الصدفة: النمر الوهمي
نعتقد أن بمقدورنا التعرفَ على الصُّدفة إذا رأيناها، مُتوقِّعين أن تأتيَ في صورة أرقامٍ فوضوية عشوائية مُختلطة. لكن هذا ليس صحيحًا؛ فالصدفة بارعة في التنكُّر، وهي تخدعنا مِرارًا وتَكرارًا. ترتدي الصدفة — في أحيانٍ كثيرة، وبمحض المصادفة — عباءةَ الأرقام التي تبدو لنا ذاتَ معنًى ونظام ونسق، أو يمكن إدراجها في نمطٍ ما. يقع الناس ضحيَّةَ إغراء شديد يجذبهم للبحث عن معنًى وراء ما يرونه من تلميحاتٍ تلوح كالأشباح، فيتصوَّرون أن الأمر ليس مجرَّد صدفة، فهُم في ذلك كالمُحقِّقين المُتحمِّسين المُبالِغين في بحثهم عن تفسير، ويستبعدون بازدراءٍ الاحتمالَ الحقيقي قائلين: «لا يُمكن أن يحدُث ذلك صدفةً!»
في بعض الأحيان — رغم أنها أحيانٌ أندر مما نعتقد — نكون على حق. أما في أغلب الأحيان، فإننا ننخدع، ويتبيَّن أن الترتيب الظاهريَّ ليس ترتيبًا على الإطلاق، والمعنى المتصوَّر لا وجود له، بل شُبِّه لنا فحسب. ويتَّضح في نهاية المطاف أن الاكتشاف والاستشراف السابقَ له والملاحظة السابقة لهما — التي يُزعَم اقترانها جميعًا بدلائلَ عدديةٍ دامغة — ليس لها أصلٌ وجيه. فقد نسجت الصدفة خيوطَ الوهم حول ذلك كلِّه. وفي تجارِبنا أمثلة لذلك، لا حصر لها. وعلينا أن نضعها نُصْب أعيُننا. فعندما يتعلق الأمر بالأرقام، اشتبِه دائمًا في هذا العامل الخفي.
•••
من كان ذلك المُتخفي المُدمر الموتور الذي مضى في جُنح الليل؟ قُرْب مُنتصَف ليلة البون فاير — الخامس من نوفمبر ٢٠٠٣ — وعلى تُخوم قرية ويشو في مقاطعة غرب ميدلاندز، عقد شخصٌ ما العزمَ على ارتكاب جريمة، مُقتنِعًا بعدالة قضيَّته.
الفاعل — أيًّا كان، إذ لم يُوجَّه لأحدٍ اتهامٌ رسمي — جاء حاملًا معه حبلًا ومعَدَّات سحب. وبعد دقائق، في المساحة الضيِّقة الفاصلة بين الإسطبلات والحقل، جرى في هدوء فكُّ مسامير برج الهاتف المحمول الذي يبلُغ طوله ٢٣ مترًا، ويقوم على تخوم القرية منذ عشر سنوات، ثم الإطاحة به أرضًا. فانقطعت إشارة برج الهاتف في تمام الساعة ١٢:٣٠ بعد منتصف الليل. ولم تجد الشرطة أي شهود.
وبحلول صباح اليوم التالي، كان المُحتجُّون قد أحاطوا بالبرج المُنهار، ومنعوا شركة تي موبايل المالكة له من أخذه أو استبداله. وأخبَر مُحامٍ مُمثِّل للمُحتجِّين مالكي الأرض بأنهم لن يُسمَح لهم بالدخول؛ لأن ذلك يُعَد تعديًا على مِلكية الغير. وسُرعانَ ما تحوَّل الاحتجاج إلى فعاليةٍ لا تنقطع على مدار ساعات اليوم، واستأجر كلٌّ من الجانبَين شركات أمن خاصة لمراقبة حدود المكان.
كان اليأس حافزًا لاحتجاج القرويِّين الشديد. فمنذ أُقيم البرج بين العشرين منزلًا المُحيطة به في دائرةٍ نِصف قُطرها ٥٠٠ متر، ظهرت تِسع حالات من الإصابة بالسرطان. وبدا لهم السبب واضحًا. ورأَوا — ولا يزالون على رأيهم — أنهم أصبحوا بؤرة للإصابة بالسرطان. فكيف قد يحدُث شيء كهذا بالمصادفة؟ وكيف يمكن تفسير ظهور كل هذه الحالات في مكانٍ واحد إلا بأنها نتجت عن التأثيرات الخبيثة التي أحدَثَتها الإشارات القوية التي يُصدِرها هذا البرج؟
قد يكون أهالي قرية ويشو على صواب. لم يُستبدل البرج، ولا تزال قوة المشاعر المُعارِضة له لدى السُّكان المحليِّين تقف حائلًا أمام إقامة بُرج بديل الآن، وربما في أي وقتٍ آخر. ولو حدث أنِ ازدادت الجرائم فجأةً في ويشو حتى تعرَّض تسعة من عشرين منزلًا للسطو، لكان من المرجَّح أن يشتبهوا في سببٍ واحد لذلك، وسيكون لهم عذرُهم في هذا الاشتباه. فعندما يحدُث أمران في الوقت نفسه، كثيرًا ما يكون لأحدهما صلة بالآخر.
غير أن ذلك لا يكون دائمًا صحيحًا، وإذا أخطأ القرويُّون، فالسبب وراء ذلك يُعزى إلى غرابة المسار الذي تسلُكه الصدفة في النُّظُم الكبيرة والمعقَّدة. إذا أخطأ القرويون، فالتفسير الأرجح لخطئهم هو عجزُهم — شأنهم في ذلك شأننا جميعًا — عن تقبُّل حقيقةِ أن الأشياء التي تبدو غير مُعتادة عندما تحدُث في الوقت نفسه ليس بالضرورة أن يكون لها السبب نفسه، وأن الأنماط غير المُعتادة التي تأخذها الأرقام في حياتنا — بما فيها ما يتعلق بالإصابة بالأمراض — ليست غير مُعتادة على الإطلاق، وليس بالضرورة أن يكون وراءها قوةٌ دافعة واحدة أو سببٌ جليٌّ واحد، لكنها تحدُث اعتباطًا بلا ترتيب، وعلى نحوٍ عادي، ومن المؤسِف أن علينا أن نتوقَّعها.
لتفهم السبب، قِف على سجادة — ولكن اختر واحدةً ذات وبرٍ غير عميق (قد تحتاج إلى مكنسة كهربائية على أي حال)، وخذ كيسًا من الأرز، وافتح كيس الأرز تمامًا من أعلاه … واقذف بمحتواه من الأرز إلى الأعلى. الهدف هو قذف المحتوى بالكامل إلى الأعلى بحركةٍ واحدة. واترك الأرز يسقط على السجادة كالمطر.
ما فعلتَه هو إحداث ترتيب عشوائي لحبَّات الأرز على السجادة. لاحظ طريقة تبعثُر الأرز. الأرجح ألا تكون حبَّات الأرز قد سقطَت على مسافاتٍ مُتساوية. فالقليل منها هنا، والكثير هناك، وعلى مسافاتٍ مختلفة قد تجد كوماتٍ أكبرَ وأوضح من الأرز؛ أي بؤرة تجمَّعَت فيها الحبَّات.
أينما تَكثُر حالات السرطان، يُطالب الناس بتفسير. وفي حالة الأرز، يمكنهم أن يرَوا النمط نفسَه بالضبط، لكن هل يتطلب ذلك تفسيرًا؟ تخيَّل كلَّ حبَّة من حبَّات الأرز حالةً من حالات السرطان التي تنتشر في البلاد. يُظهر لنا هذا المثال أن التجمعات أو البؤر التي لا تحدُث إلا بمحض الصدفة هي من الأمور المتوقَّعة. بل إن النتيجة التي كانت ستستدعي الاستغرابَ هي أن تتوزع حبَّات الأرز في شكل طبقة مُنتظمة ناعمة. وبالمثل، فإن توزيع حالات المرض الذي لو حدَث لكان غريبًا هو انتشار الحالات في توزيع مُتساوٍ بين السكان.
استعنَّا بالكمبيوتر لإنشاء نمطٍ عشوائي من النِّقاط لنتوصَّل إلى الشكل الآتي، كما هو الحال في حالة الأرز. تخيَّل أن الرسم يُغطي خريطةً جزئية للمملكة المتحدة ويُظهر توزيع حالات أحد أنواع السرطان.
إذا تأمَّلنا المنطقة المحدَّدة بالمربَّع الصغير على اليمين «ولْنُسمِّها إبسويتش»، فقد نميل لأن نعتبرَها تجمعًا. أما المنطقة التي في المستطيل، التي ليس بها حالات على الإطلاق، فقد تجعلنا نتكهَّن بوجود مادةٍ ما في مياه هذه المنطقة المحلية تمنح سكانها المناعة. لكن الرسم يوضِّح أن هذه الأنماط قد تظهر بالصدفة، وهذا ما يحدُث بالفعل.
يُظهر الرسم أيضًا ميلًا يُطلَق عليه اسم مغالطة قنَّاص تكساس. حيث يُطلِق القنَّاص المزعوم عدةَ رصاصات على حظيرة، «وهو في الحقيقة لا يُجيد التصويب؛ ولذا سُمِّيت الظاهرة بالمغالطة»، وبعد ذلك يرسم دوائر الهدف حول ما يتجمع معًا من الثقوب التي تُحدِثها الطلقات.
هذه التشبيهات لا تعني وجودَ أي تماثُل من الناحية المعنوية بين أنماط انتشار حبَّات الأرز وأنماط انتشار حالات السرطان. ومن المفهوم تمامًا أن يرغبَ المُصابون بالسرطان في معرفة سبب إصابتهم. لكن حالات السرطان تتجمَّع في بؤر في بعض الأحيان لسببٍ بسيط، ألا وهو قواعد الصدفة نفسها التي تحكُم تساقُط الأرز. فهي أيضًا قد تتجمع، بحيث تقلُّ الحالات وتتباعد في بعض الأماكن، بينما تتركَّز في بعض أماكن أخرى تركيزًا يُوحي بالقلق. وفي بعض الأحيان — وإن ندرَت — يدل القلق على وجود سببٍ محلِّي مشترك. والغالب أن يكون وراء المرض أسبابٌ معقَّدة ومُتعددة، تستحثُّها تأثيراتٌ معقَّدة ومُتعددة تتسبب فيها بيئة مكان المعيشة، كما قد تلعب الصدفة والتوقيت دورَيهما، فيتقاطع كلُّ ذلك ليُنتِج احتمالات لا حصر لها، كما يتقاطع مسار حبَّات الأرز في حركتها، حتى تتجمَّع في مكانٍ واحد في وقتٍ ما وتنتج بؤرة.
من أسباب الالتباس التي ينبغي التغلُّب عليها هو الاعتقاد بأن الأرز يسقط بمحض الصدفة، بينما يحدُث المرض دائمًا لسببٍ ما. وهذا تمييزٌ خاطئ بين الحالتَين. فالصدفة لا تعني انعدام السبب، فلِوَضع الأرز أسبابٌ عِدَّة، منها تيَّار الهواء، وقوة يدَيك، ووضع كل حبَّة من حبَّات الأرز في الكيس في أول التجربة، وقد يكون من المُمكِن نظريًّا — وليس عمليًّا — أن تُحتسب الأسباب التي أدَّت إلى تجمُّع بعض الحبوب. والسرطان لا يختلف عادةً عن ذلك من هذا الجانب دون غيره. فعلى الرغم من كلِّ ما قد يُوحي بالمعنى، عادةً ما لا يعدو الأمر كونَه مصادفةً.
فكِّر في مثال الأرز للحظةٍ قبل أي شيء، ولن تجد صعوبة في التنبُّؤ بالنتيجة. غير أن رؤية هذا المثال نفسه يتحقَّق على البشر هو ما يُثير القلق. هذه ازدواجيةٌ غريبة؛ الجميع يعرفون أن الأمور تحدُث متتابعةً في بعض الأحيان، لكنهم مع ذلك يمتعضون في حالة تتابُعها؛ وهذه الأمور من الحتميات، ومع ذلك توصف هذه الحتميات بأنها «غامضة»، وتوصف الأمور العادية بأنها «مُثيرة للرِّيبة»، وتوصف الأمور المتوقَّعة بأنها «غريبة». أما الصدفة فهي حالةٌ خاصة يتعين علينا عند التعامل معها أن نردع ميلنا الغريزي لإطلاق هذه الأوصاف، وأن نستعين بدلًا من ذلك بالتجارِب السابقة لتُرشدنا إلى ما قد تُحدِثه الصدفة. لقد رأينا في السابق الكثير من الأنماط المُدهشة. وعلينا أن نُصدِّق أعيُننا وأن نتوقع أن نرى المزيد من هذه الأنماط المُدهشة.
•••
اعتاد الناس الاستهانة بالأحجام المتوقَّعة للتجمعات وتَكرار حدوثها، كما يتَّضح من تجرِبتَين سريعتين. اخلِط مجموعةً عادية من أوراق اللعب، تلك التي تتكون من ٥٢ ورقة. وابدأ في سحب الأوراق من أعلى المجموعة وتقسيمها إلى مجموعتَين؛ مجموعة للأوراق الحمراء وأخرى للسوداء. كم تتوقع أن يكون أكبرُ عدد من الأوراق التي قد تتتابع من أحد اللونَين أو الآخر؟ عادةً ما تكون الإجابة نحو ثلاث أوراق. والحقيقة أنه من المرجَّح أن تتتابع خمس أو ست من الأوراق الحمراء أو السوداء.
يمكنك اختبار التوقُّعات بأن تطلب من مجموعة من طلاب المدارس (ولنقُل ثلاثين منهم) أن يتناوَبوا تخمين الوجه الذي ستستقرُّ عليه عُملةٌ مَعدِنية خيالية إذا رُميت لإجراءِ قُرعةٍ ثلاثين مرة. ماذا تتوقع أن يحدُث عندئذٍ؟ يستخدم مؤلفٌ بارز لكتب الرياضيات يُدعى روب إيستواي هذه الحيلة في أحاديثه التي يُجريها في المدارس، ويقول إن الأطفال عادةً ما يشعرون أن تتابُع استقرار العملة على الوجه نفسِه ثلاث مرَّات يكفي، وبعد ذلك تتغير العملة إلى الوجه الآخر. والحقيقة أن تتابُع الوجه نفسِه خمس مرَّات أو أكثر هو أمرٌ شائع. وعلاوةً على ذلك، يحدُث التتابع الثلاثي أو الرباعي للوجه نفسِه مرَّاتٍ أكثرَ مما يتوقَّع الأطفال. وعلى الرغم من أنهم يعلمون أن عليهم ألا يتوقَّعوا تناوبًا مستمرًّا بين الصورة والكتابة في الثلاثين رمية، فإنهم يستهينون بقدرة الصدفة على صنع المفاجآت.
لكن هذه التجرِبة مُفاجئة لدرجة أننا لم نقوَ على منع أنفُسنا من إجرائها بأنفُسنا. وفيما يلي النتائج الحقيقية لثلاثين رمية للعملة المَعدنية، وقد كرَّرنا التجرِبة ثلاث مرَّات (نرمز للصورة بالحرف ص، وللكتابة بالحرف ك). وأوضحنا كل حالات تتابُع الوجه نفسِه أربع مرَّات أو أكثر بالخط العريض، ثم كتبنا التتابعات الأطول بين أقواسٍ هلالية.
-
المرة الأولى: ص ك ك ص ك ك ص ص ك ص ص ك ك ك ك ك ك ص ص ص ص ك ص ص ك ك ك
ص ص ص
(٦ كتابات متتابعة، و٤ صور متتابعة).
-
المرة الثانية: ك ك ك ك ص ك ك ص ص ك ص ك ص ص ص ص ك ك ك ص ص ص ك ص ص ك ص
ص ك ص
(٤ كتابات متتابعة، و٤ صور متتابعة).
-
المرة الثالثة: ك ص ك ك ك ك ك ص ك ك ك ص ص ك ك ك ك ك ك ص ص ص ك ك ص ك ص
ص ك ك
(٥ كتابات متتابعة، ٦ كتابات متتابعة).
وبالطبع لم يكُن في العملة المَعدنية نفسِها أيُّ تلاعب؛ في المرة الأولى كانت نتيجة رمي العملة أن كان الوجه الظاهر منها هو الصورة ١٥ مرة، والكتابة ١٥ مرة؛ وفي المرة الثانية كانت النتيجة ١٦–١٤ على التوالي، وفي الثالثة ١٠–٢٠ على التوالي، وكان التتابع عشوائيًّا تمامًا.
إذن فحتى في التتابعات القصيرة قد تظهر تجمُّعاتٌ كبيرة. وإذا طُبِّقت هذه النتيجة القاسية على المرض يتَّضح أنه حتى لو كان من المؤكَّد أنْ لا تأثير لبرج الهاتف على الصحة على الإطلاق، وحتى لو تم تعطيل أبراج الهاتف جميعًا إلى الأبد، فسيظلُّ من المتوقَّع رغم ذلك أن نجد أماكن مِثل ويشو بها تركيزاتٌ صادمة لحالات السرطان، بمحض الصدفة. يصعُب تقبُّل الأمر؛ ظهور تِسع حالات في عشرين منزلًا أمرٌ يدعو إلى الجزم بوجود سببٍ كامن وراءه. وتجرُّ هذه الفكرةُ وراءها فكرةً أخرى؛ كيف لكل هذه المُعاناة أن تحدُث نتيجةً للمصادفة وحدها؟ من ذا الذي لا تثور ثائرته على عالم لا يُبالي تجري فيه الأمور على عَواهنها، ويضرب الحظُّ التَّعِس ضرباته بهذا التركيز الجنوني؟ يؤدي الاستسلام لهذا المصير بنا إلى وضعٍ بالغ الهشاشة لا قِبَل لنا به.
لكن المصادفة بالمعنى المتداوَل لا تعني التوزيع أو التشارك أو الفوضى. ولا تعني انعدامَ النظام أو النمط الظاهري. حتى إنها لا تعني عدم القابلية للتنبؤ بالأمور؛ ذلك أننا نعرف أن هذه الأمور ستحدُث، لكننا لا نعرف أين أو متى ستحدُث، والمؤكَّد أن المصادفة لا تعني انعدام السبب. فكلُّ حالات السرطان هذه كانت لها أسباب، لكن المرجَّح أن هذه الأسباب كانت مُتعددةً ومُختلفة، وأن تركيز الحالات لم ينتج إلا عن تقاطعٍ فرَضَته الصدفة بين العديد من الأسباب غير المُرتبطة بعضها ببعض. من المتوقَّع أن تظهر بؤر لحالات السرطان في بلد بحجم المملكة المتحدة، غاية ما هُنالك أننا لا نعرف أين قد تظهر، ورغم أن ظهورها قد يُصيبنا بالمفاجأة؛ فليس ظهور الكتابة ستَّ مرَّات متتابعة عند رميِ عملةٍ مَعدنية ثلاثين مرة بمفاجأةٍ أخفَّ وطأةً. ويتعيَّن توقُّع الحالتَين على السواء.
بعد إذاعة حلقة من برنامج «مور أور لِس» على محطة بي بي سي راديو ٤ تناولت العشوائية وبؤر السرطان، وكنا قد وصفنا فيها كيفيةَ حدوث البؤر لامرأةٍ مُتعايشة مع السرطان من أهالي قرية ويشو الناشطين في الحملة المُناوئة لإقامة برج الهاتف، وصلتنا بالبريد الإلكتروني رسالةٌ من مُستمع مُستشيط من الغضب. قال لنا كيف نجرؤ على تحطيم آمالهم؟
المصادفة لا قلب لها. يقول شيكسبير في مسرحية الملك لير: «إننا بالنسبة إلى الآلهة مِثل الذباب بالنسبة إلى الأطفال الأشقياء؛ يقتلوننا من أجل اللهو واللعب.» ربما كان من المُثير للارتياح في خِضم الأذى والكرب أن يجد المرء جانيًا يُحمِّله المسئولية أو حتى يُحطِّمه.
عندما كتب الجرَّاح والأكاديمي أتول جاواندي في أواخر التسعينيَّات عن سبب نُدرة بؤر السرطان في أمريكا، اقتبس رأي شعبة مُراقبة الأمراض البيئية والوظيفية بكاليفورنيا الذي أفاد بأن أكثرَ من نِصف أحياء الولاية الخمسة آلاف (وهي ٢٧٥٠ حيًّا في الواقع) كان معدَّل حالات السرطان فيها يفوق المُتوسط. وعند التفكير للحظةٍ يتبيَّن لنا أن هذه هي تقريبًا النتيجة التي ينبغي توقُّعها: فببساطةٍ إذا كان معدَّل الحالات في بعض الولايات تحت المتوسط، فلا بد أن يكون المعدَّل في ولاياتٍ أخرى فوقَ المتوسط. فإذا كانت بعض حبَّات الأرز قد تفرَّقت بعيدًا عن البعض الآخر، فلا بد أن تتكدَّس حباتٌ أخرى معًا. وأردف جاواندي أن إدارة الصحة في ولايةٍ أخرى — وهي ولاية ماساتشوستس — استجابت إلى ما بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ إنذار ببؤرٍ سرطانية في عامٍ واحد. وعلى الرغم من عدم وجودِ ما يُثبِت صحةَ ما ادَّعته هذه الإنذارات، فقد كان من الضروري التحقيقُ بشأنها؛ إذ كان قلق العامة حقيقيًّا ولا يمكن تجاهُله، ولو كان من المتوقَّع ألا يتبين من التحقيق شيء. ولم تكُن هذه النتائج بالضرورة نتيجةً لتردُّد السلطات الصحية أو العامة في الإقرار بوجود مشكلة. فليس إخفاء الحقائق المُزعِجة مؤامرة، في العادة، كما يظهر من الرغبة في اكتشاف السرطان الناتج عن أسبابٍ أخرى. وعلى العكس من التجمعات الجغرافية، شاع اكتشافُ بؤر السرطان التي تنتُج بالفعل عن أسبابٍ وظيفية، وكذا اكتشاف الأمراض الناتجة عن حدث بعينه — مِثل التعرُّض إلى أحد العقاقير أو المواد الكيميائية — كما شاع الكشفُ عن هذه الحالات بوضوح. فرغم أنه كان من المُزعِج الكشفُ عن التأثيرات الضارَّة للأسبستوس والتبغ، لم يَحُل ذلك دون كشف السلطات الصحية لهذه التأثيرات، حتى مع مقاومة بعض الصناعات لهذه الخطوة.
بصرف النظر عن نظريات المؤامرة التي تُسيطر على البعض، كلنا موهوبون في اكتشاف الأنماط واللحظات التي تنكسر فيها. فإذا صدر من شيءٍ ما رنين أو ضجيج في انتظامٍ جمالي، فإننا نميل إلى البحث عن الأسباب والتفسيرات. فكلما تميَّز شيء عن أمثاله أو انفصل عن صفٍّ ينتظم فيه، دعانا ذلك إلى التساؤل عن السبب. ويزعم البعضُ زعمًا معقولًا مُفاده أننا أصبحنا نرى سببًا واحدًا لكل شيء حتى إذا لم يكُن هناك سببٌ على الإطلاق؛ استنادًا إلى أن الحرص أفضلُ الندم، فإذا لاح شكلٌ ما بين الأشجار فتخيَّلناه نمرًا ولُذْنا بالفرار، كان ذلك أفضل بكثير من أن نفترض أن ما نراه ليس سوى خطوطٍ وهمية كالتي تُغطي جسم النمر نتجَت عن تداخُل أشعة الضوء المُتكسرة مع أوراق الأشجار المُهتزَّة بفعل النسيم. لكن هذه العادة الراسخة العنيدة تجعل منا إحصائيِّين بائسين بالفطرة، خاصةً إذا اتَّخذنا قرارًا مُفاجئًا بالتسليم لها. يكون النمط في أغلب الأحيان وهمًا من نسج الصدفة، لكننا سنُحارب من أجل تصديق وجوده. قد نقول: «أين النمر؟» ويرد الإحصائي: «ليس هناك نمِر»، ليس هناك سوى الصدفة المُنغمسة في لهوها بلا اكتراث. وفي لحظات التأمل الأعمق، نُدرك أن علينا — بعد أن تخطَّينا مرحلة التطور في الغابة — السيطرةَ على الغرائز التي تنبعث فينا في لحظات التعجُّل.
من أسباب الارتفاع الكبير لتكلفة الأبحاث الطبِّية ضرورةُ تجرِبة العقاقير الجديدة بطُرقٍ تؤدي إلى استبعاد تأثير الصدفة عند التحقُّق من فعاليَّتها. وقد تتساءل عن مدى صعوبة ذلك؛ فقط نُعطي العقار للمريض وننتظر لنرى ما إذا كانت حالة المريض ستتحسَّن، لا بد أن هذا هو كل ما في الأمر. يتجلى لنا الخطأ في هذا المنطق من خلال نكتة، مُفادها أن البرد الشديد إذا عُولِج بأحدث العقاقير يُمكِن أن يزول في سبعة أيام، أما إن تُرِك بلا تدخُّل فقد يبقى أسبوعًا كاملًا. يتحسَّن المرضى — أو يتعذر تحسُّنهم — لعدة أسباب، وبمعدلاتٍ مختلفة. لنفترض أننا قسَّمنا المرضى إلى مجموعتَين، وأعطَينا إحداهما العقار، وأعطَينا الأخرى الدواء الوهمي «البلاسيبو»، ولاحظنا أن المجموعة التي تناولت العقار تحسَّنت بمعدَّلٍ أفضل. هل كان العقار السببَ أم الصدفة؟ في الظروف المثالية نرى فارقًا كبيرًا بين مجموعتَين كبيرتين. أما إذا كان الفارق صغيرًا، أو كان عدد المُشاركين في التجرِبة مُنخفضًا، فعندئذٍ تكون المشكلة. فعلى غِرار حبوب الأرز أو حالات السرطان، قد تظهر على بعض المرضى المشاركين في تجرِبة طبِّية نتائجُ تبدو ذات معنًى، ولكنها في واقع الأمر لا تمتُّ بصِلة للتأثير الذي يتوقَّعه الجميع — تأثير العقار الجديد أو برج الهاتف — ويكون في حقيقة الأمر وثيقَ الصلة بالصدفة.
أحرزَ علم الإحصاء القدر الأكبر من تقدُّمه في المائتَي عامٍ الأخيرة. وربما كان السبب في تأخُّره هذا في وقتٍ كان العلم والرياضيات قد حقَّقا الكثير، هو أنه يُمثل تحديًا جافًّا للغريزة. ففيما يتعلق بالأنماط أو الفرصة أو المصادفة على وجه الخصوص، قد تبدو الإحصائيات مخالفةً للتوقعات والحَدْس عندما لا تُشبِع التَّوق للمعنى.
يُعَد مثال «النمر الوهمي» مِعيارًا قياسيًّا للأرقام التي يتراءى لنا أنها تحمل معنًى مُهمًّا لكنها في الحقيقة قد تكون عشوائيةً، فهناك نمورٌ وهمية في كل مناحي الحياة. السؤال الذي نطرحه هو: هل النمر حقيقي؟ أم إن ما نراه ليس سوى خطوطٍ كالتي تُغطي جسمه؟ هل هذه الأرقام تُشكِّل نمطًا يُخبِرنا بشيءٍ معيَّن، أم إنه وهمٌ نشأ بالمصادفة ويتشابه إلى درجةٍ غريبة مع شيءٍ حقيقي؟
الأحداث أيضًا تتجمع كتجمُّع حالات المرض في بؤر. ففي عام ٢٠٠٥، سقطت ثلاثُ طائرات رُكاب خلال أسابيع قليلة، وهو ما فتح الباب للتكهُّنات حول ما إذا كانت هناك مشكلةٌ تتعلق بالنظام، وتردَّد السؤال: «ما الذي يُسبب سقوط طائراتنا؟» وكما أسلفنا، المصادفة لا تعني انعدام السبب — كان هناك سبب لسقوط كل طائرة من الطائرات الثلاث — لكنها كانت أسبابًا مُنفصلة. ما يمكن أن يُعزى إلى المصادفة هو تزامُن تلك الأسباب، ولماذا تجمَّعت هذه الأسباب عمليًّا.
هل يُثبِت ذلك أن كل تجمُّع — سواءٌ للسرطان أو لغيره — لا تفسير له إلا المصادفة؟ بالطبع لا، لكن علينا استبعاد هذا الاحتمال قبل أن ننظُر في أي احتمال آخر. مُرتدُو البذلات الذين يُطلُّون على الناس في نشرات الأخبار ويُحاولون إقناع السكان المُتشكِّكين بأن مخاوفهم لا أساس لها قد يكونون ضالعين في مؤامرة على الصالح العام — وهذا مفهوم — لكن يجدُر بنا أيضًا أن نفتح الباب لاحتمال أن يكون حديثُهم مُستندًا إلى درايتهم بصنائع المصادفة، وأنهم قد اجتهَدوا بإخلاص ليتمكَّنوا من التمييز بين الخطوط الشبيهة بخطوط جسم النمر، وبين النمر الحقيقي. وكثيرًا ما يحسم الحجمُ وحده الأمر. فمن أمثلة البؤر المرَضية الحقيقية انتشارُ نوعٍ نادر من سرطان الأنف في هاي ويكومب، تبيَّن في نهاية المطاف أنه كان ناتجًا عن سببٍ محلِّي حقيقي، هو استنشاق نشارة الخشب التي تُنتجها صناعة الأثاث، وفي هذه الحالة كان معدَّل الانتشار أكثرَ من المتوقَّع ٥٠٠ مرة. وفي اتجاه الرياح التي تمرُّ أولًا بمُفاعل تشرنوبل النووي، هناك عددٌ كبير من مُصابي سرطانات الغُدَّة الدرقية، أكثر بكثير مما قد تُحدِثه المصادفة.
كلما رأينا أنماطًا أو تجمُّعات للأرقام، وبدا لنا أن لها ترتيبًا تنتظم فيه، نُسرِع في تقديم التفسيرات. لكن التفسير الذي يجري التغاضي عنه أكثر من أي تفسير آخر هو عدم وجود تفسير، وأن ما نراه لا يعدو كونَه مصادفة. وبالطبع لا يعني ذلك أن كل ما يحدُث هو مصادفة فحسب. لكن فيما يتعلق بالأرقام، علينا أن نَحذر النمور الوهمية بنفس قدرِ حذرنا من النمور الحقيقية.
•••
ومن الأمثلة الصادمة لذلك قصة الطبيبَين البريئين اللذين وجدا أنفُسهما يُواجهان جريمة التحريض على القتل، لسببٍ لا يزيد عن دوران عَجلة الروليت.
استُدعي المُمارسان العامَّان إلى اجتماع ليُفسِّرا سبب ارتفاع معدَّل وفاة مَرْضاهما، وجلسا في قلق وتوتُّر. انعقد الاجتماع في أعقاب إدانة الدكتور هارولد شيبمان، المُمارس العامُّ في يوركشاير الذي قتل أكثر من ٢٠٠ شخص على الأرجح. فقد فُتِح تحقيق في قضية شيبمان، ترأَّسته السيدة جانيت سميث، وحاوَل التحقيق مراقبةَ معدَّل وفاة مرضى المُمارسين العموميين، لاكتشاف أي مُمارسين عموميين آخرين يُعَدون سببًا للقلق. فمن بين عيِّنةٍ يُقارب قوامها ألف طبيب، وُجِد بينهم اثنا عشر طبيبًا يموت مرضاهم بمعدَّلاتٍ تُكافئ معدَّلات موت مرضى شيبمان أو تزيد عنها، لفتَ هذان الطبيبان الانتباه.
لم يجد التحليل الإحصائي الأوَّلي تفسيرًا يُبرئ ساحتَيهما. فما التفسير الباقي، باستثناء جودة الرعاية، الذي يُمكِن أن يُفسِّر براءة الطبيبَين؟ وهنا جاء دور الدكتور محمد محمد. كان واحدًا من المكلَّفين بإجراء التحقيق. وقال لنا: «هذا الاجتماع ليس تافهًا.» وهو ما يمكن تفهُّمه. وأضاف أن الاجتماع مُزعِج جدًّا لكنه ضروريٌّ للبحث عن بدائل مُمكِنة. إذ لم يكُن مُستعدًّا لإلقاء تهمة القتل جزافًا على أحد، لكن الجميع كانوا قد قرَءوا الصحف. ولما كان الرجل فصيحَ اللسان حيَّ الضمير عازمًا على اتباع الطُّرق العِلمية، فقد أراد أن يعرف ما إذا كان هناك أيُّ افتراض يُمكِن البحث فيه قبل التوصُّل إلى أي استنتاج.
كان التحليل الإحصائي الذي وضَع المُمارسَين العامَّين في موضع الاتهام قد حاوَل أن يستبعد من البيانات المُتاحة أيَّ مُتغيِّرات ناتجة عن المصادفة أو عن أي سِمات غريبة عند مرضاهما، وقد وُجدت تفسيرات واضحة تمثَّلت في التقلُّبات الطبيعية في إحصائيات الوفَيات التي يُمكِن توقُّعها في أي مكان، وتقدُّم سن السكان في المنطقة إلى حدٍّ لافت، والسِّمات الأخرى للحالات التي أسهمت في رفع معدَّل الوفَيات فيما بينهم. لكن هذه التفسيرات ظلَّت قاصرة، وعندئذٍ حان دور المُمارسَين العامَّين في تقديم تفسيراتهما.
وكان السبب الذي قدَّماه هو الصدفة في المقام الأول، ولم تُجدِ المحاولات الإحصائية لرصد هذه الصدفة والسيطرة عليها نفعًا. لم يكُن مرضى المُمارسَين العامَّين أكبر سنًّا من غيرهم بفارقٍ كبير، لكن الصدفة شاءت أن يكون من ضِمن الأماكن التي يعمل بها الرَّجلان داران لرعاية كبار السن. وبينما يُعَد السنُّ وحده سببًا وجيهًا للضعف أو زيادة احتمال المرض، تُعَد دار العجَزة سببًا أكثرَ وجاهة؛ فنُزلاؤها يفوقون الجميع في احتمال كونهم من أكثرِ الناس ضعفًا، وفي تدهوُر الصحة بوجهٍ عام.
نعرف دونما أيِّ شكٍ أن الصدفة لم يكُن لها دور في حالة شيبمان، لكن تبايُن معدَّلات الوفَيات — وحتى زيادتها لمعدَّل يُماثِل القتل الجماعي — قد يكون له تفسيرٌ بريء تمامًا؛ فالصدفة تخرق انتظام الأحداث، والناس والأماكن، وتُغيِّر القليل هنا وهناك، وتُدخل في الحُسبان مليون عامل إضافي وعاملًا، وترسم لنا خطوطَ نمرٍ واضحةً بدون أن يكون هناك نمرٌ على الإطلاق.
ولكي تفهم مشكلة التمييز بين النمر الحقيقي وخطوط النمر الوهمية، فكِّر في توقيعك. قد يختلف كلَّ مرة عن الأخرى، ولكن ليس إلى حدٍّ كبير، والاختلافات التي قد تبدو فيه لا تُقلق أحدًا، فهي عادية وبريئة. ولكن، جرِّب أن تُوقِّع بيدك الأخرى التي لا تكتب بها، عندئذٍ ستجد أن الاختلاف في التوقيع سيَصل إلى درجةٍ تجعلك تأمُل أن يرفض المَصرِف الذي تتعامل معه صرف شيكٍ ممهور به إذا ورَد إليه. العامل الأهم عند محاولة اكتشاف النمط المُثير للرِّيبة هو معرفة أين تنتهي حدود الاختلاف الطبيعي ويبدأ الاختلاف الناتج عن «سببٍ خاص». ما مدى التباين الذي قد يظهر في توقيعٍ ما ويظل معه التوقيع شرعيًّا؟ وما مدى التباين في معدل الوفَيات الذي لو تجاوَزته الوفَيات لبدأنا في افتراض القتل؟ الإجابة هي أن التباين البريء أو الناتج عن المصادفة قد يتجاوز التباين المقصود الذي قد يتسبب فيه أعتى سفَّاحي بريطانيا.
تبيَّن أن تفسير المُمارسَين العامَّين مُتماشٍ تمامًا مع نتائج الفحص الدقيق للبيانات؛ فقد كان معدَّل الوفَيات في دور رعاية المُسنِّين تمامًا كالمتوقَّع في هذه الدور. وأُبرئت ساحة الرجلَين تمامًا، لكنهما لم يَسعدا بذلك. لو جرى الاستناد إلى العيِّنة التي أُفرد من بينها هذان الطبيبان، لكان من المتوقَّع أن نجد ٥٠٠ طبيب آخَر في أرجاء المملكة المتَّحدة يستدعي معدَّلُ وفَيات مَرضاهم التحقيق. وفي ذلك مجالٌ واسع لصنائع المصادفة، وهذا هو شأن المصادفة، فهي دَءوبٌ لَعوب، ولأن في المملكة المتَّحدة نحوَ ٤٠٠٠٠ مُمارسٍ عام لإفراد المُشتبَهين من بينهم، فلا مفرَّ من أن يقع بعضُهم ضحية لحظِّهم العثِر، حتى لو لم يكُن بينهم جميعًا قاتلٌ واحد.
كتبت السيدة جانيت سميث في تقريرها النهائي عن تحقيق شيبمان: «أُقرُّ — بالتأكيد — بأن أيَّ نظام للمراقبة المُنتظمة لمعدَّلات الوفَيات لن يكفيَ وحده باعتباره ضمانًا لحماية المرضى من أي طبيب ذي نزعة للقتل. وفي حالة استحداث نظام المراقبة المُنتظمة هذا، فإني أتَّفق مع من أكَّدوا أهمية الحرص على ألَّا يتسرب إلى صناديق الرعاية الأولية وإلى مهنة الطب وإلى العامَّة إحساسٌ زائف بالأمان يُوهِمهم بأن نظام المراقبة سيُوفِّر حمايةً كافية للمرضى.»
ولما كانت على دراية بهذه الصعوبات، فقد أوصت بمراقبة عمل المُمارسين العموميين على أي حال، وبرَّرت ذلك بقيمة المعلومات الناتجة في التعرُّف على ما يُحسِّن رعاية المرضى — وهو رأيٌ وافَقها فيه الدكتور محمد — وليس في كشف جرائم القتل وردعِها فحسب. أحقًّا لا يُمكننا التفريق بين الموت العرَضي والقتل العَمد؟ الإجابة أن ذلك باستطاعتنا تقريبًا من خلال الرعاية الفائقة ووضوح الأرقام إلى حدٍّ كبير، كما كان الحال في قضية شيبمان. لكن شيبمان تمكَّن من تجنُّب انفضاح أمره لمدةٍ طويلة؛ لأن الفارق لم يكُن واضحًا بالقدر الكافي حينذاك، ومن خلال كل المعرفة الإحصائية التي تعلَّمناها بشِقِّ الأنفُس منذ ذلك الحين، نصِل إلى خلاصةٍ مُرعِبة مُفادها أن قدرتنا على كشف هذه الجرائم لم تتحسن مُذ ذاك إلا قليلًا؛ لأن الصدفة ستظلُّ دائمًا كالضباب الذي يُخفي الصورة الحقيقية. في فبراير ٢٠٠٠، بعد إدانة شيبمان بمدةٍ قصيرة، أعلن ألان ميلبرن — وزير الدولة للصحة حينذاك — أمام البرلمان أن وزارته ستعمل مع المكتب الوطني للإحصاءات «للتوصُّل إلى طُرقٍ أحدث وأفضل لمراقبة وفَيات مرضى الممارسين العموميين». ولم يتحقق ذلك الوعد بعد مرور سبع سنوات. وهذا جزء من المشكلة، وبرهان على قوة المصادفة.
عندما يُعبِّر الإحصائيون عن الحذر، يكون السبب في أغلب الأحيان أن التغيير خَصمٌ عنيد، ومع ذلك يمكن التغلبُ عليه. كان على القائمين بالتجارِب على أحد اللقاحات الجديدة لشلل الأطفال في أمريكا وكندا في الخمسينيَّات مواجهةُ العناد بالعناد. ففي ذلك الوقت كان الاحتمال الأغلب أنْ لا أحد من الألف شخص المُشاركين في التجرِبة سيكون مُصابًا بشلل الأطفال. فالمرض نادر للغاية. فلنفترض إذن أنه قد تم تطوير اللقاح وإعطاؤه لألف شخص. كيف نعرف ما إذا كان اللقاح قد نجح؟ في حين أن الصدفة ما كانت لتشاء أن يُصابوا بالمرض على أي حال. كيف نعرف أن اللقاح هو ما حماهم من المرض أم الصدفة؟
وكانت الإجابة أن هناك حاجةً إلى عددٍ كبير جدًّا من الناس. في تجارِب لقاح سولك لشلل الأطفال، خضع نحوُ مليونَي طفل للملاحظة في نوعَين من الدراسات. كان عددُ من لم يتلقَّوا اللقاح لسبب أو لآخر — سواءٌ لأنهم كانوا في إحدى مجموعات التحكم أو ببساطة لأنهم رفضوا — ١٣٨٨٧٨٥ شخصًا. وجرى تشخيص ٦٠٩ أشخاص من بينهم بشلل الأطفال في وقتٍ لاحق، وهو معدَّل يُساوي حالةً واحدة من بين كل ٢٢٨٠ طفل.
من بين النصف مليون شخص الذين تلقَّوا اللقاح، كان معدَّل الإصابة حالةً واحدة من بين كل ٦٠٠٠ طفل. وكان الفارق بين هذا العدد الكبير من الناس كبيرًا بالقدر الذي منح فريق البحث الثقة في أنهم تغلَّبوا على قدرة الصدفة على تقليد التأثير الفعلي. وحتى في هذه الحالة بحثوا بتدقيق لضمان عدم وجود اختلافات افتعلتها المصادفة بين المجموعتَين وتسبَّبت في اختلاف معدَّلات العدوى. التغلب على تأثير المصادفة مُمكِن بالعناية والإصرار، وكثيرًا ما يتطلب التفوقَ عليها في الصبر والجلَد.
تنتشر الصدفة حولنا انتشارًا يفوق ما يعتقد الكثيرون منا.