الفصل الثالث والعشرون
وعدت إلى غرفتي بعد ساعة، راضية عن نفسي كل الرضا، مطمئنة إلى قوتي كل الاطمئنان، فقد بلوت الخصم ولقيت العدو في ميدانه الذي اختاره هو، وكانت بيني وبينه مقدمات النضال، فلم أضعف له، ولم أشفق منه، وإنما ثبتُّ له ثباتًا، ثم انصرفت عنه وقد علقته بين السخط والرضا، ووقفته بين اليأس والأمل. لم أجد في شيء من هذا كبير مشقة، ولم أحتمل في شيء من هذا عظيم عناء، وإنما هو الابتسام المطمع المغري، والاحتشام الذي يفل العزم ويثبط الهمم، ويبسط سلطان الحياء على النفس فإذا هي ترتد بعد امتدادها، وعلى الوجه فإذا هو يظلم بعد إشراقه.
وقد كنت أقدر أن المعركة الأولى ستكون عنيفة يملؤها الهول، ويحدق بها الخطر، وتنتهي إلى الفصل فيما يكون بيني وبين هذا الشاب فإما ضعف واستئثار، وإما قوة وانتصار، يتبعها الطرد العنيف من هذه الدار، ولكني ملكت أمري وملك هو من أمر نفسه ما جعل المعركة الأولى مقدمة لا خاتمة، وما أجل الفصل في هذه الخصومة إلى أجل ظنه قريبًا ورأيته بعيدًا، وقد انصرفت عنه بعد أن أعنته على بعض أمره وهيأت له ما يحتاج إليه، وتركته كاسف البال يظهر الرضا والابتهاج، وهو يقول: لا بأس! إنك في حاجة إلى التربية والتمرين.
ولم أكد أثوب إلى غرفتي وأغلق بابها من دوني إغلاقًا محكمًا حتى تراءت لي أختي وهذه الظلال التي ترافقها، كأنما كن ينتظرنني ليعلمن علمي وليسمعن نبأ ما أبليت مع الخصم من بلاء، ولقد هممت أن أتحدث إليهن، وأقص عليهن ما سمعت وما رأيت، وما عملت وما أبيت، ولكن ماذا؟ إنهن ينظرن إليَّ نظرًا قصيرًا، ثم يلمع في وجوههن الشاحبة ابتسامة الرضا، ثم يستخفين استخفاء كأنما ابتلعهن الظلام ابتلاعًا، وكنت أظن أني سأنتظر معهن مطلع الفجر، سامرة كما كنت أسمر منذ حين قبل أن يرقى إليَّ سيدي كأنه اللص، ولكني ألتمسهن من حولي فلا أرى لهن محضرًا ولا مظهرًا، وألتمسهن في نفسي فلا أظفر منهن بشيء. لقد غبن عن عيني وغبن عن نفسي، وكأنهن أمرن الذكرى أن تتبعهن وتمضي إلى حيث مضين، فأنا أريد أن أذكر فلا أستطيع، وأريد أن أفكر فلا أجد سبيلًا إلى التفكير، وأنا آوي إلى مضجعي وقد كنت أزمعت ألا آوي إليه، ولكن للقوة البدنية حدًّا، ولكن للتعب سلطانًا هو باسطه، وغاية هو بالغها، ولقد قضيت ليلة لم أذق فيها النوم، وهذه الليلة الثانية قد انقضى أكثرها، وكادت توالي نجمها تتغوَّر، فلا بد إذن من بعض الراحة سواء أرضيت أم كرهت …
ومن أجل هذا فارقتني أيتها الأخت العزيزة، وفارقتني معك هذه الظلال الحمراء. إنكن لرفيقات بي شفيقات علي، وما يمنعكن من ذلك وأنا عندما تُردن، لم أهِن ولم أضعف، ولم أنهزم لهذا العدو الماكر القوي! ليت شعري! أكنتن ترفقن بي، وتشفقن عليَّ، وتنصرفن عني وتخلين بيني وبين النوم، لو أني خالفت عن أمركن واستجبت أو أظهرت الاستجابة لذلك الدعاء البغيض الذي كان يرسله إليَّ سيدي بالعين واليد واللسان؟!