الفصل الثاني
لقد بَعُد صوت الكروان قليلًا قليلًا حتى انقطع ولم يبلغني منه شيء، وعاد الليل إلى سكونه الهادئ الثقيل، واطمأن من حولي كل شيء، فما أسمع إلا هذه الدقات المنتظمة تصدر عن الساعة غير بعيد، وهذه الدقات المضطربة المختلفة تصدر عن هذا القلب الحزين … وأنا آخذ نفسي بالهدوء لأُلائِم بينها وبين ما حولها فلا أوفق لبعض ذلك إلا في مشقة وعناء، وأنا أنظر إلى هذه الأشياء حولي في الغرفة فأرى ثراءً ويسرًا، وأرى ترفًا وكلفًا بالجمال والفن، وأنا أمدُّ عيني إلى المرآة أمامي وأثبتها في أديمها الصافي الصقيل حينًا فتعود إليَّ بصورة إلا تكن رائعة بارعة، فإنها لا تخلو من رُواء ونضرة وحسن تنسيق، وما لي أسأل عن صورة هذه المرآة الجامدة الهامدة التي لا تحسُّ شيئًا ولا تشعر بشيء ولا تعرب عن شيء، وإني لأرى صورتي مرَّات ومرَّات في غير مرآة من هذه المرايا الحساسة الشاعرة البليغة التي تحسن الإفصاح عما في النفوس، وهي العيون!
لقد رأيت صورتي اليوم في غير عين من هذه العيون التي كانت ترمقني مسرعة، ثم تعود إليَّ مرَّة أخرى فتثبت في وجهي لا تكاد تنصرف عنه، وكنت كلما رأيت صورتي في هذه العيون يحيط بها الإعجاب والرغبة والشهوات الآثمة لا أنكر ما أرى، ولا أكره ما أجد من الشعور، ولا أردُّ نفسي عن هذا الغرور الذي يثيره في المرأة إعجاب الناس بها وتهالكهم عليها.
ثم أنا أنهض من مجلسي، وأمشي في غرفتي لحظة غير قصيرة، أذهب فيها وأجيء، وأقف عند ما يملأ هذه الغرفة من أدوات الترف والنعمة، فأطيل النظر إليه لا معجبةً ولا مكبِرةً له، وإنما أسأل نفسي: أأنا صاحبة هذا كله؟ أأنا المالكة لهذا كله؟ أأنا صاحبة هذه الصورة التي تردُّها إليَّ المرآة، والتي كانت ترمقها العيون معجبةً حين كنت أتناول الشاي في بعض مشاربه عصر اليوم؟!
ثم أنا أفكر غير طويل فإذا أنا أستطيع، وقد تقدم الليل حتى كاد يبلغ ثلثيه، أن أمدَّ يدي إلى زر كهربائي قريب، فلا أكاد أمسه حتى يُطرق الباب، ولا أكاد أرفع صوتي بالإذن حتى تدخل عليَّ خادم وضيئة، حسنة الشكل، جميلة الزي، ساهرة مهما يتقدم الليل لأني ما زلت ساهرة، ولأنها لا تستطيع أن تأوي إلى مضجعها حتى آذن لها بالنوم.
ثم أنا أمضي إلى هذه النافذة، فلا أكاد أفتحها حتى تمتلئ نفسي روعةً وجلالًا لهذه الأشجار النائمة، وهذه الأزهار المتأرجة، وهذه الأطيار التي تحلم في ثنايا الغصون، وكل هذا لي ملك خالص لا يشاركني فيه أحد، ولا يزاحمني عليه أحد، أستطيع أن أعبث به إن شئت، ومتى شئت، وكيف شئت، لا يسألني أحد عما أفعل!
فإذا اجتمعت في نفسي صور هذا النعيم كله أحسست راحة وأمنًا وثقة، ثم لا ألبث أن أحس شيئًا من الكبرياء الغريبة؛ لأني لا ألبث أن أرى صورتي منذ أكثر من عشرين عامًا حين كنت صبيَّةً بائسة يائسة، قد شوَّه البؤس واليأس شكلها وألقيا على وجهها غشاءً كئيبًا من الدمامة والقبح، لا ألبث أن أجد هذا الحزن اللاذع العميق حين أذكر هذه المأساة التي كنت أتحدث بها منذ حين إلى هذا الطائر العزيز، والتي كان يتحدث بها منذ حين إليَّ هذا الطائر العزيز.
إن في أحداث الحياة وخطوبها لَعظاتٍ وعبرًا! إني لأتحدث الآن إلى نفسي حديثًا ما كان يمكن ولا يُنتظر أن تتحدث به إلى نفسها تلك الفتاة التي كان الناس يسمونها آمنة، والتي تسمى الآن سعاد لأنه اسم جميل يلائم المألوف من حسن الاختيار والتظرف في الأسماء.
لقد كانت آمنة تلك فتاةً بدوية، انحدرت بها وبأختها امرأة من أهل البادية، أو من أهل هذا الريف المصري الذي يشبه البادية؛ لأنه منبث في أطراف الأرض الخصبة مما يلي الصحراء الغربية، أو مما يلي هذه الهضبات التي يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربي.
كانت زهرة أم آمنة وأختها هنادي امرأةً بدويةً ريفية، تقيم في قرية من هذه القرى المعلقة بهذه الهضاب، والتي لا يستقر أهلها فيها إلا ريثما يزيلهم عنها فوجٌ من أفواج الأعراب الذين يُقبلون من الصحراء ليتعلموا الاستقرار في الأرض، والحياة في أطراف الريف، ثم يدفعهم فوجٌ آخر فإذا هم يمضون أمامهم مضيًّا بطيئًا، ينتقلون في أناة ومهل من مكان إلى مكان، وهم يتقدمون نحو الأرض المتحضرة دائمًا حتى يبلغوا حدود البادية أو حدود هذا الريف المتبدِّي، وإذا هم على شاطئ القناة التي يسمونها البحر، ويزعمون أن يوسف هو الذي احتفرها في الزمن القديم، فإذا أُتيح لهم أن يعبروا البحر، فقليل منهم يحتفظ ببداوته، وأكثرهم يفنى في طبقات الزرَّاع ويضيع في عداد الفلاحين.
كانت زهرة أم هاتين الفتاتين تعيش مع زوجها الأعرابي وابنتيها في قرية من هذه القرى، قد اتخذت اسمها في أكبر الظن من بطن من بطون الأعراب أو قبيلة من قبائلهم؛ فقد كانت تسمى «بني وركان» وكان أهل القرية ومن حولها يُميلون الألِف قليلًا ويذهبون بها نحو الياء، فما أسرع ما أصبح سُبَّةً وعارًا يعاب به أهل القرية، وكيف لا وقد أصبح اسمها «بين الوركين» وما أسرع ما أصبح أهل القرية يستحيون من اسم قريتهم ويكرهون الانتساب إليها، ولا سيما حين كانت تدفعهم حاجة البيع والشراء إلى أن يهبطوا المدن، فقد كان اسم قريتهم لا يُذكر إلا أضحك الناس وأجرى على ألسنتهم مزاحًا كثيرًا ثقيلًا، مُحفظًا لنفس البدوي الذي لم يتعود دعابة القرويين وأهل الحضر.
كانت زهرة تعيش مع زوجها وابنتيها عيشة متواضعة هادئة، فيها رخاء معتدل، وفيها عزة بهذه الأسرة الضخمة ذات العدد الكثير التي كانت أمنا تنتسب إليها، ولكن أبانا لم يكن صاحب حشمة ووقار وسيرة حسنة، إنما كان زيرَ نساء يحب الدعابة والمجون، ولا يتحرج مما يتحرج منه الرجل المستقيم، وكانت له في القرية وفي القرى المجاورة خطوب كانت تخيف منه وتخيف عليه.
وكانت أمُّنا أشقى الناس بهذه الخطوب، تتأذى بها في ذات نفسها — فكم حرَّقتها الغيرة حين كان زوجها يغيب عنها اليوم الكامل أو الليلة الكاملة — وتشفق منها على زوجها هذا الماجن؛ فقد كانت تحبه على مجونه وفجوره، وكانت تعلم أنه يهيئ لنفسه عداوات خطرة في كل مكان بإلحاحه في المجون والفجور، وتخاف منها على حياة ابنتيها ومستقبلهما وآمالهما في العيش الهنيء.
وإنها لفي ما هي فيه من غيرة وإشفاق وفزع ذات ليلة، إذ جاءها النبأ بأن زوجها قد صُرع، ثم يستبين الأمر قليلًا قليلًا، فإذا الرجل قد ذهب ضحية لشهوة من شهواته الآثمة، فليس له ثأر يطالب به، وليس من سبيل إلى استعداء السلطان على قاتليه، وإنما هو العار كل العار قد ألم بهذه المرأة البائسة وابنتيها التعيستين، وإذا الأسرة كلها تضيق بهؤلاء النساء، تكره مكانهن منها، وتنفيهن عن الأرض، وتزودهن بقليل من المال وكثير من الرحمة، وتُكرههن على عبور البحر والاندفاع في أرض الريف يلتمسن حياتهن فيها يائسات شقيَّات، ليس لهنَّ سند يعتمدن عليه، ولا ركن يأوين إليه؛ وإنما هي امرأة وحيدة لها حظٌّ من جمال يُطمِّع فيها الناس ويُغري بها أصحاب المجون، وصبيتان بائستان لا تكادان تُحسنان شيئًا.
والخطوب تنتقل بهن من قرية إلى قرية، ومن ضيعة إلى ضيعة، يلقين بعض اللين هنا، ويلقين بعض الشدة هناك، ولا تستقر بهن الأرض في أي حال، حتى ينتهين إلى هذه المدينة الواسعة ذات الأطراف البعيدة والسكان الكثيرين، والتي تشقها الطريق الحديدية نصفين، ويمضي فيها هذا الشيء المروع المخيف الغريب الذي يبعث في الجو شررًا ونارًا، وصوتًا ضخمًا، وصفيرًا عاليًا نحيفًا، والذي يسمونه القطار، الذي يركبه الناس يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينًا، وبالحمير حينًا آخر، وبالأقدام في أكثر الأحيان.
هنالك في طرف من أطراف هذه المدينة، استقرت هذه المرأة مع الصبيتين، لجأت إلى شيخ البلدة أو إلى شيخ العزبة فآواها يومًا، ثم ابتغى لها ولابنتيها حجرة ضيقة حقيرة قذرة قد أقيمت من الطين، فأسكنها فيها على أن تدفع أجرها عشرة قروش كلما بدا الهلال، ثم قال لها شيخ العزبة: ما أكثر العمل هنا! فالتمسي حياتك وحياة ابنتيك في بيوت هؤلاء المترفين الذين لا يعملون في الزرع والحرث، وإنما يعملون في خدمة الحكومة، منهم من يخدم في معامل السكر، ومنهم من يخدم في المركز، ومنهم من يخدم في المحكمة الأهلية أو الشرعية، ومنهم مهندس الري، ومنهم مهندس الطرق، ثم عند هؤلاء التجار الذين لا يتاجرون فيما تُخرج الأرض من الحب، فهؤلاء فلاحون أو كالفلاحين، وإنما يتاجرون في هذه الأمتعة والعروض التي لا تأتي من الريف ولا تصنع في المدينة، وإنما تأتي من مصر، هناك حيث الناس لا ينطقون كما ننطق ولا يعيشون كما نعيش.
عند هؤلاء التجار الذين يبيعون الأقمشة والأحذية والأثاث، يجلبونها من مصر ويبيعونها في المدينة وفي القرى، ويربحون منها الأموال الضخمة، ويعيشون في بيوتهم عيشة السادة والأمراء، لا يأكلون على الأرض وإنما يأكلون على الموائد، لا يأكلون الذرة، وإنما يأكلون خبز الحنطة، لا يأكلون في أطباق النحاس، وإنما يأكلون في أطباق من الخزف، لا يسمحون لنسائهم أن يخرجن متبذلات، وإنما يخرجن ملففات في هذه الثياب يتخذنها من الحرير، وعلى وجوههن هذه البراقع الصفاق، وعلى أنوفهن هذه القصبات من الذهب الخالص أو من الفضة المذهبة.
عند هؤلاء الموظفين، وعند هؤلاء التجار تشتد الحاجة إلى الخدم، والحياة في بيوتهم لينة ناعمة؛ فالتمسي لنفسك ولابنتيك بعض العمل في بعض هذه البيوت.
قال ذلك شيخ العزبة، ثم سمى لها أشخاصًا ووصف لها بيوتًا ووعدها بالمعونة، وانقضت أيام قليلة ولكنها ثقيلة، كانت أمُّنا تدور فيها بنفسها وبنا على البيوت تعرض نفسها وتعرضنا للخدمة، كما تُعرض الإماء على السادة.
ولكن هذه الأيام لم تتصل، وما أسرع ما استقرت كل واحدة منا في بيت تعمل فيه بالنهار، وتنام فيه الليل، ونلتقي آخر الأسبوع، فنقضي ليلة سعيدة رضيَّة في حجرتنا تلك القذرة الحقيرة، قد حملت كل منا ما أتيح لها حمله من الطعام، فنجتمع إلى طعامنا، ونتحدث عن أهلنا وقريتنا، ثم عن سادتنا وسيداتنا، حتى إذا تقدم الليل أغرقنا في نوم هادئ لذيذ، فإذا كان الصباح تفرقنا إلى حيث نعمل في بيوت التجار والموظفين.