الفصل الثاني والعشرون
وأقبل سيدي الجديد عليَّ مبتسمًا راضيًا يحدق النظر في وجهي تحديقًا طويلًا، ثم يفصل النظر إلى جسمي كله تفصيلًا، كأنه يمتحن متاعًا يريد أن يشتريه، ولو قد استطاع لنهض إليَّ فاختبرني اختبارًا وتعرفني باللمس، ولكنه كان فيما يظهر قد احتفظ لنفسه ببقية من حياء، فاكتفى بهذه النظرات المتصلة الطوال التي تجرد المرأة من ثيابها تجريدًا، والتي كنت ألقاها مضطربة لها أشد الاضطراب ثائرة لها أشد الثورة.
ولكني كنت أتمالك ما وسعني الجهد وضبط النفس، حتى لا يرى عليَّ اضطرابًا ولا ثورة ولا شيئًا ينكره، وهو يسألني عن اسمي، وعن أهلي، وعن أمري كله، فألفق له من ذلك ما ألفق، وأزين له من ذلك ما أزين، وهو يسمع مني مصدقًا لي أو غير حافل بما يسمع، إنما يريد أن يعرف صوتي ووقع حديثي، ثم هو يأمرني أن أقبل وأن أدبر، وأن أدنو وأن أبعد، وأن أنحرف إلى يمين وأن أنحرف إلى شمال، وأنا أستجيب لكل ما يدعوني إليه، وقد هدأ اضطرابي وسكنت نفسي، وعاودني صوابي، وأنا أتحدث إلى نفسي بأن هذا الفتى يعرف حقًّا كيف يكون شراء الرقيق …!
ثم يقبل آخر الليل ولم يكن يقدِّر أني سألقاه قائمة باسمة. أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلًا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح، حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ لونه الطبيعي قليلًا قليلًا: ماذا؟ ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين أين أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثيه، وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي، فما يدريني! لعله يحتاج إلى شيء.
قال وقد عاد إليه ثباته وهدوء نفسه، واسترد صوته شيئًا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادمًا مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة لمقدمه إلى آخر الليل، لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أن أرى من سبقك في خدمتي، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد، فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات! قلت: فقد أرحت سيدي من هذا الجهد، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم؛ فليأمر سيدي بما يريد. قال وهو يضحك ضحكًا سمجًا وقد مدَّ إلي يدًا وودت لو استطعت قطعها، ولكن تراجعت حتى لا تبلغني: فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه. ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في أثره …
وصدَّق المسكين أني كنت أنتظره، ولو قد نفذ إلى قلبي واستمع إلى أحاديث نفسي لعرف أني لم أكن أرِقَة في انتظاره، وإنما كنت أسامر أشباحًا حمراء لو رآها لمُلئ قلبه رعبًا ولولَّى منها فرارًا، ولكن لم يرَ إلا إياي، ولم يفكر إلا فيَّ، وماله وللأشباح الحمراء!