إحصائياتٌ صادمة: ضربات أولى جامحة
تُحدِث الإحصائياتُ الصادمة ذهولًا وقلقًا. فقد يظهر رقمٌ يبدو سيئًا لدرجةٍ تُثير الرعب، أسوأ بكثير مما كنا نعتقد؛ قد يكون كبيرًا، أكبرَ بكثير مما خمَّنَّا، أو مختلفًا تمامًا عن كل ما ظننَّا أننا نعرفه.
انتبِه. عندما يبدو رقمٌ ما مُخالفًا للأرقام المُعتادة، فإنه يُخبرنا بواحد من ثلاثة أمور: (أ) أننا بصدد قصةٍ مُذهِلة. (ب) أن الرقم غيرُ صحيح. (ﺟ) أن الرقم فُسِّر تفسيرًا خاطئًا. يؤدي اثنان من هذه الاحتمالات الثلاثة إلى تضييع الوقت؛ لأن أسهل طريقة لقول شيء صادم بالأرقام هي الخطأ. القيم المُتطرفة — أي الأعداد التي تُخالف المُعتاد — تتطلب درجةً خاصة من الحذر، فما تدَّعيه ليس هينًا، وتبِعاته خطيرة؛ لذا فالاستجابة المناسبة لها ليست التشكيكَ العام، ولا التصديق الساذج، بل البحث عن إثباتٍ أقوى.
قد تُسبب غازات الدفيئة ارتفاعَ درجات حرارة العالم بأكثرَ من ضعف مستوى الاحترار الذي تُرجِّحه — حتى الآن — اللجنة الحكومية الدولية المعنيَّة بتغيُّر المناخ وَفقًا لنتائج أكبر تجرِبة للتنبؤ بالمناخ في العالم التي نُشرت في دورية «نيتشر» هذا الأسبوع.
•••
•••
كما رأيت، زيادة بمعدل ١١ درجةً مئوية، ونهاية العالم. لم يُذكَر أي رقم آخر.
وهذا أكثرُ معقولية، وحتى «النتائج الأرجح» قد تكون خاطئة أيضًا؛ فكلُّ التنبؤات قد تكون خاطئة، ولكنها على الأقل تُمثل التوازن بين الأدلة الناتجة عن التجرِبة، وليس الجزء الأكثر تطرفًا منها.
وليس في كل ذلك ما يبعث الطمأنينة في نفوس مُنكري تغيُّر المناخ؛ فزيادة درجة الحرارة بمعدل ٤ درجات مئوية، أو حتى ٣ درجات مئوية، سيكون لها تأثيراتٌ كبيرة، وكان وقعُ الخبر سيكون أشدَّ لو استُخدمت هذه النتيجة المرجحة إلى حدٍّ كبير (وَفقًا للتجرِبة)، بدلًا من النتيجة التي قد تُهمل باعتبارها وسيلةً لنشر الذُّعر. يجدُر بنا دائمًا أن نسأل عما إذا كان الرقم الذي يُقدم لنا احتمالًا واقعيًّا … أم بابَويًّا.
تظهر في إعلانات اليانصيب الوطني عبارة «قد تكون أنت الفائز»، وهذه حقيقة، لكننا جميعًا نعلم أيُّ نوع من الحقيقة هي. وعلى أي حال، تَدين لنا التقارير الإخبارية المسئولة بما هو أفضلُ من احتمالات الفوز باليانصيب. ومع ذلك هناك تحيزٌ ضِمني في التقارير الإخبارية لصالح القيم المُتطرفة. فكل مُحرري الأخبار يسألون: «ما هو أفضل عُنوان صحفي؟» وكل صحفي يعرف أنه كلما كان الرقم أكبرَ أو أكثر إثارةً للقلق لاقى ترحيبًا أكبرَ من مُديره. ونتيجةً لذلك، كلما قلَّ احتمال صحة النتيجة، زاد احتمال ورودها في التقارير الإخبارية. وإذا دعاك ذلك إلى التساؤل عن نوع العمل الذي تظنُّ وكالات الأنباء أنها تُزاوله، فالإجابة في أغلب الأحيان أنه النوع الذي يُثير القُراء والمشاهدين أكثرَ من غيره. يبدو أن مُستهلكي الأخبار لا يختلفون عن مُنتجيها في حبِّهم للاحتمالات المُتطرفة أكثرَ من المرجَّحة. لا غرابة إذَن في أننا لا نفهم الاحتمالات جيدًا. فقد يقول الرقم الوارد في عُنوان صحفي في إحدى الصحف: «ابنتك قد تُصبح البابا». فيقول القُراء: «عجبًا، أهذا صحيح؟» ويشترون نسخةً من الصحيفة.
•••
السؤال الذي ينبغي طرحُه عند ظهور أرقام مُفاجئة هو: هل هذا رقمٌ جديد ومختلف، أم هل مجرَّد كونه جديدًا ومختلفًا يقتضي توخِّيَ الحذر؟ وهل تعني الأرقام تحولًا أو نتيجةً غريبة؟ الإجابة واضحة في مثال تغيُّر المناخ من رأيِنا. بل إن بعضًا ممن شارَكوا في البحث ندِموا لاحقًا على إبرازهم لرقمٍ استثنائي.
وإذا أردت مثالًا أكثرَ ابتهاجًا يُبرِز أهمية الحكم على الأمور بأنها غريبة وجديدة، فستجد ضالَّتك في الإنسان القَزَم.
عمرُه نحو ١٨٠٠٠ عام، ولقوامه كثافةُ البطاطا المهروسة أو الورق النشَّاف، وقد ظهر في كهفٍ مُشبع بالمياه (وصفته دورية «نيتشر» بأنه كالعالم المفقود) وجذب انتباه العالم عندما صدرت تقاريرُ إخبارية عن اكتشافه. سُرعانَ ما أطلق على البقايا العظمية الرجل القَزَم، على الرغم من أن الهيكل العظميَّ الأكثر اكتمالًا كان — رغم الجدل المستمرِّ حول ذلك — لامرأة في الثلاثين من عمرها تقريبًا، أطلق عليها سيدة فلوريس القَزَمة، أو فلو. اكتُشفت هذه البقايا في كهف ليانج بوا على جزيرة فلوريس في إندونيسيا، ومن هنا جاء الاسم العلميُّ لما اعتُبر نوعًا جديدًا تمامًا من البشر: إنسان فلوريس.
كان طول «الإنسان القَزَم» مترًا واحدًا تقريبًا (٣٩ بوصةً)، وهو أقلُّ من متوسط طول أقصر البشر البالغين في العصر الحديث مِثل البيجميين الأفارقة (وهم عِرقٌ يبلُغ متوسطُ طول الذكر البالغ منهم مترًا ونصفًا أو أقل)، وهذا ما استحثَّ خيال عامة الناس.
وأفادت تقاريرُ أنهم كانوا يتميَّزون بأذرُعٍ طويلة للغاية ودماغٍ صغير. كان الفريق الأسترالي الإندونيسي المشترَك من علماء الأنثروبولوجيا القديمة يبحث عن دليل على هجرة الإنسان القديمة من آسيا إلى أستراليا، لا عن أنواعٍ جديدة من الكائنات. لكن يبدو أن هؤلاء الأقزام قد عاشوا حتى وقتٍ مُتأخر عن أي نوع فرعي آخرَ من البشر غير نوعنا، ويعتقد البعض أن وجودهم يتوافق مع مشاهدة أقزام يُطلَق عليهم محليًّا «إيبو جوجو» أُبلِغ عن رؤيتهم حتى القرن التاسع عشر. ويتساءل البعضُ عما إذا كانوا لا يزالون يعيشون في أدغالٍ مُنعزلة في إندونيسيا.
لا شك أن العظام كانت بالغةَ الغرابة، لا مثيل لها بين أي رُفات اكتُشف من النوع البشري؛ فليست مثلَ جنس الإنسان المُنتصب ولا جنس الإنسان العاقل الحديث، ولا النياندرثال. ولكن هل كان هؤلاء الأقزام نوعًا جديدًا من الكائنات؟
ظهر سببان يدعوان إلى التريُّث قبل إصدار الحكم في ١٠ فبراير ١٨٦٣ في مدينة نيويورك في حفل زفاف تشارلز ستراتون ولافينيا وارين الذي حضره من وصفَتهم التقاريرُ الصحفية حينذاك «أصحاب المقام الرفيع» في المجتمع. كان طول قامة ستراتون في ذلك الحين ٣٣ بوصة، وكان طول قامة وارن ٣٤ بوصة (نحو ٨٥ سنتيمترًا). كانا أقصر من الإنسان القَزم ببعض بوصات، لكنَّ عقلَيهما لم يكُن عليهما غبار، وعاشا حياةً مُكتملة الأركان. اشترَيا منزلًا مصمَّمًا خصوصًا لهما بأموال مُعجَبيهما الكُثر ومدَّخرات ستراتون التي جمعها من سنين عمله بوصفه أحدَ معروضات منظِّم العروض بي تي بارنوم؛ إذ كان يظهر في عروضه باسمٍ مسرحي هو الجنرال توم ثام.
لا نَعلم عن أي سابقة لاقتران زوجَين بشرَين صغيرَي الحجم مُكتملَي الجسم برِباط الزواج. ورغم قُدسية المكان والمناسبة، فقد كان من الصعب على المرء كتمُ ابتسامته عندما قال الموقَّر السيد ويلي، من بريدجبورت، أثناء المراسم: «هل تَقبَل هذه المرأة؟» و«هل تَقبَلين هذا الرجل؟»
لا شك أن ستراتون ووارين كانا من نفس نوعنا، وأنهما كانا مُكتملَي الجسم وفقًا لصحيفة «أوبزيرفر». كان طولُ قامة آبائهما الأربعة وتسعةٍ من إخوتهم وأخواتهم في المستوى المعتاد، غير أن ميني، أصغر أخوات لافينيا، كانت أقصرَ منها قامةً. ويدلُّ انتماؤهما إلى نفس النوع — إن لم نكُن نَعلَم سلفًا — على أن البرمجة الجينية البشرية قد تُنتج أشكالًا بالغة التباين. أقصر رجل في التاريخ هو تشي ماه الذي كان طول قامته قدمَين وبوصتين. والأطول في العالم هو روبرت وادلو، الذي كان طول قامته ثمانيَ أقدام وثلاث بوصات؛ أي أكثر من أربع أمثال طول قامة «تشي ماه».
تخيَّل أن هذَين العروسَين اتَّخذا من جزيرة في إندونيسيا مستقَرًّا لهما، وكوَّنا أسرة، ثم لم تُكتشف رُفاتهم إلا في القرن الحادي والعشرين. كيف كنا سنصِفهم حينئذٍ؟ هل كنا سنصِفهم بحقيقتهم كقِيَم مُتطرِّفة في الطيف الواسع من التبايُن البشري، أم كنا سنتساءل عمَّا إذا كانوا هم أيضًا نوعًا آخر من الكائنات؟
لا يزال الجدل مُحتدمًا حول ما إذا كان الرجل القزَم نوعًا مختلفًا أم مجرَّد حالة مُتطرِّفة من نوعٍ معروف بالفعل. وقد انتشر مؤخرًا زعمٌ بأنه نوعٌ جديد بالفعل، بعد أن أجرى فريقٌ من جامعة ولاية فلوريدا مُسوحًا على بقايا الجمجمة وتوصَّلوا إلى صورة من صُنْع الكمبيوتر لشكل الدماغ.
كان الفريق يُحاول تحديدَ ما إذا كان لساكني كهوف فلوريس تفسيرٌ مرَضي «الصَّعَل — أي صِغَر الرأس إلى حدٍّ استثنائي — هو حالةٌ معروفة لنا اليوم»، على الرغم من أنه ربما كانت هناك مُتلازمةٌ مجهولة أخرى سبَّبت مجموعة الصفات الجسمانية التي تُميزهم. لكن التنافس والتزاحم المهني بين الباحثين المُتحمسين أدَّيَا إلى تعقيد البحث. يقول دين فولك، وهو عالم في الأنثروبولجيا القديمة كان عضوًا في الفريق الذي اكتشف الرُّفات: «لا شك لدَينا في أنه ليس من صغار الرأس، ولا يُشبه عِرق البيجمي أيضًا.» دورية «نيتشر» التي كانت لها الريادة في نشر أخبار اكتشاف الإنسان القزم عنونَت أحدث أبحاثها: «مسوح جمجمة الإنسان القزم تُسكت المُنتقدين».
قد يَثبُت أن التقييم كان ينطوي على قدرٍ من التفاؤل. أفادت تقارير أن روبرت إكهارت، وهو أحد المشكِّكين من جامعة ولاية بن، قال إنه غيرُ مقتنع، وجاء على لسانه: «هناك عملياتٌ تحليلية شاملة جارية لدينا أعتقد أنها ستحسم الأمر. والعينة تتَّسم بعدة ظواهر أعتبرها حالاتٍ شاذةً وربما مرَضية»، وفي ٢٠٠٨، قال الدكتور بيتر أوبندورف من كلية العلوم التطبيقية في معهد ميلبورن الملكي للتكنولوجيا، وعدد من زملائه، إنهم يعتقدون أن قصار القامة ليسوا نوعًا جديدًا، لكنهم أُصيبوا بحالة من القزامة بسبب نقص التغذية الحاد.
•••
ومن حُسن الحظ أنه ليس من الضروري أن يُحسم الجدل لنُقرر الآتي: النتائج غير المتوقَّعة والمُتطرفة قد تُخبرنا بشيءٍ جديد واستثنائي، وقد تُثير الفضول، لكنها قد لا تمتُّ بصلةٍ للصورة الكاملة. ويُعَد كونها مُتطرفة وغير مُتوقعة سببًا للحذر بقدرِ ما هو سببٌ للتحمُّس. يُطلِق الإحصائيون على هذه الحالات «القيم المتطرفة».
تخيَّل أن يُرصَد طول كلِّ شخص بالغ في البلاد في رسمٍ بياني. في هذه الحالة سيتَّضح أن طول معظم الناس يبعُد بنحو ١٠ سنتيمترات تقريبًا عن الطول المتوسط الذي يبلُغ ١٫٧٥ متر (٥ أقدام و١٠ بوصات) للرجال و١٫٦٣ متر (٥ أقدام و٤ بوصات) للنساء (وفقًا لمسحٍ صحِّي لإنجلترا أُجري عام ٢٠٠٤). قد يكون طول البعض، وليس الكثيرين، في نقطةٍ أعلى أو أسفل من ذلك على الرسم، وهؤلاء هم من قد نَصِفهم بطول القامة أو قِصرها. وتظهر قلةٌ قليلة من الناس — منهم روبرت وادلو وتشي ماه ولافينيا وارين وتشارلز ستراتون — في أقاصي الرسم. والمشكلة في حالة الإنسان القزَم أن نُحدد ما إذا كان مجردَ بشريٍّ من النوع المعروف، يقع في أقصى الرسم البياني الذي يُمثِّل أطوال قامة البشر، أي إنه قيمةٌ مُتطرفة ومُصاب بمرضٍ ما، أم إنه يدعونا إلى وضع رسمٍ بياني جديد تمامًا وتغيير افتراضاتنا عن تطوُّر البشر. ويبقى الجدل مُحتدمًا.
تذكَّر الاحتمالات الثلاثة عندما تجد نفسك أمام رقم صادم — قصة مُذهلة، أو رقم خاطئ، أو تفسير خاطئ — ثم طبِّقها على اكتشاف الهيكل العظمي لشخصٍ بالغ، طوله ثلاث أقدام واعتباره نوعًا جديدًا. أيٌّ من الاحتمالات الثلاثة هو الأرجح؟
هل يُعَد الإنسان القَزم جديدًا بالفعل ويستحقُّ تغيير خريطة التطور البشري كلها؟ أم إنه — ربما مِثل تشارلز ستراتون — من نوع الإنسان العاقل، لكنه يُشبِه ضربة كرة الجولف الأولى الجامحة؟
إذا كانت الأرقام تدلُّ على أن ما عُثِر عليه هو نوع الإنسان القزم الجديد، فسنُغيِّر طريقة تفكيرنا بلا غضاضة. فرغم غرابة توم ثام، وأننا نعرف بالفعل أن نتائج تكاثر البشر قد تكون مُفاجئة من وقت إلى آخر، وأن القيم المُتطرفة في كل اتجاه ستظلُّ موجودة دائمًا، فإنه من الواضح تمامًا أن هؤلاء الذين يُعتبرون قيمًا متطرِّفة هم بَشر. تُخبِرنا الإحصائيات أن القيم المُتطرفة متوقَّعة، وأن لا شيء غريب فيها، لكنها بالتأكيد خارجة عن المألوف. وإذا كان كل ما اكتُشف في كهف ليانج بوا هو بشرٌ خارجين عن المألوف، فهذا لا يُفيدنا بأي جديد، وفي المخطَّط المبعثَر لحياة البشر، لا يعدو كونَه نقطةً بعيدة عن المتوسط، وقد لا يُرشدنا إلى شيءٍ سوى ذاته الخارجة عن المألوف.
وفي الواقع، عادةً ما تكون القيم المُتطرفة أقلَّ إثارةً للاهتمام من توم ثام بكثير. فتشارلز ستراتون الحقيقي يخلب الألباب، لكن معظم القيم الإحصائية المتطرفة على الجانب الآخر ليست بشرية، بل نتيجة تجرِبة أو مسح أو عملية حسابية أو مشاهدات تُعَد — بطبيعة الحال — مخالفةً للمألوف. ومن المبادئ الأولى لعلم الإحصاء أن البيانات المُثيرة للريبة أو القيم المتطرفة قد يتعيَّن رفضها، خاصةً لأن هناك فُرصًا عديدة لكون القيمة المتطرفة خاطئةً بسبب عدم دقة القياس أو التسجيل. أما توم ثام فهو على الأقل حقيقي، ولو كان ينتمي إلى أقاصي التوزيع البياني. وإضفاء المِصداقية على القيم المتطرفة إحصائيًّا — على الجانب الآخر — يُطلِق للخيال العِنان.
منذ ثلاث سنوات، وضعَت شركةٌ خمسة سيناريوهات لأسعار المنازل، تنبَّأت أربعةٌ منها بارتفاعاتٍ طفيفة، وتنبَّأ الخامس بانخفاضٍ شديد. وبطبيعة الحال، جاء العُنوان الصحفي كالآتي: «انخفاضٌ شديد محتمل لأسعار المنازل». وفي حقيقة الأمر، ظلَّت أسعار المنازل تزداد بوتيرةٍ ثابتة عامَين آخَرين. التوقيت مهمٌّ في كل التنبؤات. فهي كالساعة المُتعطلة التي تَصدُق في نهاية المطاف، لكنها قد لا تدلُّ على حِكمة أو تتَّسم بالدقة في حينها.
وفي وقت كتابة هذه السطور، بعد أن مرَّ بعض الوقت على الفترة التي صدر فيها التنبؤ، يبدو بالفعل أن أسعار المنازل في المملكة المتحدة في انخفاض، ولكنه طفيف، وتُجمِع الآراء على أن الانخفاض سيستمرُّ بعض الوقت. ومن جديدٍ توجَد توقُّعاتٌ مُتطرفة تتلقَّى تغطيةً واسعة النِّطاق، تُفيد على سبيل المثال بانخفاضٍ قدرُه ٤٠ في المائة. لكنَّنا نميل إلى أغلبية ضربات الجولف الأولى أكثرَ من التي تجعل الكرة تستقرُّ في مرآب السيارات.
الشاهد أن القيم المتطرفة قد تكون مجردَ حدثٍ عرَضي في النظام، أو نتاج لحظةِ اضطراب، ودائمًا ما يكون هناك مِثلها في أي توزيع لطول القامة أو أسعار المنازل أو تنبؤات الطقس أو غير ذلك. ويجب ألَّا تكون سببًا للقلق. وليس بالضرورة أن تكون اكتشافًا.
•••
إذا كان عملُك اكتشافَ تعاطي العقاقير في مجال الرياضة، فستجد التباينَ الطبيعيَّ الذي يعني أن بعض الناس سيكونون دائمًا قيمًا متطرِّفة مشكلة في حدِّ ذاته. فالكثير من العقاقير التي يتعاطاها الناس ليُصبحوا أسرع أو أقوى هي موادُّ موجودة بالفعل في أجسامهم. لكنَّ الرياضيين يريدون المزيد مما يبدو أنه يُحسِّن مستواهم.
يُكتشف الغشُّ في الرياضة بالبحث عمَّن توجد في أجسامهم مستوياتٌ مُتطرفة من هذه المواد. أي إننا نُحدد القيم المتطرفة ونضعها في دائرة الاشتباه. هرمون التستوستيرون على سبيل المثال ينتج طبيعيًّا، وعادةً ما يوجد في البول بنسبة جزء واحد من التستوستيرون إلى جزء واحد من هرمون آخرَ يُسمى الإبيتستوستيرون. وتقول الوكالة العالمية لمكافحة المنشِّطات إن كلَّ من يُكتشَف في جسمه وجود ٤ أجزاء من التستوستيرون مُقابل جزء واحد من الإبيتستوستيرون يُشتبَه في تعاطيه التستوستيرون الإضافي. كانت هذه النسبة في السابق ٦ إلى ١، ثم اعتُبرت تساهلًا مُفرطًا.
ثمةَ مشكلتان؛ الأولى أن هناك حالاتٍ موثَّقةً لنِسَب مُتطرفة ولكنها بريئة تمامًا للتستوستيرون إلى الإبيتستوستيرون، تصِل إلى ١٠ أو ١١ إلى ١، وهو ما يتخطى المستوى الذي يُثير ريبة السُّلطات بكثير. والثانية أن هناك شعوبًا كاملة — خاصةً في آسيا — تقلُّ لديهم نسبة التستوستيرون إلى الإبيتستوستيرون عن ١:١، وهؤلاء يقلُّ خطر تجاوُزهم لمستوى ٤ إلى ١ القانوني عند تعاطيهم التستوستيرون غير القانوني. خلاصة القول أن هناك نطاقًا واسعًا من التباين.
أول من استُبعد من الألعاب الأولمبية بسبب تعاطي التستوستيرون كان مبارزًا يابانيًّا وصلت نسبة التستوستيرون إلى الإبيتستوستيرون لديه إلى مستوًى فلَكي هو ١١ إلى ١. وصدمت هذه الحالة السُّلطات اليابانية لدرجة أنهم قرَّروا إيداعه أحدَ المستشفيات، حيث كان فعليًّا قيد الاحتجاز، وجرى التحكُّم في نظامه الغذائي وأدويته بصرامة. ثم وجدوا أن مستوى التستوستيرون إلى الإبيتستوستيرون لديه لم يتغيَّر، وتبيَّن أنه حالةٌ مُتطرفة طبيعية. كان من الصعب تصديقُ أن مِثل هذه النتائج الغريبة قد تحدُث بدون أن يكون وراءها سببٌ ما، لكن الأدلة كانت دامغة. ووَفقًا لصحفي تابَع حملة مناهضة تعاطي المنشِّطات في الرياضة لعشرين عامًا، يُدعى جيم فيرسل، لم يُردَّ للرجل اعتباره ولو بمجرَّد اعتذار.
وحتى أواخر تسعينيَّات القرن العشرين كان هذا هو الاختبارَ الوحيد للكشف عن تعاطي التستوستيرون، رغم أنه ليس لدينا فكرةٌ كافية عن عدد السكان الذين تزيد النسبة لديهم طبيعيًّا عن نسبة ٦ إلى ١ التي كانت مطبَّقةً آنذاك، وليست لدينا معلومةٌ دقيقة عن عدد من تَزيد النسبة لديهم طبيعيًّا عن نسبة ٤ إلى ١ المطبَّقة الآن. وما يزيد الطينَ بِلَّة أنه من المعروف أن الكحوليات قد ترفع النسبة مؤقَّتًا، خاصةً لدى النساء. لذا فإذا جُمِع أصحاب القيم المتطرفة كلُّهم واتُّهموا بالغش، فقد ينطوي ذلك على خطر إلقاء التُّهم جزافًا على الأبرياء.
من حُسنِ الحظ أن هناك اختبارًا ثانيًا يُطبَّق الآن، يمكن من خلاله اكتشافُ ما إذا كان التستوستيرون الذي يُكتشف في عيِّنةٍ مشتبَه فيها داخليَّ المصدر (منتَجًا داخل الجسم) أم خارجيَّ المصدر (منتَجًا خارج الجسم). غير أن هذا الاختبار أيضًا فشل في تجاربِ الكشف عن كل حالات تعاطي المنشِّطات (حيث أعطت عيادةٌ سويسرية للطب الرياضي مجموعةً من الطلاب مستوياتٍ عالية من التستوستيرون، ثم أجرت الاختبارات، لكن الاختبار أخفقَ في اكتشاف تعاطي كل الحالات للمنشِّطات.) وهذا الاختبار الثاني لم يتَّضح حتى الآن أنه يُسبب اتهام الأبرياء جزافًا، لكنه قد يُعطي نتائج «غير حاسمة». أخبرَنا أحد الرياضيين، وهو عدَّاء ١٥٠٠ متر أيرلندي، أنه كان قد أنفق نحو ١٠٠٠٠٠ يورو على المُحامين ليدرَءوا عنه تهمة التعاطي غير القانوني للتستوستيرون بعد ظهور نتيجة اختبار نسبة التستوستيرون إلى الإبيتستوستيرون في غير صالحه ثم جاءت نتيجةُ اختبار مصدر التستوستيرون «غير حاسمة»، كل ذلك بعد ليلة أفرط فيها في شرب الكحول. وفي نهاية المطاف أُبرئت ساحته في أكتوبر ٢٠٠٦. وفي ٢٠٠٨ وافَق على تسوية مالية مع سلطات ألعاب القوى الوطنية في بلده، ولكن ذلك لم يحدُث إلا بعد أن بات من المُستحيل البحثُ عن اسمه على محرِّك البحث جوجل بدون أن تظهرَ في النتائج كلمة «عقاقير».
كما كان الحال فيما يتعلَّق بطول القامة والإنسان القزَم، علينا أن نتذكر أنه من العادي أن توجد أشياءُ غريبة، وأن القيم المتطرِّفة ستظلُّ موجودةً دائمًا، وعلينا أن نتوقَّع أن يُخرِج الكمبيوتر درجة حرارة تبلُغ ١١ درجةً مئوية أو تزيد عن ذلك أحيانًا. لكن علينا أيضًا أن نُقرَّ بأن هذا قد لا يعني شيئًا. وأننا إذا أردنا إدخالَ تغييرٍ ما على أي تعريف في مرحلةٍ ما، ينتهي عنده الطبيعيُّ ويبدأ الشك، بغرض اتهام كلِّ من يتجاوز هذا التعريف بالغش، أو اعتباره نوعًا جديدًا من الكائنات، علينا أن نتأكد تمامًا من أن التعديل على التعريف له ما يُسوغه. وإذا كانت هذه القيم المتطرِّفة ناتجةً عن تنبؤات أو عمليات مُحاكاة حاسوبية، فقد يُستحسَن أن نُهمِلها تمامًا، أو أن نربطها ببعض الشروط، كأن يُنفِّذ البابا الضربة الأولى لكرة الجولف فتجمَح بعيدًا.
تدعو بعضُ الكلمات إلى الشك في أن هناك قيمةً متطرفة. فعندما نرى عباراتٍ مِثل «قد يصل إلى» أو «قد يبلُغ ارتفاعه مستوى كذا» أو «قد يؤثر في»، يجدُر بنا أن نتساءل عمَّا إذا كان المذكور هو الاحتمالَ الأرجح أم الأكثرَ تطرفًا (ومن ثَم فهو الأقل رُجحانًا)، وبعد ذلك نسأل عن مدى ابتعاده عن احتمالٍ أكثر معقولية. القيم المتطرِّفة لن تكفَّ عن الظهور من وقت إلى آخر، خاصةً في التنبؤات، لكن هذه التنبؤات نادرًا ما تتحقَّق. وإليك هذه اللعبة المُسلِّية إلى حدٍّ ما؛ في كل مرة ترى فيها عبارة «قد يؤثر في» أو ما يُشابهها، أكمِلْها في ذهنك بالجملة الاعتراضية: «لكن أغلب الظن أن ذلك لن يحدُث».