وقد سمعته ألف مرة ومرة من خديجة! ومتى استطاعت ربة البيت أن تفرق بيني وبين ابنتها في جدٍّ أو لعب! كلا! لم أقبل لأسمع هذا الحديث، بل لم أقبل لأسمع شيئًا، وإنما أقبلت لأقول شيئًا، وقد قلته في صوت هادئ تبله هذه الدموع المنحدرة المنهمرة، وكنت أقدر أنه سيقع من هذه المرأة موقع الصاعقة، وأني قد دخلت هذه الغرفة في هدوء ولن أخرج منها إلا في عنف واضطراب، ولكني قد أتممت ما أردت أن أقول، وانتظرت ثم نظرت، فلم أسمع ولم أرَ على هذه المرأة اضطرابًا ولا دهشًا ولا شيئًا يشبه الاضطراب والدهش، ثم هممت أن أنصرف خجلة مستخذية، ولكنها وقفتني بالإشارة وتركتني لحظة لا تقول لي شيئًا ولا تلقي إليَّ لحظًا، ثم قالت في صوت عادي متزن: وهل أنبأت خديجة من هذا بشيء؟
قلت وقد أغرقت في البكاء: كلا يا سيدتي! وما ينبغي لنفس خديجة الطاهرة البريئة أن يُلقى إليها حديث هذا الإثم. ولولا أني أؤثر خديجة وأؤثر الأسرة كلها لما أنبأتك بشيء، ولما أفضيت إليك بسرِّ هذه الأسرة البائسة التي تعيش في بؤسها المظلم في أقصى الريف.
قالت وقد نهضت إليَّ متثاقلة: لا بأس عليك! فلن يُذاع سرُّ أسرتك، ثم ضمتني إليها وقبلتني وهي تقول: لقد أنقذت ابنتي من شرٍّ عظيم.