الفصل الرابع
وينتهي إليَّ صوتك أيها الطائر العزيز، وأنا أسبح في نوم غير عميق، وأرى من الأحلام صورًا قريبة مألوفة تمثِّل لي خديجة وهي تلعب وتدعوني إلى أن أشاركها في اللعب، وتمثِّل لي سيدة البيت وهي تأمر وتنهى، وتصعد وتهبط، وتذهب في تدبير بيتها وتجيء، وتمثل المأمور وقد أقبل مع الظهر فاضطرب لمقدمه البيت، ثم عاد إلى هدوء يوشك أن يكون السكون، ثم فرغ أهل البيت كلهم لهذا الرجل يعنون به ويتوفرون على خدمته، كأنهم لم يخلقوا إلا له، ولم يوقفوا إلا عليه.
وتمثِّل لي أمورًا كثيرًا مما كنت أراه في ذلك العهد السعيد القريب، ولكن صوت الطائر العزيز يبلغني فيخرجني من هذا النوم الحلو إلى يقظة مؤلمة لا أكاد أشعر بها حتى أحس غلظ المضجع وخشونة الفراش، وأين يقع هذا الوطاء الخشن من الصوف قد بسط على الأرض الغليظة بسطًا، من ذلك الفراش الوثير الموطأ الذي كان يُلقى لي غير بعيد من سرير خديجة في تلك الغرفة الجميلة المترفة من بيت المأمور!
لم أكد أحس بخشونة هذا الوطاء، وغلظ هذه الأرض، حتى ذكرت أننا ننام عند مضيفنا العمدة على سطح من سطوح الدار، لا يسترنا سقف وإنما تظللنا السماء، وتكاد تغمرنا ظلمة الليل لولا هذا الشعاع الرقيق الذي كان يترقرق فيها من ضوء القمر، وقد تقدم به الشهر غير قليل.
نعم! وذكرت كيف انتهينا إلى هذه القرية مجهودات مكدودات آخر النهار، نجلس إلى شجرات من التوت ساعة وبعض ساعة نستريح، لا تكاد واحدة منا تتحدث إلى صاحبتيها بشيء، حتى إذا طال علينا الصمت، وشقَّت علينا الراحة، وثقل علينا التفكير، قالت أمُّنا: ما أظن أننا نستطيع أن ننفق الليل جالسات إلى هذا الشجر، وما أرى أننا نستطيع أن نجد من يؤوينا أو يضيفنا في هذه القرية التي لا نعرف من أهلها أحدًا ولا يعرفنا من أهلها أحد إلا العمدة، فيجب أن يكون بيته مفتوحًا لكل غريب طارق بليل أو نهار، ثم نهضت متثاقلة ونهضنا معها، ومضت متباطئة ومضينا معها، حتى انتهت إلى دار العمدة، لم تسأل عنها ولم تستدل عليها، وإنما مضت إليها كأنما كانت تعرفها من قبل، هنالك رأينا جماعة من الناس قد جلسوا أمام الدار على مصطبة عظيمة، وتوسطهم رجل شيخ لا تكاد العين تقع عليه حتى تثق النفس بأنه عمدة القرية، فلما بلغنا مجلس القوم ولحظتنا أبصارهم، تقدمت أمنا إلى الشيخ الوقور وقالت في صوت هادئ متزن: غريبات قد طرقن القرية في هذه الساعة المتأخرة من النهار فآونا يا عمدة حتى يُسفر الصبح. قال الرجل: على الرحب والسعة، ثم دعا فأقبل إليه غلام من داخل الدار، قال: خذ هؤلاء النسوة إلى دار الضيافة ومُرْ بإكرام مثواهن.
ومضى الغلام ونحن نتبعه حتى انتهى بنا إلى دار الضيافة، فإذا بناء متواضع قد انبسط أمامه فناء عظيم، فأُدخلنا إلى بعض حجراته وقيل لنا أقمن هنا حتى يأتيكن الطعام.
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى اتصلنا بمن في الدار من أضياف وخدم، قد اختلط بعضهن ببعض فكأنهن جميعًا أصحاب البيت، ثم اتصلت الأحاديث واختلطنا بمن وجدنا، فأمسينا وكأننا منهن.
وكان العشاء الغليظ، وكان السمر المضطرب المختلط، ثم كان التفرق إلى المضاجع، فمنا من آثر الهواء الطلق فاتخذ مضجعه على سطح الدار أو في فنائها، ومنا من أشفق من ذلك فأوى إلى الغرفات والحجرات.
وقد رغبت «هنادي» في السطح وشاركتها في هذه الرغبة ومضينا معًا ننتظر النوم، وكنت أحدث نفسي بأن هذه الخلوة إلى أختي قد تكشف لي عن بعض ما يخفى عليَّ من أمر.
ولكني لم أكد أجلس إليها أحاول أن أصل الحديث بينها وبيني حتى لقيتني بذلك الإعراض المثلوج الذي لقيتني به أمس، ثم أشاحت بوجهها ومضت في صمتها، وأقمت أنا إلى جانبها حائرة لا أدري كيف أقول.
ثم استلقيت وأرسلت نفسي في فضاء هذا الليل العريض تلتمس ما يلهيها عن هذه الهموم الغامضة المستغلقة التي لم أكن أعرف منها إلا ثقلها، ولكن هذه النفس لم تكد تمضي في ظلمة الليل حتى أدركها موج من هذا النوم اليسير فأخذت تسبح فيه، ولبثت كذلك حتى أخرجها منه هذا الطائر العزيز.
ذكرتُ هذا كله حين استيقظت، ومرت بي خواطره مسرعة في حين كنت أحاول أن أتبين أين أنا وكيف انتهيت إلى حيث أنا، وفي حين كنت أفتح عيني وأديرهما من حولي كأنما أريد أن أستكمل شخصي حين أتبين حقيقة المكان الذي أنا فيه، وفي حين كنت أمد ذراعي عن يمين وشمال، وأمد ساقي كأنما أريد أن أستمد لجسمي ما أفقده هذا النوم اليسير من نشاط، وكأنما كنت أمحو عنه ما تركت فيه هذه الأرض الغليظة من ألم.
ثم أستكمل شعوري وأجد نفسي كما كنت قبل أن يغمرني النوم، وأحسُّ كأن شخصًا قائمًا غير بعيد مني، فأتبين هذا الشخص فإذا هي أختي قائمة جامدة لا تكاد تأتي حركة، ولا تكاد تحس شيئًا، وكأنها لا تكاد تفكر في شيء.
إنما هو شخص مائل ذاهل قد قام في شيء من الجمود المؤلم، ورفع رأسه إلى السماء كأنه كان ينتظر منها شيئًا، وكأنما أبطأ عليه ما كان ينتظر منها فجمد في مكانه لا يستطيع منه انتقالًا.
وأنت أيها الطائر العزيز تُلقي في الليل العريض المظلم نداءك البعيد العذب، فيصل إلى نفسي فيحييها، ويوقظ فيها الذكرى ويبعث فيها الأمل ويشيع النشاط، وأختي ماثلة ذاهلة كأن صوتك لا يبلغها ولا ينتهي إليها، ومع ذلك فما عهدتها صماء، ولا عهدتها تحسن الحزن أو تجيد الاكتئاب، إنما أعرفها فرحة مرحة، تحب الضحك ولا تحتاج إلى أن تُدفع إليه، وإنما تحتاج إلى أن تُدفع عنه، أين هي؟ ما بالها جامدة هامدة لا تسمع ولا تحس؟ لعلها قد أرسلت نفسها كما أرسلتُ نفسي تسبح في هذا الليل العريض فأبعدت نفسها في المسعى وتركت جسمها ماثلًا بلا روح.
نهضت من مكاني في هدوء، وسعيت إليها في أناة، حتى إذا بلغتها مسست كتفها مسًّا رفيقًا، فإذا رعشة عنيفة تجري مسرعة في جسمها كأنها رعشة الكهرباء، وإذا هي تجفل كالخائفة، ثم تأمن وتسكن حين تسمع صوتي وأنا أقول لها: لا تراعي، فأنا أختك آمنة، ما وقوفك الآن على هذا النحو ماثلة ذاهبة النفس، كأنك الصنم؟ ماذا تنتظرين من الليل؟ وماذا تبتغين من السماء؟ قالت وقد هوت إلى الأرض كأنها البناء المتهدم وصوتها مضطرب ممزق، يتمزق له قلبي كلما ذكرته: لا أنتظر شيئًا ولا أبتغي شيئًا …
ثم عادت الرعشة السريعة فهزت جسمها هزًّا، ثم انهمرت دموعها انهمارًا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطرابًا عنيفًا، وتسفح دمعًا غزيرًا، وترسل أنفاسًا عنيفة متقطعة، وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إليَّ وأقبلها، وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب، وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر، وأوت إلى ذراعي كأنها الطفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها، وما أرى إلا أنها أحست هذه العذوبة! فقد ثابت إليها نفسها وراجعها رشدها، ولبثت حيث كانت حتى بعد أن سكنت دموعها، كأنما أعجبها مكانها مني، وكأنما وجدت شيئًا طالما كانت تتوق إليه فلا تجده ولا تظفر به، ثم سمعتها تقول بصوت خافت بعيد: لقد كنت أحب أن أكون بهذا المكان من أمي لا منك أنت أيتها الأخت الصغيرة؛ فإنك لم تُخلقي لتدللي أختك وتمنحيها مثل هذا العطف والحنان.
يا لك من ليل مظلم عريض تضطرب فيه هذه الأضواء الضئيلة البعيدة التي تفنى، ويبسط عليه هذا السكون المخيف ظلالًا لا حدَّ لها، ثم يندفع فيه من حين إلى حين صوت هذا الطائر العزيز كأنه سهم مضيء ينطلق في بحر من الظلمات!
كل شيء هادئ مطمئن من حولنا حتى نفس هذه الفتاة التي كانت ثائرة منذ لحظة فقد اطمأنت وسكنت، وانتهت إلى حال تشبه النوم، وإني لآخذ نفسي بالهدوء وأُكرهها على الاطمئنان، وأُلزم جسمي السكون في هذا الوضع الذي هو عليه ليبقى هذا الرأس البائس المحزون مستريحًا إلى هذه الكتف الصغيرة الحنون.
ولكن الفتاة ترفع رأسها وتستوي جالسة، ثم تبسط ذارعها فتطوق بها عنقي ثم تضمني إليها، ثم تقبلني، ثم تقول: إياك أن تفعلي ما فعلت أو تُخدعي كما خُدعتُ أو تُدفعي إلى مثل ما دُفعت إليه، إنك إن تفعلي تري نفسك في مثل ما تريني فيه الآن من الجزع والهلع، ومن اليأس حتى من رحمة الله، ومن القنوط حتى من رَوْح الله الذي لا يقنط منه إلا الكافرون.
قلت: وماذا فعلت إذن؟ وما هذا الشر الذي دُفعت إليه؟ وما هذا اليأس الذي تغرقين فيه؟ وما هذا الهم الثقيل الذي صُبَّ علينا صبًّا ولم نكن ننتظره ولا نتوقع له مقدمًا؟ قالت وهي تقبلني: لست أدري أأحدثك بذلك أم أكتمك إياه؛ إني لأعتدي على سنك إن تحدثت إليك: وإني لأعرضك لمثل ما أنا فيه إن كتمتك الحديث.
قلت: فإن صمتك لن يُغني الآن شيئًا؛ فقد عرفت أن همًّا ثقيلًا ألمَّ بنا، وأن حزنًا ممضًّا يمزق قلبك وقلب أمِّنا، وأن يأسًا مهلكًا قد استأثر بنفسك استئثارًا، وما أنا بمقلعة عن السؤال والبحث والتفكير حتى أعلم علم هذا كله، وإني لحمقاء إن قبلت أن أُنزَعَ من ذلك العيش الناعم السعيد الذي كنت أستمتع به دون أن أعلم لماذا أُنزع منه نزعًا، فحدثيني حديثك، فمن يدري لعل فيه لي عظة ولك عزاء.