الفصل السادس
وأقبل من في الدار من النساء ومن انضم إليهن من نساء القرية البائسات على الطعام مسرعات يتزاحمن بالمناكب، ويتدافعن بالأيدي، ويتزاجرن باللفظ واللحظ، ويرتفع في أثناء ذلك منهن دعاء لصاحب الدار أن يوثق الله حزامه، ويُعلي مقامه، ويصرف عنه الداء، وينصره على الأعداء.
ونحن نسعى وجلات خجلات، يدفعنا الجوع والأدب، ويمسكنا الحياء والاحتشام، حتى إذا استدرات الجماعة حول الجفان قلَّ الكلام، وقرَّت الأجسام، واضطربت الأيدي وعملت الأفواه.
وأنا أرى هذا كله فيؤذيني منظره ويقع من نفسي موقعًا أليمًا، ما أبعد ما بين هذه الأيدي الغليظة الخشنة قد تقلص جلدها وتقبَّض، وهي تغوص بما فيها من الخبز غوصًا في القصاع فتصيب منها ما تستطيع، وما بين تلك الأيدي الرقيقة الناعمة المترفة التي لم تكن تمتدُّ إلى الأطباق إلا هينة، والتي لم تكن تمس ما في الأطباق إلا بهذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة!
ما أبعد ما بين هذه الأفواه الفاغرة التي يُلقى فيها الطعام إلقاء على عجل فلا يكاد يستقر فيها حتى تزدرده الحلوق! وكأن الطبيعة لم تودع هذه الأفواه حسًّا تجد به لذة ما تأكل وما تشرب، وإنما اتخذتها طريقًا إلى الحلوق ثم إلى الأجواف، وما بين تلك الأفواه الصغيرة الضعيفة التي لم تكن تفتح إلا بمقدار، والتي لا تلتهم ولا تلتقم ولا تنتهي بما فيها إلى حلوق تزدرد، وإنما تطيل المضغ وتستمتع بما يمسها من الألوان، ثم تنتهي به على مهل إلى حلوق تسيغه في أناة ورفق، كأنما الأكل فن من الفنون لا بد فيه من الرويَّة واصطناع المهل والأناة!
ما أبعد ما بين هذه الجماعة التي حُشرنا فيها حشرًا في فناء هذه الدار، وما بين تلك الأسرة التي كنت أعمل عندها وأجد في خدمتها حين تجلس إلى المائدة لذةً ومتاعًا يعدلان بل يربيان على ما كنت أجد من اللذة والمتاع حين أجلس إلى طعامي مع رفاقي من الخدم بعد أن يتفرق سادتنا عن مائدتهم!
أين أجد القدرة على أن أدفع يدي مع هذه الأيادي وأحرك فمي مع هذه الأفواه! إنما أنا جالسة بين هؤلاء النساء أنظر إليهن ضيقةً بهن، وأتلهى عن الجوع بهذا الخبز الرقيق المستدير الواسع أحطمه بين يدي وأصيب منه قليلًا بين حين وحين، وأمُّنا تصيب من الطعام في قصد واعتدال، قد حال الحزن والحياء بينها وبين إرضاء حاجتها إلى الغذاء، وأختي واجمة ساهمة كأنها في أرض غير هذه الأرض، وفي حياة غير هذه الحياة.
ثم تفرغ الجفان ويتفرق النساء جماعات، ونهمُّ نحن أن ننتحي ناحية، ولكننا لا نكاد نبلغ من ذلك ما نريد حتى يدركنا نسوة ثلاث يجلسن حيث نجلس ويأبين إلا أن يأخذن معنا في الحديث، تقول إحداهن وكانت امرأة تختصم على وجهها أواخر الشباب وأوائل الشيخوخة، ويحتفظ صوتها كما تحتفظ حركاتها بنشاط فيه عذوبه مغرية وميل إلى الفكاهة ظاهر: ما رأيت كاليوم نسوة يستغنين بالأعين والآذان عن الأيدي والأفواه وعن الألسنة والحلوق والأجواف.
ها أنتن أولاء بيننا منذ أمس، وما سمعنا لكنَّ صوتًا ولا عرفنا من أمركن شيئًا، وها أنتن أولاء تستدرن معنا حول الطعام فلا تكدن تمددن إليه يدًا ولا تكدن تصبن منه حظًّا، كأنما يغذيكن النظر إلى الطاعمات وهن يلتقمن ويلتهمن ويزدردن، وكأنما يرضي حاجتكن إلى الحديث الاستماع للمتحدثات! ثم أرسلت ضحكة سمعها من غير شك أبعد من في الدار مكانًا، وسمعها من غير شك من كان خارج الدار، وانتشر معها في الجو استخفاف واستهتار ودعابة ودعاء إلى المجون، حتى إذا فرغت من ضحكتها وجرَّت الهواء إلى جوفها جرًّا هو أشبه بالشهيق المثير قالت: أهذا شأنكن بالقياس إلى كل ما تحتاج إليه النساء من لذة وراحة ورضًا؟ إنكن إذن لبائسات.
قالت هذا ثم التفتت إلى أمِّنا فألقت عليها نظرة قوية تريد أن تثيرها إلى الحديث وتكرهها على الجواب، ولكن أمنا لم تنطق بحرف ولم تعرف كيف تلقى هذا السيل المنهمر من اللفظ، وإنما انعقد لسانها انعقادًا، وظهر على وجهها اضطراب شديد، ولم تثبت عيناها لعيني هذه المرأة الجريئة اللعوب فغضتهما، وأطرقت برأسها إلى الأرض كأنها الطفل الصغير يلح عليه الكبار في السؤال عن بعض أمره فيمنعه الحياء من أن يجيب.
هنالك التفتت هذه المرأة إليَّ وقالت: هذه أمك صامتة لا تقول، وهذه أختك واجمة لا أمل في أن تفهم ولا في أن تجيب، فتكلمي أنت فإني أرى في عينيك جرأة وعلى وجهك شيئًا يشبه القحة، وما أظن أن في عينيك مِلحًا …! قولي منْ أنتن ومن أين تُقبلن؟ وما خطبكن؟ وما إعراضكن عن الطعام؟ وما إيثاركن للصمت؟ قلت ولم أستطع أن أدفع الضحك عن نفسي أمام هذا الهجوم المفاجئ الغريب، وأمام إغراق هاتين المرأتين الأخريين في الضحك، وإغراق أمنا في الصمت، وإغراق أختي في الوجوم: وأنت من تكونين ومن أين تقبلين؟ وما أنت وسؤالك إيانا وإلحاحك علينا؟
قالت مسرعة تتحدث إلى صاحبتيها: ألم أقل لكما إنها «قارحة» ليس في عينيها ملح، وإنها هي التي ستستمع لي وترد عليَّ! ثم التفتت إليَّ وقالت: تحقيق … أتسمعين؟ تحقيق … أنا مكلفة أن أخضعك له، ستعرفين من أنا، وستعلمين أني تعودت التحقيق مع النساء ومع الرجال أحيانًا والإلحاح في السؤال على أولئك وهؤلاء … ثم أرسلت ضحكتها ورجَّعت شهيقها، وسألتني ملحة: من نكون ومن أين نقبل؟!
وما زالت هذه المرأة تداعبنا وتلاعبنا عنيفة حينًا ولينة حينًا آخر، جادةً حينًا وهازلة في أكثر الأحيان، وصاحبتاها تعينانها على بعض ما تريد من ذلك، حتى أنسنا إليهن وتحدثنا معهن شطرًا من الضحى، وعرفت من أمرهن ما رغبني في ألا تنقطع الصلة بيني وبينهن ما أقمنا في هذه الدار، وكن جميعًا من أهل المدينة التي أقبلنا منها، قد بلغن هذه القرية معًا قبل أن نبلغها نحن بساعات، أقبلن راكبات وأقبلنا نحن سعيًا على أقدامنا، فأما هذه المحققة التي كانت تسأل وتلح في السؤال، وتمازح وتغلو في المزاح، فكانت امرأة عظيمة الخطر، عرفتُ من أمرها فيما بعد ما كنت أجهل، وتبينت أن اسمها كان شائعًا ذائعًا على جميع الألسنة وفي جميع الأنحاء لا في المدينة وحدها بل في كثير مما يحيط بها من القرى والعزب والضياع.
كان اسمها «زنوبة» وكان تاريخها حافلًا بالخطوب والأحداث، كان شبابها مغامرة كله وفتنة لنفسها ولكثير من الناس، كانت تجيد الرقص وتفتن به شباب المدينة، وتفتن هؤلاء الشباب الذين كانوا يفدون على المدينة في فصل الشتاء ليشتغلوا في معمل السكر، وكانت تفيد من فصل الشتاء لهوًا كثيرًا ومالًا كثيرًا وصوتًا بعيدًا، حتى إذا تولى عنها الشباب شيئًا وأخذت تدنو من الكهولة قليلًا قليلًا آثرت ظاهرًا من القصد، وتكلفت شيئًا من الاعتدال، وأسدلت على مجونها ودعابتها ستارًا رقيقًا تستطيع بعض الأبصار أن تنفذ إلى ما وراءه فتدلُّ أصحابها على ما يبتغون.
ثم اتصلت بالشرطة ورؤسائها في المدينة، وكانت وسيلتها إلى هذا الاتصال معرفتها للشبان، ومخالطتها للرجال، وانسلالها إلى بعض الدور واستماعها لكثير مما يُلقى من الحديث، وعلمها بكثير مما يقع من الحوادث ويلمُّ من الخطوب، فكانت عينًا من عيون الشرطة تنفذ إلى كثير جدًّا مما لا تنفذ إليه عيون الرجال، وكانت تفيد من ذلك مالًا، وتكسب من ذلك هيبة، فكان الناس يخافونها، ويتلطفون لها، وكانت الشرطة تستعين بها استعانة خاصة خصبة حين يُصرع صريع بالليل، ويبحث المأمور وأعوانه عن القاتل فلا يظفرون به، هنالك كانت تنقل إليهم ما تسمع من الأحاديث في بعض أندية الشباب وفي داخل كثير من البيوت، وحين يعتدي اللصوص على دار من الدور ثم تعمى آثارهم وأخبارهم على الشرطة، وكانت أنفع ما تكون للشرطة وأقدر ما تكون على إعانتها حين يهاجم الطاعون أو الكوليرا أو أي وباء من هذه الأوبئة أهل المدينة وما حولها من القرى، وحين تريد الحكومة أن تستكشف المرضى وتعزلهم في تلك الخيام التي كان يكرهها الناس أشد الكره ويفرون منها أكثر مما يفرون من الموت.
هنالك كنت ترى «زنوبة» حركة متصلة كأنها النحلة، لا تستقر ولا تهدأ ولا تعرف السكون والاطمئنان، هي في كل شارع وفي كل حارة وفي كل زقاق وفي كل بيت، ونقالة الصحة من ورائها تجوب الشوارع والأزقة والحارات وتختطف المرضى من بيوتهم اختطافًا، وفي تلك الأوقات كان الناس يبغضون زنوبة أشدَّ البغض، ولكنهم كانوا يضطرون إلى لقائها واحتمالها، يبسمون لها ويلعنون الوباء لأنه لم يمسسها ولم يحملها على هذه النقالة ولم يضطرها إلى هذه الخيم التي تضطر إليها الناس.
وقد جمعت زنوبة من كل هذه الحرف مقدارًا لا بأس به من المال، فلما تقدمت بها السن بعض الشيء أخذت تستثمر ما جمعت وتنميه، وقد سلكت إلى ذلك طريقين: فهي من ناحية مرابية، تقرض الجنية بثلاثة أمثاله منجمة على العام، وتشتري من الأسواق في المدينة والقرى ما تستطيع شراءه من الحب رخيصًا ثم تبيعه بين الفقراء والبائسين، تشتط عليهم في الربح لأنها تصبر عليهم في اقتضاء الثمن، وقد زهد الشباب فيها وقلَّ نشاطها إلى اللهو الجريء، فبحثت ثم بحثت ثم اختارت لنفسها رجلًا من الخفراء غريبًا عن المدينة وفد إليها منذ حين، قوي البنية طويلًا ضخمًا، مخيف الصوت، ولكنه على ذلك ضعيف النفس، سيئ الخلق، مدخول الضمير، فاتخذته زنوبة لنفسها زوجًا أو خليلًا، وعاشت معه عيشة يقرها القانون وتنكرها الأخلاق والدين، ويمقتها أهل المدينة أشد المقت، وهي حين رأيتها لأول مرة كانت قادمة على القرية التي كنا فيها لتشتري ما تستطيع شراءه من القمح والذرة والفول، ثم لتعود به إلى حيث تمتص به أموال الفقراء والمعدمين.
ولم تكن «خضرة» أقلَّ خطرًا من زنوبة ولا أهون شأنًا، وإنما كانت مثلها معروفة بعيدة الصيت، يتحدث الناس بها وبأبنائها حين تخرج من المدينة وحين تعود إليها، ويشقى بها الرجال والنساء جميعًا، ويسعد بها الرجال والنساء جميعًا أيضًا.
كانت دلَّالة، تفد إلى العاصمة من حين إلى حين، فتجلب منها مقدارًا غير قليل من هذه العروض الخفية اليسيرة الرخيصة التي هي مع ذلك فتنة للنساء وشقاء ومتعة للرجال، لم يكن في المدينة بيت مترف إلا وبابه مفتوح لخضرة تدخله جهرًا وتدخله سرًّا أيضًا، ونفس سيدة البيت مفتوحة لخضرة أيضًا تتلقى أحاديثها وتسمع أنباءها، وقد تُفضي إليها بالأحاديث، وقد تُحمِّلها الرسائل والأنباء، وكان نشاط خضرة يشتد ويعظم إذا كان الشتاء وجرت في النيل بواخر كوك مصعدة وهابطة؛ فقد كانت خضرة تذهب إلى القاهرة وتعود ومعها ما تشتري من البضائع والعروض، تصطنع هذه البواخر لأن أجور النقل فيها كانت يسيرة للدرجة الثالثة، ولأنها كانت تستطيع أن تستصحب فيها من الحقائب والمتاع ما لم تكن تستطيع أن تستصحبه في القطار.
كانت إذا عادت إلى المدينة تسامع بها الناس، وانتظر النساء مقدمها عليهن وزيارتها لهن، وكانت أسعد السيدات هذه التي تظفر بزيارتها الأولى، تسبق إلى خير ما عندها من ضروب الأقمشة على اختلافها، ومن صنوف الأعطار، ومن هذه الأدوات اليسيرة الهينة التي يحتاج إليها النساء ويتنافسن فيها، ومن أنواع الخرز بنوع خاص، ومن هذه الحلقات الزجاجية المختلفة التي يتخذها النساء حليًا لأذرعهن يعالجن لبسها علاجًا شديدًا دقيقًا خطرًا وقلما يفرغن من هذا العلاج دون أن تكون إحداهن قد أحدثت في يدها أو في ذراعها جرحًا بليغًا، وكان الأسبوع الأول لعودة خضرة من القاهرة عيدًا متصلًا في البيوت للنساء والأطفال جميعًا، أولئك يسعدن بما تعرض عليهن من عروض الزينة والمتاع، وهؤلاء يسعدون بما تجلب لهم من الحلوى وجوز الهند، ولا سيما هذه الحلوى التي كانت تجلبها خضرة من القاهرة والتي لم يكن من الممكن ولا من اليسير أن تصنع في المدينة؛ فقد كانت رقيقة لينة لا تشقى بمضغها الأضراس، وتجد فيها الأفواه والحلوق لذة لا مشقة فيها ولا عناء كهذه اللذة التي تجدها فيما يصنع في المدينة من الحلوى السمسمية أو الحمصية الغليظة اليابسة التي يتعاون على إذابتها الريق والأضراس واللسان فلا تبلغ منها ذلك إلا بمشقة وجهد.
وكانت خضرة تحمل إلى الفتيات النواهد فتنة لا تشبهها فتنة بهذه المناديل الملونة التي كانت تجلبها لهن والتي كن يَفْتَنِنَّ في إدارتها حول رءوسهن وفي اتخاذها سجوفًا فتانة خلابة لشعورهن الثقال، ولا تذكر هذه الضفائر أو هذه الخيوط التي تنظم فيها قطع دقيقة رقيقة ضيقة من المعدن والتي توصل بالضفائر، وبضفائر الفتيات النواهد خاصة، فيكون لها على ظهورهن منظر حسن، ويكون لها رنين حلو إذا مشين أو أتين بعض الحركات، وكان الرجال يحتملون عودة خضرة من القاهرة باسمين بل مغتبطين أول الأمر، يجدون في ذلك رضًا بريئًا وتلهية نقية للنساء والفتيات، فإذا مرت أيام وكثر تردد خضرة على البيوت واشتد طمع النساء فيما تعرض عليهن من المتاع، وظهرت رغبة النساء ملحة على وجوههن وفي حديثهن وفي تنكرهن للرجال حين يظهرون تمنعًا أو إباء، ضاقوا بخضرة أشد الضيق، وودوا لو تذهب مرة إلى القاهرة فلا تعود.
وكانت خضرة إذا فرغت من إرضاء نساء المدينة على اختلافهن في الطبقة والثراء، تنقلب بما يبقى لها من سقط المتاع بين ما يحيط بالمدينة من قرى الريف، وهي في ذلك اليوم الذي لقيتها فيه كانت تزور القرية ومعها حقيبتان أو ثلاث فيها من هذه الدوائر الزجاجية ومن الخرز والمناديل الملونة ما لم تقبله المدينة وما تتلقاه القرى بلهفة شديدة، وما لعله يورق ليل كثير من الريفيات ويملأ أحلام كثير من عذارى الفلاحين.
ومن الخطأ أن يظن أن «نفيسة» كانت أقل شهرة من صاحبتيها أو أيسر منهن شأنًا عند أهل المدينة وعند أهل الريف، كانت متقدمة في السن قد بَعُد عهدها بالشباب، وتركت الشيخوخة في وجهها وصوتها وجسمها كله آثارًا قبيحة منفرة للنفوس، ولكنها على ذلك كانت دخيلةً في كل بيت، صديقة لكل امرأة، كانت عرافة تقصُّ ما كان، وتصف ما هو كائن، وتنبئ بما سيكون، وكانت لها صلة قوية بالجن والشياطين، تسعى بالرسائل بينهم وبين النساء وتستخدمهم في كثير مما يشغل حياة المرأة الجاهلة الساذجة التي لا تزال تؤمن بأن سلطان الجن على الناس لا حدَّ له، هذه ضيقة بزوجها لأنه يخونها أو يؤثر عليها ضرتها فهي تستعين بنفيسة لتسلط عليه عفريتًا من الجن يصدُّه عن خليلته أو عن زوجته، وهذه تحسُّ من زوجها نشوزًا أو إعراضًا، فهي تستعين بنفيسة لتتخذ لها من الطِّلسمات ما يعطف عليها زوجها ويجعله قعيدة دارها. ولم تكن نفيسة أقل تأثيرًا في نفوس الرجال والشبان منها في نفوس النساء والفتيات؛ فقد كانت تحسن استشارة الودع وسؤاله عن الغيب، وقد كانت تحسن استعطاف النساء إذا نفرن أو أعرضن، وقد كانت تحسن تسخير الجن في قضاء ما يلتوي من الحاجات، وكانت نفيسة مشغولة دائمًا، لا تكاد تستريح من السعي بالرسائل والحاجات بين رجال المدينة ونسائها وبينهم جميعًا وبين الجن والشياطين، ولكن شهرتها بذلك قد جاوزت المدينة ووصلت إلى القرى وتسامع بها أهل الريف فأخذوا يسعون إليها، ثم أخذت هي تسعى إليهم وتنتقل بينهم بسحرها وطلسماتها وودعها، وهي حين رأيتها كانت تزور القرية لتحمل إلى أهلها بعض ما يحتاجون إليه من أنباء الغيب.
ولم يكد يتصل الحديث بيننا وبين هؤلاء النسوة حتى كانت نفيسة أسرعهن إلى نفوسنا، وأحرصهن على أن تمتلكنا وتصل بيننا وبين أصدقائها من الجن والعفاريت، لم تجد في ذلك مشقة ولم تتكلف له جهدًا، فهذه الفتاة الذاهلة التي لا تكاد ترى ولا تسمع ولا تفهم ولا تجيب خليقة أن تلفت العجوز الساحرة إلى نفسها، وقد فعلت … فما أكثر ما تلحُّ هذه العجوز في السؤال لتعرف ما بهذه الفتاة! والفتاة لا تجيب، وأمُّنا أشد منها حرصًا على الصمت وإغراقًا فيه، والسؤال يتجه إليَّ دونهما، فأضطر إلى أن أزعم أن بأختي علةً قد أعيت الطبيب، وداءً لا نعرفه ولا نجد له دواء، وما أيسر ما تُفضُّ السرة ويُنثر منها الودع على الأرض! ثم ما أسرع ما تعمل فيه يد نفيسة جمعًا وتفريقًا، وضمًّا ونثرًا، تلائم بينه وتخالف، وتتخذ منه أشكالًا تقرأ فيها من أنباء الماضي والحاضر والمستقبل أعجب العجب.
إني لأراها الآن وقد مضت أعوام طوال منذ ذلك اليوم وهي تنظر في الودع وتطيل النظر، ثم تظهر على وجهها هذه الآيات التي تدل على أنها تحاول أن تفهم شيئًا فلا تستطيع، وإني لأسمع صوتها المحطم الذي كان هامسًا دائمًا مهما يرتفع، وإني لأحفظ جملها منذ ذلك اليوم ما نسيتها ولن أنساها، وكيف أنساها وقد صدقها الزمان؟ نظرت إلى ودعها، ثم أطالت النظر فيه، ثم رفعت عينها إلى أختي فأطالت النظر في وجهها، ثم عادت إلى الودع فأثبتت عينها فيه، ثم رفعت رأسها وهي تقول للفتاة: إنَّ أمرك يا ابنتي لعجيب، إني أراك بين اثنين: أحدهما يحبك وسيؤذيك، والآخر آذاك وسيحبك، وإني لأحاول أن أفهم فلا أستطيع، والرأي لك يا ابنتي أن تستشيري سادتنا من الجن أو سادتنا من الأولياء … وما أرى أن هذا عليك عسير؛ ففي هذه القرية القريبة منا والتي تستطيعين أن تبلغيها في ساعة وبعض ساعة ما تحبين: فيها مقام سيدنا فلان، وإنه ليأتي بالأعاجيب، وفيها دار فلانة وإن قرينها من الجن ليحدِّث بالأعاجيب أيضًا، ولم تكد نفيسة تنطق بالجملة الأولى من حديثها حتى وثبت أمُّنا كأنما دُفعت إلى الوثوب دفعًا آليًّا، وانطلقت مسرعة فلم نرها إلا بعد وقت طويل.