العد: استخدام صوص البازلاء
يسهُل العدُّ إذا لم يكُن غرضُك منه إحصاءَ شيءٍ ما: ١، ٢، ٣ … هذه الأرقام لا نهاية لها، وهي دقيقة ومُنتظمة ومجرَّدة. هكذا يتعلم الأطفال العدَّ في دُور الحضانة وهم جالسون أمام ركبتَي مُدرِّسهم.
أما إذا أراد البالغون استخدام عملية العَد في هذا العالم الفسيح، فلا بد أن تفقد عمليةُ العد شيئًا من براءتها تلك. هناك فرقٌ بين العَد، وهي العملية السهلة، وبين إحصاء شيء ما، وهي عملية بعيدةٌ كلَّ البعد عن السهولة. قد يجد البعض ذلك مُربكًا، ويصعُب عليهم تركُ ما تعلَّموه في طفولتهم وراء ظهورهم.
لكن الحياة أكثرُ تعقيدًا من أي رقم؛ فالحياة كالخليط الفوضوي، والأرقام كصندوقٍ توضع فيه الأشياء مرتَّبةً. فإن شرَعنا في إحصاء شيءٍ ما، فعلينا أن نُقولِبه في شكلٍ يسمح بالتعبير عنه بالأرقام. (في الظروف المثالية من المفترَض أن يكون الوضع معكوسًا؛ أي أن تصف الأرقام الحياة، لا أن تتجبَّر عليها.) وأسوأ ما في الأمر أن العنَت الذي يُلاقيه مَن ينهضون بهذه المهمة يُنسى. ولتَلافي هذا الخطأ وإتقان الإحصاء في الحياة العملية، انسَ أمر الفصل الدراسي، واستعِن بدليلٍ أفضل؛ صوص البازلَّاء.
•••
«المُراهِقون الجانحون في بريطانيا! واحدٌ من كل أربعة مُراهِقين في بريطانيا مُجرِم!» هكذا كانت عناوين الصحف في يناير عام ٢٠٠٥. «واحد من كل ٤ ذكور مُراهِقين يقول إنه ارتكب سرقةً أو سطوًا أو اعتداءً أو باع مُخدِّرات.» أو كما صاغتها صحيفةٌ أخرى: «مرحبًا بكم في مملكة المُراهِقين الجانحين المتَّحدة!»
أفاد مسحٌ عن المُراهِقين الذكور أن بريطانيا أنشأت جماعةً من البلطجية واللصوص وتجار المخدِّرات. وتباكت الصُّحف على التربية والتحضُّر، وجزِع الساسة من نتائج المسح الذي أفاد بالفعل أن واحدًا من كل أربعة مُراهِقين ذكور هو «مجرمٌ ارتكب جرائم عديدة أو خطيرة».
يُفترض من مسحٍ مُحكَم كهذا جرى خلاله سؤال الفِتية عما كانوا يفعلون ثم تجميع الإجابات أن يكون مُباشرًا، هذا بافتراض أن الفِتية أجابوا إجاباتٍ صادقة. فالعدُّ عمليةٌ سهلة لدرجة أنها تُناسِب مستوى دُور الحضانة، حيث يتبع كلُّ رقم سابقَه، ويختلف كلُّ رقم عن الآخر، وتتَّسم كل الوحدات بالاتساق: ١، ٢، ٣، …
الافتراض اللاشعوري العامُّ هو أن نظام العد الطفولي هذا لا يزال مُناسبًا لهذه الحالة، وأن هذا الأسلوب واضح تمامًا يتبع فيه كلُّ رقم سابقَه بانتظامٍ تام حتى يتمَّ التوصل إلى المجموع. غير أنه عند إحصاء أي شيء مهم في عالمنا الاجتماعي أو السياسي، ومهما تظاهَرنا بانطباق تلك القواعد البسيطة، فإنها لا تنطبق، بل لا يمكن أن تنطبق، ويعدُّ التصرف كما لو كانت مُنطبِقة كالانغماس في خيالاتٍ طفولية عن الترتيب المُنتظم للأمور في عالم البالغين الذي تعصف به رياحُ الفوضى.
من الأساسيات التي تقوم عليها أيُّ إحصائية تقريبًا أن إنتاجها يتطلب تحديدَ شيءٍ ما في مكانٍ ما وتعريفَه. ولا تستهِن بما قد ينجم عن أي تفصيلة عملية دقيقة كهذه من متاعب.
لكن أحدها هو في الحقيقة حمل. فهل يُحسَب ضِمن الخِراف؟ أم إنه نصفُ خروف؟ وأحدها في الحقيقة نعجةٌ في أواخر الحمْل. فهل تُحتسَب باعتبارها خروفًا واحدًا أو اثنين أو واحدًا ونصفًا؟ (ونفترض هنا ألا تلدَ النعجة أكثرَ من جنينٍ واحد.) ما المجموع إذن؟ فوَفقًا لكيفية تحديد الوحدات، قد يكون المجموع ٢ أو ٢٫٥ أو ٣ أو ٣٫٥ أو ٤. وإذا أخذنا صِغَر العدد في الاعتبار، نجد أن هذه الاحتمالات أكثرُ مما ينبغي، وأحد الاحتمالات قيمته ضِعفُ قيمة احتمال آخر؛ وبذلك أصبح العدُّ حتى ٤ أمرًا سخيفًا. وفي العالم الحقيقي، يبدو الأمر سخيفًا حقًّا عندما يستبدُّ الكسل بالمرء، فيستخدم الأرقام على نحو فيه استخفاف بتعقيدات الحياة اليومية.
•••
«شكرًا لك.» وهكذا يضعون علامةً في الخانة المحدَّدة.
نتحدَّث كثيرًا عن الإحصائيات الاجتماعية — خاصةً تلك التي تبدو بسيطة، مثل السن — كما لو كان هناك موظَّفٌ يُمسِك بمسند كتابة وينظر من كلِّ النوافذ ويتولَّى عملية الإحصاء، أو حتى كما لو أن هناك آلةً ما تتولى ذلك نيابةً عنه. أما الحقيقة غيرُ المُفاجئة فهي عدم وجود موظَّف من هذا القبيل يتولى إعدادَ معظم الإحصائيات التي نُسلِّم بها، ولا توجد آلة لهذا الغرض ولا وسيلة إحصائية سهلة، ولا نتطوع جميعًا بإضافة أنفُسنا إلى إحصائيةٍ معيَّنة أو إخراج أنفُسنا منها، وليس هناك نداء للأدوار في كل نشاط من أنشطتنا اليومية، لا تجري عملية للعد على طريقة دُور الحضانة: ١، ٢، ٣.
أما ما له وجودٌ في الواقع في أغلب الأحيان فهو أشبَهُ بصوص بازلاء كثيف يخوض فيه شخصٌ يُعاني آلامَ الظهر ويكتظُّ جدولُ أعماله بالكثير من المهام، ثم يُحاوِل أن يُخبِرنا بعدد حبَّات البازلاء في الصوص.
يُبين الجدول التالي أنه عندما وزَّعَت هيئة التَّعداد نماذجَ تسأل فيها الناس عن أعمارهم، بدا أن هناك نحوَ ١٠٦ آلافِ شخص بلغَت سنُّهم المائة عام أو جاوزتها، وذلك في الولايات المتحدة عام ١٩٧٠.
قد لا يكون ذلك صحيحًا. تعتقد الهيئة أن حقيقة الأمر أن العدد الأرجح لم يكُن ١٠٦ آلاف في حقيقة الأمر، بل أقل من ٥٠٠٠؛ أي إن نتيجة الإحصاء كانت ٢٢ مثلًا للواقع التقديري. انظر في تفاصيل نتائج تَعداد ١٩٩٠ كمثالٍ آخر، وستجد أن أُسرًا كاملة قد ورد أن كل أفرادها وُلدوا في القرن التاسع عشر (بوضع دائرة حول تاريخ).
يُبيِّن الرسم البياني أيضًا أنه بين عام ١٩٦٠ وعام ١٩٨٠، قفز عدد المِئويِّين أولًا حتى فاق عشرة أمثال ما كان عليه في العَقد السابق، ثم انخفض بأكثرَ من الثُّلثَين. أهذا دليلٌ على الزيادة المُفاجئة ثم الانخفاض المُفاجئ في عددِ من يعيشون حتى أعمار مُتقدمة؟ غير مرجَّح. ما يظهر من ذلك في حقيقة الأمر هو زيادة الأعداد بوتيرةٍ ثابتة، ولكنها عن طريق الخطأ، وهو ما يُعتقَد استمراره حتى يومنا هذا (العدد الحقيقي في عام ١٩٩٠ قُدر أنه نحو ٢٩٠٠٠، رغم أن بعض المُعلِّقين الإحصائيين يعتقدون أن الأرجح أن يكون العدد نحو ٢٢٠٠٠).
غاية الأمر أن ما يظهر من البيانات الأولية ليس سوى فوضى، لكنها فوضى تعكس الحياة؛ أخطاء في مَلء النماذج، وارتباك، وضعف نظر، وكتابة غير مُحكَمة، بل حتى بعض التفاؤل والطموح إلى الشهرة.
ليس المقصود بذلك أن ننتقد هيئة التَّعداد، لكن هذه النتائج انعكاس لحالنا جميعًا، ويبدو فيها ارتباك والْتِباس أكثر مما يتبادر إلى الذهن عند ذكرِ المفهوم التقليدي للعد. تصف هيئة التَّعداد عملية إحصاء عدد المُتقدمين في السِّن بأنها مليئة بالمُشكِلات، ومن هذه المشكلات عدمُ وجود سِجلَّات الولادة، وانخفاض معدلات معرفة القراءة والكتابة، والإعاقة الوظيفية أو الإدراكية، وتعمُّد بعض الأشخاص الإبلاغَ عن أعمارٍ زائفة لأسبابٍ مختلِفة، وخطأ البعض الآخر في الإبلاغ عن أعمارهم في عمليات المسح.
وبالطبع لم تُوقف هيئة التَّعداد جهودها الرامية لإحصاء عدد من بلَغَت أعمارهم المائة عامٍ فورَ أنْ جمع الكمبيوتر أعدادهم الواردة في نماذج التعداد. بل إن الاستقصاء بدأ من هذه المرحلة تحديدًا. حيث رُوجعت النماذج مجدَّدًا للتأكُّد من اتِّساقها. وقُورنَت البيانات بمِلفَّات إدارة الضمان الاجتماعي. وفُحصت ملفات الانتساب إلى نظام الرعاية الصحية «مديكير»، وعينات من شهادات الوفاة. وتبيَّن من ذلك أن الولايات المتحدة تحتاج إلى مرور مائة عام على وجود نظامٍ كامل للتسجيل قبل أن تكون معرفةُ العدد الحقيقي للمِئويِّين احتمالًا مرجَّحًا. وحتى وقتها، ينبغي ألا تُفترض الدقَّة.
كل هذا بغرض إجراء عمليةِ إحصاءٍ شديدة البساطة، حيث التعريفات واضحة، والخاضعون للإحصاء لهم وجودٌ فِعلي، والجميع يعلمون ما يبحثون عنه. إذ يُفترض أن يكون تحديدُ ما إذا كان المرء قد بلَغ من العمر مائة عام أو جاوَزَها أمرًا سهلًا. ولكن إذا لم يكُن التوصُّل إلى الحقائق البسيطة المحدَّدة بوضوح أمرًا سهلًا في كل الأحوال، فما بالك بما قد يحدُث في عمليات الإحصاء الحكومية الهادفة إلى رصد التغيرات في حياة الملايين من الناس والأسعار والقرارات؟ لنأخذ على سبيل المثال أعدادَ العاطلين عن العمل. متى نصِف شخصًا بأنه بلا عمل؟ هل يجب أن يكون بلا عمل على الإطلاق أم يُمكِن أن يُزاوِل بعض الأعمال ويظلَّ ذلك الوصف مُنطبِقًا عليه؟ وما قدرُ تلك الأعمال؟ ساعةٌ في الأسبوع، أم ساعتان، أم عشر؟ هل يجب أن يكون الشخص في حالة بحثٍ حثيث عن العمل أم يكفي أن يكون بلا عمل؟ وإذا كان يجب أن يكون في حالة بحث عن العمل، فإلى أيِّ حد عليه أن يبحث؟ وماذا إذا كان الشخص يعمل قليلًا لكنه لا يتقاضى عن عمله أجرًا، مثل المُتطوِّعين؟ عدَّلَت حكومة المُحافظين تحت قيادة مارجريت ثاتشر تعريف الشخص العاطل عن العمل ثلاثًا وعشرين مرة (أم كانت ستة وعشرين مرة؟ تباينَت الروايات التاريخية في هذا الصدد).
رغم ما تتَّسم به الأرقام من وضوح ودقة بطبيعتها، فإنها تفقد دقتها تلك في العالم الحقيقي. كما لو كانت مادتَين مختلفتين. ففي الرياضيات تبدو في حالةٍ صُلبة ونقيَّة وواضحة ومحدَّدة تحديدًا مُنتظِمًا. أما في الحياة، فالأفضل أن نعتبرها شيئًا تُخالِطه الشوائب ويتَّسم بلُيونةٍ أكبر. ربما كان الفرق بين الحالتَين كالفرق بين الألماس وصوص البازلاء؛ والغريب أننا ننسى هذا الفرق أو نتجاهله في بعض الأحيان. وكثيرًا ما تكون عمليةُ الإحصاء محاولةً لكبح تباينات الحياة.
•••
هل سبق أن استخدمتَ القوة أو العنف ضدَّ أي شخص عمدًا، على سبيل المثال بخدش الشخص أو ضربه أو رَكْله أو قذفه بأي أغراض، على نحوٍ تعتقد أنه سبَّب له إصابةً ما؟
والأدهى أن جاء بعد ذلك:
يُرجى تضمين أفراد أسرتك ومَن تعرفهم بجانب الغُرباء عنك.
ثمانية وخمسون في المائة من حالات الاعتداء تبيَّن أنها كانت حالات «دفع» أو «إمساك». وستة وثلاثون بالمائة منها كانت ضدَّ الأشقَّاء أو الشقيقات. وبذلك احتُسب أيُّ شخص أقدمَ على دفع شقيقه أو شقيقته ستَّ مرَّات فلم يُلحِق بذلك ضررًا يُذكَر باعتباره «مُجرمًا ارتكب جرائم عديدة». ادفع أخاك الأصغر أو أختك الصغرى ولو مرةً واحدة مُتسبِّبًا في كدمةٍ لذراع أيِّهما، وستجد نفسك «مجرمًا ارتكب جرائم خطيرة»؛ لأن الجريمة أدَّت إلى وقوع إصابة. أو على حد تعبير الصحافة: تُصبح من المُراهِقين الجانحين، شأنك شأن تُجار المخدِّرات واللصوص والقتَلة والأحداث المُختلِّين على اختلافهم.
كلَّما أحصَينا مجموعةً من الأشياء فإننا في الوقت ذاته نُعرِّفها؛ ذلك أننا نزعم أن الأشياء التي نُحصيها مُتماثلة تماثلًا يكفي لضمِّها في مجموعةٍ واحدة. لكن معظم الأشياء المهمة التي نُريد إحصاءها فوضوية — مثل الناس — وتتصرف على نحوٍ غريب، وتختلف بعضها عن بعضٍ اختلافاتٍ منها الخفيُّ ومنها الظاهر. ولا تظلُّ على حالها، بل تتغير، وتتباين ظروفها تباينًا شديدًا. كيف لنا إذن أن نضَعها في فئةٍ واحدة ونُعطيَها مجموعةً واحدة من الأرقام؟ ووَفقًا لأيِّ تعريفات نفعل ذلك؟ وحتى يتَّضح هذا السياق كيف يُمكِن أن نُحدِّد ما يجري إحصاؤه في حقيقة الأمر؟
السلوكيات التي يبدو لها نمطٌ محدَّد يُسهِّل احتسابها ضِمن أحد طرَفَي النقيض كثيرًا ما يتحول أحدُها إلى سلوكٍ آخر يقع في مكانٍ ما بين طرَفَي النقيض حسَب درجتها. فمن يدفعون شقيقاتهم يختلفون عن المُختلِّين الذين يستخدمون السِّكين، لماذا إذن جمعَهم هذا المسحُ في فئةٍ واحدة؟ عندما حاوَل الباحثون تعريف ما سيجري إحصاؤه، رجعوا إلى القانون، الذي يُمكِن أن يُحاسب ذراعُه الطُّولى على تصرُّفاتٍ مِثل الدفع وما من قبيله، ولكنه في الظروف الطبيعية لا يُحاسب عليها. فعندما يُقرِّر الشُّرطيُّ النابه أثناء مناوبته أن الأخوَين المُقيمَين في المنزل رقم ٤٢ والمُصابَين بكشط في الكوع هما طفلان يلهُوان وليسا مُجرمَين يستحقَّان المقاضاة، فهو حينئذٍ يتَّخذ قرارًا بشريًّا يتعارض مع التعريف الرسمي. فالتعريف الرسمي لا يتماشى تمامًا مع التقدير الشخصي؛ ومن ثَم قد يدفعنا إلى المحاسبة الحاسمة وَفقًا لما عُلِّمنا، وفي هذه الحالة تحديدًا يُعنى التعريف فقط بما إذا كان السلوك قانونيًّا أو غيرَ قانوني. لكن هذا التصنيف المُفرِط في التفاؤل المُصرَّ على الوضوح الزائف للأمور لا يُنتِج إلا رقمًا خادعًا. يتكرر ذِكر عبارة «واحد من كل أربعة» في العناوين الإخبارية بوتيرةٍ مُذهِلة عند الحديث عن ظاهرةٍ اجتماعية أو غيرها. ودائمًا ما يكون الأمر محدَّدًا لدرجةٍ تفوق ما يُفترَض أن يكون، فيَصِل الأمر إلى حدٍّ عبثي. العيب في هذا النوع من التحديد هو أنه في الحقيقة يُخفي أكثر مما يوضح، ويُعطي وضوحًا زائفًا يُسبب عَوار المنظور، وهو أحد المخاطر الوظيفية المُرتبطة بعدم إيلاء الاهتمام الكافي للأخبار، وللأرقام على وجه الخصوص.
لا شك أن بعض الجرائم التي شمِلها المسحُ كانت وحشيَّة، ولكن بالنظر إلى التعريفات، ما الذي كانت تُحصيه أرقام المسح الأساسية في حقيقة الأمر؟ وهل كانت هناك دلائل إحصائية واضحة على مملكة المُراهقين الجانحين المتَّحدة؟ أم إن المسح كشف عن بلادةٍ شديدة ولافتة عند الأبناء والإخوة في بريطانيا؟ فالشاهد أن ٧٥ في المائة من الفِتية المُراهقين زعموا أنهم لم تصدُر منهم لأحدٍ دفعة أو إمساكة أو خدش أو ركلة ستَّ مرَّات في العام الماضي (ماذا، ولا حتى في طابور الغداء في المدرسة؟) وأنهم لم يُقدِموا ولو مرةً واحدة على أحد هذه الأفعال لدرجةٍ تسبَّبَت في خدشٍ بسيط حتى. وَفقًا لهذه التعريفات، لا يسعُ مؤلِّفَي هذا الكتاب إلا أن يُدلِيا باعتراف؛ كان الاثنان أيامَ شبابهما مُجرمَين ارتكبا جرائم عديدة أو خطيرة. عزيزي القارئ، لقد كان كاتبا هذه السطور التي تقرؤها الآن من المُراهقين الجانحين. ولعلَّك أنت أيضًا كنتَ منهم، صحيح؟
لسنا هنا في جدالٍ حول ما إذا كان سلوك شباب بريطانيا الآن أفضل أو أسوأ مما كان عليه في الماضي. إننا نُشير إلى نماذج من السلوكيات الصادمة؛ شأننا في ذلك شأن الجميع. لكننا بالفعل نقول إن إحصائية الواحد من كل أربعة — التي ورَدَت على نحوٍ يُوحي بأن الأمور تزداد سوءًا — ليست دليلًا على ذلك الزعم؛ ذلك أنها ليست دليلًا على أيِّ شيء. الأرقام التي تتظاهر بكل ثقة بأنها أحصَت شيئًا مُذهِلًا تسطو على انتباهنا في كل مكان. لقد كشَف المسحُ عن كثير من الأمور المُثيرة للاهتمام، هذا إن قرأناه كما ينبغي أن يُقرأ، لكن إحصائية الواحد من كل أربعة المُقتضَبةَ هذه لا تعني شيئًا.
لو رُوعيَت الدقة — على حساب الرَّواج التِّجاري — في صياغة ذلك العُنوان الصحفي المُثير، لجاء كالآتي: «واحدٌ من كل أربعة فِتية — وَفقًا لفهمهم لسؤالنا — يُقرُّ بإقدامه على فعل أو آخر من الأفعال غير اللطيفة، التي ربما لا تُراعي الآخرين، ويكون في بعض الأحيان شرِسًا وبغيضًا حقًّا، ولم يتَّضح أكثر من ذلك مما بين أيدينا من أدلة.»
لنفترض أن التفاصيل عادةً ما تؤخَذ في الحُسبان على النحو الصحيح، وأننا نتَّفق على ما إذا كنَّا نقصد الخِراف فقط أم الخِراف والحُملان معًا، وأننا نُفصِح عن ذلك من البداية، وأننا اتَّفقنا أيضًا على وسيلةٍ واضحة للتمييز بين الخِراف والحُملان، وأن ما عنَتْه التقارير المستنِدة إلى المسح هو أنك إذا راقبتَ عددًا كافيًا من الفِتية فستجدهم يقعون ضِمن نطاق يتراوحون فيه بين البلطجي المُجرِم المتوحِّش، والمتنمِّر، وصولًا إلى الفتى الذي يكون في بعض الأحيان طائشًا أو مُزعجًا بعضَ الشيء، ربما في طابور الغداء في المدرسة. حينئذٍ سنجد نتائج أقلَّ في التأثير الدرامي، وأقلَّ جِدَّة؛ بمعنى أنك كنتَ تعرف الأمر بالفعل، لكن على الأقل سيكون ذلك أكثر دقةً. إن وصف سلوك المُراهِقين الجامح بأرقامٍ يُعطي دقةً زائفة، وصورة تبدو شديدة الوضوح والحسم، وهذا يضع الحياة في فئاتٍ أضيَق من أن تحتويَها. الأفضل أن تتخيَّل ارتكاب الجرائم كإناءٍ كبير من صوص البازلَّاء، وأن تُفكِّر مجدَّدًا في الرقم الذي يُمكِن أن يُعبِّر عن ذلك؛ لتظهرَ لك الصورة الحقيقية عن الصعوبة الشديدة في هذا القياس. ليس العيب هنا في الأرقام ذاتها وكيف أنها تُجبِر الحياة — شئنا أم أبَينا — على الظهور بما يُشبِه النظام. بل العيب في الناس وميلهم إلى تجاهُل حدوث هذا التطويع، والقفز إلى الاستنتاجات الكبيرة.
•••
فهل هذا محضُ مبالغة من صحف الإثارة؟ على الإطلاق، بل هو شيءٌ شائع في دوائر صُنْع السياسات، كما هو شائع في الإعلام.
فعندما نشرت لجنة ترنر التي عيَّنتْها الحكومة في ظل مخاوف من حدوث أزمة في معاشات التقاعد تقريرًا أوَّليًّا عام ٢٠٠٥ عن المَسعى الجادِّ لإصلاح نظام المعاشات، قالت اللجنة إن ٤٠ في المائة من السكان كانوا في انتظار عجز في معاشات تقاعُدهم. وعسى أن يكون ذلك قد أثار اهتمامَك بالتعريفات فتساءلتَ عما يقصدونه بالعجز.
للتوصُّل إلى نسبة الأربعين في المائة الصادمة هذه، قالت اللجنة إنه حسَب الموارد المُتاحة، قد تحصل على معاشٍ تقاعدي أو لا تحصل عليه، وهو تحديدٌ واضح ومباشر يُذكِّرنا بتفسير معنى قانون الاعتداء في المسح الخاص بالمُراهقين الجامحين، إما أن تحصل على الشيء أو لا، لا شيء في المنتصف، إما أن يَشملك المعاش التقاعدي أو لا يشملك، وَفقًا لمواردك المالية وحدها.
لكن ربما كنتَ ممن تزوَّجوا في سنٍّ صغيرة، وربما لم يسبق لك أن شغلتَ وظيفةً بأجر، وربما كان رفيق حياتك يَجني مَبلغًا يُساوي الناتج المحليَّ الإجماليَّ لدولةٍ صغيرة، وربما كانت علاقتكما قد بلَغ عمرُها الأربعين عامًا، عِشتم خلالها في قصرٍ ضخم. عند مراعاة كل المُتغيِّرات، قد تنتظرك هناءةُ العيش في خريف عمرك. ومع ذلك إذا اعتبرَتك اللجنة من الحمقى الذين ليس لديهم مدَّخَرات أو معاشٌ تقاعدي، فعارٌ عليك، وسيجري اعتبارك ممن لن يحصلوا على معاشٍ كافٍ عند التقاعد.
أثارت هذه الإحصائية اهتمامَ صُناع السياسة بشِدَّة؛ فقد بدا منها أن الناس — على نطاقٍ واسع — يُحاوِلون تجاهُل احتمالية تقدُّم العمر. كان الزواج — الذي يُعَد أحدَ التفاصيل التي يصعُب تجاهُلها — من الأسئلة التعريفية التي فرضَت نفسها على هذا التقدير. بعد ذلك بمدةٍ قصيرة، أعاد تقريرٌ مستقلٌّ حسابَ عدد من لن يحصلوا على معاشٍ تقاعدي كافٍ، وأخذ الزواج في الحُسبان هذه المرة. وتبيَّن منه أن ١١ في المائة فقط هم من لن تكفيَهم مدَّخَراتهم وليس ٤٠ في المائة. واختفَت نسبة الأربعين في المائة في تقاريرَ لاحقةٍ صدَرَت عن لجنة معاشات التقاعد نفسها.
في الوقت الراهن، يُمكِننا الخروج بقاعدةٍ بسيطة: إذا كان الشيء قد تم إحصاؤه، فقد وُضِع له تعريف؛ وهذا يعني — في كل الحالات تقريبًا — أنه قد جرى لَيُّ عُنق الحقيقة قَسرًا لوضعها في خانات لم تكُن مخصَّصةً لها. وهذه حقيقةٌ معروفة منذ القِدَم، ومُتجاهَلة دائمًا. كتب أرسطو في المجلد الأول من كتاب «الأخلاق النيقوماخية»: «سِمة الرجل المتعلِّم البحث عن الدقة في كل فئة من الأشياء إلى الحد الذي تسمح به طبيعة الموضوع». لكن بدون تجاوُز هذا الحد؛ فهذه هي النقطة الحرِجة. فكِّر دائمًا في الحدود، واسألْ دائمًا: هل التعريفات صُلبة كالألماس أم ليِّنة كصوص البازلاء؟ وفي أيٍّ من الحالتَين، هل يُرضيني تحديدها للوحدات؟ أو باختصار: ١، ٢، ٣ من ماذا؟ وهل هناك ٤ و٥ و٦ من الوحدات نفسها؟