الفصل التاسع
أما أنا فلم أطعم النوم في هذا الليل الطويل الثقيل؛ لأن أختي لم تطعم فيه النوم، ولم يحتج طائري العزيز إلى أن يوقظني بندائه السريع البعيد، ولم أسمع منه هذا النداء كأنه عرف أني ساهرة مؤرقة فلم يحتج إلى تنبيهي، فانطلق في الجو الفسيح ينبه غيري من الذين لم تؤرقهم الهموم والأحزان.
عدتُ إلى أختي كئيبة ضيقة الصدر متكلفة مع ذلك أن أخفي ما أجد من الكآبة وضيق الصدر، فأنبأتها بمقدم خالنا وبأننا مرتحلات في أكبر الظن إذا أسفر الصبح، وجعلت أزيِّن لها الرحيل وركوب الإبل واجتياز القرى والنظر إلى هذه الحقول المنبثة بيننا وبين البحر، والنظر إلى هذا الخط من الماء الذي يفصل بيننا وبين بلادنا في الغرب، ننظر إليه مقبلات عليه بعد أن نظرنا إليه مدبرات عنه، ثم نعبر هذا البحر ونمشي على هذا السهل الجميل النضر الذي تلتقي فيه أرض الصحراء المجدبة وأرض الريف المخصبة؛ ثم نصعد تصعيدًا هينًا كأنما نرقى في الدرج إلى هذه الهضبة الجميلة التي تقوم من ورائها قريتنا وادعةً هادئة كأنها تحتمي بها من كل طارق يأتيها من الشرق. أنا أزيِّن لها هذا كله بلساني، وأتكلف لها مظهر المرتاحة له المغتبطة به المقبلة عليه في سرور ولذة وشوق، والله يعلم إن كنتُ لمحزونة أشد الحزن مبتئسة أشد الابتئاس، تنازعني نفسي إلى ما وراءنا نحو الشرق من هذه المدينة الكبيرة التي ترامت أطرافها، وامتدَّت على ضفة النيل هادئة وادعة ناعمةً بما فيها من حضارة وترف وثراء، والله يعلم أني لم أكن مقبلة على هذا الغرب الذي سأدفع إليه إذا أسفر الصبح إلا برغمي وعلى أشد الكره مني، ما كنت أحفل بالحقول المنبثة، ولا أجد شوقًا إلى هذا الخط من الماء، ولا أجد كلفًا بهذا السهل الجميل النضر، ولا أجد رغبة في التصعيد الهين إلى هذه الهضبة المهيبة، ولا أجد حنينًا إلى هذه القرية الوادعة التي درجت فيها. إن هناك لحقولًا أخرى منبثة نحو الشرق تنحدر إلى المدينة في دعة وفتور وتكسر جميل، وإن هناك لخطًّا عريضًا من الماء أشد روعة وجمالًا وإثارة للسحر في القلوب من هذا الخط الضئيل النحيل يسمونه بحرًا وما هو بالبحر، وإنما هي قناة لا يصح أن تذكر مع النيل، وإن هناك لدورًا شاهقة واسعة مترفة تحيط بها الحدائق البديعة، وتلذ الإقامة فيها والحياة بين غرفاتها وحجراتها واللهو بين ما يحيط بها من الأشجار والأزهار، وإن هناك لفتاة جميلة وسيمة رقيقة هي التي أحن إلى لقائها وأتحرق على تجديد العهد بها. وماذا أصنع في تلك القرية، وأي حياة تُهيَّأ لي فيها! كلها شظفٌ وخشونة، وكلها جهلٌ وغفلة، وكلها رجوع إلى ذلك الطور الأبله الذي جعلت أخرج منه قليلًا قليلًا حتى امتزت من أمي وأختي أشعر بأني أحسن منهما فهمًا للحياة، وأصدق منهما حكمًا على الأشياء، وأشد منهما صبرًا على الخطوب، وأمهر منهما في التخلص من الشدائد والكارثات. ألست أدنى منهما إلى الطفولة، وأجدر منهما أن أكون غرَّة غافلة؟ ومع ذلك فإني أنظر إليهما كما تنظر الأم إلى صبيتين ضعيفتين تحتاجان إلى الحماية والحب وإلى العطف والعون!
كذلك كنت متناقضة أشد التناقض، مختلفة أشدَّ الاختلاف، أزين لأختي ما أبغضه أشد البغض، وأمنِّي نفسي بما ليس إليه من سبيل، وكثيرًا ما خطر لي خاطر فلم أقف عنده لأنه كان يظهر لي سخيفًا مستحيلًا؛ كثيرًا ما خطر لي أن أتغفل من حولي إذا تقدَّم الليل، وأن أنسلَّ من الدار وأن أهيم على وجهي نحو الشرق منسابة بين المزارع والحقول والقرى كما تنساب الحيَّة الدقيقة، حتى أبلغ المدينة مع الصبح أو مع الضحى، وإذا أنا حيث أحب أن أكون.
لم أقف عند هذا الخاطر الذي كان يمر بنفسي من حين إلى حين مرًّا سريعًا فينفذ منها كما ينفذ السهم من الهدف؛ لأن الاستجابة له لم تكن ميسورة، وكيف الانسلال من الدار والأحراس عليها قيام! وكيف الانسياب في الريف؟! وماذا تصنع فتاة وحيدة في ضوء النهار فضلًا عن ظلمة الليل! وكيف لي بترك هاتين البائستين تحملان وحدهما ثقل الأحداث والخطوب؟
أقيمي، أقيمي يا آمنة! وانسي نفسك ولذتك وراحتك، وانظري إلى هذه الفتاة الجالسة أمامك، إن ذهولها ليمزق القلب، وإن شحوب وجهها ليذيب النفس، وإن هذه الدموع التي أخذت تنحدر من عينيها في سكون وصمت لخليقة أن تصرفك عن كل تفكير إلا فيها، وعن كل عناية إلا بها، ألحِّي ألحِّي يا آمنة في تزيين الرحيل، وفي التحدث عما سنجد في القرية من أمن، وبما سنستقبل فيها من هدوء واستمتاع بالحياة الراضية، لا نخدم أحدًا وقد يخدمنا الناس.
ولكن أختي لا تسمع لي أو هي تسمع ولا تفهم عني، هي مثلي لا تحب الرحيل ولا تحن إلى الغرب، وإنما تحن إلى هذا الشرق الذي تركت قلبها فيه: هنالك في ذلك البيت الجميل الذي تحيط به هذه الحديقة الواسعة ويقوم عليه ذلك العامل من أهل الريف، ويعيش فيه ذلك الشاب المترف الذي يسمونه الباشمهندس.
في هذا البيت تركت أختي قلبها، وهي من أجل ذلك ذاهلة ذهولًا متصلًا، وهي من أجل ذلك عاجزة عن أن تسمع لنا أو تفهم عنا أو تردَّ علينا جواب ما نلقي عليها من سؤال، كنت أحسبها محزونة لما تورطت فيه من خطيئة، وما أشك في أنها أحست هذا الحزن، وما أشك في أن الندم قد عذبها تعذيبًا، لكني بعد أن أنفقت معها ليلة كاملة وتبينت من أمرها ما تبينت استقبلت الصبح ونفسي تذوب أسى وحسرة على هذه الفتاة التي تنظر وراءها فترى حبًّا مضيعًا، وتنظر أمامها فترى خوفًا مروعًا، وتود لو استطاعت أن تعود أدراجها إلى حيث الحب وما يمكن أن يستتبع من نعيم أو بؤس، ومن سعادة أو شقاء، ولكنها تدفع إلى أمام، تدفع إلى حيث الخوف والروع، وإلى حيث اليأس والقنوط، تدفع فتندفع، لا تستطيع أن تقاوم ولا أن تظهر شيئًا ينمُّ عن مقاومة أو ممانعة، يا لها من قوة هائلة تسيطر على النفوس فتمحو حظها من الشخصية والإرادة محوًا، هذه القوة التي يسمونها الحياء ورعاية العرف وما له من حرمات!
أنا أكذب على أختي فأزيِّن لها ما أكره، وهي لا تكذب على أحد ولا تحفل بما تسمع ولا تكذب على نفسها، وإنما أسلمت نفسها للقضاء واستيقنت أن خير ما في حياتها قد انقضى منذ أمرت أمنا بترك المدينة، فلم نخالف من أمرها وإنما استجبنا طائعتين، ولكن ممَّ كانت تخاف؟ وما هذا الروع الذي كانت آياته تبدو على وجهها بين حين وحين، والذي كان يبعث في جسمها من وقت إلى وقت رعدة قوية توشك أن تدفعها إلى الوثوب؟ إن في هذا الغرب الذي ندفع إليه خمودًا وخمولًا ويأسًا وقنوطًا، وكل هذا يسوء، وكل هذا يملأ القلب حزنًا وأسى! ولكنه لا يروع، ولا يبعث في النفوس هذا الجزع، ولا يثير في الأجسام هذه الرعدة العنيفة المخيفة. كلا! لم تكن مخطئة ولا غالية حين كان الروع يملأ نفسها، فقد كانت تعلم ما لا أعلم، وكانت تقدِّر ما لا أقدِّر، وكانت تمر أمامها صور حزينة شاحبة، ممتقعة مذعورة باعثة للذعر، صور فتيات ثلاث لم أسمع بهن قبل هذه الليلة، ولكنهن كن حديث المدينة منذ عام وبعض عام، خرجن من المدينة كما خرجنا نحن، أو أخرجن منها كما أخرجنا نحن، ثم لم يعدن إليها ولم تعد إليها أسرهن، وإنما عادت إليها أحاديثهن، كلها خوف وروع، وكلها يأس وقنوط، وكلها جزع وفزع، وكلها يلونها الدم وقد يساقط منها قطرات.
ما أنت وهذه الخواطر الدامية أيتها الفتاة التعسة؟! إنما ترحلين بين أمك وأختك وخالك إلى قريتك التي ولدت فيها لتعيشي بين قوم أحبوك وأحببتهم، وما زالوا يحبونك ولقد كنت تحبينهم منذ حين، أتذكرين! لقد كنت أكثرنا حديثًا عنهم وحنينًا إليهم في المدينة كلما التقينا، ما بالك تخافين منهم وتشفقين من لقائهم وإنك لواجدة عندهم من الحماية والأمن ما لا سبيل إليه في حياة الغربة والعمل في هذه البيوت التي لا يعطفها علينا حب ولا ود؟! ولكنها لا تسمع لي أو لا تفهم عني، وإنما هي مشغولة بما تركت من حب وبما تستقبل من روع، تمر أمامها صور ذلك الشاب الجميل المترف الذي أحبته، وتمر أمامها صور هؤلاء الفتيات خائفةً مخيفة مروعة مثيرة للروع، أما هذه التي تسمى أمينة فقد احتز رأسها احتزازًا، وأما هذه التي تسمى مارتا فقد شُق صدرها شقًّا، وأما هذه التي تسمى ملزمة فقد يقال إنها دفنت حية ولقيت حتفها مختنقة في التراب. ما الذي ينتظرني من ألوان الموت هذه؟! وأنا أرد عنها هذه الخواطر جاهدة، أتلطف حينًا حتى أقبِّلها وأداعبها، ثم أشتد في التلطف بها حتى أستعطفها بما أسفح من دموع، ثم أعنف وأغلو في العنف وأنذرها بأني سأقص خوفها كله على أمِّنا وخالنا، وسأستوثق لها منهما أو سأمتنع عليهما فلا أتبعهما ولا أدعها تتبعهما، وسأستجير لنفسي ولها منهما بهذا الرجل الكريم الذي نحن ضيف عنده، ولكنها إذا سمعت مني ذلك ثابت إلى نفسها وردتني إلى الأناة والمهل، وأظهرت التجلد والصبر، وتكلفت ثقة لا تلبث أن تضطرب واطمئنانًا لا يلبث أن يزول.
يا لك من ليل طويل بغيض، لم نعرف فيه راحة ولا أمنًا ولا هدوءًا، وإنما كنا فيه نهب الندم المضني على ما فات، والخوف المهلك مما هو آت، والضيق الشديد بما نحن فيه، والليل يطول ويطول، كأنه يحمل أثقالًا لا قبل له بها ولا قدرة له على المسير معها، فهو يزحف زحفًا بطيئًا أشد البطء، والهم يغشي نفوسنا تغشية، وهذه الخواطر المنكرة تدور في رءوسنا دورانًا متصلًا يكاد يفنيها، ولكن ما هذا الصوت الذي يشق هذا السكون الذي نحن فيه شقًّا ويردنا إلى أنفسنا فزعتين جزعتين كأنه أخرجنا من نوم عميق؟ إنه صياح الديك يودع الليل ويؤذن بمقدم الصبح، بماذا تصيح أيها الديك؟ وبماذا تريد أن تنبئنا أو تتنبأ لنا؟ قالت أختي: أتذكرين صاحبة الودع؟ إنها رأتني بين رجلين أحدهما آذاني وسيحبني والآخر أحبني وسيؤذيني، ألم تفهمي عنها شيئًا؟ قلت: وماذا تريدين أن أفهم عن هذه العجوز الحمقاء ومن هذا السخف الذي تردده في كل مكان وتقدمه إلى الناس جميعًا؟ كل رجل عندها بين امرأتين أو بين نساء، وكل امرأة عندها بين رجلين أو بين رجال. قالت أختي: فإني أرى هذين الرجلين رأي العين وأعرفهما كما أعرفك، وسترينهما وستعرفينهما، وستبغضين أحدهما أشد البغض وستحبين الآخر حبًّا كثيرًا!
وهذا الهواء يضطرب ويضطرب معه صوت المؤذن يدعو إلى الصلاة، والناس يستيقظون ويخرجون من منازلهم أفرادًا بين ذاهب إلى المسجد وذاهب إلى الحقل، ونحن نستقبل هذا الصبح الشاحب بنفوس شاحبة وقلوب واجفة ووجوه حائلة، لو استطعنا لأحجمناه، ولكننا نُدعى إلى الإقدام ولا نستطيع امتناعًا على هذا الدعاء.
هذان الجملان قد هُيئا للرحيل، وهذا خالنا قد قام عندهما كأنه الشيطان، وهذه أمنا تدعونا إلى الخروج في رفق، وها نحن أولاء نودع من عرفنا من أهل الدار، ثم تمضي ساعة وساعة وإذا ضوء الضحى يغمرنا في هذا السهل الريفي الجميل الذي تمتد فيه عن يمين وشمال هذه الحقول النضرة ترتاح إليها النفوس والأبصار، ولكن هناك نفوسًا لا ترتاح وإنما هي مضطربة دائمًا، وأبصارًا لا تستقر وإنما هي زائغة دائمًا … إلى أين يمضي بنا هذان الجملان؟!