الكلام على لندن أو لندرة
(١) إحصاءات وأرقام
(٢) لندن، التاريخ والموقع
وقال آخر: إن لندن أغنى مدن العالم وأكبرها، زعم بعضٌ أنها كانت مدينة من قبل الميلاد بألف ومائة وسبع سنين، وقبل تأسيس رومية بثلاثمائة وأربع وخمسين سنة، وأنها كانت مقرًّا للطرينوبنت ولملوكهم قبل الميلاد بأربع وخمسين سنة، وفي سنة ٦١ بعد الميلاد كان الرومانيون يسمونها لندينيوم، وهو اسم لمقر التجار في ذلك العصر ولسوق المعاملات والمبايعات، وزعم بعضٌ أنها مشتقة من لود اسم لملك قديم في بريتانيا، والأصح أنها مشتقة من لين دين، أي بلد على بحيرة، وزعم آخر أنها كانت تسمى في الزمن القديم لندنبورغ كما يقال الآن لقاعدة سكوتلاند إيدنبورغ.
وقال آخر: موقع لندن على نهر التيمس على بعد نحو خمسين ميلًا من فوهته، وقد صدق ما وصفها به ساي بقوله: ليست لندن مدينة واحدة، وإنما هي إقليم مغشى بالبناء، وفي سنة ١٨٤٩ لزم لأهلها من الدقيق ١٦٠٠٠٠٠ كوارتر — نوع من الكيل — ومن الغنم ١٠٠٠٠٠٠، ومن الثيران ٢٤٠٠٠٠، ومن العجول ٢٨٠٠٠، ومن الخنازير ٣٥٠٠٠، وفي أحد أسواقها المسمى «ليدن هل» بِيعَ في سنة واحدة من الطيور ٤٠٢٤٠٠٠، ومن السمك المسمى «سمونًا» ٣٠٠٠٠٠٠، وهذا القدر من المأكول غسل من المشروب بمقدار ٤٣٢٠٠٠٠٠ كالن من المزر، كل كالن يملأ نحو خمس زجاجات من زجاج الخمر المعتاد، وبمقدار ٢٠٠٠٠٠٠ من الأرواح، وبقدار ٦٥٠٠٠ قصبة من الخمر، كل قصبة في عرفهم تسع ستين كالنًا، وفيها ١٣٠٠٠ بقرة للاحتلاب، ٣٦٠٠٠٠ قنديل يشعل بالغاز، ينفد منها في كل أربع وعشرين ساعة ١٣٠٠٠٠٠٠ قدم مكعب من الغاز، وتمد الأهلين من الماء بنحو ٤٤٣٣٨٣٢٨ كالنًا في كل يوم، ويستعمل لأجل اصطلائهم.
ولوازم المعامل أكثر من ألف سفينة لنقل الفحم، فتحمل في العام أكثر من ٣٠٠٠٠٠٠ طن، وكثيرًا ما رُئي دخان النار منها على بعد ٣٢ ميلًا، وفيها من الخياطين ٢٣٥١٧، ومن الأساكفة ٢٨٥٧٩، ومن الخياطات وصانعات برانيط النساء أكثر من ٤٠٠٠٠، ومن الخدمة ١٦٨٧٠١، وقال آخر: يوجد في لندرة من أهل إرلاند أكثر مما يوجد في دبلين قاعدة بلادهم، ومن أهل سكوتلاند أكثر مما يوجد في إيدنبورغ، ومن اليهود أكثر مما يوجد في فلسطين، ومن الرومانيين ١٠٠٠٠٠، وهو أكثر مما يوجد في رومية، ومن الجرمانيين ٦٠٠٠٠، ومن الفرنسيس ٣٠٠٠٠، ومن الطليانيين ٦٠٠٠.
وقال بعض المؤلفين من الفرنسيس: إن مدينة لندرة في قول أميان مرسلان قديمة جدًّا، واشتقاقها من لفظة لون بمعنى سفينة، وديناس أي مدينة، فكأنك قلت: مدينة السفن، وذهب بعضٌ إلى أن اشتقاقها من لون؛ أي غيضة، ودن؛ أي مدينة، فكأنك قلت: مدينة في غيضة، قال: أما موقعها فهو في إقليم مدل سكس على تسعة وستين ألف ذراع من فم نهر التيمس، وعلى ثلاثمائة وتسعة وسبعين ألف ذراع من باريس، وهي أكثر مدن العالم أهلًا، رقعتها مائة ألف ذراع مربع، وأهلها ٢٠١٣٠٠٠، منها ١٠٧٦٩٥٦ ذكور، والباقي — وهو ٩٣٦٠٤٤ — إناث، قلت: وقد تقدم ما زادت به إلى سنة ٥٧، فينبغي أن تقيس عليه سائر الزيادات، ويولد فيها في العام نحو ٨٥٠٠٠، ويموت نحو ٧٤٠٠٠، والمحسوب أنه يولد فيها في الأسبوع نحو ألف وثمانمائة نفس، منهم ٩٦٠ ذكورًا، و٨٤٠ إناثًا، ويموت فيها نحو ١٣٠٠ نفس.
وممن ولد فيها من المشاهير ملطون وبوب الشاعران، واللورد بيرون الكاتب الشاعر الأديب، ودفن فيها من الشعراء الكبار خمسة وعشرون.
قال: وهي تحتوي على ٢٨٨٠٠٠ دار تغل في العام ٢٢٠٠٠٠٠٠٠ فرنك، وعلى ١٥٠٠٠ شارع وزقاق وتربيعة، وقد اتسعت من مدة خمسين سنة أكثر من ضعفين مما كانت في السابق، وقال مؤلف الهرالد: كانت لندرة في سنة ١٨٣١ تشتمل على نصف ما تشتمل عليه اليوم — أي سنة ٦٢ — أو أكثر فكان فيها من السكان مليون وثلاثة أرباع ومن المساكن ١٦٠٠٠٠ فصار فيها من النوع الأول ٢٨٠٠٠٠٠ ومن الثاني ٣٦٠٠٠٠.
وقال آخر: ويرد إليها ويصدر عنها من السفائن التجارية نحو ٥٠٠٠ سفينة وأربعة آلاف أخرى مستخدمة لثمانية آلاف نوتي وأربعة آلاف صانع، ورأس المال الذي أخرج في عمل الأقنية والمجاري — وغير ذلك مما يختص بالغاز — بلغ ستة وسبعين مليونًا وثلاثمائة وخمسين ألفًا من الفرنك، والمصروف على التنوير في العام يبلغ ستة عشر مليونًا.
وفي لندن ثمانية مواقف لسكة الحديد وست غياض، وثلاثمائة وأربعون كنيسة ومعبدًا للمتأصلة، وربما كان المعبد داخل الكنيسة، وثلاثمائة وسبعون معبدًا للمتفرعة، وثلاثمائة وأربعون مكتبًا للتعليم، وأربعة عشر سجنًا، وثمانية دواوين للشرطة، واثنان وعشرون ملهى؛ أي ثياطرًا، وخمسون سوقًا لبيع المأكولات من اللحم والدجاج والبقول ونحوها، وسوق القمح فيها كلف ٩٠٠٠٠ ليرة، وعدد ما يذبح في العام من البقر لطعام أهلها ١٩٠٠٠٠ رأس، ومن الغنم ٧٧٦٠٠٠ ومن الخرفان الصغار ٢٥٠٠٠٠، ومن العجول قدرها، ومن الخنزير ٢٧٠٠٠٠، يبلغ وزنها في الجملة ثلاثمائة وثلاثة وسبعين مليونًا ومائتين وثمانية آلاف رطل من أرطالهم.
ورطل لندرة قدر رطل تونس وهو عبارة عن ست عشرة أوقية، وثمنه كثمنه، فإذا قوم كل رطل بنصف شلين في إجمال بعضه ببعض، بلغ ثمنها مائة وسبعين مليونًا وسبعمائة ألف وخمسة وخمسين ألف فرنك، يخص كل إنسان على حدته ١٤١ رطلًا، وهو أكثر مما يخص كل واحد في باريس بضعف مثله، والمصروف من السمك ١٢٠ ألف طن، ومن الزبدة أو السمن ١١٠٠٠ طن، ومن الجبن ١٣٠٠٠، ومن القمح ٣٦ مليونًا من الكوارتر، ومن الفحم ثلاثة ملايين طن، ومن اللبن ٤٠ مليون زجاجة، ومن الخمر ٦٥ ألف برميل، والبرميل عبارة عن ستة أطنان، ومن الأرواح ٨٠ مليون ليتر، ومن المزر والجعة مليونا برميل، قلت: وفيها ٤٥٥٧ حانة يباع فيها المزر وسائر أنواع الشراب.
قال: وفيها ١٦٥٠٠ إسكاف، و١٤٥٠٠ خياط، و١٣٢٠٠ نجار، و٦٨٣٠ بناء، و٢٣٢٠ صانعًا في الرصاص و٥٠٤٩ جلفاطًا و٢٦٧٠ صانعًا في البرانيط، و٢٦٤٠ في الساعات، و٥٤٠٠ في الخشب، و١٠٩٩ بائع أدوية، و٢١٤٠ صانعًا للبراميل، و٣٧٠٠ طبَّاع، و١٠١٠ صناع لعجلات المراكب، و٢١٠٠ حلاق، و٩١٠ من صناع الحلواء، و٤٣٣٠ جزارًا، و١٥٩٠ تاجرًا في الجبن، و١٠٨٠ في السمك، و١٠٩٠ في التبغ، و٢١٧٠ تاجرًا في العواجل والعجلات، و٥٦٦٠ خبازًا و٤٦٤٠ تاجرًا في الشمع والسكر والصابون ونحوها، و٤٢٠٠ بزازًا، و١٠٤٥٠ بائعًا للحليب، و٢٨١٠ للجواهر، و٧٨٠٠ سائق عاجلة وحافلة، و٧٤٢ باخرة تجري في نهر التيمس كما تجري الحوافل في طرق المدينة، وذلك ما بين رشمند وكرافسند وما حولهما.
(٣) أشهر مواضعها
وأشهر المواضع فيها التربيعة المعروفة باسم ترافلكر — محرفة عن طرف الغرب — فيها عمود نلسون مبنيًّا من المرمر، ارتفاعه ١٧٦ قدمًا وفوق العمود تمثاله، وعلى جانبي الساحة عينان نضاختان، قبالتهما صورة الملك شارلس الأول من نحاس.
قلت: قال بعضٌ: إن عمود نلسون هو من حجر جلب من بورتلاند، وكان نصبه في سنة ١٧٤٣، وعليه شرف من نحاس، صنعت من مدفع أخذ من الفرنسيس، ولخزي الدولة وأهل البلاد بقي غير متمم، وقد بلغت نفقته ٣٣٠٠٠ ليرة، وممن تبرع في العطاء لإنشائه قيصر الروس، فإنه أعطى خمسمائة ليرة، وهو أكثر ما تبرع فيه لهذا الإنشاء، وعنده تمثال كرلوس أو شارلس الأول، صنع في سنة ١٦٣٣. ا.ﻫ.
واعلم أن نلسون المذكور هو الذي ظفر بمراكب الفرنسيس التي سار فيها نابوليون وجنده إلى مصر فأحرقها عند أبي قير، وذلك في سنة ١٧٩٩، وأتلف أيضًا بوارج فرنسا وإسبانيا في الحرب المعروفة بترافلكر عند رأس فنستير، وذلك في سنة ١٨٠٥، وكانت سفن الإنكليز ٢٨ سفينة، وسفن الدولتين المذكورتين ٣٢، ويومئذ قتل وهو عند الإنكليز معظم الذكر؛ لا يزالون يلهجون بمساعيه البحرية لهجهم بمساعي الدوك ويلنكطون البرية، وكان مولده في سنة ١٧٥٨.
وفي معجم الأوقات أن نصرة الإنكليز في الحرب المذكورة هي أعظم نصرة حازوها، وكان للفرنسيس من البوارج ١٨، وللإسبانيول ١٥، وللإنكليز ٢٧، وبعد قتال شديد أسر أميرال الفرنسيس وغيره، وتلف لهم ١٩ سفينة، غير أن الأميرال نلسون لاقى منيته يومئذ، فقام مقامه كولن وود، وكان اسم سفينته فكطوري؛ أي نصرة، وآخر إشارة صدرت من نلسون قبل الشروع في القتال قوله: إن إنكلترة تتوقع من كل إنسان أن يقضي الواجب عليه، وكان ذلك في الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة ١٨٠٥. قلت: وهذا عندهم من الكلام البليغ، ولذلك كتبت هذه الجملة على العمود الذي تقدم ذكره.
وفي كتاب آخر يسمى تعليقات ومسائل، أن بعض خدم نلسون — وكان به غفلة — قال: كان سيدي إذا باشر الحرب يلبس أحسن لباسه المنصبي، فكنت أنهاه عن ذلك، فيقول لي: مه فإني أقضي الحرب بأفخر لباس لي، فأقول له: بل الأولى أن تلبسه بعد أن تفرغ من الحرب، قال: ولو أني كنت حاضرًا يوم تافلكر لما أصابه ما أصابه بذلك اللباس الذي ترداه.
قال المؤلف الأول: وفيها أيضًا عمود آخر بني تذكرة للحريق الذي وقع في لندرة سنة ١٦٦٦، بلغت نفقته ١٣٧٠٠ ليرة، وارتفاعه مائتا قدم وقدمان، وهو أجوف يشتمل على ٣٤٥ درجة، وارتفاع شرفته ٤٢ قدمًا، وآخر نصب في سنة ١٨٣٣، عليه تمثال ابن الملك جورج الثالث، ارتفاعه ١٢٤ قدمًا، وعلو التمثال ١٤ قدمًا.
قال: وأعظم كنيسة للبروتستانت كنيسة مار بولس في المدينة المذكورة، بنيت على هندسة كنيسة مار بطرس برومية، ابتدئ ببنائها في سنة ١٦٦٦، ونجز في خمس وثلاثين سنة، وبلغ جملة ما أنفق عليها ٣٧٥٠٠٠٠ فرنك، جمع ذلك من طسق جعل على الفحم، وطولها خمسمائة قدم، وارتفاعها أربعمائة وأربع أقدام، ووسعها ٣٠ فدانًا انتهى. قلت: وسيأتي ذكر لهذه الكنيسة.
(٣-١) نهر التيمس وجسوره
ثم إن هذه المدينة شطران يخترقهما نهر التيمس؛ أحدهما: ليس فيه شيء يسر الناظر، فإنه عبارة عن ديار وطرق وحوانيت، والثاني: وهو الذي تقيم فيه الأشراف والأعيان يشتمل على أشياء كثيرة بديعة سيمر ذكرها بك إن شاء الله، وهذا النهر مبني عليه عدة جسور؛ أحدها: وهو أول ما يراه القادم إلى لندرة، الجسر الذي يقال له: جسر لندن، طوله ٩٢٨ قدمًا، وهو مبني من حجر صلب، ويشتمل على خمس قناطر، علو كل منها ٢٨ قدمًا، بدئ به سنة ١٨٢٥، وفتح في سنة ١٨٣١، وأنفق فيه نحو مليوني ليرة، وعليه فوانيس للتنوير، صنعت من مدفع أخذ في حرب إسبانيا ولا يزال مزدحمًا للناس والخيل والحوافل والعواجل، حتى إن من يشاء أن يمر فيه من جهة إلى أخرى يعرض نفسه للخطر، فيلزمه أن يسير على سمت واحد، ومن يرَ ازدحام الناس عنده ولم يكن قد ألف أحوال البلد يظن أن الناس متأهبون للخروج إلى الحرب والقتال؛ إذ يمر عليه في كل دقيقة نحو عشرين مركبًا ما بين عاجلة وحافلة وعجلة وما أشبه ذلك، وعنده عمود شاهق من حجر وتمثال للملك وليم الرابع من رخام.
قال بعضهم: يرد في كل يوم إلى الستي ستون ألفًا من مراكب البر على اختلاف أنواعها في نحو خمسين شارعًا، منها اثنا عشر ألف مركب يمر على جسر لندن في ظرف أربع وعشرين ساعة فإذا حسبت رجوعها عليه كان لكل ساعة ألف مركب. الثاني: الجسر المسمى صوث ورك طوله ٧٠٨ أقدام، وله ثلاث قناطر من حديد، بدئ به سنة ١٨١٥، وفتح في سنة ١٨١٩، وبلغت نفقته ٨٠٠٠ ليرة. الثالث: الجسر المسمى بلاك فرير، بدئ به في سنة ١٧٦٠، وفتح في سنة ١٧٧٠، وهو يشتمل على تسع قناطر، طوله ٩٩٥ قدمًا، وبلغت مصاريفه ١٥٢٨٤٠ ليرة. الرابع: جسر واطرلو، وهو أعظم جسر في المسكونة، بدئ به سنة ١٨١١، وفتح سنة ١٨١٧، وبلغت مصاريفه أكثر من مليون ليرة، ما عدا القرض الذي أخذ من الدولة وقدره ستون ألف ليرة، وهو بديع الصنعة كله من حجر المرمر، يشتمل على تسع قناطر، سعة كل منها ١٢٠ قدمًا، وارتفاعها خمس وثلاثون، وطول الجسر ١٣٨٠ قدمًا، وقد جعل على كل مار به بِنِي فجاء المجموع من ذلك في سنة واحدة ٤٦٧٦ ليرة، وَعَدَّهُ بعضهم من عجائب الدنيا.
قلت: وكانت واقعة واطرلو المشهورة في سنة ١٨١٥، قال بعض المؤلفين: زحف نابوليون على الإنكليز ومعه من الجيش أحد وسبعون ألفًا، وكان يرجو أن يفشلهم بكثرة العدد؛ إذ لم تكن عساكرهم تنيف على ثمانية وخمسين ألفًا، لكنهم صابروا ودافعوا عساكره من الساعة التاسعة صباحًا إلى السابعة ليلًا، فلما رأى منهم الجلادة والثبات ابتدأت عساكره تتراخى، ثم اتصل بالإنكليز بولو ومعه خمسة عشر ألفًا، وحينئذ أمر دوك ويلنكنطون بالإطلاق عليهم، فاحتدمت نار القتال بينهم أي احتدام، فقتل من الإنكليز مائة وعشرون ضابطًا وألف وستمائة وواحد وخمسون نفرًا، وجرح ٤٣٦ ضابطًا، وخمسة آلاف وأربعمائة وستة وخمسون نفرًا، ولكن قتلى الفرنسيس كانوا أكثر، ويومئذ اضطر نابوليون إلى الرجوع إلى باريس ليجند جيشًا آخر، فلم يوافقه أهل الشورى؛ لأنه كان قد تلف معه أربعة جيوش من قبل، فاضطر إلى أن يخلع نفسه على ما ذكر سابقًا.
الخامس: الجسر الجديد المسمى بالمُعَلَّق؛ لأنه غير مبني على قناطر، له ثلاث فتحات واسعات جدًّا، وهو أعلى جسر في الدنيا من هذا الطراز، بدئ به سنة ١٨١٤، وفتح سنة ١٨١٩، زنة ما فيه من الحديد ٥٥٠٨ أطنان. السادس: جسر وستيمنستر، بدئ به سنة ١٧٣٨، وتم في سنة ١٧٥٠، طوله ١٢٢٨ قدمًا، وعرضه ٤٤، وله ١٥ قنطرة، وبلغت نفقته ٣٨٩٥٠٠ ليرة، ولما شرع في بنائه حسبه المهندسون من أحسن جسور الدنيا. السابع: جسر فكسهال صنع من حديد صلب، بدئ به في سنة ١٨١١، وفتح في سنة ١٨١٦، وطوله ٧٩٨ قدمًا، وهو يشتمل على تسع قناطر. الثامن: جسر همرسميث، طوله مائة واثنتان وثمانون قدمًا، وغير ذلك مما ذكره يطول.
نفق التيمس
ومن أعجب ما بني على هذا النهر — والأحرى تحته — المجاز المعروف بتيمس طنل، وهو موضع أنشئ تحت الماء طوله ١٣٠٠ قدم، ارْتُئِيَ إنشاؤه في سنة ١٨٢٥، ثم أغلق لِطُمُوِّ المياه عليه، ثم استؤنف العمل فيه، وفتح سنة ١٨٤٣، وبلغت نفقته ٦١٤٠٠٠ ليرة، وجملة ما يُؤخذ له من المتفرجين عليه في كل سنة نحو خمسة آلاف ليرة، وينزل إليه في نحو مائة درجة من حديد، ويدفع على ذلك بِني واحد، أنشأته جماعة تعرف بجماعة الطنل، ومعنى الطنل: القبو أو السرب أو النفق، ويقال: إن نقر ذراع واحد منه في بعض المواضع أنفق فيه ألف ومائتا ليرة وبعضه ١٢٠ ليرة، والفائدة من إنشائه مرور الناس فيه من جهة لندرة الأولى إلى جهتها الأخرى، فهو بمنزلة الجسر، إلا أني ذهبت إليه غير مرة، فلم أرَ فيه إلا المتفرجين، وقيل: إن الغرض منه ذكر شرف للدولة.
بواخر التيمس ومراكبه
وترى البواخر تجري منحدرة وصاعدة في هذا النهر مشحونة بالرجال والنساء كما تجري الحوافل والعواجل في الطرق، وحين تمر تحت القناطر تميل قصب الحديد التي هي مداخنها ليمكنها الدخول، فإذا جاوزتها أعادتها كأنها قطعة واحدة، وعدة المراكب المنسوبة إلى هذا النهر بلغت — في سنة ١٨٥٠ — ٢٧٣٥، وعدة البواخر ٣١٨، يستخدم فيها ٣٥٠٠٠ نفس من الرجال والغلمان، وفي سنة ٤٨ ورد إلى مرساه ٤٢١٤٥ سفينة، ورد من المكس عليها إلى الكمرك ١١٩٣٠٧٧ ليرات، وكانت قيمة الخارج منه ١١٠٠٠ ليرة، وعدة المراكب التي تسير في المدينة ما بين كبيرة وصغيرة نحو سبعة آلاف، وعدة الصنف المسمى هكني كرج ٤٣٥٠، وعلى الكبيرة وهي المعروفة باسم أمنيبوس ترى أسماء الحارات والأماكن التي تسير إليها، ولا بد أن يكون مكتوبًا عليها اسم البنك، فإنها كلها تمر به إلا ما قل، وكل منها يسع اثني عشر شخصًا بداخلها وتسعة بخارجها، ومن هذه الحوافل نحو ستمائة حافلة، اشترتها جمعية واحدة مع لوازمها من الخيل والعدد بأربعمائة ألف ليرة، فتكون كل واحدة منها بنحو سبعمائة ليرة.
(٣-٢) حوافل باريس ولندرة
وهي بالنسبة إلى حوافل باريس معنتة من وجوه؛ أحدها: أنه ليس في داخلها شيء يتمسك به الإنسان، فأول ما يدخلها يستمر سائقها في السير، فيترنح الداخل يَمْنة ويَسْرة وربما وقع على بعض الجلوس، وكثيرًا ما يعجل البواب إلى إطباق الباب على يد الداخل، وكثيرًا ما وردت شكاوى الركاب في هذه إلى القضاة، فمنهم من حصل أرشًا ومنهم من خاب. الثاني: إنه إذا كان بين الستة رجلان سمينان ضاق الموضع بالباقي؛ إذ لا يكاد يسع هذا العدد إلا باللز والتضام، وقد وقع غير مرة نزاع أفضى إلى الشرع ما بين هؤلاء السواق وبين الرجال السمان، فإن السائق يأبى أن يأذن للسمين في أن يتبوأ موضعين ويدفع عليهما أجرة واحد، فأما في باريس فبين كل قاعدين فاصل من قضيب نحاس، فالقاعد فيها مقعدًا لا يكاد يمس جاره وكأنما هو قاعد على كرسي بداره.
الثالث: أنه قد يتفق أن يكون اليوم باردًا ويبتدر أحد الجلوس إلى فتح إحدى الطيقان من دون أن يسأل جاره هل يستطيب ذلك أو لا، فإن كل واحد من الناس عمومًا ومن الإنكليز خصوصًا يرى أن في صلاح نفسه صلاح غيره. الرابع: إن الداخلين لا يدفعون الجُعْل عند الدخول كما يفعل في باريس، بل عند الخروج، فيدفع الخارج الأجرة إلى السائق، ويذهب في خلال ذلك الوقت عبثًا ما بين تصريف الدراهم والقال والقيل، والبواب هنا أبدًا معرض رأسه للمطر والشمس؛ إذ لا جُنَّة تقيه، بخلاف البواب في باريس، ولبوابي حوافل باريس شريط من قصب على أطواق ملابسهم، وصفحة على صدورهم تؤذن بمهنتهم، ومتى وجد أحدهم موضعًا فارغًا عند باب الحافلة قعد فيه وأفاض في الحديث مع جاره، وعد نفسه من جملة الركاب بلا محاشاة.
وهناك فرقان آخران بين حوافل لندرة وباريس، وهو أن حوافل باريس ليس لها مقاعد على ظهرها، فكل ركابها يقعدون في داخلها، فلهذا كانت أطول وأوسع من حوافل لندرة، وهي أشق على الخيل، غير أن الفرنسيس لما كان دأبهم وولعهم التبديل والتغيير صاروا الآن يصنعون حوافلهم كحوافل الإنكليز في الصغر، وفي جعل مقاعد لها على ظهرها.
سُوَّاق العواجل في لندرة وباريس
وسواق العواجل في لندرة ذوو شطط وجفاء؛ فإنهم يتقاضون الغرباء أكثر من المرسوم عليهم من الميري، وحيث إنهم يعلمون أن أصغر القضايا لا تفصل إلا بحضرة القاضي بعد قال وقيل، وأنه ليس كل أحد يروم التشرف بمجلس الأحكام، فلا يألون جهدًا في غبن الراكب، وأخذ شيء منه زائد على المرتب، ومن لؤمهم أيضًا أنهم قلما ينبهون الماشين في الطريق قبل أن يدركوهم، وإذا تكلفوا ذلك نبهوهم بنوع من الشتم، أما في باريس فإن للسواقين شيخًا في كل خط، فمتى حصل بين أحدهم وبين المستأجر نزاع، فصله الشيخ، ومتى دخلت العاجلة أعطاك السائق ورقة مطبوعة فيها عدد عاجلته، لتهديك إلى معرفته عند الاقتضاء.
أجور النقل في لندرة وباريس
والجُعْلُ على المضمار في باريس بعيدًا كان أو قريبًا نحو شلين، ولا فرق في عدد الركاب، فأما في لندرة فعلى كل ميل نصف شلين إذا كان راكب واحد، ولكن إذا كانت المسافة مثلًا ميلين وادعى السائق أنها ثلاثة، لم يفصل بينك وبينه غير البأس والبطش، فإن رآك أضعف منه ألزمك ثلاثة، فأما إذا اكتريت بالساعة فسير ساعة في لندرة جعله شلينان، وفي باريس فرنكان، غير أنه يوجد في هذه عواجل مفتوحة تشبه عواجل الأمراء والكبراء، وربما جرها حصانان، وفي لندرة لا وجود لها، ومن الغريب أن الحوافل التي جعلها في لندرة أغلى تكون أبدًا مشحونة بالركاب، والرخيصة يعرض عنها.
(٤) اختراع العواجل بين الفرنسيس والإنكليز
وعن بعضهم أن هذه العواجل الكبيرة هي من مخترعات الفرنسيس في زمن فرنسوا الأول، ولكن لم يكن منها حينئذ إلا اثنتان، وفي سنة ١٥٥٠ كان منها ثلاث وواحدة لهنري الرابع، ولكن من غير سيور، ولم تتقن إلا في عهد يوحنا دولافال، فإنه لعظم جثته لم يكن يقدر أن يسافر إلا بها، وكانت ملوك فرنسا من قبل ذلك تسافر على الخيل والملكات في محفات والخواتين يركبن وراء الأمراء، وأول عاجلة رئيت في إنكلترة كانت في زمن الملكة ماري، وذلك سنة ١٥٥٣ — وفيه نظر.
(٥) إمداد لندرة بالماء
وفي لندرة تسع جمعيات لإمداد سكانها وما يليها بالماء ينفذ منه كل يوم ستة وأربعون مليون كالن منها عشرون مليونًا من نهر التامس وستة وعشرون مليونًا من النهر الجديد ومن موارد أخرى، وهذا النافد موازٍ لنهر عرضه تسع أقدام وعمقه ثلاث، وجريه في كل ساعة قدر ميلين ومشروب السكان كله من النهر الجديد ومن نهر آخر يسمى «لي لا» من نهر التامس، وطول النهر الذي حفر حديثًا ثمانية وثمانون ميلًا، وقد تم حفره في سنة ١٦٢٠ واسم من نهره سرهف ميدلطون.
(٦) سير الحوافل في إنكلترة
قال: وكان سير مراكب البر في إنكلترة بطيئًا جدًّا حتى إن أحد المؤلفين قال: إن الخوري آدم على ترهله كان يمشي أسرع منها، وكانت كثيرًا ما تنشب في الوحل وتقرقع، وقال آخر: لم تكن الحوافل من قبل سنة ١٨٢٨ معروفة عند الإنكليز، فقدم إليهم في التاريخ المذكور رجل من فرنسا اسمه شليير فاستعملها عندهم، والآن يوجد لها جمعية إيرادها نصف مليون ليرة في العام، ورأس مالها نحو ٣٠٠٠٠٠٠، وعدد الحوافل التي لها رخصة ٣٠٠٠، وكل حافلة في لندرة يلزم لها عشرة رءوس من الخيل، وعلف الحصان يقوم في اليوم بنحو شلينين.
(٧) جمعيات لتأمين لندرة
ويوجد أيضًا في لندرة ٧٦ جمعية لضمان الحريق والغرق والمعيشة وغير ذلك، وقَلَّ أن توجد دار عظيمة أو حانوت كبير أو شيء آخر نفيس من دون ضمان، وصورتها إذا خاف إنسان على داره أو سفينته أو أمتعته من النار أو السرقة ذهب إلى جمعية منها، وألزم نفسه أن يدفع لهم في المائة شيئًا معلومًا إلى أجل مسمى، فإذا هلك ماله غرمت الجمعية قيمته، فأما ضمان المعيشة فهو أن الإنسان يلزم نفسه أن يدفع في كل سنة شيئًا حتى إذا مات قامت الجمعية بمؤنة عياله، ولكل سن مبلغ، فإن القوي المظنون تعميره يدفع أقل مما يدفع الطاعن في السن، وقبل تدوين اسمه في دفتر الضمان يكشف الطبيب عن بدنه ليعلم هل فيه داء خفي أو لا؟ فإن علم أن به علة لم يقبل أو يكلف دفع مبلغ وافر.
وللميري أيضًا شيء مما تأخذه الجمعية؛ إذ لا يصح انعقاد جمعية شرعية أو إحداث شيء شرعي في بلاد الإنكليز من دون غُرْم للخزنة، وفي المحترفات الكبيرة والديار العظيمة يتخذون أصونة من حديد لصون المال والحلي وكواغد المصرف وغيرها.
وعن بعض المؤلفين: لم تعقد جمعية ضمان الحريق من قبل ١٧٠ سنة، فكان من يرزأ بالنار يجمع له مدد من الناس، إلى أن انعقدت الجمعية المسماة اليد باليد في سنة ١٦٩٦، ثم اقتدى بها جمعيتان أخريان، فلما أن نجحت مساعيهما تابعتهما على ذلك أخرى، حتى بلغت الآن في المملكة ٧٤ جمعية، وفي سنة ١٨٠٥ قومت الأملاك التي ضمنت من خطر الحريق بمائة وأحد وثمانين مليون ليرة، وفي سنة ٥٥ بلغت ٩٢٧٠٠٠٠٠٠، وقد أطفئوا في سنة واحدة ٣٩٠ حريقة، وأنجوا سبعين نفسًا.
(٨) محلات الصيارفة في لندرة
وفي لندرة ٨٨ محلًّا للصيارفة، ولكن لا ينبغي أن تفهم من لفظة الصيرفي هنا ما تفهمه منها في البلاد الشرقية، فتظن أنه يصرف الليرة مثلًا بشلينات ويأخذ عليها فلسًا أو فلسين، وإنما الصراف هنا هو من تأتمنه الأغنياء والكبراء على أموالهم فيدفعونها، ويأخذون منه فائدتها في العام، وكل واحد من هؤلاء الصيارفة عنده عِدَّة من الكُتَّاب والحُسَّاب والخَدَمَة، فمحترفه عبارة عن ديوان يدخل فيه الناس أفواجًا أفواجًا.
(٩) المنشآت الخيرية في لندرة
وفي لندرة من المواضع المنشأة للبر وفعل الخير ما يصعب عده ويعسر حده، قال بعض المُطْرِين على الإنكليز — وأظنه أمرصون الأميريكاني المشهور: إن الإنكليز أكثر الخلق فِعْل خيرات، وأظن ذلك يصدق عليهم من دون مراء، وها أنا أبين لك بوجيز من القول عظم ما تفعله هذه الأمة من البر والإحسان، فإذا سمعته فاقضِ لنفسك بما تراه الحق، فأقول: إن في لندرة مستشفيات للمجانين والجذمى وناقصي الأعضاء، وللمرضى والجرحى والسقط والصم والبكم والعُمْي، والمحتاجين والأشقياء ولسائر من حلت به نكبة وفدحته مصيبة، وللمحرومين من الرزق وللعاجزين من الشيوخ، وللأيتام وللنغول وللغرقى والأرامل، ولإرشاد الضالين وتحرير الرقيق والرفق بالحيوان، ما عدا مجال التعليم والعبادة ونشر التوراة والإنجيل وغير ذلك مما يبلغ مئات.
ففي مستشفى صان برثولومي ٥٨٠ فراشًا، وتوزع منه أدوية وغيرها على سبعين ألف شخص في كل سنة، منهم أربعة آلاف بداخله، وفي غير مستشفى آخر ٥٣٠ فراشًا، وتوزع منه أدوية وغيرها قدر ما يوزع من ذاك، وفي مستشفى صانت جورج ٣١٧ فراشًا، ويوزع منه أدوية وغيرها على كثير من المرضى والزَّمْنى، ويوجد مثلها ستة أخرى لشفاء الأمراض والجراح ولتربية النغول، يربى فيه نحو ٤٠٠ ولد، وآخر لأجل تربية أولاد العساكر البحرية وأولاد أهل سكوتلاند، وآخر لتربية أولاد العساكر البرية، فيه ألف ولد، ومحال أخرى للأيتام أكثر من أن تعد.
هذا؛ وللجمعية الإنسانية مساعٍ حميدة لاستنقاذ الغرقى، فإنها تستخدم أناسًا لاستخراج الغارقين بآلات مخصوصة، وتبذل جهدها في مداواتهم وشفائهم، وتجود بالجوائز على كل من ينقذ أخاه في البشرية، وكذلك يوجد جمعية لإغاثة الذين يصابون بالنار، وفي كريست هسبيتال يربى أكثر من ألف ولد، وقل كذلك في الباقي. ا.ﻫ.
قال صاحب الكتاب الذي منه نقلت: إن جملة المستشفيات والمنشآت الخيرية من عند لندرة وما يليها إلى حد كرينتش، وهي على عشرين دقيقة من لندرة لا تنقص عن أربعمائة وأحد وتسعين محلًّا، وتفصيلها كما يأتي:
مستشفيات عمومية | ١٢ |
موزعات مخصوصة لأدواء كالجدري والسل ونحوهما | ٥٠ |
موزعات عمومية «وهي المواضع يعطى منها الدواء» | ٣٥ |
جمعيات ومنشآت لحفظ الحياة والأدب وحسن السيرة | ١٢ |
جمعيات لمنع الجرائر والشر | ١٨ |
جمعيات لإغاثة الذين هم في الضيق والفاقة على العموم | ١٤ |
جمعيات نظيرها على الخصوص | ١٢ |
جمعيات لمساعدة ذوي الكد والكدح | ١٤ |
جمعيات للصم والبكم والعمي | ١١ |
مدارس ومستشفيات ومحال للصدقة على العاجزين من الهَرَم | ١٠٣ |
جمعيات خيرية تجري أرزاقًا عمومية مما يعرف عند العامة بعلوفة | ١٦ |
جمعيات خيرية خاصة بطبقات من الناس مخصوصة | ٧٤ |
مستشفيات للأيتام ولغيرهم من الأولاد المخذولين | ٣١ |
محال للتربية والتعليم | ١٠ |
محال أخرى مثلها | ٤ |
جمعيات للمدارس والكتب الدينية ومساعدة الكنائس وعيادة المرضى | ٤٠ |
جمعيات للتوراة والإنجيل والمرسلين | ٣٥ |
تبلغ مصاريفها في وجوه مساعيها المتنوعة في كل سنة ١٧٧٤٧٣٣ ليرة، يجمع منها أكثر من مليون من المتطوعين لفعل الخير. ا.ﻫ. ويقال أيضًا: إن جملة ما فرق على الفقراء في بلاد الإنكليز من سنة ١٨١٦ إلى سنة ١٨٤٩ بلغ مائتي مليون ليرة، وإيراد المستشفيات الكبار من الوقف وعدتها أربعة عشر يبلغ ١٠٩٦٨٧.
ويقال إن في مستشفى صان برثولومي يصرف كل سنة نحو ثلاثمائة ليرة ثمن خمر تسقى للمرضى، ونحو ٢٠٠٠ رطل من زيت الخروع، و٢٠٠ كالن من الأرواح ثمن الكالن ١٧ شلينًا، و١٢ طنًّا من بزر الكتان، و١٠٠٠ رطل من السنا، و٢٧ قنطارًا من الملح و٥٠٠٠ يارد من البفت للربائط، و٢٩٧٠٠ عُلْقة، وطن ونصف من الرُّب، و٥٠ رطلًا من العشبة في كل أسبوع، وقس على ذلك، ومصروف مستشفى كرينج في السنة عشرون ألف ليرة.
وفي هذه السنة صرف على التعليم في بريتانيا ٥٤١٢٢٣ ليرة، وعلى العلوم والفنون ٧٣٨٥٥ ليرة، ولما سنَّت الإنكليز تحرير الرقيق في سنة ١٨٣٨ تطوعوا بعشرين مليون ليرة تعويضًا لمواليهم، وبلغ ما جمع لهم في لندرة في عام واحد ١٣٦٠٤٦٤ وفي سنة ١٨٤٨ كان منهم في المستشفيات ٥٦٣٢٣، منهم ٩٥٨٨ نغلًا أمهاتهم في المستشفى، و٤١٧٥ أمهاتهم في الخارج، وجميع الجمعيات تنال مددًا من الملكة ومن زوجها، وعلى قدر هذه الجمعيات المتواطئة على البر والإحسان، فإذا رأيت الفقراء في لندرة توهمت أن ليس أحد فيها يعمل الخير، فإنك ترى نساء يمشين على الثلج حافيات بأخلاق ثياب يظهر منها مواضع كثيرة من أبدانهن، وكثيرًا ما تراهن يلتقطن الجذور من الطرق ونفاية ما يرمى به من الطعام من الديار.
ولا يباح للفقير هنا أن يتكفف، وإذا وجد أحد الشرطة إنسانًا مادًّا كفه أخذه وأودعه السجن، غير أن بعضهم لا يتحرج من ذلك ليلًا إذا علم أن الشرطي لن يبصره، وأكثر من يفعل ذلك النساء، وخصوصًا نساء إرلاند، فهن يجرين مع المارين، ويلحفن في الطلب إلحاف الغريم، فإذا لم تنل إحداهن شيئًا من غريمها لعنته وانصرفت، وكذلك لا يباح لأحد أن يكسب مالًا بغير الوجه الذي يؤهله إلى ذلك، فلا يسوغ مثلًا لأحد أن يتعاطى الطب وهو جاهل به، أو صنعة من الصنائع من دون أن يأخذها عن آخر، ويشهد له أستاذه بأنه أتقنها، ولكن هم في ذلك أقل ضبطًا وتحرزًا من الفرنسيين، وأكثر عرضة للتدجيل والمخرقة.
وبقي لي هنا أن أقول: إن زي الأولاد الذين في المدارس والمستشفيات الخيرية بهذه المدينة من أقبح ما يكون، فإن الأولاد الذين في بلوكوت سكول أعني مدرسة الرداء الكحلي، وهي من أشهر المدارس، يلبسون أردية من هذا اللون طويلة إلى أوساط سوقهم، ويتحزمون بالجلد كالرهبان عندنا، ولهم جوارب صُفْر، ولا تزال رءوسهم مكشوفة صيفًا وشتاء، مع أنهم من أبناء الوسط، فأين هم من أولاد مدارس باريس الذين يلبسون لباس ضباط العسكر، فتحسب كلًّا منهم ضابطًا أو ضويبطًا؟! ويقال: إن اللون الكحلي في بلاد الإنكليز كان في السابق خاصًّا بالخدمة والصبيان، فلم يكن أحد من الخاصة يستليقه لنفسه، حتى استعملته ضباط العساكر البحرية أولًا، فصار مرغوبًا فيه ثم استعمله الوكس وهم فرقة من الأشراف من أهل المجلس، فصار الآن خاصًّا بالعظماء والنبلاء.
وذكر مؤلف أبجدية الأوقات جماعة تعرف بجمعية الببل، قال: من شأن هذه الجمعية في فرنسا وإنكلترة جمع الأموال لمقاصد خيالية على أي وجه من السُّحْت كان، وغير مرة تقع في العنت وسوء العاقبة، وقد انهمكت بإنكلترة في هذه الأيام في رأس مال بلغ ثلاثمائة مليون ليرة. ا.ﻫ.
والحاصل أن في لندرة جمعيات كثيرة للخير والشر، وكل ما يدار فيها من المصالح الجسيمة والمساعي الجليلة، فإنه يكون بواسطة جماعة لا بواسطة الدولة، بخلاف مصالح باريس كما سبقت الإشارة إليه، وأقدم جمعية للتجارة هي الجمعية المسماة ستيل يارد، كان انعقادها في سنة ١٢٣٢، وأقدمهن في المساعي الدينية جمعية انتشار المعارف المسيحية، كان انعقادها في سنة ١٦٩٨، وفي الستي وحدها إحدى وتسعون لجنة أي كومبانية، لأصناف التجارة والمبايعة، منها اثنتا عشرة لجنة تنعت بالهونورابل أي المكرمة.
(١٠) الشرطة في لندرة وباريس
وفي لندرة نحو سبعة آلاف شرطي، وهم يتناوبون عس المدينة ليلًا ونهارًا، وفي كل طريق شرطيان منهم في كل طرف واحد، وهم على غاية من النظافة والوضاءة ولا يكون مع الشرطي سلاح، بخلاف شرطة باريس، وإنما يكون بيده عصا قصيرة عليها صورة التاج، فإذا عصاه أحد من ذوي الشرور ألقاها عليه إيجابًا للطاعة، فلا يمكن بعدها الخلاف، ويكون معه فانوس مضلع، فإذا أراد أن يتعرف شخصًا عن بعد أداره فوقع النور على وجهه، حتى يراه كأنه بجنبه، ولا يسمح للشرطي بأن يتعاطى الدخان في حال مباشرته الخدمة، خلافًا لشرطة مرسيلية وغيرها، ولا أن يلطا من المطر أو الثلج، ولا أن يرفع فوق رأسه ظلة تقيه منهما أو من الشمس.
ومن هؤلاء الشرطة من يتزيا بزي العامة، حتى لا يكون معروفًا ويسمى الثقاف، ويجب على كل منهم أن يتعهد أبواب الديار والحوانيت ليلًا، ليعلم هل هي محكمة القفل أو لا؟ فإذا رأى أحدها غير مقفل نبه مالكها عليه، وأن ينظر إلى أنوار الغاز في المواضع المذكورة وينبه على إطفائها بعد فوات الوقت، وأن يمنع من رمي المياه القذرة وغيرها من الشبابيك، وييسر المرور في الطرق للماشين والراكبين، وأن يبذل جهده في فض الجموع ومنع الخصام في الطرق، وفي إزالة كل ما يخل بالحياء والأدب.
وليس له أن يدخل البيوت إلا باستدعاء سكانها، وقد يدخلها في بعض الأحوال بأمر رئيس الديوان، وذلك عند التفتيش على أشياء مهمة، وإذا طلب منه أحد أن يدله على طريق أو دار فلا يألو جهدًا في إرشاده، ويجب عليه أن يتعرف أهل الشرور والمساوئ ويراقبهم، ولا سيما إذا اجتمع منهم اثنان أو ثلاثة، وإذا أراد أحد مثلًا أن يشتري شيئًا من حانوت أو يستكري عاجلة فامتنع مالك الشيء من بيعه أو إكرائه، فللشرطي أن يلزمه بذلك نفيًا للمحاباة، ويجب حضور واحد أو أكثر من الشرطة في جميع المحال التي يكثر انتياب الناس إليها منعًا لما عسى أن يحدث من الجلبة والخصام.
أما في باريس فإن الشرطي يتبوأ موضعًا في داخل المحل، وأما في لندرة فإنه يقف خارجًا أو في دهليز المحل، وربما دخل أيضًا للتفرج كآحاد الناس، ولكن حدَّه في ذلك معروف عند المنتابين، ويجب على الشرطي أيضًا أن يمنع الفقراء من التكفف في الطرق، أو من الاضطجاع أمام الأبواب وفي الأماكن المطروقة، وإذا وجد ولدًا تائهًا عن مأواه أرشده إليه، فإن لم يعلم له مأوى آواه في ديوان الشرطة، وكتب اسمه وصفته في صحف الأخبار حتى يأتي من ينشده، وإذا بلغه أحد الأهلين شكوى عن لص أو ذي عدوان تتبع اللص والمتعدي حتى يثقفهما، فإذا وجد المذنب ساقه إلى الديوان برفق، إلا إذا كان شرسًا؛ فحينئذ يستدعي بشرطي آخر لإعانته، ويكون معه آلة يصوت بها لإحضار من استدعى به.
وعليه أيضًا أن يرى الكلاب مقيدة، ولا سيما في زمن الصيف، وأن يمنع الرعية من حمل السلاح ظاهرًا أو خفية، ومن أذى الحيوانات وتحميلها ما لا تطيق، ويجب على كل منهم أن يكون معه كتاب فيه أسماء الطرق المسلوكة، والمواضع المشهورة، وَحَدُّ أجرة العواجل حتى يفصل ما بين الغريمين وأن يعرف قدر المسافة من طريق إلى غيرها، وفي كل يوم صباحًا ينظر رئيس الشرطة في ملبوس المستخدمين في هذا الديوان، وفيما يلزم إبقاؤه نظيفًا فإذا رأى أحدًا منهم قد أهمل نظافة شيء أو تصليحه غرمه على ذلك، وفي يوم الأربعاء يكون تفتيش عام على الملابس، ومرتب الشرطي في لندرة من ستة عشرة شلينًا في الأسبوع إلى خمسة وثلاثين، وأكثرهم يموت بداء الصدر من طول الوقوف، وهم أنفع طائفة للمدينة والناس.
وفي الجملة فإن شرطة لندرة خير من شرطة باريس؛ فإن جُلَّ هؤلاء من الفلاحين، وهم على غاية من الفظاظة والتكبر، ولا سيما الذين يلبسون برنيطة نابوليون، وفي سنة ١٨٤٨ بلغ عدد الشرطة في إنكلترة ووالس ٢٧١٦، أكثرهم في إنكلترة، وبلغت مصاريفهم ١٦٣٩٤٤ ليرة، منها ١٣١٢٠٢ مرتب وظائف لهم، و٣٢٧٤٤ لدواعٍ اقتضتها الضرورة، وبلغت مصاريفهم في سنة ٥٦: ٤٣٤٠٨١، لكن عددهم زاد على ما تقدم، وفي لندرة ثلاث فرق من المشاة، وكتيبتان من الفرسان، وهؤلاء الفرسان نخبة من جميع المملكة، فهم على غاية من الجمال والاعتدال، فإذا رأيت منهم نفرًا حسبته رئيس عسكر، ولهم سراويل من جلد أبيض وجزم طويلة تفوت ركبهم، وعامة نساء لندرة من السفلة يذهبن معهم مجانًا.
(١١) المقاهي والمطاعم والمسارح والأوبرا في لندرة
وفيها ٦٠٠ موضع للأكل و٩٠٠ موضع للقهوة، و١٨ ملهى — وهو المسمى عندهم ثياطرًا — أعظمها الملهى الكائن في هاي ماركت، يقال: إنه أكبر ملهى في الدنيا، ومثله أو أكبر منه ملهى بميلان في إيطاليا، يسمى «لاسكالا»، كان بناؤه في سنة ١٧٩٠ عن رسم رجل من النمسا، ثم غير بعض التغيير في سنة ١٨١٨، وأكري بعض أكنانه العليا بثمانية آلاف ليرة، وبعض مقاعده في الحضيض بأربعة آلاف، ومن ذلك الأوبرة الطليانية الملوكية في كافن كاردن، أسس في سنة ١٨٠٨، وفتحت في سنة ١٨٠٩، واقتضى لإنشائها وتهيئتها مبالغ وافرة، وبلغ مصروف محل الغناء — في سنة ٤٨: ٣٣٣٥٩ ليرة، ومحل الرقص ٨١٠٥ ليرات، ومحل الموسيقى ١٠٠٤٨، وصرف على الآلاتية ٧٠٠٠ ليرة، وإجارته في العام ٦٠٠٠ ليرة، واستخدمت فيه امرأة لاعبة من الفرنسيس على ثمانية أشهر بمبلغ ١٢٥٠٠ ليرة، وحسب أن نفقته في كل ليلة بلغت ٨٤٥ ليرة، وقد احترق الآن ثم بُني.
وأقدم ملهى بلندرة هو المسمى «دروري لان ثياطر» ولكن بناءه غير قديم، فإنه أُحرق مرتين وهدم مرة واحدة، وأخسُّها المحل المسمى «فيكطوريا ثياطر»، كما أن «فيكطوريا بارك» هو أخس الغياض، «وفيكطوريا كافي هوس» أخس محال القهوة، وأكثر مواضع اللهو هذه تشرف بحضرة الملكة، وحينئذ يمكن للغني والصعلوك أن يراها وزوجها وأولادها، إلا أن الغالب أنه متى ذهبت إلى ملهى ما، تنافس الناس في الذهاب إليه، فتغلو المقاعد بحيث لا يعود يَتَبَوَّؤُهَا إلا أهل الاستطاعة، وربما أرخيت ستارة المحل الذي تقعد فيه، وليس حضورها بمانع مما ألفه اللاعبون والمتفرجون، فقد شاهدت مرة بحضرة زوجها وأولادها زمرة اللاعبين مقبلين بعصي عليها أصناف كثيرة خسيسة من جملتها زوج نعال.
واعلم أن التمثيل في الملهى يتجاذبه نوعان من التاريخ والأدب وفيه تمثل الحوادث والوقائع الماضية، فتصير كأنها مشاهدة بالعيان، وفيه تنشد الأشعار الرائقة والقصائد البليغة، ويقع من المحاورات الأدبية جدًّا وهزلًا ما يُسَرَّى به عن الثكلى حزنها، وكل ما يقال فيه فهو من الكلام الفصيح الذي تستعمله علماؤهم وأدباؤهم، فإن أعظم شعراء الإفرنج ألفوا فيه، وما من خطيب مِصْقَع أو أديب بارع إلا ودوَّن شيئًا من هذه المحاورات.
ومن طريقة اللاعبين فيه أن يخصصوا كل شخص منهم بحال، فمن كان مديد القامة جهير الصوت أبتع، خصصوه بأن يمثل الأمور التي فيها حماسة ووعيد وتذمير، ومن كان لطيفًا رخصًا خص بما شأنه الاستشفاع والملاطفة والتملق، ومن كان حُزُقَّة خُصَّ بالأمور السخرية المضحكة، وقس على ذلك، ولو عرفت قدر ما يسرده هؤلاء اللاعبون عن ظهر القلب لأعظمته جدًّا، فإن كلًّا منهم يحفظ من القصص والنوادر ما يكون أكبر حجمًا من ديوان المتنبي، ولا يكاد أحدهم يتلعثم في عبارة، وقد يوارون شخصًا بيده الكتاب الذي تحفظ منه تلك الحكايات في مكان، حتى إذا ذَهِلَ المتكلم عن شيء رده، ولكن وقوع ذلك نادر، ويقال: إن هؤلاء الفصحاء في ملعبهم أولو عيٍّ في غيره.
وفي هذه المواضع من الآلات والأدوات والمناظر ما يحير الناظر؛ لأنه على قدر اختلاف الوقائع والحوادث ينبغي أن يكون اختلاف الأدوات اللازمة لتمثيلها، مثال ذلك إذا أريد تمثيل ما جرى بين السَّمَوْأَل وبين الحارث بن ظالم حين طلب منه أن يسلمه الدروع التي كان أودعها عنده امرؤ القيس، نصبوا مكانًا شبيهًا بالقلعة وجاءوا بدروع وسيوف وشخصين مثيلي امرئ القيس والسَّمَوْأَل، فيكون هذا لابسًا لباس الملازم لبيته المشتغل بأمور نفسه، وذاك بلباس البطل المحارب المزمع على السفر، ويشرع الشخص الممثل لامرئ القيس في أن يخاطب الآخر بأنه قام له هَمٌّ في النفس، اضطره إلى مفارقة الوطن ومباينة السكن، فإن المعالي لا تدرك إلا بجهد النفس والمخاطرة وإزالة المصون من النفائس والرغائب وما أشبه ذلك من الكلام الحكمي، وينشد في خلال ذلك أبياتًا يتمثل بها كقول المتنبي مثلًا:
أو قول الآخر:
ويتأوه في أثناء الخطاب ويحرك رأسه، وينظر نظر المبتئس الشافن إلى أن يفرغ من الإنشاد، والناس منصتون لا تسمع لأحد منهم نأمة، ثم يأتي بالأدرع والسلاح ويسلمها للسمَوْأَل، فيأخذها منه، وبعد أن يتوادعا وينشد كل منهما أبياتًا دعاء لصاحبه على ما يقتضيه المقام، يدخل السَّمَوْأَل حصنه، ويرخي الحجاب، وبعد قليل يُرْفَع، ويأتي الشخص الممثل به الحارث بلباس فاخر يدل على صفته، ومعه جند وأعوان شاكي السلاح، ويطلب الدروع من السَّمَوْأَل وهو متهدد له ومتوعد، ويتمثل بأبيات تدل على شدة بطشه وسطوته بين أقرانه كقول الفرزدق مثلًا:
أو كقول المتنبي:
فيجيبه السَّمَوْأَل من حصنه بالمنع، وينشد أبياتًا تدل على وفائه وصدق نيته وشرف نفسه، ثم تدور بينهما المحاورة إلى أن يقنط الحارث من أخذ الدروع، فيعمد إلى ابن السَّمَوْأَل فيأخذه ويذبحه بمرأى منه، وهنا يرخي السجف، وبعد قليل يظهر السَّمَوْأَل وبيده الدروع، ويذهب بها إلى أقارب امرئ القيس، ويسلمها لهم، وينشد أبياته المشهورة، وهنا يتم الفصل. وهذا التمثيل يجري في أكثر من ساعة لما يتخلله من المحاورات كما ذكرنا وليس الخبر كالعيان.
ثم إن التمثيل عندهم على نوعين؛ الأول: تمثيل ما يحزن من نحو الحروب وأخذ الثأر، ويقال له عندهم: «تراجيدي»، والثاني: وهو عكسه ويقال له: «كوميدي»، وكلاهما يعدان من الأدبيات غير أن النوع الثاني يكثر فيه التوريات والمواربات والتجنيس، ولغة الإنكليز فيما أظن أطوع على ذلك من غيرها، وإن اللغات في هذه الملاعب وإن اختلفت وفضل بعضها بعضًا إلا أن الحركات والإشارات جميعها واحدة، وأشهر اللاعبين عند الإفرنج أهل إيطاليا، ولعل ذلك بالنظر إلى الإنشاد والغناء، فإن اللغة الطليانية أطوع على الغناء من غيرها؛ لكثرة ما فيها من الحركات.
وهم أول من أحيا طريقة التراجيدي، وذلك في القرن السادس عشر، ولكنهم كانوا يحفظون النغم عن ظهر القلب كما هي العادة عندنا الآن، ثم اقتدى بهم أهل فرنسا، لكن الحلوق وقتئذ كانت مثل العقول غليظة جافية، وأول من ألف في هذا الفن من اليونان أوروبيدوس، وذلك قبل الميلاد بأربعمائة وثمانين سنة، فأما في تمثيل المحزنات ونحوها في خفة الحركات واللباقة، فالمزية لأهل فرنسا والإنكليز تبع لهم، فأما في المضحكات فهؤلاء هم المتبوعون وذلك لسعة لغتهم.
ومن العجب هنا أنه مع ما يظهر في وجوه الإنكليز من العبوس والانقباض، فإن لسانهم أدعى إلى البسط والضحك من ألسنة سائر الإفرنج. ومن الطليانيين من ينشد في هذه المواضع أبياتًا بل قصائد على البديهة بأن يختار أحد الحاضرين لفظة، ويقول للاعب: أنشد أبياتًا على هذا الرَّوِي، فينشده دون توقف، وقد سمعت أحد الإنكليز ينشد أبياتًا زعم أنه مُرْتَجِلُهَا، وذلك بأن يصف مثلًا أحد الحاضرين بأنه لابس لباسًا بلون كذا، أو أن بيده عصا، أو أنه متكئ، وعند التحقيق علم أنه إنما كان راويًا لها فقط، على أن ارتجال الشعر عند أي جيل كان من الإفرنج هين؛ لأن كلامهم كله مجزوم أي خالٍ عن الإعراب، وليس بين الكلام المتعارف عند خاصتهم وبين كلام الكتب من فرق كبير، إلا أن يقال: إن مهابة الجمع تُفْحِم الشاعر، غير أن مَنْ أَلِفَ رؤية الجموع في كل ليلة تساوى عنده قلهم وكثرهم، فمثله كمثل العائم في البحر يستوي عنده قاموسه وضحضاحه.
وعلى كل حال لهم المزية الكبرى في كثرة الحفظ، وفي حسن الأداء، ثم إنه كما يتعلم من هذه المشاهد كثير من المحامد والمكارم والفصاحة والخطابة كذلك يتعلم المترددون عليها ولا سيما النساء كثيرًا من الحيل والأسباب الموصلة إلى الوصال وتبديل البعولة بالعشاق؛ لما يرين من فتور الزوج وحرارة العاشق الممثلين نصب أعينهن، وخصوصًا تكلف العجب والتيه من اللاعبات على الرجال، فإنهن يبدين من هذه الحركات والصفات ما يغري كل امرأة بمحاكاتهن.
وكذلك اللاعبون يبدون من الحماسة والتجبر ما يشوق كل امرأة إلى أن يكون لها بعل أو عاشق نظيره، ولا سيما حين يلبسون الديباج ويتقلدون السيوف ويأمرون وينهون، وأعظم ما يعجب النساء من تلك المناظر هو أن يرين الرجال يتضاربون بالسيوف ونحوها، أو أن يأخذوا ثأرهم ممن افترى على حُرَمِهم، وقد تلبس الرجال في هذه الملاعب ملابس النساء، والنساء ملابس الرجال، وأحسن ما تبدو المرأة به ما إذا لبست لباس الكمي، وعلى رأسها خوذة، وفي الواقع فإن كل ما يلبس هناك يليق بهن.
ومن أعجب ما يرى من أحوال هؤلاء اللاعبين واللاعبات هو أن الشيخ منهم يَتَفَتَّى في زيه وأطواره وكلامه، حتى لا تحسبه إلا فتى، والفتى يتشيخ بحيث تحسبه همًّا هرمًا، فلو ظهرا في المرة الآتية ما عرفت منهم أحدًا، بل يغيرون أيضًا أصواتهم ولهجتهم وسحنتهم وشعورهم، ويتحادبون ويتعارجون ويتمارضون ويتناومون ويتعامون ويتساكرون ويتباكون ويتضاحكون ويتحامقون ويتجانون، ويحاكون الملوك والقضاة والعلماء والأطباء والفقهاء والمتحذلقين والحمقى، وكل صنف من الناس، ومن أعظم ما أضحكني من محاكاة التثاؤب تمثيلهم أميرًا من أمراء باريس، قدم إلى لندرة، واستوخم هواءها، فكان كلما قال كلمة تثاءب وتناعس، إشارة إلى أن هواء البلاد قد ثقل عليه.
وإن جميع الإنكليز ذووا وجوه كالحة، ومن يرهم أول وهلة فربما حسدهم أو تمنى أن يكون في زمرتهم؛ إذ يراهم مغازلين للنساء الحسان، ومتردين باللباس الفاخر، وربما أكلوا في الملعب الطعام القَدِيَّ، وشربوا الشراب اللذيذ، إلا أنه عند التروي يعلم أن حرفتهم لَمِنْ أشقى الحرف؛ لأن اللاعب يلزمه أن يعيد لعبته عدة ليال متتالية كما هي، وكذا المغني والمنشد، والشيء إذا تكرر تكرج، وربما لزمهم في الليالي الباردة أن يلبسوا الثياب الرقيقة، وفي الصيف عكس ذلك، وخصوصًا أنهم يعلمون من أنفسهم أنهم إن هم إلا مستأجرون، وأن إستبرقهم إن هو إلا عارية وَهْي عار.
وحيث قد جرت العادة بأن ابتداء اللعب يكون غالبًا في الساعة السابعة وختامه بعد الحادية عشرة، كان كثير من ألعابهم سخيفًا، فلو قصروا الوقت وأجادوا اللعب لكان أولى، وهذا كالتزام بعض المؤلفين عندهم لنوع يسمى نوفل وهو أن يجعلوا الكتاب ثلاثة مجلدات، فيسفسفون ويدنقون، ويأتون بالغث والسمين، وقد رأيت غير مرة امرأة تبرز في ثياب رثة، ثم تغسل وجهها وتمشط شعرها، والناس يغربون من ذلك في الضحك، وأعرف أناسًا كثيرين يحرمون أنفسهم من لذة الأكل والشرب حتى يمكنهم مشاهدة هذه الملاهي، ولا يملون من أن ينظروا تمثيل واقعة واحدة عدة مرار.
وفي الواقع فإن نصف تمثيلهم إنما هو هزء بالمتزوجين، وكذلك أكره من تمثيلهم أنهم يجعلون المرأة الضعيفة الصوت تنشد أشعارًا فيها حماسة ووعيد، وكذا يجعلون الإنسان مشتركًا، أي يحدث نفسه فيقول المحب مثلًا وقد أعيته الحيلة في وصال محبوبته: «كيف أفعل الآن وقد سُدت عليَّ مذاهب الآمال، فلم يبق لي إلا هذه الوسيلة، وهي كذا وكذا.» أو يقول أنا لا أستحم الليلة قبل أن أنام، وكذلك أستحمق بروز المرأة مثلًا في الملعب وبيدها كنارة أو آلة أخرى للطرب ولا تعزف بها، وإنما يعزف عنها بعض العازفين من تحت الملعب، وهي مع ذلك تمر يدها على الآلة وتوهم الناس أن الصوت خارج من آلتها.
وبودي لو كانت العرب نقلت عن اليونانيين شيئًا من هذه المحاورات كما نقلوا عنهم الفلسفة، أو أنهم ألفوا فيها، ولا يبعد عندي أن شعراء العرب حين كانوا يتناشدون الأشعار في عكاظ كانوا يجرونها على وجه يكسبها حوكًا في النفوس مع اقترانها بالحركات والإشارات، ولا شك أن في هذا التمثيل يكتسب كلام الشاعر رونقًا أكثر مما لو بقي في الكتب أو إنشاد مجرد إنشاد، ولا شك أن مبدأ الملاهي عند اليونانيين كان مثل اجتماع العرب في عكاظ ثم توسعوا بها، فإن جميع العلوم والفنون بل الأديان نفسها تكون في مبدئها ضعيفة.
ومن أنواع هذه الألعاب اللعب الذي يقال له: بنطوميم، وهو لعب بالإشارة والحركة من دون محاورة، ولا يلعب فيه الرجال والنساء إلا بما يضحك ويسر، والواقع أن للإشارات شجونًا وفنونًا أكثر من الكلام، ولا تكاد تدخل تحت حد وتعريف ولا تنتهي إلى مدى، وأحسن هذه الأضاحيك ما وقع بعد عيد الميلاد، وصفتها أن يبرز رجلان أو أكثر بلباس سخرية، وآخرون عليهم لباس مذهب في هيئة الجسم، ونساء بأيديهن شبه عصا الساحر، وهن بلباس الرقص، فكلما ضربت المرأة بالعصا على الحائط خرج منه شيء أو انشق، أو على صندوق انفتح واستحال إلى هيئة أخرى، وقد جيء مرة بقفص كبير فيه صورة ديكين، فضربته امرأة بالعصا فإذا هو قد استحال إلى عاجلة مليحة مزخرفة فسارت فيها، وربما انقلب المكان كله بسقفه وحيطانه وأثاثه فاستحال بيتًا بديع الاستحكام، وربما رأيت كل ما فيه يدور ويتحرك أو يصعد في الجو ويغيب عن النظر.
ومن أحسن ما رأيته في هذه المواضع على كثرة ترددي إليها تمثيلهم فتح الإسبانيوليين مدينة بيرو في أميريكا، واجتماع أهلها في هيكل لهم يسمى هيكل الشمس للاستغاثة بها على العدو، فجعلوا دائرة جهة المشرق شبيهة بالشمس، ولها شعاع بهي، وبين يديها مذبح عليه شعلة نار سنية، وقام كاهنهم يحضهم على القتال، ثم اندفعت الرجال والنساء يرتلون لها ترتيلًا مطربًا، وكانوا جمعًا عظيمًا، حتى كاد المكان يتزلزل لأصواتهم، ثم جعلوا محلًّا يأتي عليه ضوء القمر، وجاء نحو ستين جارية من الحسان بلباس الكماة وعلى رءوسهن أكاليل، وكان يرى لهن ظل في ضوء القمر، ثم اطلعوا شجرة نخل من وسط الملعب، ثم رمت بما كان يرى في جمتها شبيهًا بالسعف، فصارت كالشرائط، فأمسكت كل جارية بشريطة، وجعلن يرقصن بالتقابل والتدابر والتزاوج والانفراد وبكل شكل من الأشكال بما يدهش الناظر.
ومن ذلك أنه برز في الملعب مائة وثلاثون جارية بلباس الرقص الشفاف، وبعد أن رقصن هنيهة أُرخي الحجاب، ثم فتح وإذا بهيكل سنيع يتلألأ بالأنوار الملونة البهيجة الساطعة، وقد وقف عشر جوار من هذا الجانب، وعشر من الجانب الآخر بأثواب من الخز شفافة بلون القرنفل، وبدت رءوس ست جوار من فوق حيز، فصفقت الناس تعجبًا واستحسانًا، ثم أصعدت هؤلاء الست، وظهر صف آخر من فوقهن بثياب من قصب مرصعة بحجارة تلمع، وعدتهن اثنتا عشرة جارية، فزاد تعجب الحاضرين، فلما تكامل الإصعاد إذا بالجواري الست متكئات كل اثنتين منهن متقابلتان، ثم أصعد ثلاث جوارٍ، ووقفن بين الصفين بلباس مذهب، وبأيديهن صوالج تلمع، ثم زادت الأنوار تدبجًا وسنًا، وزاد تعجب الناس ثم أصعدت ثلاث جوار أخر، ووقفن فوق الصف الثاني، وبأيديهن صفائح لماعة، ثم أُدْلي ثمان جوار من كل جانب أربع، فكن يدرن متدليات في الهواء المنير، وبعضهن أعلى من بعض، ثم أصعدت جارية واقفة على شبه قبة مرصعة بقطع من جواهر تتألق كأنها الثريا التي تعلق في السقف وهي في داخل الهيكل، وبيدها صولجان، فكانت أعلى من الجميع، وكانت ثيابها تتألق تألق القبة، وكان على حائط الهيكل صورة امرأتين أيضًا بصفة هؤلاء الجواري، فلم يكن الناظر يميزهما من النساء.
وحينئذ أخد العجب أقصاه، وأخذ أصحاب البنطوميم يلعبون والنساء على تلك الحالة، وقد يُصعدون النساء والأشجار من أسفل الملعب إصعادًا، وينزلوهن من السقف إنزالًا، ويجعلون جميع الحجب والحيطان تتحرك بنفسها، ويمثلون الشمس والقمر والبحر والشجر والجبال والضباب والثلج والمياه وسائر المخلوقات والمصنوعات.
ومرة أخرى رأيت سفينة في بحر أو شيء شبيه بالبحر ثم أخذت الأمواج ترتفع وتتلاطم حتى علت على السفينة فغرقت فيها أصلًا، ويطلعون قببًا مذهبة محفوفة بالأنوار المتألقة والبرق يحفها، ثم تنشق عن رءوس نساء، ثم تأخذ في النزول والنساء في الظهور إلى أن تغيب القبب بالكلية، وتبرز النساء في الملعب، ويلبس الرجل هيئة ديك، والمرأة هيئة دجاجة، وترى شيئًا يستحيل طاووسًا يمشي، وآخر بقرة تتحرك، وغير ذلك مما يقصر الوصف عنه.
ومما أعجبني أيضًا تمثيل عرس بعض ملوك الهند، بأن زينوا فيلين أحدهما كبير والآخر صغير، وعلى كل منهما قبة مزخرفة، فدخل الملك في قبة الفيل الأكبر، ودخلت الملكة في قبة الآخر، وأمام الفيلين ووراءهما جمع لا يحصى، ومرة أخرى مثَّلوا حالة المتزوج مع امرأته بعد عقد الزواج بيوم واحد، وذلك أن رجلًا غضوبًا تزوج امرأة مثله، وكل منهما كان يعلم حال صاحبه، وكان في نوبة غضبه يركس من أمتعة البيت ما يمكن ركسه، ويكسر ما يمكن كسره، ثم يدعو خادمه ويعبث به ويؤذيه، وكذلك المرأة كانت تركس وتكسر وتفعل بخادمتها، فلم تأتِ عليهما ليلة إلا وقد أتلفا جميع ما في الدار، فكنا نرى أوراق الكتب تتناثر في الجو، والقماش يمزق، والكراسي والموائد تركس. وكان مرة أخرى يؤتى لرجل آخر غضوب بطبق فيه طعام، فيرمي به في الملعب، فحيث انتهى الطبق يطلع رأس إنسان من كوة في الملعب ويدخل فيه.
واعلم أن الرقص في هذه الملاهي مخالف للرقص المعهود في المراقص، فإنه هنا أكثر خفة وصنعة وموازنة، فقد ترقص المرأة مع رءوس أصابعها عدة دقائق، وتمشي كذلك القهقرى، وقد تتخلع وتتفكك تخلع الراقصات في في بلادنا تقريبًا بحيث لا يبدين شيئًا مخلًّا بالحياء إلا أنه كثيرًا ما يرفعن سيقانهن في وجوه الناس وحين يدرن دورًا متتابعًا يرى الرائي أفخاذهن المستترة تشف من الخز، ومع ذلك فلا يعد هذا مخلًّا بالحياء، وكذا التقبيل فإن الرجل يلثم المرأة في فمها وخديها ولا حرج، وتعلُّم الرقص في بلاد الإنكليز أصله من بلاد إيطاليا، وذلك في سنة ١٥٤١.
ونقلت من كتاب معجم الأوقات أن مبدأ هذه التمثيلات في بلاد الإنكليز كان لأشياء روحية دينية، وأول تمثيلية أجريت متقنة كانت على عهد الملكة إليصابت، وأن أول تمثيلية أجريت منتسقة ومنتظمة كانت في رومية بحضرة البابا ليو العاشر، وذلك سنة ١٥١٥. ا.ﻫ.
وفي لندرة اثنان وعشرون موضعًا يرى فيها صور البلاد والمدن والأشخاص من وراء الزجاج، ويقال لها بانورامه، أعظمها المحل الذي يسمى كوليسيوم يصعد إلى قبته في درج أو في قبة صغيرة مزخرفة على شكل بيوت الصين، لا تسع أكثر من اثنين، فإذا استقرا فيها حركت بآلة من تحتها كآلة الباخرة، فتنبعث صعدًا، فإذا بلغ الإنسان القبة وهي ذروة المحل رأى صورة لندرة أو باريس بكل ما فيها من الديار والطرق والأنوار والمواضع المرتفعة والمنخفضة، حتى يظن أن المرئي شيء محسوس، ويخيل إليه أن المسافة التي بينه وبين أطراف المدينة بعيدة كمسافة المصور، ويرى أيضًا القمر يسير والنجوم تنقض وتزمهر، والثلج يتساقط، ويسمع زمزمة الرعد، وغير ذلك مما يذهله.
ومن المواضع الشهيرة دار الاختبارات العلمية وهو موضع يشرح فيه خواص الأشياء، وكيفية العلوم والصنائع ومن أعظم الآلات فيها جرس كبير ينزل الناس فيه في حوض ماء، وهناك ماء رأيت الناس يغمسون فيه أصابعهم وينزعونها بعجلة؛ لأن فيه خاصية الإرجاف الكهربائية.
(١٢) مجلس المشورة في لندرة
وأعظم بناء في لندرة بل في الدنيا كلها مجلس المشورة، أول حجر وضع في أساسه كان في السابع والعشرين من نيسان سنة ١٨٤٠ ودام بناؤه عشرين سنة، ومساحته أكثر من ثمانية جريان، فيه أكثر من ١١٨٠ حجرة، و١٩ ديوانًا و١٢٦ مرقى، وبلغت نفقته ٣٥٠٠٠٠٠ ليرة طول مجلس الأعيان فيه ٩٧ قدمًا وعرضه ٤٥ وارتفاعه كذلك، فيه عرش تجلس عليه الملكة وكرسيان عن يمينه وشماله أحدهما لزوجها، والثاني لولدها وهو يشبه كنيسة صغيرة لكنه من دون كوى، وعلى مدار حيطانه زجاج ملون عليه صور ملوك الإنكليز، وارتفاع مجلس النواب ٤٥ قدمًا وعرضه كذلك، وطوله ٦٢، وهو يفتتح في شهر شباط، ويغلق في تموز، فتكون مدة انعقاده ستة أشهر.
وقبل الشروع في المذاكرة والنظر في المصالح تقام الصلاة، وكذا هي العادة عند الإنكليز قبل كل أمر ذي بال، ولا سيما قبل القتال، وحين تحضر الملكة لفتحه أو لإغلاقه يقدم لها أحد أرباب المناصب العلية خطابًا وهو جاثٍ على ركبتيه، فتأخذه منه وتتلوه إيذانًا بما ذكر، وقبل حضورها بساعتين تفتش أسرابه ودهاليزه جريًا على العادة من سنة ١٦٠٥، وذلك أن أهل مجلس المشورة حين كانوا مجتمعين يومًا وكان دين البروتستانت قد استتب حديثًا، حاول بعض من الكاثوليكيين أن يحرق المجلس وأهله ببارود كان قد خزنه تحت أسسه، فانتبه لهذه المكيدة بعض الحاضرين، وفسدت على الرجل حيلته.
وقد فرضت كنيسة الإنكليز المتأصلة صلاة معينة لذلك اليوم، وهو الخامس من شهر نوفمبر، وفيه يخرج رعاع الناس بتصاوير وتماثيل كثيرة يمثلون بها ذلك الرجل والبابا وغيرهما ممن يحسبه الإنكليز عدوًّا لهم، وبعد أن يطوفوا بها المدينة بضجة وزأط يحرقونها عند برج لندن، ويسمون هذا اليوم كي فكس، واعلم أن أهل المجلس ينقسمون إلى قسمين: الأول يقال له مجلس الأعيان، والثاني مجلس النواب، أما أعضاء مجلس الأعيان فقد يكونون من أصحاب الوظائف العالية، سواء كانت دينية أو دنيوية، وعدتهم ٤٦٢، منهم ٢٦ من مطارنة إرلاند، و٢٨ من أعيانها، وما حكم به هؤلاء السائدون لا ينقضه أصحاب مجلس النواب إلا في أمور مخصوصة، ولكل منهم أن يَحْتَجَّ عن نفسه حين تقام عليه الدعوى ويبدي الأسباب التي يستصوبها خطأ، وإذا لزم إثبات ما قرره يُكتفى بمجرد قوله: على شرفي، وفي غير ذلك يحلف، وإذا قضى أهل مجلس النواب بشيء فلا بد وأن يعرضوه على مجلس الأعيان، وللملكة أن تبطل حكم المجلسين، ولكن قلما تتجرأ على ذلك.
ولكل من الوزراء ٥٠٠٠ ليرة في السنة، ولأحد الدوكات من رزقه في كل يوم ألف ليرة، ولرئيس المجلس ٨٠٠٠ ليرة ودار يسكنها، وعدة أعضاء مجلس النواب ٦٥٨، ينتخبهم أهل أقاليم إنكلترة، وهي ٥٢ إقليمًا، وأهل المدن والمدارس، ولا بد من أن يكون لنائب الإقليم إيراد ٦٠٠ ليرة في العام من رزقه، ولنائب المدينة ٣٠٠، والحكمة في ذلك أن يكونوا قادرين على التفرغ للنظر في مصالح الرعية. وأول مجلس مشورة عرف للإنكليز كان في عهد هنري الثالث سنة ١٢٦٦، وفي سنة ١٣٤٠ انقسم إلى مجلس الأعيان ومجلس النواب كما تقدم، ومصاريف المجلس تبلغ في السنة نحو ١٦٢٣٢٠ ليرة، منها مصروف الطبع، يبلغ ٧٥٩٥٤، وعروض الحال التي تقدم لمجلس المشورة يبلغ عددها في السنة نحو ١٠١٢٨، وعدد التواقيع أو الإمضاء ١٦٨٧٩٣٣.
(١٣) المتحف البريتاني ومكتبته
ومن المباني العظيمة في لندرة المتحف البريتاني، وهو الموضع الذي فيه التحف الغريبة والأشياء العادية والحجارة المعدنية، ويقال له: بريتش موزيوم، بني من سنة ١٨٢٣ إلى سنة ١٨٥١، وأصل إنشائه أن رجلًا من الأعيان اسمه هانس سلون توفي سنة ١٧٥٣، وأوصى بعشرين ألف ليرة لمشتري تحف توضع في محل مخصوص للتفرج عليها، فأعجب ذلك مجلس المشورة، وفي ذلك التاريخ جمع ٣٠٠٠٠٠ بأمر المجلس لإنشاء ذلك الموضع، وفيه من الغرائب حجر يقال: إنه سقط من الجو في ولاية الساك حين كان الإمبراطور مكسميليان عازمًا على أن يوقع بالفرنسيس، فحفظ في كنيسة انسسهم إلى أوائل فتنة الفرنسيس، ثم نقل بعد ذلك إلى مكتبة كلمار، زنته ٢٧٠ رطلًا إنكليزيًّا، ويوجد فيه أيضًا حجارة أخرى سقطت من الجو، بعضها سقط في سنة ١٧٩٠، وبعضها بعد ذلك بأربع سنين وبخمس، وفيه جميع الحيوانات مصبرة، وصور تماثيل، وكُسَى أهل البلاد الأجنبية، وآلات طربهم، وأثاثهم والعصافير المصبرة، والطيور، والوزغ، والأسماك، والأصداف، والعظام، والقرون، والجماجم، وأسنان الفيلة، والبيض، ومن هذه الحيوانات ما انقرض نسله من جملتها سلحفاة جلبت من الهند، وقد دفع في ثمنها ١٠٠٠ ليرة، وفيه موضع آخر لجميع أصناف الجواهر المعدنية، وآخر لأصناف الدراهم والدنانير القديمة، رأيت في جملتها دنانير ضربت على عهد هارون الرشيد بالخط الكوفي، وهي كبيرة رقيقة.
وفيه موضع آخر للكتب تبلغ أكثر من ٦٥٠٠٠٠ كتاب، وإذا اعتبرتها بحسب الأجزاء تبلغ أكثر من ٩٠٠٠٠٠، وهذا القدر يساوي مقدار كتب برلين وويانه، ولكن دون القدر الموجود في باريس ومونيش، وهذه الكتب موضوعة على رفوف تشغل مسافة خمسة عشر ميلًا، ومن جملتها الكتب التي كانت لملوك الإنكليز، وتبرعوا بوقفها على المحل المذكور، منها كتب مجلدة بالمخمل كانت للملكة إليصابت ولجامس الأول ولشارلس الأول وغيرهم، وكتب كانت لجورج الثالث، وهي ٨٠٠٠٠، وأعظم موضع في هذه المكتبة هو ما وقفه الملك جورج الرابع يبلغ ثمنه ١٣٠٠٠٠ ليرة، فيه توراة قديمة طبعت في متس سنة ١٤٥٥، وأمثال لقمان الحكيم طبعت في ميلان سنة ١٤٨٠، وأول نسخة طبعت من أشعار أوميروس طبعت في فلورانس سنة ١٤٨٨، ونسخة أشعار فرجيل في فينيسيا سنة ١٥٠١، وفيها صوانان قيمة ما فيهما من الكتب ربع مليون.
وهذه المكتبة يدخلها الناس بإذن من ناظرها لأجل المطالعة والمراجعة، وفي كل نصف سنة يتجدد الإذن، ولا يؤذن للمطالع أن ينسخ كتابًا منها برمته، وإنما ينسخ منه جملًا، ولا أن يستصحبه، ولا أن يطلب كتابين في تذكرة واحدة، وقد بلغ عدد المطالعين في سنة واحدة ٧٠٠٠٠، وعدد كتب الخط ٣٠٠٠٠، وثمن خزانتين منها فقط ٢٥٠٠٠٠، في جملتها كتاب توراة، كتب لشارلمان، وكتاب صلوات الملكة إليصابت غشاؤه من صنع الإبرة عملته بيدها.
وفيها ٣١٧ كتابًا باللغة السريانية، قلت: لم يذكر المؤلف عدد الكتب العربية جريًا على عادة أهل بلاده من عدم المبالاة بلغتنا، وإن يكن قد دون بها من العلوم والفنون ما لم يدون في لغة شرقية قط، وحين كنت أذهب إلى هذا الموضع للمطالعة لم يتهيأ لي أن أعرف أسماء الكتب العربية بجملتها؛ لأن أكثرها مكتوب بالحروف اللاتينية، ومعلوم أن الاسم العربي لا يظهر بها حق الظهور.
ومما رأيت فيها من الكتب الجليلة: أدب الكاتب لابن قتيبة، والنوابغ للزمخشري، ومدح الشيء وذمه للجاحظ، وديوان أبي تمام، وهذا المتحف هو من بعض ما تمكن رؤيته مجانًا بلندرة، يفتح ثلاثة أيام في الأسبوع، وهي الإثنين والأربعاء والجمعة، من السابع من سبتمبر إلى أول شهر ماي، ولا يدخله من الأولاد من كان سنه دون ثماني سنين، وعند بابه عسكريان بالسلاح اعتبارًا للمحل، وقد ضمن بعض الكتب بلندرة بثلاثة آلاف ليرة وبيعت نسخة من بوكاتشو بألفين ومائتين وستين ليرة، وقومت نسخة من توراة مكلين بخمسمائة وكسور.
(١٣-١) متاحف أخرى
ومن ذلك متحف آخر يعرف بمتحف الخدمة المتحدة، بني في سنة ١٨٣٠، وهو يشتمل على تحف نفيسة، من جملتها سيف كان يتقلده أكرامول المشهور، وجثة الحصان الذي كان يركبه نابوليون الأول في حرب واطرلو، يقال له: مارنغو ذو اللحية، وفيه أيضًا صورة تلك الواقعة، ولوح من وجه السفينة التي انتصر فيها نلسون، وآخر يعرف بمتحف خصائص الجيولوجيا بني في سنة ١٨٣٥، وفتح في سنة ١٨٥١، بلغت نفقته ٣٠٠٠٠ ليرة، وهو يشتمل على الجواهر المعدنية وعلى ما يوجد من أصناف الحجر في بلاد الإنكليز وغيرها من البلاد، وعلى الآلات المتعلقة بهذا العلم.
وآخر يعرف بمتحف المرسلين، يشتمل على أشياء كثيرة مما يتعلق بعلم حياة الحيوان، وعلى مشاهير آلهة الوثنيين وأشياء أخرى عديدة جلبها هؤلاء المرسلون من البلاد التي جالوا فيها، وآخر يعرف بمدرسة الجراحين بني في سنة ١٨٣٥، وبلغت نفقته ٤٠٠٠٠ ليرة، يفتح لأهل المدرسة ولمن يكون له إجازة من أحدهم، وذلك في أيام معلومة من الأسبوع، وهو يشتمل على ٢٣٠٠٠ قطعة من الأجسام المصبرة، ومن الأعضاء والآراب، وعلى جثة جبار من أهل إرلاند طولها ثماني أقدام، مات وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وذلك سنة ١٧٨٣، ولما مات قيست فكانت ثماني أقدام وربعًا، وفيه جثة رجل حزقة من صقلية، طولها عشرون إصبعًا.
قلت: ومن مشاهير القصار فيليطوس الكوسي، كان من صغره إذا خرج يضع في جيبه كرات من الرصاص خيفة أن تطيره الريح، وكان شهيرًا أيضًا في عصره بالعلم ونظم الشعر. وآخر يسمى إلبيوس الإسكندري، كان طوله قدمًا وخمس أصابع ونصف أصبع، وكان له شهرة أيضًا بالمنطق والفلسفة، قال: وفيه جثة جبار آخر من إرلاند طولها ثمانية أقدام وسبع أصابع ونصف، وقدر ذراع من جثة جبار فرنساوي كان طولها سبع أقدام وأربع أصابع، وجثة فيل جلب من الهند وكان يؤذي الناس لداء اعتراه، فكان لا بد من قتله برشق من الرصاص، ولما أريد قتله أناخ على صوت قائده ليصوب بعض المقاتل في جسمه فلم يمت إلا بعد أن أطلق عليه مائة رصاصة، وثَمَّ جثث أَجِنَّة إسقاط، وأختان توأمان ولدتهما أمهما وهي بنت سبع عشرة سنة من دون مقاساة ألم، ولم تزل أجسامهما متحدة، وفيه شكل أحشاء نابوليون مظهرة لانتشار الداء الذي أودى به.
وآخر يقال له متحف صون بالقرب منه بني في سنة ١٨١٢، يشتمل على أربع وعشرين مقصورة، فيها تماثيل وتصاوير وحجارة ثمينة وغير ثمينة، وتحف وكتب فن، من جملة تماثيله تمثال أحد آلهة المصريين المسمى إزيس ثمنه ٢٠٠٠ ليرة، وفيه فَرْد مرصع — طبنجة — كان الملك بطرس الأكبر أخذه من قائد الجيوش التركية في بحر الخزر سنة ١٦٩٦، ثم أهداه الملك ألكسندر إلى نابوليون عند الهدنة التي وقعت في نلسيت سنة ١٨٠٧، واستصحبه نابوليون إلى جزيرة صانت هيلان، ثم جاد به على بعض ضباطه، وانتقل أخيرًا إلى لندرة.
ومن ذلك الموضع الذي يقال له: روشن الأمة، بني في سنة ١٨٢٤، وبلغت نفقته ٩٦٠٠٠ ليرة، وهو يشتمل على ٣٩٠ صورة، منها ٣٨ صورة قومت بسبع وخمسين ألفًا وست عشرة ليرة، ثمنها ٧٥٠٠ ليرة وهو دون نظرائه في بلاد أوروبا، ويوجد أيضًا محال أخرى عدتها خمسة عشر محلًّا لجماعات الجغرافية والبناء، ومعرفة المعادن والتصوير، ولإلقاء الخطب وغير ذلك.
(١٤) من المباني الجليلة «البنك»
ومن المباني الجليلة البنك أنشئ في سنة ١٦٩٤، ومرتب ناظره في السنة أربعة آلاف ليرة، وللوكيل ٣٠٠٠ ليرة ولكل من المباشرين وهم ٢٤ رجلًا ٢٠٠٠ ليرة، وعدد المستخدمين فيه ١٠١٦، منهم ٨١٤ كتابًا، وسنويتهم من الخمسين ليرة إلى الألفين، فجملة مرتبهم في السنة ١٩٠٠٠٠ ليرة، وكل كاغد يعاد إليه يلاشى ودين الدولة للبنك يبلغ ١١٠١٥١٠٠ ولا يسمح بأن كواغده تزيد على ١٤٠٠٠٠٠٠ ليرة، وقيمة ما يتداول منها في ثلاثة أشهر تزيد على ثمانية عشر مليونًا.
ومن هذه الكواغد ما تساوي قيمته ألف ليرة، وأظن أن أغلى كواغد فرنسا لا يساوي أكثر من ألف فرنك، وفيه سبائك ذهب منها ما وزنه ستة عشر رطلًا، وقيمته ثمانمائة ليرة، وفيه عدة موازين من جملتها ميزان يزن من سبائك الفضة من خمسين رطلًا إلى ثمانين، وآخر يزن في كل دقيقة ٣٣ ليرة، وقد جعل بحيث يزن الدينار الرائج ويرميه في صندوق، والزائف في صندوق آخر، وفيه آلة لطبع الكواغد ورسم إعدادها من الواحد إلى مائة ألف، بغاية ما يكون من الضبط والإحكام، وبجانب هذا المحل الدار التي تجتمع فيها التجار، فتحتها الملكة في سنة ١٨٤٤، وبلغت نفقتها ١٨٠٠٠٠ ليرة، وفي وسطها تمثال الملكة وعلى حيطانها رواميز ما عند أصحاب الصنائع والتجار من الأدوات والتحف، وأمامها ساحة مبلطة فيها تمثال ويلنكطون من نحاس راكبًا على فرس فوق عمود من المرمر، وقال صاحب المعجم: كواغد البنك التي تداولها الناس في سنة ١٨٥٥ بلغت ١٩٦١٦٦٢٧ ليرة، وفي بعض الأحايين زادت على هذا القدر، وقيمة السبائك التي فيه بلغت في سنة ٥٣: ٢٠٥٢٧٦٦٢، وفي سنة ١٨٢٨ تفرع عنه في المملكة عدة فروع.
(١٤-١) الكمرك والتبغ
ومن ذلك الكمرك، بني من سنة ١٨١٤ إلى سنة ١٨١٧، وفي سنة ١٨٤٩ بلغ عدد المستخدمين فيه ٢٢٢٨ شخصًا، يصرف عليهم من المرتبات ما يبلغ في السنة ٢٧١٢١٣ ليرة، ودونه كمرك ليفربول، كان فيه من المستخدمين في ذلك التاريخ ١١٤١ نفسًا، وإيراد الكمرك الأول وافر جدًّا، وفيه مقصورة طولها ١٩٠ قدمًا، وعرضها ٦٦.
ونقلت من بعض صحف الأخبار أن ما دخل من التبغ في سنة ١٨٤٨ بلغ ٢٧٣٠٥١٣٤ رطلًا، ومقدار ما دفع عليه من المكس ٤٣٦٥٢٣٣ ليرة، وعدد من ثقفوا مدخلي الصنف المذكور من دون مكس ٢١١٥، وفي سنة ١٨٥٠ بلغ المجلوب منه نحو ٤٣٥٠٠٠٠٠ رطل، وأما اسم التبغ فيقال: إنه منقول عن اسم إقليم في إسبانيا الجديدة بأميريكا، وأول ما علم أمره كان في سنة ١٦٩٤، وفي سنة ١٧٢٠ استعملته الإسبنيول في يوكاتان، وأكثروا منه، وفي سنة ١٥٦٥ جلب إلى بلاد الإنكليز، فكان يصنع فيها أولًا لأجل إرساله إلى الخارج، وفي سنة ١٥٨٤ شهر استعماله في أزلنطون، ثم منع، وفي سنة ١٦١٤ ضرب عليه أداء على كل رطل نحو سبعة شلينات، وفي عهد شارلس الثاني منع تنبيته وغرسه، ثم أبيح.
(١٤-٢) مبنى المألك العام «البوسطة»
قال بعضهم: وما يفرق الآن من الرسائل في مسافة ١٢ ميلًا حول عموم مركز البوسطة الأصلي يكون قدر ما كان يوزع منها في الزمن القديم في جميع جهات المملكة، وأجرة المستخدمين في بوسطة صقع لندرة تبلغ في الأسبوع ١٥٠٠٠ ليرة، وعدد المباشرين لهذه المصلحة العظيمة في المملكة كلها سنة ٥٧ — وذلك ما بين رؤساء ونظار ومباشرين وكتاب وحمالين وخدمة — ٢٣٧٣١ منهم ١١١٠١ مدير، و١٦١٠ كتاب، و٢٠٥ حراس، و١٠٥٨٢ لتبليغ الرسائل وغير ذلك.
قال: والمحسوب أنه من كل ٢٠٠ رسالة ترجع واحدة إلى مرسلها لعدم العلم بمقر المرسل إليه، فإذا وقع أمر مثل هذا أبقيت الرسالة في المحل، وفي العام الماضي كان من هذه الرسائل نحو ١٠٠٠٧٠٠، قال: وجملة الرسائل التي سلمت في الروسية في سنة ١٨٥٥ بلغت ١٦٤٠٠٠٠٠ وهو نحو القدر الذي سلم في مدينة منشستر وضواحيها فقط، وجملة الرسائل التي فرقت في فرنسا في سنة ١٨٤٧ بلغت ١٢٧٤٨٠٠٠٠، وفي سنة ٥٦: ٢٥١٩٩٦٧٠٠ ما عدا ٢٨٦٧٩٠٤ رسالات بقيت في البوسطة لعدم بيان عنوانها، وعدد المستخدمين في بوسطة هذه المملكة؛ أي فرنسا، ٢٥٨١٥ نفسًا.
وأول من رتب البريد لويس الحادي عشر ملك فرنسا، ولكن ليس على هذا المنوال الذي نراه الآن، وإنما كانت الكتب تبلغ إلى أصحابها على يد رسل من الملك من بلد إلى آخر، وبقي هذا الترتيب مجهولًا عند غيره من الملوك مدة طويلة، وهو الذي عدل الميزان والكيل، وأول من نعت بنعت ماجستي — أي عظمة — وأول من اخترع هذا الطابع الذي يلصق بالرسائل، رجل من أهل السويد اسمه تريكنبر وذلك في سنة ١٨٢٢، وبقي أهل هذه البلاد إلى القرن الحادي عشر خالين من المعارف، وكان دأبهم التنقل والترحل إلى البلاد الأجنبية.
(١٤-٣) منتديات لندرة
وفي لندرة ٢٦ منتدى، ويقال لها: الكلوب، وهي ديار رحيبة يجتمع فيها أغنياء الإنكليز للمذاكرة والمعاملة والمطالعة والأكل والشرب، منها ما يجتمع فيه ٣٠٠، ومنها ألف وأكثر، ولا يدخل فيها أحد إلا بشهادة بعض من أهلها، وأداء الدخول من ٩ ليرات إلى ٣٢ ليرة، وفي كل سنة يدفعون أيضًا شيئًا لمصاريف خدمتها وفرشها وأنوارها، وذلك من خمس ليرات إلى اثنتي عشرة ليرة، وكلها حديثة عهد بالبناء، وهذه المحال لا يدخلها النساء، وإذا رضي أحد من أهل هذه المواضع عن أحد من الغرباء أدخله في زمرتها إكرامًا له.
(١٤-٤) كنائسها العظام
وفيها عدة كنائس عظام، أقدمها وستمينسترابي، كانت في الأصل ديرًا للرهبان الباندكتيين، أسست في سنة ٦١٦، ثم وسعت وجددت، وفيها تتوج ملك الإنكليز وملكاتهم من عهد إدورد الملقب بالمعترف إلى الملكة فكطوريا، وقد جلست على الكرسي الذي تتوج عليه الملوك، وهو كرسي عالٍ قديم مُغشى بالجلد ككراسي الكنائس والأديار في الزمن القديم، خالٍ عن الزخرفة مطلقًا، وكثير من ملوك الإنكليز وأعيانهم وعلمائهم قد دفنوا في هذه الكنيسة، من جملتهم هنري الثالث، وماري ملكة سكوتلاند، وكنكراف الشاعر صنع له قبر، فبلغت نفقته عشرة آلاف ليرة صرفت من هانرتة زوجة الدوك «أو دتشس» مالبولور، وفيها قبر لسر إسحاق نيوطون كلف خمسمائة ليرة، وآخر لشكسبير، ولما سئل بوب الشاعر أن يكتب تأبينه، كتب ما ترجمته هكذا: «أهل بريتانيا يحبونني ويحفظون صيتي سالمًا عن اسم بربر أو بنصون.» يعني أن هذين الرجلين كانا لا يحسنان الرثاء والتأبين مع كونهما كانا متعارضين له.
ومن ذلك كنيسة صان بول — أي: مار بولس، وقد تقدم ذكرها — أول حجر وضع في أساسها كان في سنة ١٦٧٥، وآخر حجر في سنة ١٧١٠، وذلك بعد ٣٥ سنة في عهد أسقف واحد وبلغت نفقتها ٧٤٧٩٥٤ ليرة و٢ شلين و٩ بنس، جمعت من مكس جعل على الفحم، ولذلك يقال: إنها تردت بلباس أسود كما تراها الآن، قلت: بل جميع مباني لندرة متردية بهذا الرياش، حتى إن مجلس المشورة مع كون البناء فيه متواصلًا يظنه الناظر قد مضى عليه أحقاب من الدهر، قال: وشكلها على شكل صليب لاتيني، وطولها من الشرق إلى الغرب ٥٠٠ قدم، وعرضها ١٠٠، وطول صومعتها ٢٢٢ قدمًا، وارتفاعها من الحضيض إلى ذروة الصليب ٤٠٤ أقدام، وعدد قضبان درابزينها المحيطة بها ٢٥٠٠، بلغت نفقتها ١١٢٠٢ ليرة ونصف شلين، ودورتها ثلاثة أرباع ميل.
قلت: جميع التربيعات والحدائق والغياض بلندرة ومعظم الديار محاطة بدرابزين من حديد، لعل ثمنها يوازي ثمن مدينة بأسرها، وداخل الكنيسة مبلط بالرخام الأسود والأبيض، وسقفها عقد من دون زخرفة، ولها قبة عظيمة، دورتها من داخل ٣١٦ قدمًا وإذا طلعت إلى أعلاها من داخل الكنيسة خطوت ٦١٦ درجة، ومن شأن هذه القبة أنه إذا وقف رجل في جهة منها، ووقف آخر في جهته المقابلة وأَسَرَّ اليه كلامًا بأن يضع فمه على حائط القبة سمعه الآخر.
وفي داخل الكنيسة تماثيل الملوك والمشاهير من الإنكليز وأبطالهم، عندها تماثيل ملائكة بصورة نساء يقدمون لهم الأكاليل، إشارة إلى أنهم ماتوا في سبيل الله، وثمَّ أيضًا تماثيل نساء بارزة نهودها، ولها أربعة أبواب في كل جهة باب، وقدام الباب الأكبر ١٢ عمودًا من أسفل، و٨ في الطبقة الثانية، ولكل من الباقي ٤ أعمدة، ولها قبتان متقابلتان في كل منها ساعة دقاقة، وفي يوم معلوم من السنة يهيئون موضعًا فيها لترتيل الأولاد، تبلغ نفقته ٣٠٠ ليرة، وفي اليوم الثاني يزاح.
وهذه الكنيسة هي أكبر كنيسة للبروتستانت في الدنيا، ودون كنيسة رومية، وهي تشبه بعض الملاهي في أنها لا تفتح إلا في ساعة معلومة من النهار، ولا يمكن رؤية جميع ما فيها إلا بأداء نحو خمسة شلينات، وإيراد رئيس أساقفة كنتربوري في السنة ٢٥٠٠٠ ليرة، وإيراد رئيس أساقفة يورك ١٥٠٠٠، وليس لمطران باريس من الإيراد ثلث ما لمطران لندرة، وجملة ما يصرف على الكنائس نحو ٥٠٠٠٠٠ ليرة، وإيراد أسقف لندرة في السنة ١٥٠٠٠ ليرة، ولكن خليفته لا يكون له إلا ١٠٠٠٠ فقط، وإيراد باقي الأساقفة من ٤٠٠٠ ليرة فصاعدًا، فهم بمثابة وزراء الدولة، فإن سنوية أول لورد في ديوان نظارة البحرية ٤٥٠٠ ليرة.
ثم إنه كما أن هؤلاء الرعاة المتبتلين إلى الله تعالى ماثلوا الوزراء والأمراء في أخذ الأرزاق والوظائف، كذلك ماثلوهم في الرفعة والشأن والانفراد عن الرعية، فإن مواجهة رئيس أساقفة الإنكليز أصعب من مواجهة البرنس ألبرت زوج الملكة، وقد اضطررت مرة إلى أن أكتب إليه في أمر ما، فورد الجواب منه في رقعة قدر نصف الكف، وكان خطابه بضمير الغائب، ونفى فيه ما لم يكن محله النفي احترازًا من أن أكلفه بخطاب آخر، ولكن أي لوم عليه إذا لم يجاوب أحدًا؛ لأن رئيس الكنيسة الذي إيراده ٢٥٠٠٠ ليرة في السنة ليس عليه أن يجاوب من ليس له صلدي واحد من كل ليرة تدخل خزانته الرسولية.
وقد كان الخوري ميخائيل شاهيات حضر إلى هذا الطرف، وكتب ثلاث رسائل؛ إحداها: إلى البرنس ألبرت، والثانية: إلى اللورد بلمسطون، والثالثة: إلى المطران المشار إليه، فجاءه الجواب من الأولين، ومن الأخير لم يرد سلب ولا إيجاب، وأقسم لو أن يهوديًّا غنيًّا من أمستردام وفد عليه في عاجلة ورُواء لاحتفل به وأكرمه غاية الإكرام، ولكن ليت شعري ما معنى كلام من قال: أما الذين يرومون الغنى فإنهم يقعون في المحنة والفخ وفي شهوات كثيرة سفيهة ضارة، تغرق الناس في العطب والهلاك، لأن حب المال أصل كل شر، وهو الذي اشتهاه قوم فضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم برزايا كثيرة، فأما أنت يا رجل الله فاهرب من هذه الأشياء واقتفِ البر والتقوى والإيمان والمحبة … إلخ، وقال أيضًا: من حيث إن لنا القوت والكسوة، فلنقتنع بهما؟! أما التقوى مع القناعة، فإنها مكسب عظيم.
ورُب معترض هنا يقول: إن الكنيسة الآن ليست كالكنيسة في مبدأ النصرانية؛ إذ لم يكن للنصارى وقتئذ دولة ولا سطوة، فأما الآن فإن عزها يرجع إلى عز الدولة، وإن رئيس الأساقفة الآن يلزمه أن يكون من أهل مجلس المشورة، وأن يزور الوزراء، ويكون مزورًا منهم، وأن يصنع مآدب للأعيان، ويكلف نفقات كثيرة، فلا بد له والحالة هذه من رزق وافر يجري عليه، ومن صرح وعاجلة، وخدم وأواني فضة، ونفيس أثاث، قلت: إذا كان الأسقف تزوره أرباب الدولة، وتدعوه إلى الولائم مع اقتصاد حاله — أو بالحري مع تقشفه — كان ذلك أدعى إلى كرامته وتعظيمه، فأما تكلفه للنفقات والولائم وغير ذلك، فإنه شاغل له عن أداء ما يجب عليه من تعهد الرعية، وتفقد أحوالهم، وهذا هو أصل معنى الأسقف.
فإن قيل: إن أمور الكنيسة الآن قد استتبت وانتظمت، فلم يبقَ حاجة إلى تكليف الأسقف أو رئيس الأساقفة النظر فيها والتعهد لها، قلت: إذن هو إقرار على أنفسهم بعدم لزومهم، على أني لا أتعرض لمثل هذه المسائل، فإن لكل كنيسة أساقفة ومطارنة، وحيث إن إمامهم قد ذكر اسم الأسقف، فلا بد من وجود مسماه، ولكني أرى شيئًا على من يعير غيره شيئًا وهو متلبس به، فإن الإنكليز ينسبون الكنائس الشرقية إلى العظمة والتبذخ والسرف والشطط، مع أن رؤية بطاركة أنطاكية ممكنة لكل أحد، ولا يخفى أن أنطاكية في الدين أشرف من لندرة.
(١٤-٥) مبنى «بيت الهند»
ومن المباني العظيمة بيت الهند، أي بيت الجماعة التي بيدها تدبير مملكة الهند، بني في سنة ١٧٩٩، وفي سنة ١٨٣٣ حصل فيه تغييرات جمة، وحينئذ صدر أمر من مجلس المشورة بإقرارها على حالها، وفيه متحف وأصنام من فضة وذهب جلبت من تلك البلاد، وكتب وسلاح ودنانير وغير ذلك، ونقلت من بعض الكتب أن جمعية الهند استتبت للتجارة في تلك البلاد سنة ١٦٠٠، ثم صارت تاجرة ومحاربة معًا، فطردت الجمعية الفرنساوية، وذلك سنة ١٧٥٠ حتى تغلبت على أكثر البلاد.
وقال آخر: إن أول سعي أبدته الإنكليز فيما يخص الهند كان تجهيز ثلاث سفائن، وذلك في سنة ١٥٩١، ولكن لم يصل منها إلا واحدة فقط، وبعد سفر ثلاث سنين رجع الربان في سفينة أخرى؛ لأن الملاحين غلبوه على سفينته، فلما أن رجع أخبر الأهلين بما جرى له وبما رأى، فجذبهم الحرص لإرسال سفن أخرى تجارية، وتم انعقاد ذلك في سنة ١٦٠٠، فجمعوا ٧٢٠٠٠ ليرة جهزوا بها أربعة مراكب، ونالوا أربهم، واستمروا يتجارون ويتاجرون هكذا، وفي سنة ١٦٩٨ عقدت جمعية أخرى، ثم التحمت مع الأولى، فصارتا جمعية واحدة، وذلك في سنة ١٧٠٢، ثم بني بيت الهند في سنة ١٧٢٦، وفي سنة ١٧٩٩ وسع وكبر، وفي سنة ١٧٨٤ استقر ديوان جماعة الهند. ا.ﻫ.
(١٥) براهمة هذا العصر
قال فلتير: إن براهمة هذا العصر ما زالوا على مذهب أسلافهم الذميم من إغراء النساء بإحراق أنفسهن بعد موت بعولتهن، والعجب أن هؤلاء الناس الذين لا يستحلون دم الإنسان أو البهيمة يرون أن أَبَرَّ المناسك هو إحراق نسائهم، ولكن هذا شأن الوساوس والأضاليل أبدًا تأتي بأفعال متناقضة، ومن زعمهم أنهم يقولون: إن برهام هو ابن الله، نزل إلى الأرض واتخذ أزواجًا كثيرة، فلما مات تطوعت أحب أزواجه له إلى أن تحرق نفسها رجاء أن تلحقه في نعيم السماء، ومذ ذلك الوقت سرت هذه العادة السمجة، ولكن ليت شعري كيف يتأتى للنساء أن يعرفن بعولتهن وقد صار بعضهم خيلًا وبعضهم فيلة وبعضهم بومًا؟! وكيف يمكن لهن أن يميزن الحيوان الذي دخل فيه روح الميت؟!
غير أن هذا الإشكال لا يعسر على هؤلاء الكهان، فإن التناسخ عندهم إنما يكون للعامة فقط، فأما أرواح الخاصة فمن حيث إنها كانت من جملة الملائكة الذين مردوا فلا بد من أنها تسعى في التنقي والتطهر، وكذا أرواح النساء اللائي أحرقن أنفسهن، تنعم بالنعيم السماوي، حتى يجدن بعولتهن على حال الطهارة والغبطة.
وهذا المذهب القبيح قد عرف عندهم منذ أربعة آلاف سنة، مع كونهم قومًا وُدَعاء لا يتجرءون على قتل الجرادة، ولكن لا يمكنهم أن يجبروا الأرملة على الاحتراق؛ لأن سر الشريعة إنما هو أن تتقدم المرأة إلى ذلك عن طيب نفس، والتي تكون أقدم عند زوجها لها أن تأبى الاحتراق؛ وكذا التي بعدها إلى الأخيرة، ويُحكى أن سبع عشرة امرأة دخلن النار مرة بعد موت رجل واحد، وكان من الرجاة، ثم من بعد استيلاء المسلمين على بعض بلادهم قلَّ استعمال هذه العادة، ثم قلَّت أيضًا بمخالطة الإفرنج لهم، إلا أن هذا المنظر السيئ المحزن قَلَّ أن فات واحدًا من حكام مدارس وبنديكري، فقد قال مستر هلول: إن أرملة لم يزد سنها على تسع عشرة سنة أحرقت نفسها بمرأى من زوجة الأميرال رسل، وكانت بديعة في الحسن، ولها ثلاثة أولاد، ولم تلن لدموع الباكين عليها، ولم تقبل طلبتهم، فأقسمت عليها الست المذكورة لتعدلن عما نوته شفقة على أولادها، فما كان منها إلا أن قالت: إن الله الذي خلقهم لا يتركهم، ثم شرعت في تنضيد الحطب بيديها، فلما احتدمت النار دخلت فيها حتى احترقت، وهي صابرة متجلدة.
ورأى أحد الإنكليز مرة أخرى فتاة حسناء سائرة إلى النار، فلما كادت تضرمها اجتذبها قسرًا وساعده على ذلك بعض أصحابه، ثم سار بها إلى منزله وتزوجها، فكان ذلك عند الهنود بمنزلة انتهاك المحارم، ولكني أقول ما بال الرجال لا يحرقون أنفسهم ليلحقوا بأزواجهم؟! ولِمَ وقعت هذه القرعة على هذا الجنس الضعيف الهيوب؟ أفكان ذلك لأن الرواية لم تذكر أن بعض الرجال تزوج ابنة برهام، بل ذكرت أن برهام تزوج امرأة هندية؟! نعم إن قدماء البراهمة كانوا يحرقون أنفسهم، ولكن إنما كان ذلك ليتخلصوا من مضض الهرم وطوله، بل بالحري ليعجب منهم الناس، ولعل كالانوس لم يكن يدنو من النار لولا أن الإسكندر كان ناظرًا إليه، ولو أن شرع البراهمة حكم بأن المرأة لا تحرق نفسها إلا ومعها واحدة من العجائز لبطلت هذه العادة من قبل الآن. ا.ﻫ.
قلت: زعم الذين لهم معرفة بلغة البراهمة ويسمونها صانسكريت أنها أفصح اللغات وأوسعها أساليب في التعبير، وأنها أم للغة اليونان، فلا يبعد إذن أن تكون محاسن هذه اللغة هي التي مهدت الطريق للبراهمة حتى سادوا على العامة، فإن أهل البلاد الشرقية أبدًا عبيد الفصاحة والبلاغة، فأما قول فلتير: إنهم قوم وُدَعاء لا يتجرءون على قتل الجرادة، فما وقع في هذه الأيام الأخيرة يناقضه، وهو كثيرًا ما يتعصب لهم ولأهل الصين أيضًا، فأما عدد المسلمين في بلاد الهند فقيل: ٣٥٠٠٠٠٠٠ وقيل أكثر.
(١٦) النزاع على الهند
قال في الأبجدية: أول من كشف السفر إلى الهند على طريق الرجاء الصالح فاسكو داكاما، وذلك في سنة ١٤٩٧، وبعد أن استولت عليه دولة هولاند ضبطته دولة الإنكليز، ثم رد، ثم قرَّ الرأي على أنه يبقى في ملكها، وذلك في سنة ١٨١٤، وذكر في تاريخ مصر أنه في حدود العشرين بعد التسعمائة ظهرت الفرنج البورتغال على بلاد الهند، استطرقوا إليها من بحر الظلمات من وراء جبال القمر بمنبع النيل، وغاصوا في أرض الهند، فوصل أذاهم وفسادهم إلى جزيرة العرب وبنادر اليمن وجدة، فلما بلغ ملك مصر ذلك جهز إليهم خمسين غرابًا مع الأمير حسين الكردي، وأرسل معه عسكرًا عظيمًا من الترك والمغاربة، وجعل له جدة إقطاعًا، وأمره بتحصينها، إلى أن قال، ثم توجه بعساكره إلى الهند في حدود إحدى وعشرين وتسعمائة، فهربت الفرنج من البنادر حين سمعوا بوصوله. ا.ﻫ.
(١٦-١) إحصاءات عن الهند
ومن العجب أن أهل هذه الدار الذين يحكمون على هذه المبالغ من الناس والبلاد والعساكر ليس يبالون بأن يعينوا عسكريًّا واحدًا أمام الباب كما يفعل لسائر الدواوين الميرية، ولو كانت هذه الدار في باريس لكنت ترى عندها جوقًا من العسكر يحرسونها ليلًا ونهارًا، وفي أخبار العالم أن إيراد الدولة من الهند يبلغ ١٦٠٠٠٠٠٠، ومصاريف العسكر تبلغ ١٠٠٠٠٠٠٠، وقدرهم نحو ٢٥٠٠٠٠، وأن دولة الإنكليز متسلطة الآن على بر واحد، وعلى ١٠٠ جزيرة متصلة بالأرض، و٥٠٠ قب أو رأس، و١٠٠٠ بحيرة، و٢٠٠٠ نهر، و١٠٠٠٠ بضيع — أي جزيرة غير متصلة بالأرض — وإذا اضطرت إلى الحرب جهزت ٥٠٠٠٠٠ عسكري، و١٠٠٠ سفينة حربية، و١٠٠٠٠٠ بحري، وأن دول الأثوريين والرومانيين والفرس والعرب وقرطاجنة وإسبانيا لم تحصل على هذا العز والبسطة والسعة، وأنه ليس من أطيلة أو إسكندر المقدوني أو نابوليون أو تيمور أو هولاكو من بلغ ما بلغت إليه من الفخر والسطوة.
(١٧) مخترعون ومخترعات
ثم إن أول من فكر في استنباط أداة لإصعاد الماء بواسطة النار كان مركيز ورسستر، وذلك في سنة ١٦٦٣، وهو الذي ينسب إليه إيجاد تبليغ الأخبار من بلد إلى بلد بواسطة خارجية، ولكن الظاهر أن فكره هذا لم يهم أهل عصره لأن يتعلقوا بالأسباب الموصلة إليه.
وقال آخر: لا شك في أن مركيز ورسستر هو مخترع آلة البخار، وذلك في زمن شارلس الأول، وفي سنة ١٦٦٣ ألَّف كتابًا سماه عصر الاختراع، وذكر فيه استنباطات عديدة على سبيل الاختصار والغموض، إلا أن أهل عصره لم يبالوا بذلك، وكذلك ذكر بالتدقيق بعضًا من مخترعاته، وأول تجربة أجراها كانت في مدفع، وذلك بأن ملأ نحو ثلاثة أرباعه ماء، ثم سد خرقه وفمه ثم أدناه من النار أربعًا وعشرين ساعة، فانفلق بدفع شديد، فدله ذلك على أن قوة البخار هي أعظم مما يدركه الإنسان، وروي عنه أنه قال: قد جعلت الماء ينبعث من الجدول ارتفاع أربعين قدمًا، والإناء الذي فيه بخار يرفع أربعين إناء ملئت ماء باردًا، إلا أن الناس لم ينتبهوا لذلك إلا في آخر ذلك القرن.
ثم اخترع القبطان صفري آلة لرفع الماء في سنة ١٦٩٣، فهذان الرجلان هما المخترعان لهذه الطريقة، وقد نسبت الفرنسيس استنباط ذلك إلى أحد فلاسفتهم المسمى دكطر «بابان»، وذلك سنة ١٦٩٥، والحق أن عمليته لم تُجْرَ عندهم إلا بعد مدة طويلة، وأول ما أُجريت عملية القبطان المذكور كان في معادن كورنوال، ثم قام مستر نيو كومن، ومستر كين فتزجرالد هودن بلور ووط وبلطون، وبعد ذلك قام القبطان شانك فأنشأ سفينة لتسافر إلى كندة في مدة حرب الأمير كانيين ونجح، وفي سنة ١٦٨١ اخترع بابان آلة من هذا القبيل، ثم قام صفري فصنع أداة لإصعاد الماء، وذلك سنة ١٦٩٨، وفي سنة ١٧٨١ اخترع واط السكوتلاندي آلة مزوجة، ثم قام غيرهم كثيرون، وكل منهم زاد شيئًا أو أتقن آلة، وقال الفاضل لارندر: إنه يمكن إصعاد البخار من طاستي ماء بأوقيتين من الفحم، وفي حال تبخيرها تكثر فتصير ٢١٦ كالونًا من البخار، فيمكن والحالة هذه أن ترفع بقوة آلة معها سبعة وثلاثون طنلاتة ارتفاع قدم واحد.
ويقال: إن جملة القطع التي تركب في آلة النار تبلغ ٥٤١٦ قطعة، وأول تجربة عملت على نهر التامس كانت في سنة ١٨٠١، وأول باخرة أنشئت في إنكلترة كانت في سنة ١٨١٥، وفي إرلاند سنة ١٨٢٠، وأول باخرة سافرت إلى بلاد الهند كانت في سنة ١٨٢٥، وكان إنشاء البواخر الحربية في إنكلترة سنة ١٨٣٣.
واعلم أن أول من عرف فن الإبحار؛ أي ركوب البحر هم أهل فينيقية، وذلك منذ ١٥٠٠ قبل الميلاد، وأول سفر طويل عرف منهم كان سفرهم إلى إفريقية وذلك سنة ٦٠٤ قبل التاريخ المذكور، ثم عرف في الإسكندرية إلى أن صار كأنه من خصائص الرومانيين ثم عبر من أهل فينيسيا وجينوى إلى أهل البورتغال وإسبانيا، ومنهم إلى إنكلترة وهولاند، ولم يكن اليونانيون يعرفون الإبحار في بحارهم الضيقة إلا على الطوف، وهو عبارة عن خشبات يشد بعضها إلى بعض إلى أن عرفوا ركوب البحر في السفائن من داناوس المصري حين قدم عليهم هاربًا من أخيه راماسيس، وذلك سنة ١٤٨٥ قبل الميلاد، وهذا الطوف الذي يستعمله النوتيون الآن، هو دون ما كان يستعمله اليونانيون، فإن ذاك كان مجعولًا بحيث يمكن تدبيره، وإدارته عند هيجان البحر.
وأول ما عرف للإنكليز مراكب حربية ملكية مرتبة تحت ديوان معين كان في عهد هنري الثامن سنة ١٥١٢، وكانت عدة البوارج في زمان الملكة إليصابت ثمانيًا وعشرين، وفي سنة ١٨١٤ كان لبريتانيا الكبرى تسعمائة سفينة، وفي سنة ١٨٣٠ كان لها ٦٢١ سفينة، وفي سنة ١٨٤١ كان مجموع سفائنها الكبيرة والصغيرة ١٨٣، وفي سنة ١٨٥٠ بلغت مراكب الإنكليز الملكية ٥٠٠ من جملتها ١٦١ باخرة، وفي سنة ١٨٥٤ زاد هذا القدر فبلغ ٥٢٦ ما عدا سفائن أخرى كانت تستعمل في مصالح أخرى، وفي سنة ١٨٥٥ بلغ مجموعها ٦٠٢، وعدد ما أتلفت أو غنمت من السفائن في فتنة الفرنسيس إلى غاية سنة ١٨٠٢ كان ٣٤١ من سفن الفرنسيس ومن سفن هولاند ٨٩، ومن سفن إسبانيا ٨٦، ومن دول أخرى ٢٥، فجملتها ٥٤١ سفينة، وعدد ما أتلفته أو غنمته في حربها مع دولة فرنسا إلى غاية سنة ١٨١٤ كان ٥٦٩ سفينة، منها ٣٤٢ لفرنسا و١٢٧ لإسبانيا و٦٤ لهولاند، و١٧ للروسية، و١٩ للأميريكانيين،، فمجموع ذلك كله ١١١٠ سفائن، فأما بوارج فرنسا فيمكن أن يقال: إنها بلغت أعلى شأنها في سنة ١٧٨١، ولكن باد كثير منها في حربها مع الإنكليز، وفي سنة ١٨٥٤ بلغ مجموعها ٦٩٧ منها ٤٠٧ بواخر، وفي الإحصائيات أن عدد البواخر التي أنشئت من سنة ١٨٤٣ إلى سنة ١٨٥٧ بلغ ١٨٠٥ سفن، وفي سنة ٥٧ كان منها في خدمة البلاد ومصالح البلاد الأجنبية ٨٨٩، ومن سفن الريح ١٨٤٢٩ سفينة.
فأما إحداث البارود فكان سنة ١٣٣٦، وذلك قبل استعمال المدافع بعشر سنين، ولا يعرف محدثه، وإنما يظن أنه من مخترعات راهب من بروسية اسمه مخائيل شوارتز، والحق أنه كان معروفًا عند أهل الصين من قبل تاريخ الميلاد بأحقاب كثيرة، إلا أن استعمالهم له كان للصلاح لا للتدمير، وذلك كتمهيد الطرق ودك التلال وحفر القُنِي، وإن يكن قد ظهر من أدوات سلاحهم ما يحقق أنه مجعول له، إلا أنه لم ينقل عنهم أنهم استعملوه قط في حرب.
قال: وأول ما استعمل في الحروب فيما علمناه كان في الحرب التي وقعت بين الإنكليز والفرنسيس، وذلك في سنة ١٣٤٦.
وقد نبغ في الإنكليز عن قريب ضابط من ضباط العسكر اسمه ورنر، أداه الاجتهاد والتبحر إلى أن اخترع شيئًا يقدر به على إتلاف أي سفينة كانت من مسافة ثلاثة أرباع ميل من دون مماسة البارود إياها، وقد جرب ذلك بحضرة مأمورين من طرف الدولة عند مدينة بريطون، وصحت تجربته، لا بل زعم أنه يتلف المركب من مسافة خمسة أميال، قلت: فلا يبعد إذن ما ذكره لوقيان وغالن عن أرشميدس من أنه أحرق مراكب الرومانيين في حصار سيراقوسة بواسطة الزجاج، وذلك قبل تاريخ الميلاد بمائتين واثنتي عشرة سنة، قال: وقد أراد الضابط المذكور أن يبيع هذا السر للدولة، لكنه أشط في الطلب فلم تشتره منه.
قال: وقد نبغ أيضًا شنبين الكيماوي من برلين في هذا الفن، وأحدث شيئًا يفعل فعل البارود، بل أكثر، وهو أن يغمس القطن في أجزاء متساوية من النطرون والكبريت، ثم ينشف فيأتي كالبارود في الثقل والدفع وهو أسلم عاقبة منه، وقيل: إنه باع هذا السر في بلاد الإنكليز بأربعين ألف ليرة، إلا أن دولتي فرنسا وإنكلترة أبتا استعمال القطن في البنادق بدل البارود، وذلك لكثرة سخونته، فإن البندقية إذا ملئت منه مرات تشتد بها السخونة بحيث إنها تنطلق بنفسها من قبل أن تطلق، ويقال: إنه استعمل أيضًا نوع من النبات يسد مسد البارود.
وفي سنة ١٥٤٤ استعملت فرسان الإنكليز الفرد؛ أي الطبنجة، وزعم بعضٌ أن استعمال المدافع كان في سنة ١٣٣٨، وزعم آخر أنها عرفت في حرب كرسي وذلك في سنة ١٣٤٦، وقيل: إن الإنكليز استعملوها في حصار كالي سنة ١٣٤٧، وقيل: إنها استعملت في الموضع المذكور في سنة ١٣٨٣. ا.ﻫ.
وقال فلتير: إن برنس والس المعروف بالأسود لسواد درعه وريشته، انتصر على فيليب فلوي ملك فرنسا عند نهر سم وكان من أقوى الأسباب التي أعانته على ذلك استعمال بعض مدافع كانت مع عسكره، فإن المدافع لم يشهر استعمالها قبل تلك الواقعة إلا بنحو ١٢ سنة، ولم يعلم من كان المخترع لها. ا.ﻫ. قلت: فيليب المشار إليه ولي الملك في سنة ١٣٢٨، وأكبر مدفع في الدنيا فيما عُلم مدفع نحاس صنع في بلاد الهند سنة ١٦٣٥، وفي برج في جرمانيا مدفع طوله ثماني عشرة قدمًا ونصف قدم ووسع قطريه قدم ونصف، ووزن كتلته ١٨٠ رطلًا، وملؤه من البارود ٩٤ رطلًا، ويُعلم من نقش رسم عليه أنه صنع في سنة ١٥٢٩، وكلة المدفع الصغير تذهب مسافة ٤٠٠ يارد، وأبعد ما تذهب إليه من ٥٠٠ إلى ٦٠٠، وهو عبارة عن نصف ميل، ومن المدفع الكبير من ميل ونصف إلى ميلين.
(١٨) مبنى «بيت ضابط البلد»
ومن ذلك — أي من المباني العظيمة — بيت ضابط البلد في الستي، ويقال له منشن هوس، بني في سنة ١٧٣٩، وبلغت مصاريفه ٧١٠٠٠ ليرة، وبعض أثاثه من ١٠٠ سنة وبعضه من ستين، وهذا الضابط تنتخبه الجماعة المنوط بها تدبير هذه المحلة في كل سنة، وذلك في التاسع من تشرين الثاني، ويوم انتخابه يجعل في الطرق حواجز لمنع مرور الحوافل، وتغص المدينة بالزحام، فيضغط الناس بعضهم بعضًا فلا يبقى أحد من أهل البطالة إلا ويخرج للتفرج، أو بالحري للتلزز، فيخرج الضابط من الديوان المسمى كلدهال في موكب عظيم ويجلس في عاجلة مذهبة فاخرة تجرها ستة أفراس، ثمنها في الأصل ١٠٦٥ ليرة، ويصرف على زينتها في كل سنة ١٠٠ ليرة، ويجلس معه رئيس المحاكم بقباء أحمر وهو متقلد سيفه وشعار سلطته، وتقف في ذلك اليوم شرطة الديوان لمحافظة الطرق، وتمشي صفوف شتى وهم يحملون أعلامًا مختلفة، وآخرون يضربون بآلات الطرب، وآخرون ينفخون في الأبواق، وآخرون متكممون بالدروع على منوال المجاهدين الأقدمين وتوضع أمامه آلات الحرث على عجلة مزينة وما تنبت الأرض، وسفينة ذات قلوع تجرها ستة أفراس، ويسير معه أصحاب المراتب السنية والمناصب العلية وضابط البلد المعزول، وعند وصولهم إلى محل معلوم تلاقيه سفراء الدول ووزراء الدولة ورؤساء المحاكم وأركان مجلس الشورى وغيرهم من ذوي الشأن، حتى إذا رجع إلى مقره دعا أولئك النبلاء إلى وليمة فاخرة تشتمل على ٢٦٣٧ صحفة كبيرة وصغيرة، ولا بد من أن يوضع أمامه صحفة فيها نوع من السمك الصغير، إشارة إلى أنه ضابط نهر التامس الذي هو عند الإنكليز أعز من نهر كنكا عند الهنود.
وعلى ذكر الوليمة يحسن هنا إيراد ما وجدته مكتوبًا في أوراق تسمى تعليقات ومسائل من أن ضابط نوريش من أعمال إنكلترة صنع مأدبة فاخرة في عهد الملكة إليصابت سنة ١٥٦١، ودعا إليها جماعة من أعيان ذلك الصقع وكبرائه، فبلغت مصاريفها ليرتين و١٣ شلينًا و١١ بنسًا، كان ثمن الوزة فيها ثلث شلين، وفخذ الضأن ربعه، وكذا ثمن الدجاجة و١٢ بيضة، وثمن ١٦ رغيفًا ثلث شلين، وثمن برميل من الجعة شلينان، وثمن ٤ أرطال من السكر سدس شلين، وفواكه ولوز ٧ بنس، وقس على ذلك. والولائم التي يصنعها أهل الستي تكون فاخرة جدًّا تشتمل على صحاف من الذهب وأكواب من الفضة.
وسنوية الضابط ٨٠٠٠ ليرة، ولكنه يصرف في مدة ولايته أكثر من هذا القدر، وإيراد تلك الجماعة ١٥٦٠٠٠ ليرة، يستوردونها من ضرائب على الفحم والأسواق والديار والسماسرة، وهذه الجماعة ينتخبهم الأهلون الذين لهم عقار وديار.
ومن خصائص الضابط مدة ولايته أن يتولى أمور المدينة غير معارض، وقد نازع الملك جورج الرابع في هذه السلطة، وحاول إبطالها، غير أن الإنكليز كما ذكرنا سابقًا لا يحبون تغيير العادات القديمة، فمن ثم بقي الحال كما كان، وإذا اتفق موت الملك في أيامه فله أن يجلس في ديوان الشورى الخاص ويوقع قبل أربابه، وله أيضًا أن يغلق باب الموضع المعروف بتمبل بار وهو أول خط المدينة في وجه الملكة حين تذهب إلى المدينة، ولكن ليس بقصد ردها عن الدخول، بل بقصد إدخالها جريًا على العادة، وتفصيل ذلك أن صاحب الملك إذا أراد التوجه إلى المدينة، يصل إلى ذلك الباب فيجده مغلقًا، فينفخ بين يديه رجل في البوق، ويقرع الباب آخر، ويقع بينه وبين الضابط محاورة وكلام هنيهة، ثم ينفتح الباب، ويدنو الضابط من صاحب الملك، ويقدم له سيف المدينة، فيأخذه منه الملك، ثم يعيده إليه، ثم يدخل ومعه الضابط سائرًا بِرِكَابه.
وشعار المدينة هو سيف ماربولس وصليب مار جرجس، وفي العام الماضي كان الضابط يهوديًّا، وقيل: إن الضابط الذي نُصِّبَ في هذه السنة كان نفرًا من العسكر، ومن الغريب هنا أن هذا الضابط يُعْزَلُ في كل سنة، وخَدَمَتُه يبقون إلى ما شاء الله، وسيأتي بقية الكلام على الستي.
(١٩) مبنى «كلدهال»
ومن ذلك كلدهال وقد تقدم ذكره، وهو ديوان أحكام الستي، فيه توقيع بخط شكسبير من شعراء الإنكليز، اشتراه المديرون بمائة وسبع وأربعين ليرة، وبالقرب منه دار عظيمة أيضًا لختم ما يصاغ من الذهب والفضة، فيها الكأس التي شربت بها الملكة إليصابت عند تتويجها.
(٢٠) برج لندن ومحتوياته
ومن ذلك البرج الذي يقال له: تَوَرْأُفْ لندن، أي برج لندن، وهو أعظم برج في بريتانيا، وهو حصن للمدينة، ومقر لصاحب الملك عند عقد هدنة ونحوها، وسجن للمجرمين من أرباب الدولة لا يُعلم متى كان إنشاؤه؟ وإنما يظن أنه بني في سنة ١٠٧٨، فيه امتُحِن كاي فوكس الذي عمل على إحراق مجلس المشورة على ما تقدم ذكره، والملكة مريم ملكة إسكوتلاند ويوحنا ملك فرنسا وكرلوس دوك أورليان وأبو لويس الثاني عشر، والملكة أنة أو حنة بوليان ضرب عنقها سنة ١٥٣٦، والملكة كاثرين هاورد زوجة الملك هنري الثامن، والأميرة رشفورد وسرتوماس مور ورئيس الأساقفة كرانمر، ورئيس الأساقفة لود، وسبعة أساقفة آخرون وغير ذلك، وقتل فيه هنري الخامس وإدورد الخامس وغيرهما.
وهو يشتمل على الدروع وعلى السلاح التي كانت تستعمل في الزمن القديم، وعلى مدافع ثمينة، من جملتها مدفع أخذ من نابوليون الأول، وكان هو قد أخذه من مالطة، وهو بديع الصنعة، ومدفعان عظيمان أخذا من البلاد الإسلامية طول كل ٢٣ شبرًا، وفيه دروع جامس الأول، وهنري الرابع، وإدورد الرابع، والملكة إليصابت وغيرهم، وتاج يقال له تاج صنت إدورد، صنع لتتويج كرلوس الثاني، ثم توارثته جميع الملوك من بعده، وهو التاج الذي يضعه رئيس الأساقفة على رأس صاحب الملك عند المذبح.
وفيه أيضًا تاج جديد صنع للملكة، وهو نحو طربوش من مخمل أحمر، يحيط به إطار من فضة مرصع بالألماس، زنته رطل وثلاثة أرباع، وفي التاج ياقوتة غير مجلوة، يقال: إنها كانت في تاج الملك إدورد الملقب بالأسود، وقيمة التاج كله ١١١٩٠٠ ليرة، وفيه تاج الأمير والس من ذهب غير مرصع بالجواهر، وآخر لزوج الملكة مرصع بالألماس والدر وغيرهما من الجواهر.
وفيه صولجان يسمى صولجان العدل أو صولجان الحمامة؛ لأن فيه حمامة، وطوله ثلاثة أقدام وسبع أصابع، وهو من ذهب مرصع بالألماس وغيره، وآخر للملكة عليه صليب بديع الصنعة مرصع بالألماس، وآخر يسمى صولجان الملك عليه تفاحة مرصعة بالياقوت والزمرد والألماس، طوله قدمان وتسع أصابع، وفيه صليب من ذهب مرصع بالجواهر المتنوعة، وآخر يسمى قضيب صانت إدورد من ذهب مطرق، طوله أربع أقدام وسبع أصابع، في أعلاه دائرة وصليب، ويقال: إن في الدائرة قطعة من صليب المسيح.
وفيه أيضًا سيوف العدل الكنائسية والمدنية ورُكُب — جمع ركاب — من ذهب تستعمل يوم تتويج الملك أو الملكة، ووعاء للماء المبارك في شكل نسر، وملعقة من ذهب للمناولة يوم التتويج، وطست من فضة مذهب يستعمل يوم معمودية ولد صاحب الملك وغير ذلك من التحف مما يطول شرحه، وقيمة ما فيه من السلاح بلغت في سنة ٤٩: ٦٤٠٠٢٣ ليرة، قلت: لما رأيت هذا الموضع أخبرني الدليل بأن الياقوتة الحمراء التي في مقدم تاج الملكة وهي نحو البيضة الصغيرة تساوي ٥٠٠٠٠ ليرة، وثمن التاج كله مليون، وثمن التيجان الأخرى مليونان، والله أعلم. وقد جرت العادة بأن تاج الملكة يودع في هذا الحصن، وعند الحاجة إليه يؤخذ منه ثم يرد إليه، وقد سرق مرة مع سائر الجواهر، وذلك في سنة ١٦٧٨. وأعجب من جميع ما ذكرت أن هذا البرج الأميري الملكي التاجي لا تمكن رؤيته إلا بعد أداء شلين.
(٢١) قصور صاحب الملك
وفي لندرة أربعة قصور لصاحب الملك أعظمها وهو الذي تسكنه الملكة الآن في الشتاء القصر المسمى باكنهام في إسطبله عاجلة لها تساوي نحو ثمانية آلاف ليرة، وطول حديقة القصر ٣٤٥ قدمًا، قال فيه بعضهم: قد لزم لترميمه وتصليحه ٥٠٠٠٠ ليرة مع أنه لا يصلح لسكنى الملوك، وبني فيه قنطرة من رخام صُرِفَ فيها ثمانون ألف ليرة، مع أنه لا يمكن إبقاؤها حيث هي، وقبلًا صرف على القصر ٧٦٣٢٢٦ ليرة ما عدا ما لزم له من الفرش والأثاث، وكان يمكن أن ينشأ بهذا المبلغ قصر جديد فاخر خير من هذا القصر الذي إن هو إلا عبارة عن مواضع ملفقة.
وبعد أن صرف ذلك المبلغ المذكور على القنطرة لزم الآن صرف مبلغ عظيم والله يعلم إلى أين؟ وصرف أيضًا على قصرها الذي تسكنه في الصيف في ونصر، وهو على مسافة نحو أربع ساعات من لندرة ١٠٠٠٠ ليرة، وذلك لإجراء الماء إليه، وثاني مرة صرف عليه ٦٥٠٠ ليرة لوقايته من النار، وقد تبين من دفاتر المصروف أنه من سنة ١٨٢٥ إلى سنة ١٨٣١ بلغ المصروف على هذا القصر ١٤٩٨٥١٦ ليرة فإذا أضفتها إلى المبلغ اللازم الآن بلغت جملة ذلك ١٥١٥٠٠٠ ما عدا ما يصرف على الغياض والشجر الملحقة به، وبلغ مصروف الأثاث ٢١٦٠٠٠، ومصروف التحف ٣٠٠٠، قال: فهذان مليونان صرفا على قصرين، هما سخرة وهزء لأهل أوروبا جميعًا، ويقال إنه يصرف في السنة على ترميم القصور والمباني الميرية ١٧٠٧٨٠ ليرة.
والقصر الثاني: ويسمى قصر صان جامس أصله مارستان للبرص، ثم صار مقرًّا للملك هنري الثامن، ومنه تصدر الآن الأوامر الملكية، وهو مبنى من الآجُرِّ وما تحته طائل ونحوه الباقي.
(٢٢) ملوك الإنكليز وغيرهم
وفي تاريخ بلاد الهند أنه لما مات هنري الخامس أحبت زوجته الملكة كاثرين رجلًا والسيًّا من العسكر الذين يحرسون الملك اسمه أوين تودور، فتزوجته سرًّا فهو أبو ملوك الإنكليز من بعده، وكانت وفاتها في سنة ١٤٣٧، وأول أولاده قيل له أولًا: أدمند أرل رشموند، ثم عرف باسم هنري السابع، وهذه الملكة الجالسة الآن على كرسي الملك اسمها أليكساندرينا فكطوريا بنت دوك كنت، ولدت في الرابع والعشرين من شهر أيار سنة ١٨١٩، ووَلِيَت الملك في العشرين من حزيران سنة ١٨٣٧، وتوجت في الثامن والعشرين منه سنة ٣٨، وتزوجت ابن عمها البرنس ألبرت من صكس في العاشر من شباط سنة ١٨٤٠.
ويقال: إنه لم يقم قبلها ملكات نلن الملك بالاستحقاق سوى أربع، وكان لأهل هنكاريا كراهة لتمليك النساء زائدة، حتى إنه حين كان يتولى عليهم ملكة كانوا يسمونها ملكًا، وأول ملكة عرف لها الولاية في الدنيا سميراميس ملكة أثور، وذلك في سنة ٢٠١٧ قبل الميلاد، وهي التي حسنت بابل وكبرتها حتى صارت أعظم مدينة في العالم.
وللملكة فكطوريا أخلاق حميدة واحترام ليوم الأحد عظيم، يحكى عنها أن بعض الوزراء ذهب إلى قصرها في ونصر في ليلة السبت متأخرًا وهو عندنا ليلة الأحد، فعرض لها أن معه أوراقًا مهمة تتوقف على مطالعتها، قال: ولكن لا أكلفك الليلة تصفحها، فإنها طويلة وقد فات الوقت، ولكن في صباح غد، فقالت له: كيف في صباح غد وهو يوم الأحد؟ فقال: نعم؛ فإنها من مصالح الحكم، قالت: أجل يجب مداركتها، ولكن سأتصفحها بعد الخروج من الكنيسة، فلما كان الغد ذهبت إلى الكنيسة وذهب الوزير أيضًا، فلما انقضت الصلاة، قالت له: كيف أعجبتك الخطبة، قال: لقد أعجبتني جدًّا، فقالت: لست أكتم عنك الآن أني أوعزت البارحة إلى القسيس في أن يحرر الخطبة على محافظة يوم الأحد، وقد سمعت ما سمعت ولكن تعال غدًا في أي ساعة شئت، قال: في الساعة التاسعة، قالت: من حيث هي أوراق مهمة كما ذكرت تعال في هذه الساعة تجدني مستعدة، وكان كذلك. ا.ﻫ.
وهذه الساعة باعتبار أيام البلاد هنا باكرة جدًّا، ومن ذلك عدم الإسراف في الملابس والأبهة، فإنها لا تتميز به عن كرائم خوادمها، وإسراف الملابس منع في بلاد الإنكليز في عهد إدورد الرابع سنة ١٤٦٥، ثم في عهد إليصابت في سنة ١٥٧٤، وأشهر من عرف فيه سر ولطر والي، كانت كسوته تساوي ٦٦٠٠ ليرة، وكان له دروع من الفضة، وسيفه مرصع بالألماس والياقوت والدر، وكان دوك باكنهام صفي الملك جامس يلبس حُلَّة مرصعة بالألماس ترصيعًا غير وثيق، بحيث إذا شاء ينفضها فتلتقطها خواتين القصر.
(٢٣) إيراد الممالك وما خصص للملوك
ولا بأس هنا بإيراد جملة من الكلام مفصلة نذكر فيها إيراد الممالك، وما خصص للملوك منها، فنقول: إن إيراد الملكة في السنة ٣٨٠٠٠٠ ليرة، ولكن لا يدخل كيسها من ذلك كله غير ٦٠٠٠٠ ليرة، والباقي يصرف في أبهة الديوان وملاهيه، وإذا لزم لها زيادة مصروف على القدر المذكور أخذ من الخزنة على سبيل القرض إلى إيراد العام القابل وهكذا.
وبلغت وظائف الحشم والخدام وحساب التجار في سنة واحدة ٣٧١٨٠٠ ليرة، وبلغ المكس والضرائب والإتاوة في العام الماضي ٧١٣٤٨٠٦٦، والمصاريف ٨٨٣٠٧٤٧٧، وفي سنة ١٨٤٨ كان إيراد الدولة ٥٢٩٣٣٦٩٢، ومصروفها ٥٢٥٦٣٣٤٠، وخرجت خلاصة من مجلس المشورة في مبلغ ما صرف في عامي الحرب — وذلك من ١٣ آذار سنة ٥٤ إلى غاية آذار سنة ٥٦ — مضمونها أنه في سنة ١٨٥٤ بلغ الإيراد من جميع موارده ٦٤٠٩١٠٠٠، وبلغ المصروف ٧٠٢٣٦٠٠٠، ونقلت من كتاب آخر أنه في سنة ١٨٤٢ بلغ الإيراد من ديوان الكمرك ٢٣٥١٥٣٧٤، ومن التبغ والمسكرات ١٤٦٠٢٨٤٧، ومن المألك أي البوسطة ١٤٩٥٥٤٠، ومن إتاوة الأرض ١٢١٤٤٣٠، ومن أشياء متفرقة ١١٤٢٠٤٠٢، فجملة ذلك نحو ٥٢٢٤٨٦٣٣.
وكانت إتاوة فرنسا على الأرض ٢٣٢٠٠٠٠٠، وسائر الضرائب والمكس ١٧٥٠٠٠٠٠، وإتاوة الروسية ٣٩٩٠٠٠٠، وسائر الضرائب ٣٦٦٧٠٠٠ ليرة وإتاوة أوبيستريا ٨٧٩٥٠٠٠، وسائر الضرائب ٧٧٠٠٠٠٠، ومن ضمن تلك المتفرقات التي وردت إلى خزنة دولة إنكلترة في سنة ١٨٥٦ ما أخذ على التركات وقدره ٢٨٥٠٨٧٣، وعلى الخيل ٣٤٠٨٩٨، وعلى العقود والصكوك ١٢٢٥٢٣٤، وفي سنة ١٨٥٢ أخذ على نحو أحد وسبعين مليون رطل من الشاي ٥٩٠٢٤٣٣، وفي سنة ١٨٥١ أخذ على نحو أربعة وخمسين مليون رطل منه ٥٤٧١٦٤١.
(٢٤) مديونية الدول
واعلم هنا أنه إذا قيل إن دولة إنكلترة مديونة فلا تتوهم من ذلك أنها ضعيفة؛ فإن نفع هذا الدين يَئُول إلى رعيتها، حتى إن جُلَّ الدائنين لا يريدون استيفاء دينهم مرة واحدة؛ لأنهم يأخذون فائدته في كل سنة، وهو مأمون لهم ما دامت الدولة قائمة، ومعلوم أن غنى الدولة يكون من غنى رعيتها، وسعادتها من سعادتهم، ولا يخفى أن جميع الدول مديونة، فدين دولة أوستريا يبلغ ١٢٠٠٠٠٠٠٠، وفائدته في كل سنة ٤٥٠٠٠٠٠، ودين الدولة العلية يبلغ نحو ٢٠٠٠٠٠٠٠ ليرة، ودين دولة فرنسا لعله زاد الآن عما ذُكر ضعفين.
(٢٥) المُلْك عند الإنكليز
ونقلت في بعض الكتب أن ملك الإنكليز وراثة، ولمجلس المشورة أن ينقله من عيلة إلى أخرى، وأنه بعد أن خلع جامس الثاني نفسه عن الملك وذلك في سنة ١٦٨٨ صار الملك محصورًا في الملوك الذين على دين البروتستانت، ولما لم يكن لشارلس الأول خَلَف نُقل المُلْك إلى نَسْل جامس الأول وهم من البروتستانت أيضًا، وهذه العيلة المستولية الآن هي من نسل صوفيا بنت ملك هنوفر.
والواجب على الملك يوم تتويجه أن يحلف على محافظة ثلاثة أمور؛ الأول: سياسته بحسب القوانين والأحكام، والثاني: إجراء الحكم بالرحمة، والثالث: إقراره مذهب الدولة وهو دين البروتستانت، وللملك خصائص ومزايا ينفرد بها عن غيره بحسب ما ارتقى إليه من الشأن والشرف، منها أن له قدرة على أن يأذن بالحرب والصلح، وأن يبعث من قبله سفراء إلى الدول، ويرضى بسفرائها، وأن يعفو عن ذوي الجنايات، وأن يخص من شاء بالشرف والألقاب السنية، وأن ينصب الحكام ويولي الوظائف العسكرية برًّا وبحرًا لمن يراه أهلًا، وأن يرفض ما يقدم له أهل المجلس من الدعاوى والقضايا ليوقع عليها، وهو رأس الكنيسة التي عليها رجال الدولة، وهو الذي يولي الدرجات والمراتب للأساقفة، إلا أنه لا يمكنه تنفيذ هذه الأمور إلا على يد الوزراء، فهم المطالبون بكل ما يصدر عنه من الأوامر، ولهذا يقال: إن الملك لا يخطئ، وله أيضًا خصائص أخرى منها أنه لا يغرم شيئًا فُقِدَ لأحد الأمة، وأن دينه يقدم على دين غيره، ولا تقام عليه دعوى، ولكن لكل من الرعية حق في أن يعرض له على يد وزيره ما يدعي به من الأملاك.
ولعيلة الملك أيضًا مزايا امتازت بها، فيحق لزوجته أن يقال لها: ملكة، وأن يُحْتَرَمَ مقامها ولو بعد وفاة زوجها، ولها استطاعة على أن تشتري وتبيع ما تشاء باسمها، وأن تحيل ما يرد عليها من الدعاوى إلى أي ديوان دولة شاءت، ولابن الملك البِكْر حق من يوم ولادته أن يُدْعى أمير والس، ومن منصبه أن يدعى دوك كورن وال وارل شستر، وجميع أولاد الملك ينعتون بالنعت الملكي، فيقال مثلًا: جنابه الملكي أو حضرته الملكية.
(٢٦) حدائق لندرة والهيدبارك
وفي لندرة ست غياض أعظمها الغيضة التي يقال لها: هيدبارك — أي غيضة لهو — وهي فسيحة عظيمة مساحتها من الأرض، عبارة عن ٣٨٧ فدانًا بأسفلها قنطرة، بلغ مصروفها ١٧٠٦٩ ليرة، وبأعلاها قنطرة أخرى أنفق فيها ٨٠٠٠، وكانت أولًا في غيضة صان جامس، فنقلت وبلغت مصاريف نقلها ١١٠٠٠، وفي هذه الغيضة ترى كبراءها وعظماءها في أحسن المركوب والملبوس والحشم، وخصوصًا من شهر نيسان إلى تموز، وأكثر النبلاء يسكنون هناك، قال فيها بعض الفرنسيس: صور لنفسك سهلًا فسيحًا ذا أشجار وبِرَكٍ وحقول ومَرْج تمرح فيه الثيران والشاء سربًا سربًا كأنك في إقليم دوفنشير الأنيق، فتلك صفة هيدبارك، ثم صان جامس بارك وهو المتصل بقصر الملكة، ومع أن المظنون من وضعه وصفته أن يكون منتاب ذوي الفضل والشان، فهو مجمع الخدمة والحرافيش والأولاد، ثم كرين بارك، وريجنت بارك، وباترسي بارك، وفكطوريا بارك، وهو أخسها، كما أن فكطوريا ثياطر هو أخس الملاهي.
وما عدا هذه الغياض فثم حديقتان: إحداهما لتنبيت النباتات كبُستان النباتات في باريس، غير أن دخولها مقصور على أصحابها، أو على من يؤذن له منهم، والثانية للحيوانات الحية والميتة، والأداء على دخولها شلين، وفي ضواحي لندرة أيضًا متنزهات ينتابها الناس في الصيف، وذلك كريتشموند وكير وهمستد وكرافزان وهمبطون كورت، وأحسنها كريستل بالس في سدنام، وهو القصر الذي نقل من غيضة هيدبارك، وهو يعز عن النظير.
(٢٧) أحوال لندرة الخصوصية
وقد حان الآن أن أتكلم على أحوال لندرة الخصوصية ممهدًا لذلك بمقالة قالها بعض الفرنسيس ثم أشرح جميع ما يتعلق بها، قال: أما لندرة فإن كل ما فيها إنما جعل للتمتع به داخل الديار، وأما باريس فإن طيب عيشها إنما هو في الأسواق والشوارع، وإن الأولى تحير الناظر باحْتِتَان حالاتها، وبكثرة ما فيها من الدكاكين، وبترفة الأعيان والعظماء وإسرافهم، وإن الثانية تسحر بتفنن شئونها واختلاف المشاهد فيها، وبما يتنعم به أهلها من العيش الذي يحكي عيش النَّوَر — الجنكنه — المتنقلين من حال إلى حال، وفي الجملة فإن لندرة تحكي خلية العسل، وباريس تحكي منهلًا عِذابًا لكل وارد، وما أحسب جمود الإنكليز الذي وصفهم به أهل باريس إلا من هذه الحالة التي لا تفاوت فيها. ا.ﻫ.
وقال آخر: ليس في لندرة مطاعم أنيقة ومحال قهوة فاخرة كما في باريس، فيلزم الغريب أن يأكل في المنزل الذي يسكنه أو في بيوت الأكل، وهي عبارة عن مواضع مظلمة لا تأنق في فرشها ولا في مطابخها، وإذا دخلت أحدها مما يتردد إليه وجوه الناس أحضر لك الخادم في وقت الغداء خمس صحاف مغطاة بأغطية مُفَضَّضة، فتحسب أن فيها شيئًا يفتح منك اللُّهَى، فإذا كشفت عن إحداها ظهر لك الشواء، ويليه البطاطة، ثم الخلر على حدتهما، ثم خسة، وفي الخامسة زبدة مذابة مع آنية الأباريز، وإذا شئت التفنن أحضروا لك سمكًا مسلوقًا، أما الشراب فالجعة؛ لأنك لو أردت أن تشرب الخمر لزم أن يكون دخلك في العام دخل أمير في غيرها. ا.ﻫ.
قلت: قد أشرت في وصف باريس إلى بعض ما بينها وبين لندرة من الفرق في السكنى والمعيشة، والآن أستوفي ذلك بناء على ما قال الفرنساوي من أن طيب العيش في لندرة إنما هو داخل الأبواب، وفي باريس بخلاف ذلك، فأقول: إن أهل الاستطاعة في لندرة كالتجار وغيرهم، يستأجرون بيوتًا ويستقلون بها، وذلك لصغرها خلافًا لديار باريس، فلهذا كان صاحب العيلة يؤثر التنعم في بيته مع أهله على الخروج، أما الغرباء الذين ينزلون في الديار فيكون لأحدهم حجرة أو حجرتان، فيمكنهم أن ينالوا طعامهم صبحًا ومساء في منزلهم، وذلك بأن يشتروا هم ما يريدون أكله، ويأمروا الخادمة بطبخه ويعطوها شيئًا زهيدًا في مقابلة خدمتها، وذلك أولى من أنهم يأكلون في المطاعم، بل هو أنظف وأرخص، وفي هذه الخطة تفضل لندرة باريس، فإن الغرباء في هذه لا ينزلون إلا في منازل كبيرة مشاعة، فيضطرون وقت الأكل إلى الخروج إلى أحد المطاعم، فإن الأكل في المنازل غالٍ جدًّا.
وهناك مزية أخرى، وهي أن النزيل في لندرة يستأجر الحجرة في الأسبوع، وفي باريس يستأجرها مُشَاهرة، وإن كان مُيَاومة لزم أن يدفع الضعف ضعفين، وأيضًا فإن صاحب الدار في لندرة يعطي النزيل مفتاح داره ليمكنه أن يدخل ويخرج أيان شاء، وفي باريس لا بد من قرع الباب بعد نصف الليل ليفتح له البواب، غير أن النزيل في ديار لندرة لا يمكنه أن يخلو بالنساء في حجرته، وفي باريس لا حرج في ذلك، فإن طلوع المرأة إلى حجرة النزيل فيها أهون من طلوع رغيف الخبز، كما أن طلوع المرأة في لندرة إليه أصعب من طلوع الفرن بناره، وهذا شذوذ عن الأصل المتقدم إن قلنا بأنه من طيب العيش، إلا أن أكثر المنازل هنا يقوم بخدمتها نساء حسان يغنين النزيل عن الخروج، ولأصحاب هذه المنازل غالبًا عادة ذميمة وهي أنهم يستولون على مفاتيح عديدة متنوعة يفتحون بها صناديق السكان، حتى إذا علموا أن ليس في صناديقهم ما يقوم بأجرة المسكن أنذروهم الخروج.
وهناك طريقة أخرى للسكنى في كلتا المدينتين، وهي أن من شاء أن يمكث طويلًا يستأجر حجرة أو حجرتين في دار من غير أثاث ويؤثثهما كما أحب، ولكن يلزمه في لندرة أن يفتح الباب لقاصده، وينور له في الدرج، وفي باريس لا يلزمه ذلك، هذا؛ ولما كان أرباب الحكومة في لندرة لا يعنون بما فيه تحسين المدن وتنظيم ديارها، كانت ديار لندرة بالنسبة إلى ديار باريس حقيرة جدًّا؛ إذ كل إنسان يبني داره كما تقتضيه حاله، فمنها ما كان مشتملًا على طبقتين فقط، ومنها على ثلاث طبقات من دون مراعاة رونقها وهندمتها ومساواتها، أو يقال: إن الديار هنا لما كانت عرضة للحريق كان همُّ صاحب الملك مجرد الانتفاع بالبناء دون الزخرفة، وناهيك أن في لندرة ٢٢٦٠ دارًا مشرفة على السقوط، وما عدا ذلك فإن من يكون قاعدًا في حجرة يرى مبلطها يهتز به كلما مرت عجلة من تحتها، فمحاسن لندرة كلها مقصورة على الحوانيت، فإذا رفعت نظرك ما فوقها قابلك سواد الحيطان وحقارة الطوب وتفاوت الطيقان وخساسة المداخن البارزة من السطوح من الخزف وضعة البناء وما أشبه ذلك.
وأعظم ما يشعر الناظر بهذا ما إذا قدم من باريس، فإنه يرى الفرق عظيمًا جدًّا وخصوصًا إذا اتفق قدومه في يوم الأحد حين تكون الحوانيت مغلقة، فيحسب نفسه أنه في قرية صغيرة، إلا أن في داخل الديار هنا مرافق لا توجد في باريس، منها حسن المواقد، وقد سبقت الإشارة إليه، وكونها مشتملة على صهاريج للماء على طيبه، وفي باريس يلزم الساكن أن يشتري الماء من السقائين على رداءته، ومنها قلة درجها وذلك نتيجة كونها غير شاهقة، ولعل صاحب العيلة إذا استأجر دارًا من بابها يَهْنَئُه العيش هنا أكثر مما يهنئه في باريس على كثرة ما يوجد في هذه من البدائع، فإن الغيور على عرضه لا يهون عليه إذا كان نازلًا في الدرج ليخرج إلى محترفه أن يرى آخر صاعدًا محاورًا له، ولهذا تقول الإنكليز: إن هناءهم جوي، وإن ديارهم أدعى إلى السكون والهناء من ديار غيرهم، وإذا سكن هنا في الدار ٢ أو ٣ واتفق تلاقيهما في الدرج فما أحد يكلم صاحبه، وإذا زاره أخوه أو أخته وأطالا المكث عنده إلى نصف الليل فما يدعوهما إلى المبيت عنده.
أما قوله باحْتِتان حالاتها وبكثرة دكاكينها، وبترفه الأعيان والعظماء فيها، فاحتتان حالاتها هو كون جميع الأزمنة والأمكنة فيها متساوية، أما في الأزمنة فليس عند الإنكليز في أيام السنة كلها يوم للحظ واللهو، فلا تعرف فيها رأس السنة من ذَنَبِها، وليس عندهم أيام للبطالة ما عدا أيام الآحاد، سوى عيد الميلاد، ويوم الجمعة الكبيرة، ولكن يوم البطالة هنا هو يوم الانقباض والاكتئاب؛ إذ لا ترى شيئًا يقر العين، فقد أسلفنا أن جميع الحوانيت تكون يومئذ مغلقة.
ومن العجب هنا أنه يؤذن لباعة التبغ في فتح دكاكينهم يوم الأحد، ولا يؤذن لباعة الخبز واللحم، فكأن التبغ ألزم للمعيشة من غيره، ثم لا مثابة للناس ينبسطون بها سوى التردد على تلك الغياض وهي خالية من المطاعم والمشارب وآلات الطرب على قلة ما فيها من المقاعد، وهي في الغالب بعيدة عن سكنى العامة والوسط، وإنما هي مجعولة لحظ الكبراء القاطنين في الديار المجاورة لها، فإن كل شيء هنا مَعنيٌّ به اسم العلية، وقد مرت الإشارة إلى هذا، نعم إن في صباح الأحد في لندرة لذة لا تقدر ولا تنظر بالنسبة إلى نحس الأيام الأُخر، وهي قلة قرقعة العجلات وسائر المراكب، فقد كنت أحسب نفسي في صباح كل أحد أني ساكن في الريف، فأما في سائر الأيام فإن توالي هذه القرقعة داهية من أعظم الدواهي، فمن لم يتعود عليها لن يهنئه نوم ولا قعود، ولن يمكنه أن يجمع أفكاره في رأسه، وإذا مشى اثنان في الطريق لزم المتكلم أن يصرخ بأعلى صوته ليسمعه الآخر، فأعوذ بالله من ذلك.
فأما كثرة الحوانيت فقد تقدم ذكرها في أول الكلام على لندرة، وبقي هنا أن أقول: إنك في جميع حوانيت لندرة تجد ما يلزم للملبوس والمفروش ناجزًا عتيدًا، فإذا دخلت مثلًا حانوت إسكاف وجدت عنده عشرة آلاف زوج نعال معرضة للبيع، فاخترت منها ما شئت، وقس على ذلك سائر أصناف الملبوس، ومن شاء أن يفرش صرحًا في ثلاث ساعات، وجد كل ما يخطر بباله من الأدوات والأواني، ونحو ذلك حوانيت باريس، فأين هذا من البلاد التي لا تجد فيها حاجتك إلا بعد أن توصي عليها، فإذا حضرت وجدتها على غير المراد، فَنَغَّصَك ذلك وأفضى بك إلى القيل والقال؟!
وأعظم طريق في هذه المدينة هي ريجنت سركوس، ويذكر غالبًا باسم ريجنت ستريت، وهو على خط منحنٍ نحو نصف دائرة طوله ١٧٣٠ ذراعًا، وهو يشتمل على دكاكين فاخرة بهية، أكثرها مشرف بشعار الملك، وذلك أن الملكة إذا اشترت شيئًا من صاحب الدكان، ساغ له أن يضع عليه صورة الأسد ووحيد القرن وأدى إلى الميري شيئًا عليه في كل سنة.
وثَمَّ ترى الثياب الفاخرة من كل صنف ولون ومن كل صقع ومكان، وقد يكون طول لوح الزجاج في عرض الحانوت نحو ست أذرع فأكثر، وعرضه نحو ذراعين، فيكون العرض كله من أعلاه إلى أسفله لوحين أو ثلاثة، وثمن اللوح نحو عشر ليرات، وديار هذه الطريق مبيضة الخارج، أو يقال نصفها أبيض ونصفها أسود.
وثم ترى أجمل نساء لندرة يخطرن بالديباج والثياب الفاخرة ويجررن أذيالهن على الأرض جرًّا، ولا سيما ليلة الأحد وهي ليلة السبت عندهم، فإذا رأيت واحدة منهن جزمت بأنها أجمل من رأيت، ثم ترى أخرى فتجزم بأنها أجمل من تلك، وهلم جرًّا، وكذلك هن في كافن ستريت، وهاي ماركت، والواقع أن هذه الليلة في جميع أسواق لندرة هي ليلة البهجة والقصوف والفرح، وهي أبهج الليالي، أما عند العلية فلعلمهم أن اليوم القابل هو يوم الانقباض، فينصبون فيها إلى اللهو والخلاعة في جميع الأماكن المقصودة، وأما عند السفلة والفعلة فلكونهم يأخذون أجرتهم في مساء كل سبت، فمتى انصرفوا من المشاغل أقبلوا على الحانات والحوانيت لشراء مؤنة يوم الأحد، فترى جميع الدكاكين غاصة بالرجال والنساء، وكثيرًا ما يتفق أن الرجل حين يقبض أجرته يذهب إلى الحانة وينفقها فيها، فيرجع إلى أهله صفر اليدين، فيقوم النقار بينه وبين زوجته، أو أن يعطيها لزوجته فتذهب هي وتنفقها في المسكرات، ففي هذه الليلة ترى النساء يتضاربن بعضهن مع بعض أو مع بعولتهن أو مع غيرهم، وكذا شأن الرجال.
وكثيرًا ما رأيت النساء يغلبن الرجال، ويجررنهم بنواصيهم، وكثيرًا ما ترى امرأة مشرومة الأنف أو مملوقة العين، أو مخلوعة اليد، أو صرعى في الطريق من الخمر والضرب، كل ذلك من بركات هذه الليلة، ولولا أن أصحاب الحانات مشروع عليهم أن يقفلوا حوانيتهم في نصف الليل ومن خالف ذلك يغرم خمس ليرات، لَبَقوا وبَقِينَ على الجَنِّ والرَّوْم والجعة إلى الصباح.
والواقع أن العَمَلة من الإنكليز وذوي الحرف أقرب إلى مزية الكرم منهم إلى البخل، فإنهم في تلك الليلة ينفقون إنفاق من لا يخاف الفقر، ويشترون قطع لحم كبيرة، ويتخذون حلواء من الفاكهة وغيرها، وفي يوم الأحد يشربون القهوة بفناجين مخصوصة وبالسكر الأبيض المكرر وهلم جرًّا، وأما عند أصحاب الدكاكين فلعلمهم أن يوم الأحد ليس فيه بيع ولا شراء، فيطيلون المكث في دكاكينهم رجاء أن يكسبوا شيئًا زائدًا يكون عوضًا عن بطالة الأحد، فلهذا ترى للطرق والأسواق في تلك الليلة بهجة لا تراها في سائر الليالي، وكذلك ليلة عيد الميلاد، وبعض ليالٍ قبلها؛ لأن الدكاكين تبقى فيها مفتوحة وبعضها يكون مُزَيَّنًا، وفيها تسمع آلات الطرب من جهات شتى، وترى الناس في إقبال وإدبار ومرح وارتياح.
ودون الطريق الذي مر ذكره في الغنى والرونق طريق أكسفورد، إلا أنه أطول وأقدم، وهو يفضي إلى هيد بارك، وطوله ٢٣٠٤ أذرع، وقد ترى في هذا الطريق وفي غيره عشرين دكانًا للبرانيط، ومثلها للنعال، ومثلها للكتب، ونحوها للخَزِّ، ولا ترى من مطعم واحد أو نصف محل للقهوة.
ثم الطريق الذي يقال له: إستراند طوله ١٣٦٩ ذراعًا، وهو أكثر الطرق ملاهي، فيه فرع من المألك الكبير، عنده جرس ذو مادة كهربائية يدل على أوقات البلدة، وعليه تضبط مواقف سكك الحديد الساعات والأوقات، وفي الساعة الحادية بعد الظهر يهبط عن مركزه بنفسه.
ثم بيكاديلي طوله ١٦٩٤ ذراعًا، ثم نيورود أي الطريق الجديد طوله ٥١١٥، ولكنه ليس من الطرق المنتابة، ونحوه ستي رود، وطوله ١٦٩٠، ثم نيو بون ستريت، فيه دكان جوهري رأس ماله خمسمائة ألف ليرة، وتحت يده من الصاغة والصنائعيين ما يزيد على خمسمائة رجل، وهو أغنى جميع صاغة المملكة، وكثيرًا ما تستخدمه ملوك الإفرنج من جميع الأقطار في صوغ آنية لقصورهم، ثم هوبرن وهو أوسع الطرق، لكنه غير طويل فيه دكانان للبز والحرير لا ينقص عدد المستخدمين في أحدهما عن مائة نفس، ومن هوبرن فصاعدًا نحو الشمال بني في سنة ١٦٠٧.
وفي زمن الملكة إليصابت منع من تكثير البيوت وأمر بأن كل عيلة تسكن في بيت واحد، ثم هلوي ول ستريت، مشهورة بالدكاكين التي يباع فيها كتب الفسق وصور النساء وما أشبه هذا، ثم طرق أخرى حسنة أيضًا ولكنها ليست نظير هذه، وعدد الطرق المبلطة في لندرة يبلغ ٥٠٠٠، وتمتد أكثر من ٢٠٠٠ ميل، ويوجد فيها نحو ٥٠ طريقًا باسم كين ستريت، أي طريق الملك، ومثلها كوين ستريت، أي طريق الملكة، ونحو ٦٠ طريقًا باسم وليام ستريت، ومثلها جون ستريت، وأكثر من ٤٠ طريقًا باسم نيوستريت، وقد تذاكر الناس هذه السنة في إنشاء سكك الحديد في قلب لندرة بدل الحوافل فإن جُعْل هذه يبلغ في السنة ٣٠٠٠٠٠ ليرة، والسير في الأول لا ينفق فيه أكثر من ٣٠٠٠٠ ليرة فقط.
(٢٨) أضواء لندرة
وجميع أسواق لندرة وشوارعها وأزقتها تنور بجمال النساء عامة الليل، وناهيك أنه في محلة واحدة وهي محلة ماري لابن من جملة نحو ٦٠ محلة يوجد ٢٠٠٠٠ مومسة، منهن ٢٢٠٠ لهن بيوت خاصة بهن، وحيثما تكثر أنوار الغاز يكثر ترددهن، ولكثرة الأنوار في الدكاكين والطرق تكون المدينة في الليل شتاء أدفأ منها في النهار، وكذلك مدينة باريس.
والغاز في طرق لندرة يوضع في فوانيس على عُمُد قائمة من حديد، فهي من هذا القبيل أحسن من باريس؛ لأن كثيرًا من فوانيس هذه تجعل في الحائط، إلا أنه ليس في طرق لندرة شجر ولا محال للقهوة على نسق ما في باريس؛ لأن الشرطة لا يأذنون لأحد في أن يضع كرسيًّا في الطريق ويقعد عليه.
(٢٨-١) اختراع الغاز واستخدامه في الإضاءة
ثم إن اختراع الغاز هو من أعظم البركات التي يتنعم بها الإنسان في الليل، ومن أقوى الوسائل المعينة على الأمن والسلامة، ولا سيما في المدن الكبار، فإن لندرة منذ مائة سنة كانت ممنية باللصوص والنهاب في مسالكها بعد العتمة، حتى إن السالك فيها كان يعرض نفسه إما للقتل وإما للسلب، وكانت الأولاد تحمل بأيديهم مشاعيل ويجرون بها بين يدي المارين، ويأخذون منهم شيئًا.
وفي أيام الملكة ماري كان العسس يستصحبون أجراسًا يضربون بها للتنبيه والتحذير؛ وذلك لقلة الأنوار، وفي سنة ١٧٦٢ وضعت الفوانيس وأوقدت بالزيت فقلَّت اللصوص، وأول من جرب استخراج الغاز قسيس اسمه كلاطون، وذلك في سنة ١٧٣٩، إلا أن تجربته هذه لم يُعمل بها، وفي سنة ١٧٩٢ تصدى لهذه العملية رجل من كرنوال اسمه مردوك، وفكر في أنه إذا صان الغاز المستخرج من الفحم أو الحطب في وعاء، ثم أجراه في قصب من الحديد يكون مُغْنِيًا عن المصابيح والشمع، وفي سنة ١٧٩٨ أتم تجربته هذه، وأجراها في بعض المعامل في برمنهام، إلا أنه كان يعرض لها بعض الخلل أحيانًا، وفي سنة ١٨٠٢ انتبه الناس إلى إحكام ذلك وتعميم منفعته، وبعد هذا التاريخ بسنة واحدة نُوِّر ملهى ليسيوم في لندرة بنور الغاز.
وفي سنة ١٨٠٤ وما بعدها وسع مردوك دائرة مشروعه هذا في منشستر، وزعم الفرنسيس أنهم مخترعوه، إلا أن هذا النور لم يعرف عندهم إلا في سنة ١٨٠٢، وكان ذلك في باريس وقد عرفت أن مردوك صنعه قبل هذا الوقت بعدة سنين، ومن سنة ١٨٠٢ إلى سنة ١٨٢٢ اشتهر استعمال الغاز، وأعجب جميع الناس، حتى إن رأس المال الذي جُمع لتنوير لندرة فقط بلغ أزيد من ١٠٠٠٠٠٠ ليرة، وشغلت قصبات الغاز في إيصال النور إلى محال مختلفة مسافة ١٥٠ ميلًا.
وكيفية تنوير الطرق في لندرة هو أن يرتقي الرجل في سلم إلى الفانوس، وفي باريس يجعل الرجل النور في عود طويل، ثم يدنيه من فوهة الفانوس من دون أن يرتقي إليه، ولا يخفى أن ذلك أسهل وأسرع.
(٢٩) منازل الأعيان والأوباش وجحيم لندرة
وأما قوله بترفه الأعيان والعظماء وإسرافهم، فقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على أخلاقهم وأحوالهم، وإنما نقول هنا: إن هؤلاء الأماجد يسكنون في حارات معلومة من المدينة فرارًا من الزحام ومن اختلاطهم بالأوباش، فترى بقعة فسيحة عظيمة في لندرة ليس فيها سوى ديار متصافة متصاقبة، وهي بالنظر إلى وسط المدينة موحشة؛ إذ ليس فيها حوانيت ولا مطاعم ولا ملاهٍ، لكنها نظيفة سالمة عن تكاثف الأوحال وضغط السائرين وقرقعة العجلات، ومع ما هم فيه من البحبحة فيها والنعيم والانفراد، فلا بد وأن يكون لكل منهم دار في الخلاء يسكنها في الصيف، ففي هذا الصقع الجليل تسطع أنوار السعادة من أبراجهم العلوية، وهناك ترى الخدم والحشم والخيل المطهمة والعواجل النفيسة، وهناك تميد الموائد بما عليها من الأطعمة الفاخرة المجلوبة من جميع البلدان، وهناك تتيه الكلاب على كثير من بني آدم ممن يتضورون جوعًا ويهلكون من الوسخ والبرد والعري ومن أكل اللحوم المنتنة في أزقة لندرة القذرة، فليس بين الجنة والجحيم في هذه المدينة بعد ما بين الجنة والجحيم في الآخرة.
وهاك مثالًا على سقر لندرة، قال في بعض الصحف: إن مائة وثمانين نفسًا ما بين رجل وامرأة وولد يسكنون في أربع وثلاثين حجرة، وفي أخبار الكون كان يمكث في حجرة واحدة من أربعة عشر نفسًا إلى عشرين ليلًا ونهارًا، وكان يسكن في حجرة أخرى رجلان مع زوجيهما وأرملتان وثلاث بنات، وعزب وثلاثة أولاد، فجملتهم أربعة عشر نفسًا قد جعلوا أنفسهم عيلة عيلة كل عيلة تبوأت زاوية من الحجرة، وفي موضع آخر يسمى ساحة فلتشر حجرتان لا تزيدان على سبع أقدام عرضًا في عشر طولًا، وقد اشتملتا على ثمانية وعشرين نفسًا، ما أحد منهم يعرف القراءة، وليس تحتهم وطاء سوى التبن، إلا واحدًا منهم، ولا غطاء لهم في الليل سوى ثيابهم التي يلبسونها في النهار، ومع ذلك فإن هذين المحلين إذا قيسا بغيرهما من البيوت المجاورة لهما كان لهما حرمة واعتبار، فإنه وجد فيها ٢٠٨ أولاد قد أدركوا، ولم يدخل منهم المكتب سوى ثمانية وثلاثين فقط، وهم غارقون في الفساد والخساسة والقذر والوباء، وفي هي هوبرن ثلاثون بيتًا، يسكن فيها مائة وثلاث وثلاثون عيلة، كل ثلاث عيال أو أربع في حجرة واحدة، وقد تناهوا في السكر والسفاهة، وفي كل نوع من الرذائل. ا.ﻫ.
وكثيرًا ما ترى النساء يمشين في الشتاء حافيات ويلتقطن الجذور وفتات الخبز، وغير مرة رأيت رجلًا على ذراعه طفل وامرأته بجانبه صفراء منجردة على عتبة إحدى الديار في أشد ليالي الشتاء بردًا، وفي كل سنة يبقى ألوف من ذوي الحرف معطلين، ففي سنة ١٨٤٩ كان ١٤٠٠ خياط و٩٠٠ إسكافٍ بلا عمل، وكان ١٧٠٠ إسكافٍ يعملون بنصف الأجرة، وكذا الصاغة وصناع الجلود وقس على ذلك.
وفي لندرة ٢٢٦٠ دارًا مشرفة على السقوط، والحاصل أنه لا فقير أشقى من فقير لندرة، كما أنه لا غني أترف من غنيها، وكما أن طرف لندرة من جهة الشمال موسوم بحضرة الكبراء، كذلك كان طرفها الجنوبي مختصًّا بأهل الضعة والخمول، فلا ترى هناك شيئًا يعجبك غير حسن النساء، فإن الله تعالى جعل لهن هذا النصيب عامًّا.
(٣٠) جهل الإنكليز بصنعة الطبخ
وأما قول الآخر: إنه ليس في لندرة مطاعم أنيقة … إلخ، فهو في محله، إلا أنه لم يُذكر سبب ذلك، وهو جهل الإنكليز بصنعة الطبخ، أما في البيوت فيمكن للواحد أن يعتذر عنهم بقوله: إنهم لا يتأنقون في الطبخ حرصًا على الوقت أن يضيع في الحشو والتكبيب وما أشبه ذلك، إلا أنه لا يمكن الاعتذار عن أصحاب المطاعم العمومية الذين لا شغل لهم إلا إطعام الناس، وما عدا ذلك فإن المتقدم لم يذكر أنه لا شيء في لندرة مما يُؤكل أو يُشرب إلا وهو مغشوش مخلوط مشوب.
أَوَليس من العار على أهل هذه المدينة مع كونهم أغنى الناس وأقدرهم وأتجرهم أن يرخصوا لواحد من الأجانب في أن يفتح دكانًا في أعظم الطرق ويبيع فيه نحو الجبن ولحم الخنزير والخردل واللبن، ولآخر في أن يبيع المثلوج والحلواء، ولآخر في أن يبيع الخل والزيت، ولآخر في أن يفتح محل قهوة تغني فيه نساء بلده ونحو ذلك مما يمكن لكل أحد أن يصنعه؟ فهل لهذا من تأويل آخر سوى أنكم يا أهل لندرة خرق حمق أو غشاشون غبانون؟
وفي الواقع فإن كل شيء يصنعه أهل فرنسا هو مفخرة للإنكليز، فإن الحرير الفرنساوي للستات من الإنكليز نصف جمالهن، والنصف الآخر من الشريط والجوارب والكفوف والقيطان ونحوه، ونصف أدبهن هو التكلم باللغة الفرنساوية، والنصف الثاني العزف على البيانو، وطباخو أمراء الإنكليز إنما هم فرنسيس، وكذا شرابهم وجل تحفهم، وأهل الحوانيت يكتبون على كل شيء أنه فرنساوي كما مَرَّ ذكر ذلك، فما معنى اتساع لندرة إذن وكثرة دكاكينها وسعة طرقاتها وتعدد مراكبها وزحامها وضجيجها وجلبتها، وليس فيها من يحسن عمل الخردل وليس في مطاعمها مرقة في الشتاء، ولا سلاطة في الصيف، ولا أرز ولا عدس ولا حمص ولا فول ولا مقر، وإنما هو الشواء والبطاطس أو شيء من البقل مسلوق سلقًا؟
ومن الغريب أنهم إذا طبخوا البطاطس مع اللحم سموها إدامًا إرلانديًّا وملئوه من الفلفل والأباريز حتى يحرق اللسان، وإذا جلس أحد فيها للغداء رأى بينه وبين جيرانه حاجزًا من خشب حتى لا يقع التعارف بينهم، وهو أشبه بحاجز الحيوانات التي يجمعونها في بستان النباتات، وترى كلًّا منهم قد جلس للطعام وبيده صحيفة أخبار يطالعها، وإذا أراد أخذ شيء من بين يديك تلقفه من غير أن يستأذنك فيه خلافًا لما تفعل الفرنسيس وغيرهم، على أن كثيرًا من هذه المطاعم يأكل الناس فيها وهم وقوف، فكأنما هم جماعة يهود يأكلون خروف الفصح.
فأما محال القهوة فأكثرها مجتمع الأرذال، فترى فيها واحدًا راقدًا وآخر سكران، وآخر وسخًا، وإذا طلبت فنجان قهوة خلطوا القهوة بالحليب والسكر في محل لا تراه، وقدموه لك هكذا، فلا تدري ما وضع فيه.
فيا ألفي ألف ونصف ألف ألف من الناس متى تعيشون في هذه الدنيا الصغيرة عيشة مائتين ونصف مائة من سكان القرى في فرنسا وإيطاليا والشام وبر مصر، بأن تأكلوا خبزكم غير مخلوط بالبطاطس والشب وجبس باريس ولحمكم طريئًا سليمًا لا من حيوان أصابه داء فَذُبِح، ولا مما يَرِدُ إليكم من أميريكا موضوعًا في الثلج، ولا مما خم وأنتن فتحشون به المصارين والحوايا؟ فلعمر الله إن كان هذا الغش نتيجة التمدن والترقي في العلوم فَلَلْجَهْلُ خير، فإن أهل بلادنا والحمد لله على جهلهم ما يعرفون شيئًا من هذه الفنون الكيماوية والأخلاط الغير المتناهية التي توجب على الشاري أن يستصحب معه مرآة من المرايا المكبرة ليرى بها تلك الأجزاء والمركبات فيما يؤكل ويشرب في وطنكم هذا السعيد.
أَوَما كفي أن هواكم مخلوط بالدخان وشتاءكم يدوم ثمانية أشهر تقضي بالاصطلاء على نار الفحم الحجري؟ وما أدراك ما الفحم الحجري؟ وبخوض الوحول ويستنشق الضباب حتى زدتم على هذا البلاء الطبيعي بلاء صنائعيًّا تعافه الحيوانات؟! فإن الكلاب والسنانير تأبى أكل هذه الجباجب التي تحشونها بلحومهن، ثم أقول أولم يكف أن نسَّاجيكم وخياطيكم وأساكفتكم وصاغتكم وصباغيكم وسائر أهل الصنائع منكم يغشون ويموهون ويلبسون ويشبهون ويضلون ويغوون، فما يُدْرى الحرير عندكم من القطن، ولا الجديد من القديم المصبوغ، ولا المخيط من الملصق؟ وأن المومسات يتطاولن على الرجال ويشممنهم المسبت ثم يسرقنهم.
والمراد بالمسبت هنا: الدواء الذي يقال له كلوروفورم أو أثير، قيل: إن خاصيته كانت معروفة عند الكيماويين الأقدمين وذلك من سنة ١٦٨١، وأول من عثر عليه في التاريخ المذكور كنكل وأول من عرف خاصيته في الإسعاط توماس موطون من بوستان في أميريكا، ثم استعمله دكطر سميصون في أيدنبرغ، ومن بعده دكطر «جامس» روبنصون في إنكلترة، ثم شُهِرَ في سائر الممالك، ونشأ عنه الموت بعض الأحيان، وفائدته تغييب الموجع عن حس ما يؤلمه حتى إنه يمكن للجراح أن يقطع عضوًا منه أو يحرقه ولا يشعر به، وقد استعملته الملكة عند ولادتها غير مرة.
وإن منكم نباشين للقبور يسرقون أكفان الموتى ويبيعونها، وإن الأولاد يختلسون في كل طريق مظلم وفي كل زحام، وإن سفلتكم عارون عن الأدب والحياء، ودأبهم التعدي على الغريب والإساءة إليه، وإن كثيرًا من بيوتكم القديمة وحيطانكم العهيدة تتهدم وتسقط على الناس فتهلكهم! وإنه قد يمكث الإنسان عندكم شهرًا ولا يرى الشمس إلا مرة أو مرتين، وإن ربيعكم أبرد من شتائكم، وصيفكم أمطر من خريفكم، وإن لا فرجة عندكم ولا مشهد ولا موسم ولا ملهى إلا ويغص باللئام الطغام والأوباش والأوغاد والسفلة والأرذال، حتى عمدتم إلى إفساد ما خلقه الله من المأكول والمشروب طيبًا مريئًا؟ أفليست لكم ألسنة تذوق هذا الرجس، وتنطق بالحق، وحلوق تستبشع ذلك الخبيث من الطعام كما تستفظع حروف الحلق؟ فإن كان خلو لغتكم عنها هو مسبب من استطيابكم لهذا الخبيث فناها الله بضعفي ما في لغتنا منها.
أهكذا علمكم أهل الشرق أن تختبزوا الخبز مخلوطًا بأصناف شتى؟ أهكذا علمكم أهل فرنسا أن تطبخوا هذه اللحوم المنتنة في مطاعمكم وتخفوا فسادها بكثرة الفلفل والأفحاء؟ أهكذا علمكم باسكت الرومي في سنة ١٦٥٢ أن تصنعوا القهوة مخلوطة بجميع أنواع الحبوب؟ فما معنى كثرة دكاكين الكتب والمؤلفات التي لا عدد لها عندكم في كل فن وصنعة، وأنتم لا تحسنون أن تطبخوا بُضَيْعَةً من اللحم ببويقة من البقل، فكل لحم مشوي وكل بقل مسلوق؟! ويا ليت كان ذلك اللحم لحمًا وذلك البقل بقلًا.
فاعجب أيها القارئ من أن هؤلاء الناس الذين يملكون ما ينيف على ٥٠٠٠ باخرة منها ما هو أكبر من فُلْك نوح، كما زعموا وعندهم أكثر من ٢٠٠٠ صحيفة للأخبار، منها ما يطبع في كل يوم ومنها في كل أسبوع، لا يعرفون أن يأكلوا، وليس لهم ذوق يعرفون به الطيب من الخبيث من الطعام، ويرضون أن يأتيهم رجل من فرنسا أو إيطاليا ليبيعهم الخردل والخل والجبن مما يجلبه من بلاده، وليس منهم في تلك البلاد أحد يعلم أهلها شيئًا من صنعة الطبخ، فكل شيء دخل في حلوقهم طاب استراطه، وكل ما عرض للبيع في حوانيتهم حل بيعه وشراؤه بحيث يُؤَدَّى عليه مكس للدولة!
وإني لأعجب كيف أنهم لا يختبزون خبزًا من البطاطس وحدها، أو من الشعير وحده، أو من الأسماك كما في إيزلاند؟ وكيف لا يتجرون في طين الأرض القريبة من المسكوب الذي يقال: إنه يختمر مع الدقيق؟ وقد حان لي الآن أن أختم الكلام على لندرة فيما يَئُول إلى المأكول والمشروب، وأذكر ما فاقت به سائر مدن العالم فيما يطبع فيها من صحف الأخبار والكتب.
(٣١) صحف الإنكليز وطبعاتهم
فأقول: إن أول جرنال في الدنيا بأسرها هو الجرنال المسمى تيمس، ومعنى هذه اللفظة الأوقات، ومعنى الجرنال يومية، وهي لفظة فرنساوية، وهذه الصحيفة تحوي جميع أخبار المسكونة إلا أني رأيت فيها عيبًا كبيرًا وهو عدم استقصاء أخبار البلاد الشرقية وسائر الممالك الإسلامية، فإن كان فيها خبر عنها فإنما هو مخصوص بالتجارة، ولها عدة كتَّاب، وكاتب جملها السياسية يعد من أعظم أدباء الإنكليز ومرتبه في السنة أكثر من ألف ليرة، وهذا الجرنال هو لسان الأمة والدولة، ويليه الجرنال المسمى مورنن إدفريتسر ومعناه معلن الصباح، وهو لسان الرعية وكأنه نقيض ذاك.
(٣١-١) حرية الصحافة بين لندرة وباريس
وفي لندرة أكثر من ٣٢٠ جرنالًا للأخبار الطارئة والأدبيات والعلوم، ووزن ما يطبع منها في كل يوم وكل أسبوع يبلغ في الأسبوع ٢٥٠ طنًّا إلى ٣٧٠، وفي باريس ٣٥٠ صحيفة للأخبار، إلا أن كتَّابها مقيدون عن الجري في مضمار الكلام، فليس لهم حرية كما لِكُتَّاب الإنكليز، فإن هؤلاء يشهرون في أخبارهم كل ما استحسنوه واستقبحوه، وليست هذه الرخصة لأصحاب جرنالات فرنسا، وكذلك يشهرون كل ما حدث في مجلس المشورة من المذاكرات والمفاوضات بأن يبعث كل رئيس جرنال كاتبه إلى المجلس، ويكتب ما يقال فيه حرفًا حرفًا، ولهم في ذلك طريقة غريبة يسمونها اليد القصيرة، فإن الكلام يكتب مختصرًا بنوع من الإشارة، ولولا ذلك لم يكن ممكنًا للكاتب أن يستوعب جميع الأقوال، وكلما حدث شيء في قصر الملكة يطبعونه حتى إنهم لا يتحاشون أن يكتبوا أنها حبلى وأنها تلد في الشهر الفلاني.
وفي بعض هذه الصحف أن الملكة أهدت إلى أحد العسكر منديلًا من حرير، وفيه رقعة مضمونها أنه مكفوف بيد ابتها الكبيرة، ولو كان مثل ذلك يشاع في بلادنا لأصبح مشغلة للألسن، كما سبقت الإشارة إليه، وأفحش ما يكون من تلك الجرنالات الجرنال المسمى بول بري، قرأت فيه في عدد ١٦ ما نصه: «إن كان الله قد قصد أن منحه في هذا الأمر تكون غير مستعملة، فَلِمَ منحنا إياها؟ وإن كان إنما قصد أن تكون مستعملة من المتزوجين فقط فَلِمَ آتاها غير المتزوجين أيضًا؟ أم يقول قائل لا خشية له من الله: إنه إنما أعطانا إياها ليبلونا بها، أفليس هذا يفضي إلى أن نجعله ممتحنًا، إلا أني لا أبرئ المتزوجين في استعمالهم هذه المنح في غير محلها.
أما الاقتران الطبيعي بين الرجل والمرأة وهما غير متزوجين وليسا من عائلة واحدة، فحلال شرعي، والحاصل أن شرائعنا الأدبية حائدة عن الصواب، وأن الفضيلة على ما تفهمها العامة شَيْن وتدليس.» إلى أن قال: «فكل امرأة غير متزوجة يحل لها على مذهبي أن تخالط أيًّا شاءت من الرجال من دون خوف من أن توسم بالعار والفضيحة أو الخروج عن الأدب، ولو جرت العادة بأن تعيش الرجال مع النساء من دون زواج لأغنانا ذلك عن كثير من الشرور التي تحدث بين المتزوجين كالسم والقتل ونحوه، بل عن كثرة المومسات وعما يقاسين من الموبقات والرذائل.»
وفي بعض الجرنالات من بعض العامة إلى كاتب الجرنال ما نصه: اسمح لرجل مسكين أن يقول كلامًا وجيزًا على أمر موجب لشكوى الإنكليز، فأقول: إنا معشر أهل إنكلترة ما برحنا معنيين بما لقينا من مصاريف الحرب الأخيرة، ومن المكوس التي لا تطاق، ومع ذلك فقد خطر الآن ببال بعض أهل الدولة طريقة أخرى لإفقار الرعية، وهي إمداد مملكة أجنبية بمال سُمِّي جهاز ابنة الملكة، وناهيك أن ملكتنا لما تزوجت أحضرت إلى رعيتها رجلًا لا ثروة له، وأن ملك البلجيك رتب له وظيفة تجري عليه من أهل هذه المملكة، وما ذلك إلا لكونه تزوج بنت الملك جورج، فصارت بلادنا موردًا لصيادي البخت والجِدَة، وإنها لتبقى كذلك ما دام جلب المال هينًا على طالبيه.
أوليس لملكتنا من الإيراد الجزيل ما يقدرها على أن تقوم بمؤنة ذريتها، ولو أنها قَتَّرَت على نفسها قليلًا لأمكنها أن تجهزهم إن كان لا يوجد من كرام الناس من يتزوجهم لمجرد المحبة، وكيف كان فمن الظلم الواضح أن يُكلف أهل بلادنا إغناء بلاد أجنبية، ألا ترى أن لي زوجة وعشرة أولاد، وأن إيرادي كله لا يزيد على ١١٠ ليرات أؤدي منها لتنظيف البلدة شيئًا، ولأجل الفقراء شيئًا وللكنيسة شيئًا، ولغيرها شيئًا؟ فهل إذا أردت أن أزوجهم يجهزهم أهل الشورى عني … إلخ. ا.ﻫ.
(٣١-٢) بدايات الصحف المطبوعة في الغرب
وثمن هذه الجرنالات كلها مع ما فيها من الأخبار والفوائد، ومع حسن طبعها وورقها لا يفي بثمن الورق فقط؛ وإنما يكسب أصحابها من الإعلانات التي يطبعونها للتجار وغيرهم، فعلى كل سطرين أو ثلاثة من هذه الإعلانات خمسة شلينات، وأول طبع بالبخار ظهر في مطبعة التيمس وذلك في سنة ١٨١٤، وأول جرنال طبع في بلاد الإنكليز كان في أكسفورد وذلك في سنة ١٦٦٥، وكان ديوان الملك يومئذ هناك لأجل الطاعون الذي وقع في لندرة، فلما رجع إلى لندرة سمي ذلك الجرنال كازت، وذلك بعد التاريخ المذكور بسنة واحدة، وبقي هذا الاسم خاصًّا بالجرنال المشتمل على أخبار الدولة والمصالح الملكية، فلا معول في أخبارها إلا عليه، فهو بمنزلة المونيتور في باريس، وأصل اسم الكازت أنه في سنة ١٦٢٠ طبع في صحيفة في فينيسيا أخبار مختلفة، وكانت تُشْرى بقطعة من الدراهم تسمى كازتة، فلزمها هذا الاسم.
وكان اشتهار الجرنال في فرنسا سنة ١٦٣١، وفي جرمانية سنة ١٧١٥، وفي دبلين سنة ١٧٦٧، وأول جرنال اشتهر في هولاند كان في سنة ١٧٣٢، وفي أميريكا سنة ١٧١٩، وعدد جرنالات هذه ٨٠٠، منها ٥٠ جرنالًا تطبع في كل يوم، وجملة نسخها ٦٤ مليونًا، وأول ما يصح تسميته بجرنال لاشتماله على أخبار عمومية في بلاد الإنكليز هو ما طبع في سنة ١٦٦٣، وبقي كذلك نحو ثلاث سنين ثم خفي بظهور الكازت، وفي زمان الملكة إليصابت وذلك سنة ١٥٨٨ شهر أيضًا شيء مثله، ولكنه لم يكن على هذا النسق.
وأعجب العجب كثرة أوراق التعريف والإعلان في هذه المدينة في كل موضع يباح فيه إلصاقها، وقد يستخدم بعض التجار خَدَمَةً مخصوصين ليطوفوا بها ويفرقوها على المارين مجانًا، وما أحد يريد أن يأخذها، ومنها ما يطبع بحروف فاحشة الكبر حتى يمكن قراءتها من مسافة بعيدة.
(٣٢) اختراع الطباعة
أما صناعة الطبع فقد اختلفت الأقوال في مخترعها، فبعض المؤرخين نسبها إلى منتز، وبعضهم إلى استرابورغ وهارلم، وبعضهم إلى فينيسيا ورومية، وبعضهم إلى فلورنسه وباسيل، وفي رواية أدريان جونيوس أن مخترع الطبع هو يوحنا كستر من هارلم، طبع على خشب كتابًا فيه حروف وصور على وجه واحد، وذلك في سنة ١٤٣٨، وفي سنة ١٤٤٢ أنشأ يوحنا فوست مطبعة في منتز، وطبع فيها كتابًا، وزعم بعضٌ أن أول كتاب طبعه كان كتاب المزامير، وقال آخر: لا شك أن الطبع على قطع الخشب كان معروفًا عند أهل الصين وذلك قبل تاريخ النصارى بأحقاب عديدة، وكذلك كان معلومًا عند الرهبان في بلاد الإنكليز وفي غيرها من بلاد أوروبا، فإنهم كانوا ينقلون الكلام من ورقة إلى أخرى على الخشب، ولكن كان ذلك قليلًا، فأما استعمال هذه الحروف مصفوفة واحدًا بعد واحد فلم يعرف إلا في متأخر الزمن.
قال: ولم يكن أحد في الزمن القديم يشتغل بالعلم وبترجمة الكتب والنسخ إلا الرهبان، فهم الذين أدخلوا التمدن والمعارف في بلاد الإفرنج، وكانت رومية وبلاد اليونان معدن الكتب والعلوم، وكان الصكصونيون آباء الإنكليز يسافرون مسافات بعيدة في طلب العلم وتحصيل بعض تلك الكتب النادرة ويشترونها بثمن غال، وعند رجوعهم يترجمونها إلى اللغة الصكصونية، وكانت الناس تتنافس فيها لندرتها غاية المنافسة، وكان للأسقف ولفريد نسخة من كتاب الإنجيل مكتوبة بحروف من ذهب على ورق أرجواني، فكان يضعها في صوان من ذهب مرصع بالجواهر النفيسة، وما عدا الرهبان فلم يكن أحد من العامة مَنْ يحسن الكتابة غير أفراد قليلين، وناهيك أن توقيع ويليترد — ملك كنت — على مجلة كان علامة الصليب، وأمر كاتبه بأن يكتب تحتها أن الملك إنما رسم تلك العلامة بدلًا من اسمه لجهله الكتابة.
ولولا تخريب الدانيزيين وتدميرهم لكان العلم بين الصكصونيين قد تقدم كثيرًا، إلا أن ملوك البحر أولئك كانوا على جانب عظيم من الجهل والجفاء، وكانوا وهم على أصنامياتهم ينظرون إلى الصكصونيين المسيحيين كأنهم مرتدة: لأنهم كانوا أولًا مثلهم عبدة أوثان؛ ولهذا كانوا يرون أن فروض دينهم توجب عليهم إبادة أديار الرهبان وكتبهم، وما كانوا يعرفون شيئًا من جهة السماء سوى أنهم يشربون فيها المزر في جماجم أعدائهم، ويأكلون من مأكول لا ينقص الآكل منه شيئًا مهما أكل، فمن ثم أتلفوا كتبًا كثيرة كانت كلفت الصكصونيين أتعابًا عظيمة في تحصيلها، ولو أنها بقيت لنا لكنا ندري منها أمورًا كثيرة نجهلها في تاريخ جميع البلاد.
قال: واتفق في القرن الخامس عشر أن شابًّا اسمه جون غانسفليش ويعرف بغاتنبرغ من صقع سلغيلوش سافر إلى استراسبورغ، وكانت مشهورة حينئذ بأنها سوق الكتب، فأخذ يفكر في إحداث طريقة لتكثيرها، فخطر بباله أنه إذا صنع حروفًا تتركب وتنحل يبلغ بها أربه، ثم رجع إلى ماينس واجتمع برجل اسمه فوست، فتواطآ على إبطال نسخ الكتب لما فيه من المشقة بطريقة الطبع بتلك الحروف، فسبكاها كما خطر لهما، وكان ذلك في سنة ١٤٤٠، إلا أن عملهما هذا لم ينتج فائدة إلا بعد عشر سنين، ويظن أن تلك الحروف كانت من رصاص أضيف إليه بعض أجزاء كيمياوية لجعله صلدًا متحملًا للعمل المراد.
ثم دخل في شركتهما بطرس شوفر، ثم طبع غاتنبرغ عدة كتب من جملتها التوراة المعروفة الآن بتوراة مازارين، وقد راج بيعها واشتهارها كثيرًا حتى إنه كان يقال: إن طبعها من عمل الشيطان، وفي سنة ١٨٣٧ نصب له مثال على قبره إكرامًا له، وأُرسلت نواب من جميع دول الإفرنج لتحضر مشهده، ولما تفرق الذين كانوا مستخدمين في مطبعته ذهب بعضهم إلى سوبياكر في إيطاليا، فاشتهرت هذه الصناعة فيها في سنة ١٤٦٥، ثم سَرَتْ إلى باريس وذلك في سنة ١٤٦٩، وبعد سنة اشتهرت في إسبانيا، وبعد نحو خمسين سنة عَمَّتْ جميع أوروبا.
ويظهر مما قاله بادان أحد مشاهير الطباعين في باريس في أوائل القرن الخامس عشر، وكذا مما قاله شكولوكر الإنكليزي أن الأمهات والأبهات في تلك الحروف لم تختلف كثيرًا عن المستعمل منها الآن، وكانت العادة إذ ذاك أنَّ سبك الحروف مختص بالطباعين فقط، وفي سنة ١٦٣٧ صدر حكم من ديوان الإنكليز بأن لا يزيد عدد الطباعين على أربعة نفر، وأنه إذا مات منهم أحد لا يقوم آخر في محله إلا بإذن رئيس أساقفة كنتربري، وفي سنة ١٦٩٣ — حين صدرت المجلة بإقرار حقوق الأهلين — بَطُلَ هذا الحكم.
(٣٢-١) الرقابة على المطبوعات
وكانت الكتب سابقًا تُفْحَص قبل أن تُطبع، ثم يكتب على صفحة عنوانها تطبع، وفي سنة ١٧٩٥ أطلقت الحرية في الطبع من دون فحص، وأُمِرَ بأن تطبع أسماء الطباعين في أوائل الكتب وأواخرها.
(٣٢-٢) انتشار الطباعة في بلاد الإنكليز
وأول من شهر الطبع في بلاد الإنكليز كاكسطون، وذلك نحو سنة ١٤٧٤، وكان قد سافر إلى البلاد الواطئة وحصَّل معارف كثيرة، وأول كتاب طبعه كان تاريخ طروة ترجمه من اللغة الفرنساوية، وكان جامعًا لثلاث خصال جليلة: وهي كونه مؤلفًا وطباعًا وناشرًا، وبسعيه ومعارفه حصل له في أدب لغة الإنكليز تقدم عظيم.
إلا أن هذه الصناعة الجليلة كانت غير عامة المنفعة عندهم، وخصوصًا أنهم كانوا يشترون الحروف من بلاد أوروبا القارة، ولا سيما من هولاند، إلى أن قام كسلون في أوائل القرن الماضي وسبك حروفًا حسنة، وكثَّر الأدوات، وفي سنة ١٧٢٠ استخدمته الجمعية المعروفة بجمعية انتشار المعارف المسيحية في سبك حروف عربية، ثم اشتهر صيته في الآفاق حتى صار أهل البلاد القارة يستمدون منه، فلما مات باعت زوجته ما كان عنده من الحروف لجمعية العلوم في باريس، فكانوا يطبعون بها أجلَّ المؤلفات في الأدب والعلم، ثم قام دكطر «فري» وسبك حروفًا في جميع اللغات المشرقية، ويقال: إنه سبك في مسبك برسكيف أربعمائة شكل من الحروف الهجائية، وإن بروبنكاندة رومية مع شهرتها ليس فيها أكثر من ذلك، وسبك أيضًا في معمل ديدو في باريس أبدع ما يمكن صوغه من الحروف في العالم بأسره، حتى إن بعضها لا يمكن قراءته إلا بالزجاجة المكبرة.
وكيفما كان فإن طباعي الإنكليز في عصرنا هذا لا يعلو عليهم أحد، ثم إن أحد النمساويين — واسمه هركونك — رأى أن الطبع بالبخار غير مستبعد، فعرض رأيه على أهل بلاده، فأعرضوا عنه، فقدم إلى بلاد الإنكليز، وأسعفته جماعة منهم لإجراء ما قصده، فصنع آلة صغيرة طبع بها ألف صحيفة في ساعة واحدة بمساعدة ولدين فقط، فلما تحقق صحة استعمالها، عزم على اتخاذ آلة كبيرة لطبع الأخبار، فرآها صاحب جرنال التيمس فواطأه على أن يصنع له آلتين مثل تلك، ولكن أكبر منها، وفي سنة ١٨١٤ طبع في ذلك الجورنال إعلان بأنه مطبوع بقوة البخار، ثم قام جماعة وحسنوا هذه الآلة، فكان يطبع بها على الوجهين في كل ساعة من ثمانمائة صحيفة إلى تسعمائة، وكانت الآلة المفردة تطبع على وجه واحد في كل ساعة ألفًا وأربعمائة صحيفة، ثم قام مستر لتل واخترع آلة مزوجة يطبع بها في الساعة من عشرة آلاف صحيفة إلى اثني عشرة ألفًا، وفي بلاد أميريكا مطبعة تطبع في الساعة عشرين ألف صحيفة ما بين جرنال وغيره.
(٣٢-٣) أهمية اختراع الطباعة والورق
وفي الحقيقة فإن جميع ما اخترع من الصنائع في هذا العام هو دون صناعة الطبع، نعم إن الأقدمين بنوا أهرامًا ونصبوا أعلامًا وشادوا هياكل وحصنوا معاقل، وحفروا خلجانًا وأقنية للماء، ومهدوا مسالك للعساكر، إلا أن صنائعهم تلك بالنسبة إلى صنعة الطبع إن هي إلا درجة ترق فوق درجات الهمجية، فإنه بعد اشتهار الطبع لم يبقَ احتمال لإضافة المعارف التي ذاعت وشاعت، أو لفقد الكتب كما كانت الحال حين كانت تكتب بالقلم، وقد قيل: إن المعرفة قدرة، فإن المتصفين بالمعارف وهم الأقل يتولون الأمور ويسوسون الجمهور وهم الأكثر. ا.ﻫ.
أما إحداث الورق، فقال فلتير: إنه كان في القرن الحادي عشر، إلا أنه كان مشهورًا في الصين من عهد لا يعلمه إلا الله، وهو أبيض رقيق يتخذونه من البمبو المغلي، أو من قصب السكر، قال: وقد عرف استعمال الزجاج عندهم من ألفي سنة، وقال آخر: إن إحداث الورق في الصين عرف في سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد، وفي سنة ١٠٠٠ بعد الميلاد كان يصنع من القطن، وفي سنة ١٣١٩ صار يصنع من الخرق، وأول من صنع الورق الأبيض الخشن في بلاد الإنكليز رجل نمساوي، وذلك في سنة ١٥٩٠، وقبل وليم الثالث كان الإنكليز يشترونه من فرنسا وهولاند، فكانوا يصرفون كل سنة في ثمنه ١٠٠٠٠٠ ليرة، فلما قدم بعض الفرنسيس إلى هذه البلاد للاستئمان علَّموا الإنكليز صنعة الورق، وكانوا من قبل ذلك يصنعون ورقًا خشنًا أسمر.
وفي سنة ١٦٩٠ صنعوا الورق الأبيض باليد، واتخاذه بالآلة كان من مخترعات لويس روبرت، ثم باعها لطباع اسمه ديدو فجاء بها هذا إلى بلاد الإنكليز، ومن ثَمَّ شهر استعمالها، وفي سنة ١٨٣٠ صنع بها طَلْحِيَّة بلغ طولها ١٣٨٠٠ قدم، وعرضها أربع أقدام، أما الورق المنقوش الذي يلصق على الحيطان فكان إحداثه في إسبانيا وهولاند في سنة ١٥٥٥، فأما البابيروس وهو الورق المتخذ من القصب فكان يصنع في مصر والهند إلى أن عمل الرق، وذلك في سنة ١٩٠ قبل الميلاد، وكان بتولومي قد منع إخراجه من مصر، وعليه كتب تاريخ يوسيفوس، وهي نسخة جليلة ثمينة أخذها نابوليون الأول من جملة ما أخذ، وبعث بها إلى باريس، وفي سنة ١٨١٥ رُدَّتْ إلى موضعها.