فصل في الستي
مركز لندرة التجاري
قد تقدم الكلام على هذا الخط من حيث اشتماله على أعظم المباني الكائنة في لندرة، فإن البنك والبوسطة والبورس وديوان الضابط وداره ودار السكة وكنيسة ماربولس جميعها فيه، وهو في الواقع لندرة القديمة، وما بني من بعده فهو حادث، وبقي الآن هنا أن أقول: إن هذا الخط الفريد هو مركز الأشغال العظيمة والمبايعات الجسيمة لأغنياء تجار الإنكليز، فما من بناء فيه إلا وهو مصدر للحركة والعمل، وما أحد يخطو فيه إلا للكسب والشغل، ولا يتحرك به لسان إلا للنفع والفائدة، ولا تطلع عليه شمس ولا يوقد فيه نور إلا للسعي، ولا يخلج صدر مخلوق خاطر إلا للتحصيل والاقتناء؛ فترى كل واحد من أهله فاتحًا عينيه وفمه لأكل الدنيا وما فيها، وكثيرًا ما ترى في مسالكه مصحبين يحدثون أنفسهم فيما هم فيه من المباشرة للأعمال، فهنا تجد الغلام شيخًا في معرفة الإدارة، والشيخ غلامًا في النشاط والاستعداد، والشاب قبيلًا.
مركز عالمي للتجارة
وكيفما توجهت وأينما سلكت رأيت نهم الخلق وحرصهم شاغلًا لحواسهم الباطنة والظاهرة بالحرث والادخار، وليس من قطر في الدنيا إلا ويمده أهل هذا الخط بالبضاعة والمهمات، وهو وإن خلا عن الحوانيت الرحيبة البهيجة مما يرى في سائر شوارع لندرة إلا أن الأرباح التي تُجْنَى هنا في يوم واحد لا تجنى في غيره في شهر؛ لأن العقود الخطيرة والمراسلات الجزيلة إنما تصدر عن هذا المشغل الحافل، ولا يخفى أن التاجر الذي يراسل تجار البلاد الأجنبية، ويبعث لهم ويجلب من عندهم، يربح أكثر من التاجر الذي يقعد في حانوته وينتظر شاري شقة من الحرير أو ثوب من الخز.
كبار التجار والفرق بين تجارهم وتجارنا
ومن هؤلاء التجار من يكسب في السنة نحو مليون ليرة كذا قيل، ومنهم من له عدة سفن تجري في البحر من بلد إلى بلد، ومنهم من يستخدم في إدارة مصالحه مائة شخص، وقد ذكرنا سابقًا أن واحدًا من هؤلاء له محل في إرلاند فيه أربعة آلاف من الرجال والنساء لعمل القمصان لا غير وأن تاجرًا مات وخلف سبعة ملايين ليرة، ولا بد لكل منهم من أن يكون له كتاب وحساب وصيرفي وما أشبه ذلك، والغالب أن يكون له محترف يشتمل على ثلاث حجرات؛ إحداها: للأشغال الخاصة به، والثانية: للكتاب، والثالثة: مشتركة لهم، ولوضع الرواميز والمتاع ونحوه، ولا شك أن تجار لندرة عمومًا وتجار هذا الصقع خصوصًا أغنى من جميع تجار أوروبا، إلا أنهم دونهم في الظَّرف والكياسة، وعبارتهم ركيكة بخلاف تجار فرنسا، فإنهم مشاركون لذوي العلم والدراية، وعبارتهم وإن تكن دون عبارة علمائهم إلا أنها بالنسبة إلى كلام تجار الإنكليز عالية.
كما أن عبارة هؤلاء بالنسبة إلى عبارة تجار بلادنا في غاية الفصاحة، ولعمري إن تاجرًا يكتب: لق أي لا، وقمضه؛ أي الإمضاء، والسالسي؛ أي الثالثة، ومنقول؛ أي نقول، وأعرض عن هذا الشيء؛ أي عرض هذا الشيء، والخصارة؛ أي الخسارة، ونبتدئ بحساب جديد وبخير وعافية، والساررة، وغث علينا، وحظونا على، وفولابت، ونحو ذلك لجدير بأن يستحي من حرفته.
ومن العجيب هنا أن العالم قد يسهو أحيانًا ويغلط، ومثل هؤلاء التجار لا يغلطون أبدًا في تأدية عبارة واحدة على حقها، فقد قرأت أكثر من ألفي رسالة وردت منهم، فلم أرَ فيها ولا جملة واحدة تدل على فكر لهم وروية، فلمثل هذه الحال يدخر قول الإنكليز في التوبيخ: ألا تستحي من نفسك؟ نعم إن التاجر لا يطلب منه أن يكون شاعرًا أو رئيس ديوان الإنشاء، ولكن عار عليه أن يصرف إدراكه كله في معرفة الثوب الخشن من الرفيع وأن يرتدي بلباس الغفول عن أشرف ما ميز الله به الإنسان عن البهيمة، وهو النطق، بل ليت هؤلاء يكتبون كما ينطقون، فإني لا أحسب عجزهم في الكلام بالغًا إلى هذا الحد، ولعمري إن صاحب الذوق السليم يمكنه أن يكتب عبارة لائقة من دون أن يدرس كتاب سيبويه، أو فقه اللغة للثعالبي، والمتفصح من هؤلاء من يخلط العربية بالتركية أو الطليانية، فيكتبون: مركب يالكان وعلام مور وبرمق وجنابير وماكنة وبريمو، ويا ليتهم يكتبونها على حقها، فيا ليت شعري ما سبب هذا العدول عن لغتهم إلى لغة العجم؟ وما سبب هذا القصور عن تأدية عبارتهم بألفاظ متعارفة، أو عن سبك معانيهم في كلام معجب مفصح؟ وما عسى أن يقال في تاجر فرنساوي يكتب رسالة ويحشوها بالألفاظ القبيحة والأغلاط الفاحشة في التركيب ورسم الخط، وما يكون قدره عند أقرانه ومعارفه وعند أصحاب الجرنالات، وخصوصًا ما يطبع منها للضحك والتهكم، ألا فليحمدوا البلاد التي خلت عن هذه الصحف وعن رعاية حرمة العلم.
تنافس الإنكليز في خط الستي
ثم إن تنافس الإنكليز في حصولهم في خط الستي سواء كانوا تجارًا فيه أو كتابًا أو غير ذلك، هو كتنافس القبط في استخدامهم في قلعة مصر، وقد ذكرت سابقًا أن جميع الحوافل مكتوب عليها اسم البنك؛ لأنها جميعها ترد إليه إلا ما ندر، وبهذا تعلم ما يكون ثَمَّ من الزحام والتوارد، وفي الحقيقة فإن دَوِي المراكب في مسالك هذه البقعة لمِمَّا يذهب بالصبر، وما أظن أحدًا من سكانها أن يمكنه أن يعمل فكره في شيء إلا فيما هو بين يديه من الشغل.
فيه تم تأليف هذا الكتاب
وفي هذا المورد الوخيم قدر الله لي أن أؤلف هذا الكتاب، لا في مروج إيطاليا النضيرة، ولا في رياض الشام الأنيقة، فأخال أن بين كل كلمتين منه دخانًا متصاعدًا وظلامًا متكاثفًا، وكنت كلما خرجت من حجرتي إلى هذا الموضع أوجس أن يصيبني سوء، إما من تزاحم الناس أو البهائم أو من رداءة الطعام الذي يُؤكل في مطاعمها، فإذا عدت إلى منزلي أجد نفسي كأني نجوت من خطر غرق أو نار.
الستي مكان كالحبس
ومن يخرج من هذا الحبس إلى جهة ريجنت ستريت كان كمن خرج من لندرة إلى باريس؛ لأنه يرى هناك بعض الناس يمشي على مهل، فيستشعر أن من الخلق من يخرج للتفرج والتنعم، وبعضهم يدخن بالتبغ وهو ماشٍ، وبعضهم يتكلم وهو ضاحك أو مبتسم، وقد يسمع بعض آلات الطرب، فيأنس بأن هناك ما ينفس عن القلب، ويؤذن بالسرور، وأن من أوقات العمر ما يخصص للراحة واللذة، بخلاف شوارع الستي، فإن الله تعالى لم يخلقها إلا للسعي والشغل، الشغل ليس إلا الشغل، العمل العمل.
إن دين القوم العمل، فهم لا يستريحون منه إلا إذا استراح هو منهم، وناهيك أن فيه دارًا واحدة تشتمل على خمسائة محترف، وعدة سماسرته تبلغ نحو الألف.
ومع أن موقع هذا الخط سافل بالنسبة إلى سائر أخطاط المدينة، وطرقه ضيقة وبيوته حقيرة، فإن إجلاله عند الإنكليز جعله أرفع وأشرف من غيره، حتى إنهم إذا شخصوا منه إلى محل أعلى منه يقولون: إنا نهبط إلى موقع كذا، وليس في هذا الخط كله ملهًى ولا نزهة ولا شيء آخر يبسط النفس، فلن ترى فيه إلا وجوهًا كالحة، وزحام عواجل وحوافل ومحامل وعجلات مقبلة ومدبرة، وطرقًا ضيقة وحِلة، وجدرانًا سودًا، ومسالك غاصة بالناس.
تمت الطبعة الثانية من هذا الكتاب بحمد الملك العلي ملهم الصواب ومجزل الثواب، أما الطبعة الأولى التي طُبعت في تونس فلم تكن تامة؛ إذ حذف منها بعض أقوال سديدة، وأخبار مفيدة، فلما رأينا ذلك أثبتنا في هذه الطبعة ما حُذف من تلك وأضفنا إليها أيضًا أشياء أخرى من قبيل الإحصائيات التي زادت؛ إذ لا يخفى أن أحوال أوروبا تغيرت بعد تأليف الكتاب، وقد بذلنا الوسع في ضبط هذه النسخة وفي تحريرها وتهذيبها على قدر الإمكان؛ فجاءت بحمده تعالى نموذجًا على الإتقان، وكان الفراغ من طبعها في أواخر شهر محرم الحرام سنة ١٢٩٩ في أيام سلطاننا المعظم الخليفة الأعظم مولانا وسيدنا السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان، أيد الله سلطنته وأيد دولته وسلطته، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.