المخاطر: تناوُل اللحم المقدَّد
للأرقام قدرةٌ مُذهِلة على إضفاء أهمية على مَخاوف الحياة؛ هل سأكون أنا؟ ماذا سيحدُث إذا حدث لي ذلك؟ وماذا إذا لم يحدُث؟ ليس بمقدورها التنبؤُ بالمستقبل، لكن بمقدورها أن تفعل شيئًا باهرًا بالدرجة نفسِها؛ ترويض الفوضى وتحويلها إلى احتمالات. فنحن نَملِك بالفعل القدرةَ على قياس عدم اليقين.
غير أن هذه القدرةَ كثيرًا ما تُهدَر بسبب عدم التطابق بين طريقة التفكير المُعتادة لدى الناس، وبين طريقة الإبلاغ عن المخاطر واللايقينيَّات.
يرِد في الأخبار «ارتفاع المخاطر بنسبة ٤٢ في المائة»، وهو رقمٌ وحيد مجرَّد. وكل ما تريد معرفتَه هو إجابة سؤالك: «هل يعنيني أنا ذلك؟» وها أنت ذا تتخبَّطك المخاوف والمُعضِلات، وكل ما لديك هو نسبةٌ مئوية عادةً ما تأخذ في الارتفاع، ولا تمتدُّ لك بالعَون أي يد.
أفكارنا عن اللايقينيات شخصية إلى حدٍّ كبير، لكن اللغة العامة والاحترافية قد تكون مجرَّدة لحد السُّخف. لا غَرْو إذن أنه عندما يُعكِّر الخوفُ الأرقام، يندُر أن تحمل النتائجُ المعلومات الاستشرافية التي كان من الممكن أن تحملها، ولكنها تحمل لَبسًا وخوفًا يَفُوقان الحدود.
ليس بالضرورة أن يكون الحال على ذلك. إذ يسهُل في أحيانٍ كثيرة أن توضَع الأرقام في صورةٍ مفهومة تتماشى مع التجرِبة الشخصية. وكثيرًا ما تكون الأسباب التي تحُول دون ذلك مؤسِفة. لكن عندما يتحقَّق ذلك، كثيرًا ما نجد أن الأقاويل الشائعة عن المخاطر — رغم ما تبدو عليه من الموثوقية والاستناد إلى العلم — لا تُخبرنا بأي شيء مُفيد.
غاية المُراد عند التعامل مع المخاوف المُرتبطة بالأرقام المعبِّرة عن المخاطر واللايقينيات هي ببساطة — كما ينبغي في التعامل مع الأرقام الأخرى — أن يكون المرء عمليًّا وإنسانيًّا.
•••
لا تأكل اللحم المقدَّد. لا تفعل ذلك فحسب. لا نقول «قلِّل كَمِّيته» أو «ضع حدًّا لما تتناوله منه»، بل نقول لا تأكله. هذه هي النصيحة التي وجَّهها صندوق أبحاث السرطان العالمي: تجنُّب اللحم المُعالَج. وكلمة «تجنُّب» تعني الابتعاد عنه، إن أمكنك ذلك.
يقول صندوق أبحاث السرطان العالمي: «تُظهِر الأبحاث التي أُجريت على اللحوم المصنَّعة أن خطر الإصابة بالسرطان يزداد عند تناول أيِّ كمية منها.» وهذا صحيح؛ هذا ما تُظهره الأبحاث. كشف تقريرٌ مشترك ضخمٌ عام ٢٠٠٧ أن تناوُل أونصة واحدة إضافية من اللحم المقدَّد في اليوم ترفع خطرَ الإصابة بسرطان القولون والمستقيم بنسبة ٢١ في المائة.
شمِل تقريرُ الخبراء آلافَ الدراسات ومئات الخبراء من حول العالم. فأولًا: وضعت قوة عمل طريقة عِلمية موحَّدة لجمع الأدلة ذات الصِّلة. وبعد ذلك، جمعت فِرقُ الأبحاث المستقلَّة التابعة للجامعات ومراكز الأبحاث حول العالم كل المنشورات ذات الصلة بسبعة عشر نوعًا مختلفًا من السرطان، وجمَعت كذلك الأبحاث عن أسباب السِّمنة، وعن الناجين من السرطان، وتقارير أخرى عن الأمراض المُزمِنة. وفي الخطوة الأخيرة، عكفَت لجنةٌ مستقلَّة تتألَّف من واحد وعشرين عالمًا مشهورًا حول العالم على تقييم كل هذه الأدلة الوافرة.
كل ذلك صحيح. في حدود قدرتنا على تمييز تأثير جزء بعينه — دون الأجزاء الأخرى — من نظامنا الغذائي أو أسلوب حياتنا أو تأثيرات البيئة المحيطة، فالأدلة ليست سيئة، وقد جرى تفسيرها تفسيرًا مسئولًا. فأين تَكمُن «لكن» إذن؟
إليك بها: تَكمُن «لكن» في أنه ما من شيء فيما ذكرناه في السابق كان يحمل المعلومةَ الأهم، وهي ماهيَّة الخطر المحذور. أخبَرْناك بمقدار ارتفاع درجة الخطر، لكنَّنا لم نُخبِرك أين يبدأ أو أين ينتهي. فعند الحديث عن الخطر في الإعلام أو الوسائط الأخرى، تشيع هذه الممارسة العبثية السخيفة. الحجم مهمٌّ عندما يتعلق الأمر بالخطر؛ فعندما تكون الخطورة كبيرةً غالبًا ما يعني ذلك أن الوضع سيئ، على عكس الخطورة الطفيفة، وهذه هي غاية القصد من تحديد الكَمِّيات على أي حال. فالمرء يُريد أن يعرف ما إذا كان تناوله للطعام الذي يحويه طبقُه يحمل من الخطورة ما يُكافئ في الحجم أو المقدار لعب الروليت الروسي، أو عبور الطريق، أو التنفُّس. فمن الواضح أن هذه المعلومة سوف تصنع الفارقَ فيما إذا كان سيأكل طبقه أم لا. لكن في الكثير من التقارير يجري تجاهُل الخطر نفسِه.
تعتمد التغيراتُ في النِّسب المئوية اعتمادًا كاملًا على نقطة البداية؛ فإذا ضاعَفتَ درجة خطورة كانت في الأصل ١ في المليون (أي إن الخطورة ارتفعت بنسبة ١٠٠ في المائة!) فستُصبح الخطورة ٢ في المليون؛ وإذا لقمتَ المسدَّس الدوَّار برَصاصةٍ إضافية يتضاعف خطر الروليت الروسي أيضًا. ومع ذلك لا تُخبرك الصحف إلا بأن الخطر قد ازداد بنسبة ١٠٠ في المائة في كِلتا الحالتَين. وبهذه الطريقة قد يتبادر إلى الذهن أن أيًّا من الخطرَين لا يفوق الآخرَ ولا يَدْنوه.
وهذا السهو — الذي قد تعتبره لافتًا — شائع لدرجةٍ غريبة (وفجَّة، في رأينا). «تتضاعف خطورة س عند الحوامل.» «معاقرة الخمور ترفع خطر ص.» «ارتفاع خطر تسبُّب الهواتف المحمولة في السرطان بنسبة ٥٠ في المائة.» لا بد أنك قرأتَ مثل هذه العناوين الصحفية سابقًا تعلو تقارير تُغفَل فيها درجة الخطورة القاعدية.
لنُعِد الأمور إلى نِصابها الصحيح. ما هي درجة الخطورة القاعدية للإصابة بسرطان القولون والمستقيم؟ هناك طريقتان لوصف الأمر؛ إحداهما غامضة، والأخرى سهلة. لا تُكمِل هذه الفقرة إذا كنتَ لا تُفضل الأشياء الغامضة. أولًا: طريقة صندوق أبحاث السرطان العالمي. يبلُغ معدَّل الإصابة بسرطان القولون والمستقيم في المملكة المتحدة حاليًّا نحو ٤٥ حالةً من بين كل ١٠٠٠٠٠ رجل، و٤٠ حالةً من بين كل ١٠٠٠٠٠ امرأة. ورد ذلك في صفحة ٢٣. وبعدها بمائة صفحة، نجد زيادة بنسبة ٢١ في المائة بسبب اللحم المقدَّد. ولا يسهُل فهم أيٍّ من ذلك بسهولة؛ إذ لم يُقدَّم أصلًا على نحو يُيسِّر الفهم. أما في التناول الإعلامي للأمر بوجهٍ عام، نجد الأمر أسوأ من ذلك؛ إذ نجد في المُعتاد تجاهلًا تامًّا لدرجة الخطورة القاعدية.
ومن حُسنِ الحظ أن هناك طريقةً أخرى. ويتعين على من يتجاهلونها من الإعلاميِّين أو الجمعيات الخيرية التي ترعى مرضى السرطان أو غيرهم أن يكون لديهم تفسيرٌ جيد لهذا التجاهل، مع أننا لم نسمع حتى الآن أيَّ تفسير. لسنا مُضطرِّين إلى الاستماع إلى ما يُسْديه البعضُ من نصائح من قبيل «تناول اللحم المقدَّد، وسوف تموت»، ولا إلى التطمينات الجَوفاء التي يلفظ بها آخَرون، ولا أن نُربِك أنفُسنا بالاستماع لأحاديث فريق ثالث عن زيادة النِّسب المئوية لعدد الحالات من كل ١٠٠٠٠٠ شخص.
إليك الطريقة:
يُصاب نحوُ خمسة من كل مائة رجل عادةً بسرطان القولون والمستقيم في حياتهم. وإذا تناول كلُّ رجل من المائة بعض الشرائح الإضافية من اللحم المقدَّد كل يوم، يزداد عدد الحالات إلى ستة رجال.
هذا كل ما في الأمر.
ها هي ذي كل المعلومات التي يجري تعقيدُها أو تجاهلها، مختصرةً في جملتَين قصيرتين جرى فيهما إحصاءُ عدد الأشخاص بدلًا من ذِكر نِسَب مئوية مجرَّدة، فأصبح الفهمُ أيسَر. يُمكِننا أن نرى بأنفُسنا أن تناوُل شريحة إضافية من اللحم المقدَّد لا تؤثر في احتمال إصابة ٩٩ رجلًا من كل ١٠٠ رجل بسرطان القولون والمستقيم، ويُمكِننا أن نُقرِّر بجِلاءِ ذهنٍ ما إذا كنَّا مستعدِّين لخطر أن نكون ذلك الاستثناء الوحيد.
•••
ورَد في صحيفة «صن» تقريرٌ بعنوان: «أنقِذوا اللحم المقدَّد: معركة الشطائر». لكن الصحيفة بهذا التقرير الساخر تفوَّقت على الصُّحف الجادَّة في سهولةِ فهمِ ما تنشره عن المخاطر؛ فقد كانت من قلائل الصحف التي أوضحت عدد الأشخاص الذين يُمكِن أن يتأثروا.
يُفترَض أن يكون الأمر سهلًا، ومع ذلك …
«مع كل مشروب كحولي تتناوله المرأة، ترتفع خطورة إصابتها بسرطان الثدي بنسبة ٦ في المائة.»
هذه صياغةٌ صحفية لا تليق إلا بسلَّة النُّفايات، ومع ذلك فقد برزَت في نشرات الأخبار على القناة الرسمية لهيئة الإذاعة البريطانية في ١٢ نوفمبر ٢٠٠٢، وسُرعانَ ما اتَّضح السبب؛ إذا صح الخبر، فهذا يعني أن كل النساء اللاتي يتناولن المشروبات الكحولية بانتظام — والكثير ممن يتناوَلْنها من وقت لآخر — سيُصَبن بسرطان الثدي قطعًا قبل الكريسماس. فزيادة الخطورة بنسبة ٦ في المائة تعني أن يتزايدَ الخطر سريعًا، فيجعل من إصابة مَن تتناول في حياتها كلِّها سبع زجاجات من النبيذ أمرًا حتميًّا.
لا يوجد في الحياة الكثيرُ مما يُمكِن التيقُّن منه إلى هذا الحد، ولا شك أن سرطان الثدي ليس من هذه اليقينيات. ومع ذلك، لم تقِف العبثية البالغة حدَّ السُّخف التي حملها الخبرُ حائلًا دون انتشاره. ومن حُسنِ الحظ لم يسهُل انخداع المُشاهدين بنفس قدر الصحفيين الكُثر الذين أسهموا في إذاعة التقرير الصحفي؛ ففي هذا الخبر أماراتُ جهل بحساب الأعداد كان من المفترَض أن يسهُل اكتشافه.
فماذا إذن هو المعنى المقصود من الدراسة التي شوَّهتها الأخبار إلى هذا الحد؟ صحيحٌ أن الأبحاث قد أظهرَت ارتباطًا بين المشروبات الكحولية وسرطان الثدي، لكن أول ما ينبغي فِعله عند اكتشاف زيادة الخطر هو محاولة تهدئة المخاوف والتركيز على الأرقام. وأول سؤال ينبغي طرحُه عن الرقم هو ذلك السؤال الأبسط، سؤالنا المفضَّل القديم: «إلى أي حد يُعَد الرقم كبيرًا؟»
كشفت أكبرُ دراسة عالمية عن تدخين السيدات وتناولهن للمشروبات الكحولية عن زيادة خطر إصابة المرأة بسرطان الثدي بنسبة ٦ في المائة مع كل كأس إضافي تتناوله يوميًّا من المشروبات الكحولية.
•••
وأضافت الدراسة أنه كلما زاد عددُ المشروبات اليومية ليُصبح كأسَين، تزداد الخطورة بنسبة ١٢ في المائة. هكذا أذاعت معظمُ المنابر الإعلامية الأخرى القصة. كانت نسبة اﻟ ٦ في المائة صحيحة على أي حال، ولكنها كانت نسبة زيادة الخطر إذا تناولت المرأة مشروبًا كل يوم من أيام حياتها كبالغة، ولم يَعنِ ذلك أن الخطر يزداد بنسبة ٦ في المائة مع كل كأس مُنفردة؛ اختلافٌ بسيط في الصياغة، وفارقٌ كبير في المعنى.
هذه هي الصياغة الدقيقة، ولكنها لم تزَل عديمة المعنى. المفقود هنا مجدَّدًا هو نسبة الخطورة في الأصل. فإن لم نُحِط علمًا بذلك، لا يُفِدنا بشيءٍ أن نعلمَ التغير الذي يطرأ على هذه النسبة.
تخيَّل شخصَين يتسابقان. سرعة أحدهما ضِعف سرعة الآخر. كأن يُذكَر في عنوان صحفي أن «سرعة فريد ضِعف سرعة إريك». ولكن هل سرعة فريد كبيرة أصلًا (أي هل الخطورة كبيرة)؟ فإذا كان فارق السرعة بين المتسابقَين هو كل ما نعلم، فهذا يعني أننا لا نكاد نعرف شيئًا عن قدرة فريد. قد يكون كلاهما حالةً ميئوسًا منها، فيكون فريد يمشي متثاقلًا، وإريك مترنحًا، أعرَج، متقرِّح القدمين، أو لم يتدرب أو لم تُزايله آثارُ ثُمالة مفرطة. وقد يكون إريك عدَّاءً لا يُستهان به، وفريد حاملَ رقم قياسي عالمي في العدو. إذا كان كل ما نعرف هو الفارقَ النسبي «أن براعة أحدهما ضِعفُ براعة الآخر»، ولم نعرف مدى براعة الآخر، نكون حينئذٍ جاهلين بمعظم الأمور المهمة. وعلى المِنوال نفسِه، إذا كان كل ما لدينا من معلومات عن درجتَي خطورة هو الفارق بينهما «أن الأولى أعلى من الأخرى بنسبة ١٠٠ في المائة، بدون أن نعرف درجة هذه الأخرى»، فنحن لا نعرف شيئًا عن أيٍّ من الدرجتَين.
من البديهي أن ارتفاع الخطورة بنسبةٍ ثابتة قد تُنتِج في النهاية رقمًا مختلفًا تمامًا في الحالات المختلفة؛ اعتمادًا على الرقم الذي كانت عليه الخطورة في البداية. غير أن إغفال التقارير الإخبارية للرقم الأول — والأخير أيضًا — واكتفاءها بذِكر الفارق، يتكرَّر لدرجةٍ مُذهِلة.
«ارتفاع معدَّل استيقاف الآسيويِّين لتفتيشهم إلى أربعة أمثاله»؛ «زيادة حالات حمل المراهقات في إحدى مقاطعات لندن بنسبة ٥٠ في المائة». عندما نرى هذَين الخبرَين تتبادر إلى الذهن أسئلةٌ مِثل: هل ارتفع عدد الآسيويين الذين يجري استيقافهم لتفتيشِهم في المنطقة المحدَّدة من شخصٍ واحد في رُبع السنة السابق إلى أربعة أشخاص في الربع الحالي ضِمن التباين المُعتاد الذي قد يكون متوقَّعًا؟ أم ارتفع العدد من ١٠٠ شخص إلى ٤٠٠ شخص؛ مما يدل على تغييرٍ جذري في تكتيكات الشُّرطة له دوافعُ سياسية؟ وهل ارتفعت معدَّلاتُ حمل المراهقات من مراهقتَين في العام الماضي إلى ثلاث مراهقات هذا العام؟ أم من ٢٠٠٠ مراهقة إلى ٣٠٠٠ مراهقة؟ يُدرك مُشاهدو برنامج المسابقات التلفزيوني «من سيربح المليون» اختلاف نتيجة مضاعفة المَبلغ مع الإجابة الصحيحة التالية للمُتسابق اختلافًا كبيرًا حسَب ما يكون المُتسابق قد ربحه بالفعل. أما أن يُقال: «أصبح لدى المُتسابق ضِعفُ المبلغ»، فهذا لا يُفيدنا بشيء.
لماذا إذَن تُبلغنا الأخبار عن المخاطر برقمٍ واحد في بعض الأحيان، وهو الفارق بين ما كان عليه معدَّل الخطورة وما أصبح عليه؟ «ارتفاع معدل الخطورة على شاربي الكحوليات بنسبة ٦٪!» هنا يجدر السؤال: ٦٪ من ماذا؟ ماذا كان معدل الخطورة في السابق؟ وما هو الآن؟ هذه التقارير — بصرف النظر عن المعنى الذي يحسب مؤلِّفوها أن صياغتهم لها تحمله — ما هي إلا استخدام للأرقام في الإثارة.
كيف نجعل الأرقام المعبِّرة عن معدل حدوث سرطان الثدي ذاتَ معنًى؟ أولًا، ومجددًا، يمكننا أن نلجأ إلى الطريقة الرسمية التي يُمكنك تجاهلها إذا استغلقَت عليك. علينا أن نعرف الخطورة القاعدية — درجة خطر إصابة النساء اللاتي لا يشربن الكحوليات بالمرض. فنحوُ ٩ في المائة من النساء يُصَبن بسرطان الثدي قبل أن يبلغ عمرهن ٨٠ عامًا. وإذا علمنا ذلك، يمكننا أن نُكوِّن فكرةً عن مدى الخطورة على من يشربن الكحوليات، ونظرًا إلى أن درجة الخطورة القاعدية منخفضة نسبيًّا، فإذا زادت هذه الدرجة بنسبة ٦ في المائة فستظل الدرجة منخفضةً على أي حال. كالعدَّاء البطيء، إذا زادت سرعته بنسبة ٦٪ فلن يتحوَّل إلى منافسٍ جادٍّ في مسابقات العَدْو.
(ولكي يتم الحساب على النحو الصحيح، خذ نسبة اﻟ ٩ في المائة التقريبية التي بدأنا بها واحتسِب كم تُساوي ٦ في المائة منها. ٦ في المائة من ٩ في المائة تُساوي ٠٫٥ في المائة. هذه هي الخطورة الإضافية عند شُربِ كأسٍ إضافية واحدة في اليوم، نِصف الواحد في المائة؛ أي واحد في المائة عن شرب كأسَين إضافيَّتَين كل يوم. بيدَ أن هناك صياغةً للمعلومة أيسر في الفهم. فالعديد من الناس يُعانون عند محاولة فهم أي نِسَب. ففي إحدى الدراسات المسحية، سئل ١٠٠٠ شخص عما تَعنيه نسبة «٤٠ في المائة»، وكانت الاختيارات: (أ) رُبع؛ (ب) ٤ من ١٠؛ (ﺟ) واحد من كل ٤٠ شخص. فاختار ثُلث المشاركين إجاباتٍ خاطئة. أما أن نسأل عما تُساويه نسبة ٦ في المائة من ٩ في المائة — كما فعلنا — فلا شك أن هذا سيكون مُحيرًا إلى حدٍّ أكبر.)
بعد يومَين تصدَّرت فيهما الدراسة عناوين الأخبار. كتبَت سارة بوزلي، مُحرِّرة الصحة المتَّقدة الذهن في صحيفة «جارديان»، مقالًا عنوَنَته: «نِصف كأس من الخوف»، جاء فيه: «كم سيدةً من بيننا صبَّت لنفسها كأسًا من النبيذ أو مشروبَ الجِن القويَّ المفعولِ ليلة أمسِ بدون أن تتساءل ما إذا كانت بذلك تُعرِّض نفسها للإصابة بسرطان الثدي؟ … لا شك أن عددًا من النساء كُنَّ سيُقلِعن عن الكحوليات على الفور لو علِمن بذلك.»
لماذا عساهن أن يفعلنَ ذلك؟ كما ذكَرَت في جزءٍ تالٍ من المقال أنهن لا يفعلن ذلك سوى لذُعرهن من نسبة اﻟ ٦ في المائة، رغم أن الحقيقة هي أن الفارق الذي يُسببه زيادة عدد كئوس الشراب اليومية بكأسٍ واحدة كان من الممكن، بل من الواجب، أن يُعرض على نحوٍ أقلَّ إثارةً للقلق؟ إلا إذا كانت إثارة الذُّعر هي غايةَ المراد.
لا نسعى ها هنا إلى مناصرة أي قضية، بل نسعى إلى الوضوح فحسب. لذا، لنبدأ من جديدٍ مع تجنُّب المبالغة في تصوير الخطورة إلى أقصى حد. لِندَع كل النِّسب جانبًا ونتحدث عن الأشخاص، كما ينبغي للصحفيين.
إليك طريقةً أبسط لوصف ما فشلَت التقارير في توضيحه فشلًا ذريعًا، لننظُر إلى تأثير زيادة كئوس الشراب اليومية بكأسَين بدلًا من كأسٍ واحدة، بغرض تقريب الأرقام وتبسيطها:
«من بين كل ١٠٠ امرأة، تُصاب ٩ سيدات بسرطان الثدي في حياتها في الظروف العادية. وإذا تناولت كلٌّ منهن كلَّ يوم كأسَين إضافيتَين من الكحوليات، فسيصبح عددُ من يُصَبن من بينِهن عشر سيدات تقريبًا.»
هذا كل ما في الأمر.
مرةً أخرى، سُرعانَ ما فهِمنا أنه من بين كل ١٠٠ امرأة تتناول كأسَين من المشروبات الكحولية كلَّ يوم، يزداد عدد حالات السرطان بحالةٍ واحدة تقريبًا.
مع أن إصابة امرأة واحدة من كل ١٠٠ امرأة نسبةٌ صغيرة، فإنه نظرًا إلى ارتفاع تَعداد سكان بريطانيا، تُساوي هذه النسبةُ عددًا كبيرًا من حالات سرطان الثدي (هذا إن زادت كلُّ النساء من معدل تناولها الكحوليات بهذه النسبة). لا نقصد هنا التهوينَ من مرضٍ مُخيف، ولا أنه من الآمن أن نتجاهل خطرَ الإصابة بالسرطان. بل إن خطورة السرطان هي التي تستلزم أن نُوضح المخاطر بطريقةٍ يسهُل على معظم الناس فَهمُها. وإلا سنُترَك جميعًا تحت رحمة التقارير الإخبارية الأشبه بجار السوء الذي يتلصَّص علينا من فوق السور ونحن نهتمُّ بشئون حياتنا الطبيعية، ثم يأخذ نفَسًا عميقًا ويقول: «لا أنصحك بفعل ذلك.» وربما كانت النصيحة في محلِّها. لكن لنتَّخذِ القرار على أساس الأرقام المقدَّمة إلينا بطريقةٍ منطقية تتَّفق مع الحَدس الإنساني.
يُطلِق الإحصائيون على عدد الأشخاص المُتأثرين من كل ١٠٠ شخص مصطلحَ التَّكرار الطبيعي. وهو لا يختلف كثيرًا عن النسبة المئوية، لكنه أقلُّ منها قليلًا في الطابَع التجريدي، وهذا مُفيد. فأولًا، هذه هي الطريقة التي يُعَد بها الناس في المُعتاد؛ لذا فهي وسيلةٌ أيسر في الفهم. وكذلك فهي تُصعب كثيرًا الحديث عن الفوارق النِّسبية، وتُصعب الخوض في دوَّامة الحديث عن نسبة من نسبةٍ أخرى. وبالمناسبة، إذا ظننت أننا نُبالغ في صعوبة تفسير بعض الناس للنِّسب المئوية، فسترى بعد قليلٍ كيف يقع حتى الأطبَّاء المدرَّبون على الإحصائيات الطبية في أخطاءٍ صادمة بنفس القدر ولا داعي لها عند تفسير نتائج تحاليل مرضاهم.
يسهُل اعتماد التَّكرار الطبيعي على نطاقٍ أوسع بسهولة، ولكن ذلك لا يحدُث، وهو ما يُثير في النفس شكًّا في وجود رغبة متعمَّدة لدى مجموعات المناصرة والصحفيين على حدٍّ سواء في أن يكتنف الغموضُ بعضَ الأمور. فعندما يمكن تقديم المعلومات بطريقةٍ بسيطة إلى هذا الحد، لماذا يُفضل الفريقان — مجموعات المناصرة والصحفيين — الحديثَ عن المخاطر بالنِّسب المئوية بدون ذِكر الخطورة المُطلَقة، وبلُغةٍ مُفرِطة في التجريد؟ يقود ذلك حتمًا إلى الشك في أن السبب هو أن هذه الطريقة تسمح باستخدام أرقام «أكبر» (ستة في المائة رقمٌ كبير بما يكفي لإثارة الذُّعر، أما ذكر التغير المُطلَق «نِصف الواحد في المائة» أو «امرأة من كل ٢٠٠» فالأرجح أن وقْعَه على النفس أضعف). فالأرقام الأكبر تُكسِب أصحابها المِنح البحثية، وأثرها في الترويج للقضايا، ولمبيعات الصحف أيضًا، أمضى وأوقع.
من الحُجج التي تُساق للدفاع عن الطريقة الأولى أن أحدًا لا يكذب في واقع الأمر. وهذا صحيح، لكننا نتوقَّع من جمعيات رعاية مرضى السرطان أو من الصحف والمذيعين الجادِّين ما هو أكبر من الإفلات بفعلتهم فحسب. يبدو أن هناك ميلًا لضمان جودة القصة الصحفية على حساب وضوح الرسالة فيما يتعلق بالمخاطر الصحية، وليست هذه عادةَ الصحفيين وحدهم. بل إن هناك مبادئَ توجيهيةً دولية عن استخدام الإحصائيات تُحذر من استخدام أرقام غير مدعَّمة بالدلائل في التعبير عن الخطورة النسبية. ويبدو أن المؤسَّسة البريطانية لأبحاث السرطان لم تُحِط علمًا بهذه المبادئ التوجيهية أو أنها تجاهَلَتها في هذه الحالة لتُصدِر بيانًا صحفيًّا أكثر إثارة. عندما تحدَّثنا مع صحفيين تلقَّوا دوراتٍ تدريبيةً رسمية في المملكة المتحدة، وجدنا أن أحدًا منهم لم يتلقَّ أي توجيه فيما يتعلق باستخدام الأرقام للتعبير عن الخطورة النسبية.
•••
في يناير ٢٠٠٥، أعلن رئيسُ المجلس البريطاني للحماية من الإشعاع أن المخاطرَ التي كشفَت عنها الأبحاثُ الطبية الأخيرة التي جرَت على الهواتف المحمولة تدفع إلى التوصية بتجنُّب الأطفال لها. فجاءت العناوين الصحفية المستندة إلى الإعلان زاعقةً ومتوقعة.
أسدى المسئول نصيحته استنادًا إلى ورقةٍ بحثية من معهد كارو لينسكا في السويد أفادت بأن الاستخدام الطويل الأمد للهواتف المحمولة مُرتبط بارتفاع خطر الإصابة بنوعٍ من أورام الدماغ يُسمى ورم العصب السمعي. ولكن كم كانت درجة الخطورة في الأصل؟ فقد أفادت التقاريرُ الإخبارية بأن الهواتف المحمولة تُسبب تضاعُفها.
مجدَّدًا، لم يذكُر أحد تقريبًا درجة الخطورة القاعدية، ولم يفعل أحدٌ ما تقتضيه الفطرة البشرية بأن يُحصيَ عددَ الحالات التي تعنيها هذه الدرجةُ من الخطورة؛ الاستثناء المُشرف الوحيد الذي عثَرنا عليه من بين كل الصُّحف والبرامج التلفزيونية الوطنية هو قصة صحفية واحدة على بي بي سي نيوز أونلاين. لتضاعُف الخطر وقعٌ يُوحي بالخطورة، وقد يكون الخطر قائمًا بالفعل. ولكن على غِرار رجلَينا المُتسابقَين، قد يكون تضاعَف الحجم — شأنه شأن تضاعُف البراعة أو تضاعف الرداءة — لا يؤدي إلى نتيجةٍ ذاتِ بال في نهاية المطاف.
فيما يتعلق بالهواتف المحمولة، يُمكننا أن نبدأ بطمأنة القارئ إلى أن هذه الأورام ليست سرطانية. وهي لا تنمو إلا في بعض الأحيان، وكثيرًا ما يكون نموُّها بطيئًا، أو يتوقف بعد بلوغها حجمًا معيَّنًا. والمشكلة الوحيدة التي تُسببها إذا تواصَل نموُّها هو أن تضغط على أنسجة الدماغ المُحيطة بها، أو على العصَب السمعي، وأن استئصالها يصبح حينئذٍ ضروريًّا. وقد تُلاحظ أيضًا أن البحث أشار إلى أن هذه الأورام لا تظهر إلا بعد عشر سنوات على الأقل من الاستخدام المعتدِل على الأقل للهاتف المحمول. وبعد كل هذه الشروط يُمكنك إضافة ثاني الأسئلة المهمة عن الخطورة: هل هي خطورةٌ كبيرة؟ أي كم تبلغ درجة الخطورة القاعدية؟
بعد ذيوع القصة الصحفية بعِدَّة أيام، تحدَّثنا إلى ماريا فيتشتينج الأستاذة في معهد كارولينسكا، وهي من فريق البحث الأصلي، فأخبرَتنا أن درجة الخطورة القاعدية كانت ٠٫٠٠١ في المائة، وهي نسبةٌ عند التعبير عنها بالتَّكرار الطبيعي — أي بعدد الأشخاص — تعني شخصًا واحدًا من كل ١٠٠٠٠٠. هذا هو عدد الأشخاص الذين يُصابون بورم العصب السمعي إذا لم يستخدموا الهاتف المحمول. وعند الاستخدام المنتظِم للهاتف لمدة عشر سنوات، فإن هذا التضاعف الذي تواترَت عنه التقاريرُ يعني ارتفاع النسبة إلى ٠٫٠٠٢ في المائة؛ أي شخصَين من كل ١٠٠٠٠٠ (مع أن الرقم يرتفع عن ذلك إذا أخذت الإحصائية في الحُسبان الأذنَ التي تكون الأقربَ من الهاتف في المُعتاد). وهكذا يتَّضح أن الاستخدام المنتظِم للهاتف المحمول قد يُسبب نشوء الأورام لدى ٠٫٠٠١ في المائة ممن يستخدمونها، أو لدى شخص واحد إضافي من كل ١٠٠٠٠٠ في تلك المجموعة.
هل ستمنع ماريا فيتشتينج أبناءها من استخدام الهواتف المحمولة؟ قطعًا لا، فهي تُفضِّل أن تعرف مكانهم وتستطيع الاتصال بهم. وقد نبَّهت أن النتائج ليست نهائية، وأن الدراسة محدودة النطاق، وأن نتائج مختلفة تمامًا قد تظهر عند دراسة عيِّنة أكبر. كما أنها ذكرت أن مِثل هذه المخاطر الظاهرة تتضاءل فيما يبدو كلما ظهر المزيد من الأدلة وأُجريت دراسات مَسحية أوسع نطاقًا. وبعد عامَين، حدث بالفعل أن أصدر فريقُ البحث العالمي الذي كان يدرُس التأثيراتِ الصحيةَ للهواتف المحمولة — ويُعرَف باسم إنترفون — وكان فريق بحث كارولينسكا جزءًا منه، تقريرًا آخرَ يستند إلى النتائج الجديدة التي أسفرَت عنها دراسةٌ على عيِّنة أكبر. وورَد فيه أنْ لا دليلَ قائمًا الآن على زيادة خطر ورم العصب السمعي بسبب الهواتف المحمولة، وأن الأدلة التي نتجت عن الدراسة السابقة لم تكُن سوى صدفةٍ إحصائية، محض مصادفة، وسُرعانَ ما بدَّدتها الدراسة الأكبر.
الكثير من الارتفاعات والانخفاضات في النِّسب المئوية الواردة في الإحصائيات المُتعلقة بالصحة أو الجرائم أو الحوادث أو غيرها من المجالات قد تعتريها المشكلةُ نفسُها التي لها الحلُّ نفسُه. لذا يُمكِننا أن نعتبر هذه الاستجابة استجابةً قياسية لأي خطر تردُ عنه التقارير؛ تخيَّلها كالفارق بين الرجلَين المُتسابقين. وعندما يجري إعلامك بأن أحد المُتسابقين/الخطِرَين يتجاوز الآخرَ بكثير، أو يفوقه كمًّا أو حجمًا، اسأل دائمًا: ولكن ما درجة الخطورة الأخرى؟ لا تكتفِ بإخباري بالفارق بين الاثنين. والأفضل من ذلك أن تلتزم تقارير المخاطر بحصر الأشخاص — وهو ما يفعله الناس بالسليقة — والتقليل من استخدام النِّسب المئوية إلى أقصى حد، واستخدام التَّكرار الطبيعي بدلًا منها. يُمكِننا حثُّ القائمين على صناعة الصِّحافة على ذلك، وعندئذٍ يُمكِننا جميعًا أن نسأل: كم عدد الأشخاص الإضافيِّين الذين قد يؤثِّر عليهم هذا الخطر من كل ١٠٠ شخص أو ١٠٠٠ شخص؟
•••
غير أن الخطورة هي أحدُ وجهَي عُملة اللايقين. أما الوجه الآخر، فهو لا يقلُّ عن الأول إثارةً للارتباك، كما لا يقلُّ عنه في الطابع الشخصي.
تخيَّل أنك مُواطنٌ كادح تعيش على حدِّ الكفاف، دائم التيقُّظ، لا تحظى بكفايتك من النوم، وأنَّ على مَقرُبة منك شخصًا عديمَ الإحساس جَهازُ إنذار سيَّارته معطوب. لا تقلق، نتفهَّم كيف سيكون شعورك حينئذٍ، ولو تحتَّم علينا ألا نتَّفق معك عندما تُقرر أنه إن لم يحُلَّ المشكلة على الفور، فستبحث عن مَضرب البيسبول الخاص بك.
يُخبرك جهاز الإنذار بصفيره الزاعق أن هناك مَن اقتحم السيارة، وتعلم من تجرِبتك الطويلة أن الإنذار لا يُفرق بين السرقة والاضطراب الذي تُحدِثه دراجةٌ بخارية عابرة. وتبدأ في تخيُّل الصافرة التي تسمعها كإشارة تحثُّك على تنفيذ انتقامك المُستحَق، أما ما يسمعه الإحصائي حينئذٍ، فهو ما يُسمى بالنتيجة الإيجابية الزائفة.
النتائج الإيجابية الزائفة هي النتائج التي تُخبرك بأن ثمة شيئًا مُهمًّا يجري، لكنها مغلوطة. كأن يتمَّ اختبارٌ ما، وتأتيَ النتائج بالإيجاب، ولكن على سبيل الخطأ؛ لأن الحقيقة أن النتيجة بالسلب. كل الاختبارات يصحبها خطرُ إنتاج النتائج الإيجابية الزائفة.
وهناك خطرٌ إضافي هو خطر الخطأ في الاتجاه الآخر؛ أي النتيجة السلبية الزائفة. النتيجة السلبية الزائفة هي أن تأتيَ النتيجة بالسلب عندما يكون المفترَض في الحقيقة أن تأتيَ بالإيجاب. كأن تستيقظ بعد ليلة لم يوقِظك فيها من نومك شيءٌ أن السيارة قد سُرِقت. وأن جهاز الإنذار — لحسن حظِّ السارق — لم ينطلق.
هناك العديدُ من الأنواع للنتائج الزائفة الإيجابية أو السلبية؛ بؤر السرطان الواردة في الفصل الثالث الذي تناولنا فيه مفهومَ الصدفة هي على الأرجح نتائجُ إيجابية زائفة، وفي مجال الصحة تحديدًا تُعَد هذه النتائج الزائفة مشكلة، حيث يُجري الناس التحاليلَ ثم تأتي النتائج لتُخبرهم بأن لديهم حالةً معيَّنة أو بأنها ليست لديهم. بعض نتائج التحاليل هذه تأتي خاطئة. عادةً ما يُعبَّر عن دقة التحليل بالنسبة المئوية: «الاختبار موثوقٌ بنسبة ٩٠ في المائة.» وقد وُجد أن الأطبَّاء — وليس المرضى فحسب — كثيرًا ما يلتبس عليهم الأمر عند تفسيرِ ما يعنيه الأمر بطريقةٍ تُركِّز على الأشخاص.
جيرد جايجرنزر عالم نفس، وهو مدير مركز السلوك التكيُّفي والإدراك في معهد ماكس بلانك في برلين. وقد طلب من مجموعة من الأطباء أن يُخبروه باحتمال أن يكون لدى أحد المرضى حالةٌ ما (كسرطان الثدي) عندما يتبيَّن من الفحص (التصوير الشعاعي للثدي) أن النتيجة إيجابية، علمًا بأن دقة الفحص في الكشف عمَّن لديهن الحالة تبلُغ ٩٠ في المائة، ودقته في الكشف عمن ليست لديهن الحالة ٩٣ في المائة.
وأضاف معلومةً مُهمة، وهي أن الحالة يُصاب بها ٠٫٨ في المائة من المجموعة الخاضعة للفحص، وهن مجموعة من النساء بين عُمرَي الأربعين والخمسين. من بين الأطباء الأربعة والعشرين الذين أمدَّهم بهذه المعلومات، لم يتمكَّن سوى اثنَين من احتساب الاحتمال الصحيح لإصابة المريضة بالمرض بالفعل. واقترب اثنان آخَران من الصواب، ولكن للأسباب غير الصحيحة. أما معظمهم فلم يُخطئوا فحسب، بل كانوا أبعدَ ما يكون عن الصواب. فقد أربكت النِّسبُ المئوية الخبراءَ كما تُربِك الآخرين جميعًا.
افترض عددٌ قليل منهم أنه نظرًا إلى كون الفحص دقيقًا بنسبة ٩٠ في المائة، فإن النتيجة الإيجابية تعني أن احتمال كون الحالة مُصابةً بالمرض يبلُغ ٩٠ في المائة، لكن الآراء تباينَت. علَّق جايجرنزر: «إذا كنت مريضًا، فلا لوم عليك إن أصابك هذا التباين في الآراء بالقلق». والحقيقة أن أكثر من تسعة من كل عشرة فحوص إيجابية تُجرى وَفقًا للافتراضات المُعطاة هي إيجابيةٌ زائفة؛ أي إن المريضة لا تكون مريضة حقًّا.
ولفهم السبب، اقرأ السؤال مرةً أخرى، ولكن بطريقةٍ بشرية مفهومة؛ أي بالتَّكرار الطبيعي.
تخيَّل ١٠٠٠ امرأة. في المعتاد، تُصاب ثمانٍ منهن بالسرطان، لكن نتيجة الاختبار الذي يتَّسم بدقةٍ نسبية وليست مُطلَقة تأتي إيجابيةً في ٧ حالات؛ أي إن نتيجةً واحدة تكون خاطئة. الحالات الباقية البالغ عددها ٩٩٢ غيرُ مُصابة بالسرطان، لكن تذكَّر أن الاختبار قد لا يكون دقيقًا بالقدر الكافي بالنسبة إلى هذه الحالات أيضًا. نحو ٧٠ منهن تأتي نتائجُهن إيجابية أيضًا. وهي النتائج الإيجابية الزائفة؛ أي إن هؤلاء النسوة أتت نتائجهن إيجابية، ولكنها خاطئة.
يُمكِننا الآن أن نُدرك بسهولةٍ أنه سيكون هناك نحو ٧٧ نتيجة إيجابية في المُجمَل (النتائج الإيجابية الصحيحة والزائفة معًا)، ولكن نحو ٧ من هذه النتائج فقط ستكون دقيقة. وهذا يعني أنه بالنسبة إلى أي امرأة جاءت نتيجة فحصها إيجابية، يُعَد احتمالُ كون النتيجة دقيقةً مُنخفضًا، وليس مُرتفعًا كما ظنَّ معظم الأطباء.
يُوضِّح جايجرنزر أن تَبِعات ذلك ليست هيِّنةً على الإطلاق؛ فهي تشمل الأذى النفسي، والتكلفة المالية، وإجراء المزيد من الفحوص، والخزعات، وقد تصل بالنسبة إلى قلة من ذوات الحظ العَثِر إلى استئصال الثدي بدون داعٍ. يقول جايجرنزر إن بعض هذه التبعات على الأقل تُعزى إلى الثقة الزائفة في يقينية الاختبار الذي هو في الحقيقة «دقيق بنسبة ٩٠ في المائة على الأقل.» إذا تم إبلاغ المريضات بالنتائج الإيجابية، مع إعلامهنَّ باحتمالية خطأ هذه النتائج، وهو ما قد يتحقق من خلال إحصاء الأشخاص بدلًا من الحديث بالنِّسب، فقد يُقلِّل ذلك بعض الأذى النفسي على الأقل. ولكن كيف تتولَّد هذه الثقة الزائفة؟ أحد الأسباب أن الأرقام المستخدَمة لا تتماشى مع الحَدس البشري للإحصاء.
انعدام اليقين حقيقةٌ من حقائق الحياة. لكن الأرقام — التي كثيرًا ما تتَّسم بالدقة — تُستخدم أحيانًا كما لو أن انعدام اليقين هذا لا ينطبق عليها. من المبادئ التي ينبغي ترسيخها أن الكثير من الأرقام غيرُ يقينية، وليس ذلك عيبًا يؤخذ عليها. حتى إذا بلَغَت نسبة الدقة ٩٠ في المائة، فإنها قد تنطوي على قدرٍ أكبر مما تتوقعه من عدم اليقين. ولما كانت الحياة غيرَ يقينية، ونظرًا إلى أننا نعلم ذلك من تجارِبنا، فالدرس الإنساني الذي يجب أن نتعلمه من ذلك هو ألا نتوقَّع أن تشذَّ الأرقام عن هذه القاعدة. فالأرقام قد تُوضح انعدام اليقين إذا استُخدمت على النحو الصحيح، لكنها تقِف عاجزةً عن التغلب عليه.
وبعد أن حاولنا الحدَّ من عادة التفسير المُفرِط للأمور، علينا أن نُحدَّ من نقيضها، وهو الميل إلى تجاهل كلِّ الأرقام. فكَونُ الأرقام عُرضةً للخطأ لا يعني أنها عديمة الفائدة، وكونُ معظم النتائج زائفةً لا يعني أن الفحص غير مُجدٍ. فهو يُقلِّل الاحتمالات على الأقل، حتى وإن لم يُحقِّق نسبةً من يقين تُقارِب ٩٠ في المائة. فمن جاءت نتائج فحوصهن إيجابية لم يزَل من غير المرجَّح أن يكنَّ مُصابات بسرطان الثدي بالفعل، لكن احتمال كونهنَّ مُصاباتٍ أكبرُ قليلًا مما كان عليه قبل أن يخضعنَ للفحص. أما من جاءت نتائجُ تحاليلهن سلبية، فقد أصبح احتمالُ كونهن مُصاباتٍ بالمرض أقلَّ مما كان عليه قبل خضوعهن للفحص.
•••
انعدام اليقين لا يعني الجهل المُطلَق، والأرقام لا تُعطي أي يقين، لكنها تُضيِّق نطاق جهلنا. وهذا التنبؤ الجزئي بمصيرنا هو إنجازٌ عظيم. لكن علينا أن نضع الأمور في نِصابها الصحيح، كما أن علينا أن نتعامل مع درجة الخطورة على النحو الصحيح، سواءٌ أكانت الخطورة مرجَّحة أم لم تكُن. وتُفيد الأدلَّة الوافرة بأن احتمال توصُّلنا إلى الحكم الصحيح على هذه الأمور يزداد إذا استخدمنا التَّكرار الطبيعيَّ وعدَّ الأشخاص، كما يفعل الناس، بدلًا من استخدام النِّسب المئوية. ليس المهمُّ بوجهٍ عامٍّ أن يكون رقمٌ ما صحيحًا أو خاطئًا (وغالبًا ما تكون الأرقام خاطئة)، لكن المهمَّ أن نعرف ما إذا كانت الأرقام خاطئةً للدرجة التي تجعلها مُضلِّلة. من الممارسات المتعارَف عليها بين الإحصائيِّين أن يذكُروا مدى خطأ أرقامهم الذي يتصوَّرونه، على الرغم من أننا قد لا نعرف حتى اتجاه خطأ الأرقام؛ أي ما إذا كانت الأرقام أكبرَ من الواقع أم أصغرَ منه. أفضل ما يُمكِننا فِعله للاحتياط عمَليًّا من احتمال كون الرقم سيئًا هو وضعُ تقدير لحجم الخطأ المحتمل، وهو ما يجري عادةً بتحديد نطاق التقديرات قبل أن نتيقَّن بنسبة ٩٥ في المائة من وقوع الإجابة الصحيحة في هذا النطاق (وهو ما يُعرَف بفاصل الثقة). على الرغم من أنه حتى إذا كان فاصل الثقة ٩٥ في المائة، فسيظلُّ هناك احتمال خطأ نِسبتُه ٥ في المائة. وفي هذا نوعٌ من التحفظ يتجاهله الإعلام كثيرًا. غالبًا لا يتَّسع وقت الأخبار لإعلامك بأن هناك نطاقًا واسعًا من التقديرات المحتملة، وأن المذكور ما هو إلا واحد من هذه التقديرات جيء به من نقطةٍ قريبة من المنتصَف، وربما لا يعتقد القائمون على الأخبار أن إعلامك بذلك مهم. لذا فإننا في نصف الحالات لا نعرف ما إذا كان الرقم بعيدًا عن الواقع بكثيرٍ وغيرَ جدير بثقة أحد، أم أنه رقمٌ يُعتقد صوابه اعتقادًا قويًّا.
نتَّهم الإحصائيِّين بالإيجاز المُخِل وتحويل العالم إلى أرقام، لكنَّ الإحصائيِّين يعرفون جيدًا أن أرقامهم تقديرية وقابلة للخطأ. والحقيقة أننا — نحن — من نُمارِس أسوأ أشكال الإيجاز المُخِل كلما تظاهَرنا بأن الأرقام تُعطينا يقينًا مطلَقًا. أي صحفي يتصرَّف كما لو أن نطاق اللايقين غيرُ مهم ويكتفي بتقديم رقمٍ واحد بدلًا من تقديم مدى الشك، يُسهم في إنتاج نتيجة مضلِّلة حمقاء يستنكف أيُّ إحصائي يحترمُ ذاته أن يتورَّط فيها. علم الإحصاء هو محاولةٌ لمواكبة عدم اليقين وفهمه، وليس لإنتاج اليقين. وعادةً ما يتَّسم علم الإحصاء بالصراحة في الإقرار بالشك، وعلينا أن نكون أكثر استعدادًا للمثل.
إذا وجدتَ نفسك يومًا تُفكر في رقمٍ ما وتتساءل: «كيف يمكنهم الجزمُ بهذه الدقة؟» فاعلم أن الإجابة أنَّهم على الأرجح لا يستطيعون الجزم، وأن من المرجَّح ألا يكون ما ذكروه دقيقًا، لكن تقريرهم تغاضى عن كل الشكوك لصالح الإيجاز. وإذا حدث في وقتٍ لاحق أن نضحَت الشكوك من التقرير، فمن المرجَّح أن يُجديَ البحث في معنى هذه الشكوك نفعًا.
إذا قبِلنا أن الأرقام ليست كالعرَّافين ولن تُخبرنا بكل شيء، لكنها قد تُخبرنا بشيءٍ ما، فإنها عندئذٍ تحتفظ بقدرةٍ مَهولة على الكشف عن مصيرنا الأرجح. قد لا تُشبع طريقة تقديم الأرقام الكثير من احتياجاتنا، لكن قدرتنا على أن نعرف تقريبيًّا تأثير تناول المشروبات الكحولية بانتظام على احتمال الإصابة بسرطان الثدي — في حدِّ ذاتها — مُذهلة. وإفراد تأثير الكحوليات من بين كل المؤثِّرات الحياتية الأخرى التي تتأثَّر بها صحتنا مهمةٌ عظيمة، والمُسوح الطبية التي تمكن من ذلك هي عملياتٌ عملاقة لتحليل البيانات. وبعد بَذل كلِّ هذه الجهود، من الفاضح ألا نستخدم هذه البيانات استخدامًا صحيحًا وألا نستمع إلى ما تقوله الأرقام، ولو قالته بتحفُّظ.