الفصل الخامس
وارتفع الضحى من الغد فإذا ضوءه المتدفق يغمر فتاتين معتنقتين قد أغرقتا في نوم عميق، لا يوقظهما منه حرُّ الشمس المحرقة، ولا مسُّ الأرض الغليظة، ولا اضطراب الدواجن من حولهما وهن يزدحمن على ما يُنثر لهن من حَبٍّ، ويختصمن فيما يُصبُّ لهن في الصحاف من ماء، ويخفقن بأجنحتهن في الهواء مقبلات مدبرات، واقعات طائرات، ينادين ويتناجين ويتناغين، قد ملأهن إشراق الصبح مرحًا، فملأن الجو حياة ونشاطًا وحبًّا.
وكأن هذا كله كان يدعوني دعاءً ملحًّا من أعماق النوم الذي كنت مغرقة فيه، ويدنيني قليلًا قليلًا من اليقظة، وإذا أنا أتلقى الحياة دون أن أتمثل الحياة، وأستقبل النشاط دون أن أشعر بالنشاط؛ ثم أحس كأن شيئًا خفيفًا رشيقًا قد مسَّ كتفي مسًّا يسيرًا، فأنتبه، ولا أكاد أفتح عيني وآتي بعض الحركة حتى أرى حمامة مذعورة قد ارتفعت غير مسرفة في الارتفاع، ولم تكد تطير حتى وقعت في رشاقة وظرف غير بعيد، فأستوي جالسةً وألقي نظرة إلى أختي وقد ثاب إليَّ حديثنا كله مرة واحدة فملأ قلبي إشفاقًا وحبًّا وحزنًا، وتقع عيني عليها وقد استراح جسمها المتعب، واستقر قلبها المضطرب، وهدأت نفسها الثائرة، وزالت الراحة عن وجهها ذلك الغشاء المظلم الكئيب، فبدت نضرته حلوةً مشرقة شائقة، كأنها نضرة الزهر وقد تفتح لضوء الصبح وقطر الندى، وإذا في هذا الوجه الهادئ النضر جمالٌ للعين، وفتنة للعقل، ومتعة للقلب، وإذا أنا أنظر إليه فلا أكاد أحول عيني عنه، مستريحةً مُعجبةً مكبرة، ولكني أسمع من ورائي صوتًا خافتًا يملؤه الحنان والحزن ويقول كأنه يتحدث إليَّ: انظري … انظري … وأطيلي النظر! ألست ترينها حسناء رائعة الحسن؟
فألتفت وإذا أمُّنا جالسة تنظر إلى الوجه الذي أنظر إليه، وما أشك في أن نفسها كانت تستعرض خواطر كالتي تختلف على نفسي، وفي أن قلبها كان يتأثر بعواطف كتلك التي كانت تملأ قلبي، فأسألها: ما جلوسك هنا في هذه الشمس المحرقة؟ فتجيب: لقد كنت أملأ عيني بمنظركما الجميل … ثم تنهض موليةً في شيء من الإسراع وهي تغالب شجىً يريد أن ينفجر، وتحرص هي على أن يظل دفينًا.
وأقيم أنا في مكاني ذاهلةً أو كالذاهلة، أنظر إلى أختي التي لم تستيقظ بعد، وإلى أمي التي تسرع مولية تريد أن تهبط أسفل الدار، وأفكر في هذه الفتاة اليائسة وفي هذه المرأة البائسة، وأسأل نفسي: أيهما أحق بالعطف وأجدر بالرثاء؟ وأسأل نفسي: أيهما أحق مني بالمعونة والنصر وبالتعزية والتسلية؟ فكلتاهما في حاجة إلى العون، وكلتاهما في حاجة إلى العزاء …
هذه الفتاة البريئة لم تعرف بؤس النفس قبل الآن، وهي تستقبل الشقاء الآن مظلمًا قاتمًا ثقيلًا ملحًّا، لم تَدْعُه ولم تسْعَ إليه، وإنما أكرهت عليه إكراهًا وأغريت به إغراء، ثم دُفعت إليه دفعًا، وهي الآن غريق مشرفة على الموت، تريد أن تقاوم وتجاهد الموج ما وسعها الجهاد، لا تجد ما تعتمد عليه أو تتعلق به.
وإنها لفي ذلك إذ ساق القدر إليها من أختها الصغيرة ثُمامةً تستطيع أن تستمسك بها وتستبقي فضلًا من أمل، وحظًّا من رجاء.
وهذه المرأة التي لم تبلغ الشيخوخة بعدُ ولكنها قد فرضت على نفسها حياة الشيوخ: حرمانٌ متصل، وانصراف عن كل ما في الحياة من لذة، وإعراض عن كل ما في الحياة من متاع، واكتفاء بما يقيم الأود ولا يدني من الموت، ونظر متصل إلى هذا الماضي القريب الذي يملؤه الحزن ويفعمه الأسى، وتضطرم فيه هذه النيران التي تُحرق قلب المرأة حين تحب، فلا يسعفها الحب، ولا تلقى ممن تحب إلا خيانة وخداعًا وغدرًا.
وإنها لفي ذلك محزونةً لأمسها، يائسة من غدها، معرضة عن يومها، وإذا الحياة تتكشف لها عن خطب جديد ثقيل، ليس أقل نكرًا ولا أهون أمرًا من تلك الخطوب التي بلتها في حياتها الماضية، فهي تنظر وراءها فلا ترى إلا ظلمة، وتنظر أمامها فلا ترى إلا ظلمة، وتنظر عن يمين وشمال فلا تجد عونًا ولا نصيرًا.
لقد أنكرتها الأسرة وجفاها الأهل ونفتها القرية، وأصبحت وحيدة تعول ابنتين بائستين، وإذا هي تُنكبُ في إحداهما لأمر لا تعلمه وقضاء لم تكن تنتظره، كلتاهما بائسة، وكلتاهما شقية، وكلتاهما خليقة أن تجد من الأخرى ما تحتاج إليه في هذا كله، ولكن هذه النكبة الملمَّة، والكارثة الملحة قد باعدت بينهما، فالأم محنقة على ابنتها، والفتاة نافرة من أمها، لا يتصل بينهما حديث ولا تثبت عين إحداهما في عين الأخرى، إنما تتفاهمان بالإشارة أو الجمجمة، فإذا التقت أعينهما فما أسرع الإطراق إلى رأسيهما! ثم ما أسرع ما تدعو حاجة مرتجلة منتحلة إحداهما إلى أن تولي مدبرة لتنأى عن صاحبتها فلا يكون بينهما نظر ولا حديث.
هل أستطيع أن أردَّ ما بينهما إلى طبيعة الصلة بين الأم البائسة والابنة المحزونة؟ بل هل أستطيع أن أعيد الأمر بيننا إلى شيء مما كان عليه قبل هذه الكارثة من هذه المودة السهلة التي لا تكلف فيها ولا تصنع ولا رياء؟ بل هل أستطيع قبل كل شيء أن أعلم أين نحن وإلى أين نمضي، وماذا تريد بنا أمُّنا هذه التي تأمر وتنهى في لهجة حازمة صارمة وإيجاز مقتصد لا يقبل حوارًا ولا جدالًا؟ ذلك أجدر أن أفكر فيه، وأحرى أن أسعى إليه، فلأتبعن أمي إذن ولأتلطفن لها، ولأسألنها في أناة ومودة ورفق حتى أعلم علمها، ثم أنظر بعد ذلك فيما آتي، أو فيما يمكن أن نأتي من الأمر.
كل هذه المعاني تضطرب في نفسي، وعيني لا تكاد تفارق هذا الوجه الهادئ الذي يدل هدوءه على أن أختي ما زالت في تلك الأعماق البعيدة التي كنت فيها منذ حين، لم يبلغها ضوء الشمس وحرُّها، ولم يؤذها مس الأرض وغلظها، ولم يصل إليها اضطراب الدواجن وما تملأ به الجو من نشاط ومرح وصياح.
فأنهض متثاقلة مترفقة حتى أهبط فناء الدار ألتمس أمَّنا، وما كان أيسر الوصول إليها! فقد اعتزلت غير بعيد من السلم وجلست منحنية تعبث في الأرض بأصابعها عبثًا يدلُّ على شيء من الذهول، كأنما كانت تناجي همًّا ثقيلًا أو تتبع خاطرًا بعيدًا؛ حتى إذا بلغتها مسست رأسها بيدي وسألتها مداعبة: ما هذه اللعبة التي تلعبين؟ وهلا دعوتني لأكون شريكتك في اللعب؟! فإن مثل هذه اللعبة لا تستقيم إذا انفردت بها لاعبة واحدة …
قالت وقد رفعت إليَّ رأسًا حزينًا: أترينني ألعب يا ابنتي؟ قلت: فما عسى أن تفعلي بهذا التراب الذي تذهب فيه أصابعك وتجيء؟
ثم أنهضتها فلم تمتنع عليَّ، ومضيت بها إلى ناحية من الفناء لا يكثر فيها اضطراب الأضياف، ونظرت إليها فإذا هي تنقاد إليَّ مستسلمة، وإذا حزنها العميق وحنانها القوي قد فاضا على وجهها الشاحب فألقيا عليه مثل وداعة الأطفال.
هنالك أحسست من نفسي قوة، وشعرت كأني أنا الأم «زهرة» وكأنها هي الفتاة «آمنة»، فاتخذت صوتها ولهجتها وألقيت عليها في غير تكلف هذه الأسئلة: ماذا تريدين؟ وماذا تصنعين؟ وأين تذهبين بنا؟
قالت وقد انحدرت دموعها: لا أصنع شيئًا، ولا أدري أين أذهب بكما، وإنما أريد أن أنأى بكما عن هذه المدينة الموبوءة، قلت: ولكن إلى أين؟ قالت: سنرى، قلت: ومتى نرى؟ قالت: لا أدري، قلت: فقد ينبغي أن تدري؛ فما يحسن بثلاث من النساء أن يَهِمْنَ في الريف على وجوههن، تلفظهن قرية وتتلقاهن قرية أخرى، يؤويهن هذا العمدة وقد يردَّهن ذاك، قالت: فبماذا تشيرين؟ قلت: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين تلك الدور التي كنا نحيا فيها حياة أمن وهدوء …
وهنا أخذتها رعدة قوية وقالت في غضب وحدِّة: أيُّ أمن وأيُّ هدوء! إنك إذن لم تعلمي، قلت: بل علمت، قالت: وقد اجترأت البائسة على أن تلقي إليك هذا الحديث! ألم يكفها ما اقترفت من الإثم، وما انغمست فيه من الدنس حتى أرادت أن تكوني لها شريكة! قلت في رفق: دعيها وما هي فيه الآن وعودي بنا إلى ما كنا فيه: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين ما كنا نستعين به على الحياة من عمل، فإني أرى أن نلتمس العمل في قرية من هذه القرى عند غنيٍّ من هؤلاء الأغنياء، قالت: لقد فكرت في هذا، ولكني أرى أن ليس إليه من سبيل! فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها إذا لم يحمها أبٌ أو أخٌ أو زوج، قلت: فليس لنا أب ولا أخ ولا زوج! قالت: بل لنا من يحمينا، وقريتنا التي نُفينا عنها أحق بنا ونحن أجدر أن نعود إليها، ولئن بلغناها ليعلمن الذين جفونا ونفونا أن من العار أن تنفي الأسر نساءها وكرائمها! فالمرأة عورة يجب أن تُستر، وحرمة يجب أن تُرعى، وعرض يجب أن يُصان.
قلت: فأنت تريدين إذن أن تعودي إلى تلك الحياة البائسة التعسة التي كنت تحيينها بين قوم لا ينظرون إليك إلا شزرًا، ولا يعطفون عليك إلا كرهًا، ولا يتحدثون عنك إلا في سخرية، ورحمة شر من السخرية؟! قالت: نعم! فكل هذا أهون مما لقينا، وكل هذا أهون مما يمكن أن نلقى إن مضينا في هذه الحياة الهائمة التي لم نُخلق لها ولم تُخلق لنا، ولقد انقطعت تلك الأسباب التي كانت تدعو إلى جفاء الأسرة وإعراض ذوي القربى وسخر الأعداء ورثاء الأصدقاء، لقد انقطعت تلك الأسباب وبَعُد بها العهد، ولئن بلغنا قريتنا ليذكرن الناس بعض أمرنا حينًا من الدهر، ثم لا يلبثون أن ينسوه وأن ينسونا، ولا نلبث نحن أن ننغمس في حياتنا الأولى ونعيش بين أهلنا بائسات، ولكن آمنات …
قلت: وتريدين أن نبلغ هذه القرية ساعيات على أقدامنا، نتنقل من ريف إلى ريف، ونستضيف هذا يومًا وذاك ليلة، وقد أعجلتنا بالرحيل عن كل أمرنا، فتركنا متاعنا وما اجتمع لنا عند من كنا نعمل عندهم! قالت: سترين، فلن ينالكما جهد، ولن يمسَّ حياءكما أذى، سنقيم هنا حتى يأتي من يحملنا إلى قريتنا ويبلغنا مأمننا بين الأهل والأصدقاء.
قلت: وكيف يستقيم لنا هذا؟ قالت: علمت منذ أصبحت أن اليوم في القرية سوق يجتمع فيه الناس من أطراف الريف، فلأسعَيَن بين الناس والبائعات، فلن أعدم بينهم رجلًا أو امرأة من أهل قريتنا أو من أهل قرية مجاورة، فلأُحملنه رسالة إلى أهلنا، ولن يتم الأسبوع حتى يكون أخي هنا قد أقبل يحملنا إلى حيث ينبغي أن نعيش.
وهممت أن أمضي معها في الحديث، ولكن حركة عنيفة قطعت علينا ما كنا فيه، فهؤلاء نسوة قد أقبلن يحملن الجفان والأسفاط ويدعون إلى الطعام.
ويسمع الأضياف دعاءهن، ويرى الأضياف مقدمهن فيستجبن للدعاء ويسرعن إلى الطعام، ولا بد من أن نستجيب كما استجبن، ومن أن نسرع كما أسرعن، لا بد من أن أصعد فأنبه أختي هذه التي لا تريد أن تفيق من نومها الطويل بعد أن كانت لا تريد أن تخرج من أرقها الطويل.
فأصعد، ولكني لا أكاد أبلغ آخر السلم حتى أراها قائمة ساهمة حيث رأيتها من الليل حين أيقظني طائري العزيز.