الأهداف: الفيل بأكمله
اخترْ رقمًا يحكي قصتك، قياسًا واحدًا يُلخص قيمة حياتك. ماذا سيكون الرقم؟ هل سيكون طولَك؟ أم وزنَك؟ أم راتبَك؟ قد يُعَد ذلك كافيًا لهذا الغرض بالنسبة إلى بعض الأشخاص. لكن أغلب الناس سيشعرون بالاستهانة بقيمتهم في هذه الحالة. ماذا عن عدد مرَّات زواجك؟ أو طول عمرك؟ ربما كان ذلك مُناسبًا إلى حدٍّ ما، حتى يَدْهمك شخص بالسؤال عمَّا فعلت في كل هذه السنين. بصرف النظر عن القياس الذي يقع عليه الاختيار، إذا اقتُطع جزءٌ من الكل، فقد تكون النتيجة مُضحكة. الحقيقة أن رقمًا واحدًا لا يكفي في أغلب الأحيان؛ لأنه يدل على تعريفٍ واحد.
الحياة الاجتماعية والسياسية فيها من الثراء والتفصيل ما يُضاهي حياتنا الشخصية، وهي عصيَّة بنفس القدر على التصوير برقمٍ واحد وقياسٍ واحد. فإذا أردت التلخيص على هذا النحو، فعليك أن تتقبَّل الاضطراب العنيف الذي سيُحدِثه ذلك في تعقيدات الحياة.
ولهذا تُواجه الأهداف صعوباتٍ جمَّة. فالأهداف تُحاوِل أن تسترقَ النظر إلى الكل المتقلِّب الكامن وراء الباب من خلال ثَقْب المِفتاح الضيِّق المُتمثل في رقم واحد. والاستراتيجية التي ينبغي اتباعُها في حالة الأهداف تُشابه تلك الخاصة بالمتوسطات: فكِّر فيما لا تَقيسه، بجانب تفكيرك فيما تَقيسه، فكِّر في الأشياء الأخرى التي لن تستطيع أن تراها من ثَقْب المِفتاح.
•••
استُدعيَت طبيبةٌ استشارية لتفقُّد أحد المُصابين عاجلًا. فانطلقَت مُسرعةً، ولما وصلَت وجدت مريضًا كاد يتجاوز هدف الأربع ساعات المحدَّد كحدٍّ أقصى لمدة الانتظار على النقالة. ووجدَت أيضًا مريضًا آخرَ بدَت حالته أكثرَ حرجًا، لدرجة أن حالة المريض الآخر استدعَت إعادة النظر في ترتيب أولويات تقديم الرعاية الطبية. غير أنهم مع ذلك أرادوا منها ترك ذلك المريض بعلةِ أنه: «تجاوز المدة المستهدَفة بالفعل.»
عندما طلبنا من الناس أن يُرسلوا رسائل إلكترونية إلى برنامج «مور أور لِس» بها أمثلة من تَجارِبهم الشخصية عن «التلاعب» في خدمة الصحة الوطنية — أو ما يوصَف أحيانًا بعبارة: «تحقيق الهدف الرسمي مع الإخفاق في المهمَّة الفعلية» — لم نتوقع المدى الذي بلَغه محتوى الردود، ولا التنوُّعَ الذي اتَّسمَت به.
إليك حالةً أخرى: «أعمل في وحدةٍ مُتخصصة. ودائمًا ما يُحال إلينا أناسٌ من قسم الحوادث والطوارئ؛ لأنه بمجرَّد أن يُحال المريض إلينا يكون من وجهة نظرهم قد خرَج من نطاق مسئوليتهم ويكونون قد حقَّقوا هدفهم. وكثيرًا ما نجد أن المريض كان من المُمكِن أن يُعالَج ويتلقَّى كل الرعاية اللازمة في قسم الحوادث والطوارئ. ولكنه إذا أُرسل إلينا فسيُضطرُّ إلى الابتعاد عن منزله مدةً أطول، ويكون عليه الانتظار لعدة أيام قبل تلقِّي العلاج؛ لأنه لا يكون من الحالات التي تستحقُّ الأولوية في وحدةٍ مُتخصصة، والحقيقة أن أحدًا من هؤلاء المُحالين لم يكُن قط من مُستحقِّيها.»
وثالثةً: «كنتُ أعمل في هيئةٍ صحية، وكان جزءًا من واجبات وظيفتي فيها أن أجد الأسباب لإعادة احتساب مُدَد انتظار الأشخاص من البداية. وكان يُسمح لنا بذلك إذا رفض شخصٌ ما الحضورَ في الموعد الذي ضُرِب له على سبيل المثال. ولكن مع بدء تطبيق هدف الحد الأقصى لمُدَد الانتظار، أصبحنا نبذل جهدًا أكبر بكثير لانتهاز أي فرصة لفعل ذلك، بحيث تبدو مُدَد الانتظار لدينا أقصر.»
لماذا تُخفِق الأهداف؟ يرتبط السبب الأول بمحاولتها العثورَ على شيءٍ قابل للقياس ليُمثل كل شيء آخر. وتظهر مشكلةٌ شبيهة في الحكاية الهندية عن العُميان والفيل. كتب الشاعر الأمريكي جون جودفري ساكس «١٨١٦–١٨٨٧» النسخة الغربية الأشهر لها:
لكن استنتاجاتهم اعتمدَت اعتمادًا كاملًا على الجزء الذي لمسوه من جسم الفيل، فاستنتج أحدُهم أن الفيل كالجدار (جانبه)، واستنتج الثاني أنه كالثعبان (خُرطومه)، واستنتج الثالث أنه كالرُّمح (الناب)، واستنتج الرابع أنه كالشجرة (قائمته)، واستنتج الخامس أنه كالمِروحة (أذنه)، واستنتج السادس أنه كالحبل (الذيل).
كان تلخيص الفيل كلِّه من وجهة نظر واحدة صعبًا. إذ يؤدي أخذُ قياس واحد لجانب واحد إلى إغفال معظم الأشياء المهمَّة، واستمرار جهل الرجال الستة بحقيقة الأمر. وتوجد في حياتنا الفعلية أفيالٌ عديدة.
لكن المشكلة أكبرُ من ذلك. ففي مجالَي الصحة والتعليم (وهما من أهم المجالات)، لا يقتصر الأمر على أن الجزء الواحد لا يُمثل الكلَّ تمثيلًا كافيًا. بل إن الأجزاء التي لا نَقيسها كثيرًا ما تُغير الأمور بدون علم منا؛ فعند أخذ قياس قوائم الفيل، قد يبدأ خرطومه في التصرف على نحوٍ غير مُعتاد. لذا فقد استقرَّ الاختيار بعضَ الأوقات على عدد المرضى الذين تنجح العمليات التي تُجرى لهم باعتباره المِعيارَ الأوحد، فكانت النتيجة أنْ دأَب بعضُ الجرَّاحين على تجنُّب الحالات الصعبة (فمَن الذي يريد أن يموت المريض فتفسد الأرقام؟) فعلى الأقل، لو مات المريض قبل أن يصل إلى سرير العمليات، لدُرِئ خطرُ موته عنه. وهكذا تُرِك جزء من الفيل، بدون أن يُلتفت إليه، أو على الأقل بدون أن يُقاس، ليتعفَّن، واكتُفيَ بالجزء المَقيس دليلًا على صحة الفيل.
أفضل ما يُمكِن أن تُفيد الأهدافُ فيه، في أغلب الأحيان، هو أن تكون صحيحةً جزئيًّا في إظهار مجرد جزء من الصورة. أما غاية المُراد فهي، بالطبع، أن نرى الفيل كلَّه، لكنه لا يُعَد تقليلًا من شأن الأرقام أن نقول إنها نادرًا ما تؤدي هذا الغرض. قوائم انتظار المستشفيات أو زمن استجابة سيارات الإسعاف هما من الأشياء الجديرة بالقياس، ولكن حتى إن صحَّت الأرقام — وسنرى في السطور التالية لماذا لا يحدُث ذلك كثيرًا — فهي انتقائية لا محالة، ولا تُفيد بشيء على الإطلاق عن أكثرِ ما نهتمُّ به، ألا وهو جودة الرعاية الطبِّية. نعم، لقد تم الالتفات إلى المرضى سريعًا، لكن هل لاقَوا حتفهم بين أيدي أشخاص لم يتلقَّوا تدريبًا كافيًا، واقتضت وظيفتُهم أن يصلوا إلى الموقع سريعًا لتحقيق الهدف الرسمي، ولم تكُن لديهم مهاراتُ المُسعِفين المُتمكِّنين؟ لقد تسبَّبت هيئات الإسعاف حقًّا في مثل هذه الأمور.
تُواجه الأهداف، ومعها مؤشرات الأداء التي يُمكِن أن تُعتبر حُلفاءَ لها، مُعضلةً. إذ يُتوقَّع من قياسٍ ما أن يكون الفيصل، أو من رقمٍ واحد أن يُعبِّر عن نطاقٍ واسع من الأهداف والمعايير، في حين تظلُّ العناصر الأخرى غيرَ مرئية، ولا محدَّدة، ولا تخضع للتدقيق، ولا يُطَّلع عليها من ثَقب المِفتاح، فمن ذا الذي يهتمُّ بتلك العناصر الأخرى؟
في رسمٍ هزلي شهير يتهكَّم على العملية المركزية للتخطيط ووضع الأهداف عند السوفييت قديمًا، تطرَّق التعليق المُصاحب للرسم إلى الاحتفالات بإنتاجية المسامير السنوية غير المسبوقة بأيدي العمال الأبطال الذين يقوم عليهم الاقتصادُ السوفييتي، وظهرت في الرسم إنتاجيةُ العام بالكامل، وهي مسمارٌ واحد ضخم؛ إنه حقًّا ضخم، ولكن في أي شيء يُفيد؟ قد تكون القياسات خدعة إن لم تقترن بالغرض منها، ولكنها خدعةٌ تنطلي على كثيرين.
الهوسُ بشيءٍ واحد، أو رقمٍ واحد، هو حالةٌ يصعُب اكتشافها تأخذ أشكالًا عديدة. والاستراتيجية المُثلى في حالة الأهداف، وفي حالة أيِّ تلخيص لمجموعة من الأمور برقمٍ واحد، هي استيضاح ما تقيسه الأرقام، وأيضًا ما لا تقيسه، وإدراك محدودية التعريف. وهكذا، عندما يُزعَم أن مِعيار الخدمة الصحية الجيدة هو قِصَر مُدَد الانتظار، فينصبُّ التركيز على قياس مُدَد الانتظار، قد يتوقف شخصٌ ما لحظةً ليسأل: «وهل مستوى العلاج جيِّد في نهاية المطاف؟»
لكن جودة الرعاية الصحية نادرًا ما تُقاس؛ لأن أحدًا لم يتوصل حتى الآن إلى طريقةٍ فعَّالة لقياسها. وبذلك لا نجد إلا الحلَّ البديل، وهو الاستعاضة عن القياس الذي ينبغي إجراؤه بالقياس الذي يُمكِن إجراؤه، على الرغم من أنه قد لا يُخبرنا بما نريد أن نعرفه حقًّا، وهو محضُ ظِل قد يبدو جيدًا حتى ولو كان الأصل — أي مستوى الرعاية — سيئًا، أو العكس.
•••
في إحدى حلقات برنامج «مور أو لِس» في أكتوبر ٢٠٠٦، درَسنا السلوكيات المتَّبَعة فيما يتعلق بهدفِ جعل الحدِّ الأقصى لمدة انتظار المُصابين على النقَّالات هو أربع ساعات، ووجدنا أدلةً تُفيد بأن المستشفيات كانت في بعض الحالات تستقبل رسميًّا الأشخاص (وهي عملية لا تتطلب في أغلب الأحيان أكثرَ من نقلهم في أحد الممرَّات ليستقرُّوا على سريرٍ محاط بستار) فقط لمنع تجاوُزهم حدَّ مدة الانتظار. أي إنهم لا يتلقَّون العلاج بالفعل قبل انقضاء الحد الأقصى لمدة الانتظار، لكن المقصود كان أن يبدوَ الأمر كذلك. وأغلب الظن أن هذه الممارسة كان لها مُبرراتٌ سريرية في بعض الأحيان، وكان المرضى بالفعل يُفضلون أن ينتظروا في مكانٍ مُريح ريثما تنتهي التحقيقات. وفي حالاتٍ أخرى، كان المرضى يُعادون من حيث جيء بهم بعد استقبالهم بخمسَ عشرة دقيقة، وهو ما غذَّى الشكوك في أن استقبالهم لم يكُن سوى استراتيجية للتلاعب، وليس حاجةً سريرية. كما أدَّت الزيادة الكبيرة فيما يُسمى بالحالات التي لا تتطلَّب المَبيت إلى تغذية الشكوك في أن هذه الممارسة كانت من الشيوع لدرجةٍ تدلُّ على تعمُّد التلاعب بالنظام لتحقيق الهدف. فبينما زاد عددُ الأشخاص الذين يصلون إلى قسم الحوادث والطوارئ بين ١٩٩٩ / ٢٠٠٠ و٢٠٠٤ / ٢٠٠٥ بنسبة ٢٠ في المائة، فقد زاد عدد من يدخلون المستشفى بنسبة ٤٠ في المائة.
ليس في ذلك أيُّ مخالفة للقانون، بل إنه إلى حدٍّ ما من المعقول تمامًا بالنسبة إلى من يتخذون القرار تحت الضغط في قسم الحوادث والطوارئ أن يستجيبوا للحوافز المُتاحة. فإذا لم يكُن بمقدور هؤلاء الأطبَّاء والمُمرضين أن يتوجَّهوا بالعناية إلى كل من يأتون إلى قسم الحوادث والطوارئ قبل الحد الأقصى البالغ أربع ساعات، وكانوا سيتعرَّضون للجزاءات إذا لم يُحققوا هذا الهدف، فإن إدخالهم إلى أحد عنابر المرضى هو الثاني بعد أفضل حل. وبهذه الطريقة، يَضمن المريض أنه سيتلقَّى الرعاية (في نهاية المطاف)، ويُحقق قسم الحوادث والطوارئ هدف الأربع ساعات. لكن المشكلة تفاقمت منذ أدخلت الحكومة نظامًا للدفع حسب النتائج. حيث أصبح الوضع الآن أنه كلما استقبل المستشفى مريضًا من قسم الحوادث والطوارئ، أدرَّ ذلك على المستشفى ٥٠٠ جنيه إسترليني. وبذلك لم يعُد النفع المُترتِّب على استقبال الشخص من قسم الحوادث والطوارئ قاصرًا على أن استقبال المرضى يُساعد في تحقيق هدف الأربع ساعات، ولكنه امتدَّ فبات ذلك من مصادر جمع الأموال للمستشفى. وإذا زاد ما يَجنيه المستشفى من أموال، قلَّ ما يُوجَّه منها إلى جزءٍ آخر في منظومة خدمة الصحة الوطنية، وإذا لم يكُن لاستقبال الحالات مُبرر بالفعل، كان هذا دليلًا على سوء تخصيص الموارد.
ومنذ صدور تقريرنا، أعلن مركز معلومات الصحة والرعاية الاجتماعية، وهو الهيئة الأولى المَنوطة بتحليل البيانات في خدمة الصحة الوطنية، في مؤتمرٍ عامٍّ أننا تسبَّبنا في فتح المركز لتحقيقٍ خاصٍّ به، على الرغم من التكذيبات التي أصدرتها وزارة الصحة لوجود أي مشكلة تستحقُّ فتح تحقيق. وأخبرَنا مسئول في الوزارة أن التغيرات التي كشفت هذه الإحصائيات عنها تعكس ممارساتٍ سريريةً جيدة. وإذا كان الأمر كذلك، فهي ممارسة لا تريد الحكومة زيادةً مُفرِطة فيها؛ إذ إن الزيادة من سنة إلى السنة التي تليها في عدد الحالات التي يجري استقبالها بدون أن تبقى في المستشفى يومًا واحدًا والحكومة على استعداد لأن تدفع مقابل استقبالها قد جرى الآن إيقافها — وهو ما يُعَد طريقةً غريبة في إبداء الاستحسان. وقد نمى إلى عِلمنا أن أحد المستشفيات وافَق على خفض الرسوم التي يتقاضاها من هيئات الرعاية الأوَّلية مقابل استقبال هذه الحالات، وأن مستشفًى آخر يُعيد التفاوض.
•••
وَفقًا لجوين بيفان، أستاذ علوم الإدارة في كلية لندن للاقتصاد، وكذلك كريستوفر هود، أستاذ الحوكمة وزميل كلية أول سولز في أوكسفورد، تستند الثقة في الأهداف حاليًّا إلى افتراضَين «بطوليَّين».
الافتراض الأول هو مشكلة الفيل؛ فالأجزاء المُختارة يجب أن تُمثِّل الكل تمثيلًا جيدًا، وهي سِمة يُطلِقون عليها «تمثيل الجزء للكل»، أو المجاز. على سبيل المثال، نقول الأيدي العاملة، في حين نَعني العاملين بكامل جسمهم بالطبع. والافتراض «البطولي» الثاني هو أن تصميم الهدف سيكون «عصيًّا على التلاعب».
وللصعوبات المُرتبطة بالافتراض الثاني صلة بالافتراض الأول. لأنه من الصعب أن نجد رقمًا واحدًا يُعبر عما نريده من منظومةٍ معقَّدة لها أهدافٌ مُتعددة (كما هو شأن الحياة)؛ إذ يَندُر أن يُعبِّر جزءٌ واحد عن الكل تعبيرًا كافيًا، ويفتح ذلك المجالَ لجميع أشكال العبث في الأجزاء غير المستهدَفة، وما لا يُرى لا يؤخَذ في الحُسبان. ووَفقًا لذلك، إذا كانت حياتك سيُحكَم عليها وفقًا لدخلك فقط، بدون التساؤل عما تفعله لتجنيَ ذلك الدخل، وإذا لم يردَعْك أيُّ وازع أخلاقي، فقد لا تكفي كلمة «التلاعب» للتعبير عما قد تفعله في بنك وعلى وجهك قناعٌ وفي يدك بندقية.
جمَّع بيفان وهود عددًا من الأمثلة من مجال الصحة لأهدافٍ بدَت جيدةً في حد ذاتها، لكنها سحَبَت البساط من تحت شيء آخر. إذ كان الهدف يتحقَّق، ولا تتحقق الغاية منه؛ إذ يلحق الضرر بجانبٍ آخر.
في عام ٢٠٠٣، وجدت اللجنة المختارة للإدارة العامة أن هدفَ مُدَد انتظار المرضى في العيادة الخارجية للرمَد قد تحقَّق في أحد المستشفيات بإلغاء أو تأجيل مواعيد المتابعة. ونتيجةً لذلك، قُدِّر أن خمسة وعشرين مريضًا على الأقل فقدوا البصرَ على امتداد عامَين.
وفي ٢٠٠١، أعلنت الحكومة أن كل عربات الإسعاف ينبغي أن تصل إلى حالات الطوارئ المهدِّدة للحياة (حالات الفئة (أ))، خلال ثماني دقائق، فحدث تحسُّن كبير مُفاجئ في عدد العربات التي أصبحت تُنفذ ذلك، أو هكذا بدا الأمر. لكن، ما هي «حالة الطوارئ المهدِّدة للحياة»؟ لقد تباينت نسبة اتصالات الإبلاغ عن حالات الطوارئ التي تُسجَّل باعتبارها من الفئة أ في التقسيمات الإدارية المختلفة بفارقٍ بين بعضها والبعض يبلُغ خمسةَ أمثال؛ فقد تراوحَت بين ما يقلُّ عن ١٠ في المائة وما يزيد عن ٥٠ في المائة. ولاحقًا تبيَّن أن بعض أقسام الإسعاف كانت تتلاعب بأزمنة الاستجابة لديها؛ أي إنها — ببساطة — تكذب. لقد تلاعبوا بالأرقام، ولكن الأرقام هي ما فضحَ أمرهم في النهاية؛ إذ اكتُشف وجود تركيز كثيف لدرجةٍ مُثيرة للرِّيبة للاستجابات المسجَّلة باعتبارها تمَّت في غضون ثماني دقائق، وهو ما ظهر في صورة ارتفاع مُفاجئ في المنحنى البياني، كما لم تكَد تظهر أي حالات تأخير عن الثماني دقائق. وكان هذا المنحنى يختلف اختلافًا كبيرًا عن المنحنى الأكثر تدرجًا في أزمنة الاستجابة الذي يتوقَّعه المرء؛ إذ لم يبدُ هذا النمط قابلًا للتصديق. يُظهر الرسم النمط الذي أثار الشكوك في أن شيئًا ما لم يكُن صحيحًا. بل كانت هناك أدلةٌ أخرى على أن حالاتٍ أكثرَ إلحاحًا كانت تُرغَم على الانتظار في بعض الأحيان لتلقِّي العلاج بعد حالات أقلَّ إلحاحًا «ولكنها أيضًا من الفئة أ»، وذلك لتحقيق الهدف الرسمي.
ينصُّ العقد الجديد الذي بدأ تطبيقه للمُمارسين العموميين عام ٢٠٠٤ على حصولهم على مكافآتٍ نظير أشياءَ منها ضمان أن يحظى كلُّ مريض بما لا يقلُّ عن عشر دقائق من وقتهم (وهو شيءٌ جيد، إذا كان المريض بحاجة إلى ذلك). لكن ذلك يُعطي حافزًا على إطالة زمن بعض الاستشارات التي كان من الممكن أن تستغرق وقتًا قصيرًا «بالسؤال عن أحوال العمَّة بيريل وقطها» حسب تعبير إحدى الصُّحف. كان الهدف المحمودُ هو ضمانَ حصول الأشخاص على ما يكفي من الاهتمام. وكانت الطريقة العملية الوحيدة لقياس ذلك هي الوقت؛ وبذلك لخَّص رقمٌ واحدٌ ما كان ينبغي أن يخضع لتقديرٍ حصيف، وأصبح الرقم هدفًا رسميًّا، وترتَّبت على الهدف حوافز، فثارت شبهاتُ انتهاج سلوكيات رَعْناء.
وفيما يتعلق بأوقات الانتظار في قسم الحوادث والطوارئ، التي شهِدَت تحسنًا كبيرًا استجابةً للأهداف، مع وفرة الأدلة على الخطأ في التقارير، جاء في استنتاج بيفان وهود: «لا نعرف إلى أي مدًى كانت هذه التقارير صحيحة أو ما إذا كانت قد خضعَت للتلاعب الذي أدَّى إلى انخفاض في مستوى الأداء لم ينعكس على الأهداف.» وأخبرَنا جوين بيفان، وهو بالصدفة مؤيِّد لوضع الأهداف من حيث المبدأ وساعد في وضع عددٍ منها، أنه عندما يعمل المُدير بإخلاص ويفشل في تحقيق الهدف، ثم يرى مُديرًا آخر يتلاعب بالنظام فيُحقق بذلك الهدف ويُكافأ على ذلك، يتولَّد لديه حافزٌ قوي للتلاعب مثل الآخرين في المرة القادمة؛ وبذلك يَطرُد السلوكُ السيئ السلوكَ الجيد.
يستجيب بعضُ الأشخاص لنظام تقييم الأداء بتحسين أدائهم بالفعل، في حين يستجيب له آخَرون بتحويل طاقتهم إلى مجادلته، ويتجاهله فريقٌ ثالث. غير أن البعض يَعمِدون إلى التلاعب به، والبحث عن سُبلٍ مُبتكَرة ومُتبجِّحة في التظاهر بتنفيذ المتوقَّع منهم بخِفَّة اليد، ويستجيب البعض لذلك النظام بالكذب المحض بشأن نتائجهم.
حدَّد بيفان وهود أربعة أنواع. فهناك «القِدِّيسون» الذين قد يُشاركون المنظَّمة في الأهداف نفسِها أو لا يُشاركونها، لكن أخلاقيات العمل الخاصةَ بهم شديدةُ الرُّقي لدرجة أنهم يتطوعون بالاعتراف بتقصيرهم. وهناك «الساعون المُخلِصون» الذين يُحجِمون عن وضع أنفسهم موضعَ اللوم، لكنهم على الأقل يُمارسون وظيفتهم بدون اللجوء إلى الحيلة. أما المجموعة الثالثة فقد أطلقا عليها «المُتلاعبين المُستجيبين»، وهم الذين قد يتَّفقون مع الأهداف بوجهٍ عام، ولكنهم إذا وجدوا طريقًا مختصرًا خفيًّا لتحقيقها سلَكوه. وأخيرًا، هناك من أسماهم بيفان وهود «المهوُوسين المُتعقِّلين» الذين يضربون بالنظام كلِّه عُرْض الحائط، لكنهم يُحاولون إخفاء سلوكهم قدر المُستطاع، ويتلاعبون بالبيانات بلا رادع.
وبالنظر إلى هذه التعقيدات وغيرها، نجد أن الأرقام الجيدة يمكن أن تُخبرنا بواحد من أربعة أشياء: (أ) أن كل شيء على ما يُرام، والأداء يتحسَّن، والأرقام تعكس ما يجري بالفعل. (ب) أن الأرقام تعكس ما يجري في الأجزاء التي نَقيسها وليس ما يجري في باقي الأجزاء. (ﺟ) أن الأداء يبدو جيدًا حسَب القياس، لكنه ليس ما يبدو عليه، بسبب التلاعب. (د) أن الأرقام محضُ أكاذيب.
ولكن كيف نعرف النتيجة التي تنطبق على كل حالة؟ إليك لُب المشكلة: في أغلب الأحيان لا يُمكِننا التيقُّن.
وفي أمريكا أيضًا، حدَثَت على مَر السنين قائمةٌ طويلة من المحاولات لقياس الأداء (ومن ثَم تحسينه)، واقترن ذلك كثيرًا بحوافزَ مالية، ولكنها بطريقة أو بأخرى كانت تأتي بنتائج عكسية. وفيما يلي بعض الأمثلة من الدراسات التي نُشِرت في عدة دوريات طِبية.
ففي ولاية نيويورك، وُجِد أن كتابة تقرير عن الأداء القلبي قد أدَّى إلى إحجام الأطبَّاء عن علاج المرضى ذوي الحالات الحَرِجة، ورفع تصنيف الأمراض المصاحبة للمرض القلبي (أي المبالغة في خطورة حالة المريض). وهذا يجعل الأمر يبدو كما لو كانت الجِراحة أصعبَ مما هي عليه؛ وبذلك يرتفع عددُ من تُتوقَّع وفاتهم، فيبدو الأداءُ باهرًا وهو ليس كذلك.
وفي تسعينيَّات القرن العشرين، استُحدث نظامٌ جديد لمدفوعات نظام ميديكير للتأمين الصحي. وكان النظام يُقدم سعرًا ثابتًا للحالات الصحية المحدَّدة بدِقَّة من بينِ ما كان يُعرَف حينئذٍ بالمجموعات المُرتبطة بالتشخيص. وضع النظام سعرًا مستهدفًا واحدًا يُطبقه كلُّ مقدِّمي الرعاية الصحية لكل علاج؛ وذلك لتشجيعهم على تقليل التكاليف، أو هكذا كان القصد.
وكان تأثيرُ ذلك مادةً لمقالٍ ساخر نشَرَته دورية «بريتيش ميديكال جورنال» عام ٢٠٠٣ لتقديم النصح. جاء في المقال: «نظام المدفوعات الجديد في الولايات المتحدة … يُمثل فرصةً ذهبية لتعظيم الأرباح بدون بذلِ المزيد من الجهد. فعندما تُصنِّف الحالة المرَضية لمريضك، ارفع تصنيفها إلى أعلى فئةٍ مُمكِنة في العلاج. فعلى سبيل المثال، لا تعتبر أي كسر مما يُسمى بكسر الغصن الصغير كسرًا بسيطًا أبدًا، بل قُم بإبداء الشك في الأشعَّة السينيَّة بوجود شذرات عظام. وبهذه الطريقة يُمكنك رفع تصنيف الكسر من كسرٍ بسيط إلى كسرٍ مُركَّب؛ ومن ثَم مطالبة شركة التأمين بالمزيد من الأموال. فالتلاعب بتصنيفات المجموعات المرتبطة بالتشخيص هو وسيلةٌ معترَف بها على نطاقٍ واسع لزيادة دخل المستشفى بتقاضي رسومٍ أكبر من المستحَقَّة.»
وأضاف المقال أن مسحًا وطنيًّا لأطباء الولايات المتحدة أظهرَ أن ٣٩ في المائة منهم استخدموا أساليبَ منها تهويل الأعراض، أو تغيير التشخيصات في الفواتير، أو الإبلاغ بعلامات أو أعراض لا تظهر على المرضى؛ وذلك للحصول على خِدماتٍ إضافية استُشعرت ضرورتها السريرية. ولقد ضاق نطاق هذه السلوكيات في السنوات التالية، لكنها لم تختفِ بالكامل.
الشاهد من هذه التِّلال من الأدلة التي تراكمَت لدينا أننا عندما نستخدم الأرقام لتمثيل الأداء، فإن كل هذه الأمور وغيرها تحدُث وراء الكواليس، وتتغير حتى ونحن نُحاول رصدها، بل تتغير لأننا نُحاول رصدها. فهل يُمكِن للأرقام حقًّا أن تُعبِّر عن هذا التعقيد؟ باختصار، نلحظ في الأهداف معركةً مُحتدِمة بين بساطة تلخيصها للأمور من جانب، وتعقيد السلوك الإنساني وازدواجه من جانبٍ آخر.
•••
وفي البيانات المُتعلقة بالصحَّة هناك خدعةٌ أخرى. فقد أوضحَت ورقةٌ بَحثية نشرَها رودني إيه هايوارد من جامعة ميشيجان، عام ٢٠٠٧، أن مقاييس الأداء في مجال الرعاية الصحية غالبًا ما يُتَّفق عليها بعد جدالاتٍ سياسية مُحتدِمة يَجأر فيها كلُّ من له مصلحة في مرض بمناصرة معاييرَ مثالية في العلاج. فبطبيعة الحال، يريد كلٌّ منهم المزيدَ من الموارد لقضيَّته، ويدعو لتوفير رعاية قد لا تأتي إلا بمنافعَ هامشية. ويُناضل لوضع المعايير بالنيابة عن الحالات الأكثر احتياجًا.
ولكنَّ هذه المناصرة المفهومة تمامًا لوضع معايير مِثالية لعلاج السكر، على سبيل المثال، لا تأخذ في الحُسبان المطالبَ المُرتبطة بعلاج ألزهايمر، على سبيل المثال أيضًا. قد يبدو من قياس الأداء وَفقًا لمِثل هذه المعايير أن الجميع يُخفِقون.
يُعلِّق هايوارد: «من المُفجِع أن نسمع أن ٥٠ في المائة من أشكال الرعاية الموصى بها لا يتلقَّاها مستحقُّوها، لكن معظم أشكال الرعاية التي تُوصي بها مجموعات التخصصات الفرعية قيمتها متواضعة أو غير مُثبَتة، وليس بالضرورة أن يكون فرضُ الالتزام بهذه التوصيات في مصلحة المرضى أو المجتمع … فمقاييس الأداء المُفرِطة في التبسيط التي تُنادي بالكل أو لا شيء قد تُضلِّل مقدِّمي الرعاية الصحية وتجعلهم يُولون الأولوية لتقديم أشكال الرعاية التي تعود على المُتلقِّي بقيمةٍ مُنخفضة …»
بعبارةٍ أخرى، يعود قياس الأداء بأفضل النتائج إذا أخذ في الحُسبان احتياجاتِ الفيل بأكمله، بجانب التكاليف، وهو ما لا تفعله مجموعاتُ المناصرة، ولا يُراعى في العملية التدريجية لوضع المعايير، وهو ما يكاد يتطابق مع طبيعة هذه المجموعات أو تلك العملية.
تشمل الرعايةُ الصحية بعض الخيارات. فإذا أردنا اتخاذَ الخيارات الصحيحة، فعلينا أن نُدرك أن تطبيق المِعيار المثالي للرعاية في إحدى الحالات قد يعني التضحية بمعايير حالةٍ أخرى. وليس من المُفيد أن نكتفيَ بالقول إننا نريد الأفضل في كل شيء، إلا إذا كنا على استعداد إلى إنفاق كل ما لدينا في سبيل ذلك. فمن الناحية العمَلية، علينا أن نُقيِّم مطالبات توفير أي علاج في مقابل مطالبات توفير كلِّ العلاجات الأخرى. وتختلف هذه المطالبات من مريض إلى آخر. فكيف لنا أن نختار من بينها إذا كنا قد وضعنا بالفعل قواعدَ مسبقة لكيفية التعامل مع كل مطالبة؟ فكلما بالَغْنا في التحديد، قلَّت قدرتنا على الاختيار.
ولا توجد إجابةٌ بسيطة لذلك. لا ندعو إلى التخلِّي عن كل القواعد أو مقاييس الأداء كما لا نرى أنه ينبغي تحديد كلِّ شيء. لكن علينا أن نفهمَ المخاطر، وتحديدًا الخطرَين الرئيسيَّين: أن يلجأ الناس للغش، أو أن يفعلوا ما تطلب منهم بالضبط، ثم عندما يتبيَّن أن ذلك كان على حساب كل شيء آخر، تتمنَّى لو لم يفعلوا.
لو وثِقنا في أن يؤدِّيَ الناس أعمالهم على أفضل وجهٍ مُمكِن، لما حدَثت كلُّ هذه المشكلات، لكننا لا نثِق فيهم، وأحيانًا تكون لنا أسبابٌ تدعونا لذلك. فنتدخل ونُحاول أن نُغير السلوك، ونُحاول أن نُوجهه بالأرقام.
•••
على الرغم من أن أبرز استخدامات الأهداف ومؤشرات الأداء كان في الرعاية الصحية، فقد بدأت في الانتشار. ففي المملكة المتحدة، يمكن القولُ إن الأهداف ومؤشرات الأداء أصبحا الأدواتِ الأكثرَ موثوقيةً في إدارة القطاع العام. إذ تثقُ فيها الحكوماتُ على وجه الخصوص. ولمدةٍ من الوقت كانت الأرقام تُظهر تحسنًا في أغلب الأحيان، لكنها لا تحظى بثقة الجميع، ويُعاني الوزراء بسبب الانطباع العام بأن زيادة الإنفاق على الخِدمات العامة لم يأتِ بجدوى مُرْضية. فعلى الرغم من الآمال التي عُقِدت على القياسات والأهداف لتحقيق الكفاءة، يظنُّ الكثيرون أنها في الحقيقة ستارٌ يُخفي الهدر.
•••
ولدينا من خارج مجال الرعاية الصحية أيضًا أمثلةٌ عن المنطق المُختلِّ المرتبط بمؤشرات الأداء، منها سجلُّ بريطانيا في أمان الطُّرق الذي تفتخر بكونه يُفيد بأن طُرُقها هي الأكثرُ أمانًا في أوروبا. ونَقيس ذلك بعدد الحوادث. لكن مشكلتَي الفيل والتلاعب معًا تؤثِّران على إحصائيات أمان الطُّرق. إذ تتمثَّل المشكلة الأولى في أننا نعرف أمان الطُّرق بناءً على ما يحدُث عليها. ولا نضع في الحُسبان أن الكثير من الطُّرق قد أصبحت سريعةً ومزدوجةَ الاتجاه لدرجة أن المُشاة يتجنَّبونها. وتجنُّب المخاطر ليس مِثل الأمان. لذلك، بطريقةٍ ما قد لا تكون الطُّرق أكثرَ أمانًا، بل أكثر خطورةً، على الرغم من انخفاض عدد ضحاياها.
ولكن هل ينخفض عددُ الضحايا حقًّا؟ هذا صحيح على المدى الطويل جدًّا، لا شكَّ في ذلك. لكن الأدلة الأحدث عن إصابات البالغين أقلُّ وضوحًا. لقد استهدفت الحكومةُ حوادثَ الطُّرق، وأخبرت قواتُ الشرطة بأنهم سيُقيَّمون حسَب نجاحهم في خفض عدد من يلقَون حتفهم أو يتعرضون لإصاباتٍ خطيرة على الطُّرق. ويقول مسئولو الحكومة إنه بحلول عام ٢٠١٠، ينبغي أن تقلَّ حوادث الطُّرق بوجهٍ عام بنسبة ٤٠ في المائة عن المرحلة القاعدية المُمتدَّة من ١٩٩٤ إلى ١٩٩٨. وعندما وُضع هذا الهدف، بدأت الأرقام في الانخفاض، واحتفَت الحكومة بنجاحها المُدوِّي.
وبعد ذلك، تحديدًا في يوليو ٢٠٠٦، نشرَت دورية «بريتيش ميديكال جورنال» تحقيقًا عن اتجاهات إحصائيات الحوادث. وورَد فيه أنه وَفقًا لما أعلنَته الشرطة، انخفضَت مُعدلات مقتل الأشخاص أو تعرُّضهم لإصاباتٍ خطيرة على الطُّرق بوتيرةٍ ثابتة من ٨٥٫٩ حادثًا من كل ١٠٠٠٠٠ شخصٍ عام ١٩٩٦، إلى ٥٩٫٤ من كل ١٠٠٠٠٠ شخصٍ عام ٢٠٠٤.
لكن الشُّرطة ليست المَصدر الوحيد لمِثل هذه الإحصائيات؛ فقد عنَّ لكُتاب دورية «بريتيش ميديكال جورنال» أن يُقارنوا ما أعلنته الشُّرطة بسِجلَّات المستشفيات. فتبيَّن من ذلك أن المعدَّلات المسجَّلة لإصابات المرور لم تتغيَّر تقريبًا؛ إذ كانت ٩٠٫٠ شخصًا من كل ١٠٠٠٠٠ عام ١٩٩٦ وأصبحت ٩١٫١ عام ٢٠٠٤. فاستنتج الكُتاب أن الانخفاض العامَّ في عدد الإصابات غير المُميتة على الطُّرق الذي ظهر في إحصائيات الشرطة «يُمثل على الأرجح انخفاضًا في معدَّل الإبلاغ عن هذه الإصابات.»
تُمارِس الشُّرطة تقديرها الشخصيَّ في كيفية تسجيل الإصابات، ويبدو أن هذه الفئة من إحصائيات الشُّرطة هي التي حدث فيها معظمُ التحسُّن. أما حالات الوفاة على الطُّرق، حيث لا مجال لممارسة التقدير الشخصي في وضع الإحصائيات، فقد ظلَّت معدَّلاتها على حالها في السنوات الأخيرة في إحصائيات الشرطة والمستشفيات على حدٍّ سواء. لكنها ما إن بدأ استهدافُها حتى بدا أن الشُّرطة لاحظَت انخفاضًا في نوع الحوادث الوحيد الذي كان فيه مجال للتقدير الشخصي في الإبلاغ عنها، ولم يحدث ذلك في الأنواع الأخرى من الحوادث. ولم يُلاحظ الآخَرون التغيُّر نفسَه. إذن، هل انخفض عدد الحوادث فعلًا أم إن الشُّرطة ببساطةٍ استجابت للهدف الموضوع بتقليل أعداد البلاغات في سِجلَّاتها؟
وإليك المثالَ الأخير في قائمة يُوحي طولُها بعمومية المشكلة. فقد استهدفت الحكومةُ معدَّلات إعادة التدوير في بريطانيا استجابةً لشواغلَ عن تأخُّرها عن معدَّلات إعادة التدوير في الدول الأوروبية الأخرى. واستجابت المجالسُ المحلية بطريقةٍ مبتكَرة، فبدأت في جمع نُفايات تَسهُل إعادة تدويرها لم تكُن قد حاولت جمعَها من قبل. ورغبةً منها في منح المشروع كلِّه صِبغةً تُوحي باحترام البيئة، أطلَقوا على تلك النُّفايات اسم النفايات الخضراء. ولا نعلم حقًّا ما كان يجري لهذه النفايات من قبل؛ فالأرجح أن بعضَها كان يُحرق، ويُلقى بالبعض الآخر فيُترك حتى يتحلل، في حين كان بعضها يُلقى في صناديق القُمامة السوداء مع الأنواع الأخرى من النفايات. أما الآن فقد أصبحت شاحنةٌ كبيرة تأتي لجمعها. ولما كانت تلك النفايات مُثقَلة بالمياه «تُقاس كمية النفايات بالوزن»، فقد أسهمت النباتات إسهامًا كبيرًا في زيادة معدَّل إعادة التدوير. وقد شاعت قصصٌ عن رشِّ النفايات الخضراء بالماء لزيادة وزنها. ولكن، هل هذا ما كان يدور في أذهان الناس عندما قيل إنه ينبغي زيادة معدلات إعادة التدوير؟
إذا قاد كلُّ ذلك إلى استنتاج عدم جدوى القياس، ففي هذا الاستنتاج مبالغة؛ فأن يكون دخلُك دولارًا واحدًا في اليوم أو ١٠٠ دولار في اليوم هو أمرٌ يَسهُل قياسه ويُحدِث فارقًا كبيرًا. فالأهم هو أن نعرف الحدود التي تُقيد الرقم؛ فإلى أيِّ حد يعكس ذلك ما نريد أن نعرفه بالفعل؟ وأيَّ نسبة من الفيل يكشف لنا؟ ومتى يُصبح من الحكمة أن نجعل الرقم هدفًا يسعى الجميع لتحقيقه؟ وكيف سيتصرَّف الناس إن فعلنا ذلك؟
ويأخذنا القولُ بأن الأهداف والمؤشرات التلخيصية الأخرى يجب أن تُستخدَم بحرص إلى القول بأنه إلى حين حدوث ذلك، يجب أن نُعامل نتائجها بحرص أو حتى بتشكيك. وبعد سنوات من التجارِب المؤلِمة، هناك علامات على التغيُّر المطلوب في النهج. فلجنة الرعاية الصحية البريطانية المسئولة عن مُراقبة الأداء في المستشفيات في أرجاء إنجلترا وويلز لم تَعُد تدَّعي القدرة على التمييز بدقةٍ بين جودة أحد المستشفيات وجودة مستشفًى آخَر. وبدلًا من ذلك، باتت تصبُّ المزيد من طاقتها في استراتيجيتَين؛ الأولى هي وضعُ معاييرَ دُنيا للممارسات — بشكلٍ مُنفصل عن نتائج الأداء — في كل مجالات الرعاية الصحية، بحيث يتعيَّن على الجميع الالتزامُ بها؛ فمثلًا هل تبذُل المستشفيات جهدًا في تنظيف المكان جيدًا، وهل دُرِّب الموظَّفون على الإبلاغ عن الحوادث السيئة، وما إلى ذلك.
الارتفاع الظاهر في معدَّلات الوفَيات لا يعني بالضرورة وجودَ خلل في السلامة. فقد تكون هناك عواملُ أخرى مؤثِّرة مِثل طريقة تسجيل معلومات المرضى من قِبَل صندوق التأمين. وعلى كل حال فإن هذا يستلزمُ أن نطرح الأسئلة؛ ولهذا نُجري هذا التحقيق.
•••
وبالإضافة إلى ذلك، فهم يُجْرون عددًا كبيرًا من التفتيشات الفجائية — سواءٌ العشوائية أو ذات الهدف المحدَّد — بغرض التأكُّد من تطابُق البيانات مع الواقع. وإذا تبيَّن أن المستشفيات كانت تُقدم تقاريرَ كاذبة عن مدى التزامها بالمعايير، تُوقع عليها العقوبات. وهذا هو المثال الأول الذي رأيناه وأدَّى فيه إنتاجُ بيانات كاذبة إلى تكليف المستشفى كُلفةً واضحة. وتبدو هذه الطريقة ناجحة. فقد بدا أن المستشفيات التي كانت قد أخفتْ أداءها السيئ في الماضي وانكشف أمرُها وتكبَّدت تكلفةَ ذلك بدأت في السنوات اللاحقة في التحوُّل إلى فئة القدِّيسين الذين يُقرُّون بقصورهم.
لكن البيانات التي تشذُّ عن غيرها لدرجةٍ كبيرة هي التي يكون من المرجَّح أن تدلَّنا على شيءٍ مُفيد؛ أي الأداء الذي يبدو مُزريًا (ومُقلقًا)، أو الذي يبدو عظيمًا (وقد تُستقى منه الدروس)، وليس كلُّ ما يقع بين هذا وذاك مما يصعُب التفريق بينه. وقد تكون هناك تفسيراتٌ مُملَّة حتى لمستوى الأداء الذي يقع على طرَفَي الطيف؛ فربما كان لطريقة تسجيل البيانات على سبيل المثال دورٌ في ذلك. ولكن هذه الحالة في رأينا هي التي تُقدم لنا فيها الأرقام إرشادًا مُفيدًا، ولو لم يرقَ إلى كونه إجاباتٍ حاسمةً، فمن هنا يمكن لأي شخص مُهتم بتحسين الأداء بدءُ العمل، بدون أن يفترض أبدًا أن الأرقام قد تكفَّلَت — نيابةً عنه — بتنفيذ العمل المطلوب.
ولا تزال لجنةُ الرعاية الصحية مُحجِمة عن التحقيق المُنتظِم في مَواطن التلاعب المُحتملة، لكنَّ هناك ضغوطًا مُتنامية بهدف ضمان صِدق البيانات بحيث لا تبتعد كثيرًا عن الواقع.
في الماضي، كان هناك حافزٌ يدعو لعدم تجشُّم العناء. فقد كان كلٌّ من واضع الهدف — أي الحكومة — والمُديرين المستهدَفين به يريدون أن تبدوَ الأرقام جيدة، حتى إن النُّقاد زعَموا وجود تواطؤ ما بين الطرَفَين. بعض القياسات القديمة لمُدَد الانتظار على سبيل المثال كانت تُركِّز على قياس ما يجري في مدةٍ قصيرة، وكان من المُثير للرِّيبة أن هذه المدة القصيرة كان يُعلَن عنها مسبقًا، وهو ما كان يُومئ إلى المستشفيات من طرْفٍ خفيٍّ أن تفعل كلَّ ما تقتضيه الضرورة في هذه المدة — دون غيرها — لتُحقِّق أرقامًا جيدة. وكان من المعروف أن المستشفيات كانت تُعيد توزيع مواردها خلال مدة القياس لتُحقِّق الهدف، وبمجرَّد أن تنتهيَ تلك المدة تُعيد كلَّ شيء إلى ما كان عليه.
ولا يزال هناك مجال للتحسُّن، حيث يقول بيفان وهود إن الأهداف ومؤشرات الأداء لا يُمكن الاستغناء عنها بسهولة؛ فبدائلُها، مِثل السيطرة والتحكم المَركزيَّان، ليست مُفضَّلة أيضًا، وكذلك تحويل الرعاية الصحية إلى السوق الحرة. إذا أراد واضعو الأهداف معالجةَ مسألة التلاعب بجِدِّية، فمن المقاربات المُثيرة للاهتمام تعمُّد إحاطة الهدف بشيء من الغموض، بحيث لا يعرف أحدٌ على وجه اليقين كيف يتلاعبُ به (هل سيكون الهدف المواعيد الأولى أم زيارات المتابعة؟) وإضافة بعض العشوائية إلى عملية المراقبة، والبدء في إجراء عمليات تفتيش أكثر انتظامًا على صدق الأرقام.
يستنتج بيفان وهود أن: «الإجراءات التصحيحية مطلوبةٌ لتقليل خطر تقويض نظام وضع الأهداف عن طريق التلاعب لدرجةٍ تؤدي إلى انهياره، كما حدث في الاتحاد السوفييتي.»
لم نصِل بعدُ إلى هذه المرحلة المُزرِية، رغم أننا قد لا نكون بعيدين عنها كثيرًا. فقد اشتكى اتحاد الشرطة (في مايو ٢٠٠٧) من أن الأعضاء فيه يقضون أوقاتًا مُتزايدة في التحقيق في أمورٍ تافهة، ويُهملون واجباتٍ أكثرَ أهمية فقط لتحقيق المستهدَف من التوقيفات أو تحرير المخالفات. فمن البلاغات الحديثة بلاغٌ عن فتًى في مانشستر قُبِض عليه بموجب قوانين الأسلحة النارية لحيازته مسدَّسًا بلاستيكيًّا، والقبض على شابٍّ في كِنت لإلقائه شريحةً من الخِيار على صبيٍّ آخر، وتوقيف رجل في تشيشاير «لحيازته بيضةً بغرض قذفها»، وحُرِّرت مخالفة لطالبٍ إثر «إهانته حِصانًا شُرَطيًّا». والمثال الذي قد يكون الأفضل (أو بالأحرى الأسوأ) هو توقيف طفل ذَكرَ مندوبٌ في مؤتمر لاتحاد الشرطة أنه جال في حيِّه لجمع أموال رعاية ثم استولى عليها. وبعد تحقيقٍ مطوَّل، اضطُرَّت الشُّرطة إلى اتخاذِ قرار حول ما إذا كان الطفل قد ارتكب جريمةً واحدة أم العشرات من الجرائم. ولما كانوا يعرفون المُجرِم وكل ضحاياه، قرَّروا أنه ارتكب «عشرات الجرائم»؛ إذ كان ذلك يرفع معدَّل كشفهم للجريمة لدرجةٍ باهرة. وأسخفُ ما في كل هذه الأنشطة العبثية — التي جرَت كلها تحت اسم تحسين أداء الشرطة — أنها تُوحي بأن معدَّل الجريمة في تزايُد.
السبب الكامن وراء العديد من هذه المشكلات هو ببساطةٍ أن القياس لا يبقى سلبيًّا؛ فهو في الغالب يُغير الشيء نفسَه الذي يتمُّ قياسه. والعديد من القياسات التي نسمع بها يوميًّا، حال المبالغة فيها، ربما تكون قد غيَّرَت العالم بطُرقٍ لم تكن مقصودةً البتة وهي ترسم صورةً له. الأرقام صافية وصادقة، لكن الإحصاء لا يكون كذلك أبدًا. وهذا لا يعني أن الإحصاء بات عديم القيمة، لكنَّك إذا غفلتَ عن ذلك، فسيتحوَّل العالم الذي تحسب أنك تعرفه إلى وهمٍ مُنتظم مرتَّب.