البيانات: معرفة المجاهيل
في بريطانيا، لا يعرف الموظَّفون الحكوميون الذين يحتلُّون أرفع المناصب ويُنفِّذون السياسات ويُقدِّمون المشورة بشأنها، في أغلب الأحيان، أيَّ شيء عن الإحصائيات الأساسية الخاصة بالاقتصاد أو المجتمع.
وعندما يُسأل طلاب الجامعات الأمريكيون عن الأرقام والإحصائيات الخاصة بالحياة الأمريكية، فإنهم يُخطئون في الإجابة في أغلب الأحيان، ويُفاجَئون عندما يعرفون الإجابات الصحيحة، لدرجةٍ تدفعهم إلى تغيير آرائهم عن السياسات على الفور.
الآراء القوية والمسئوليات الجِسام لا تَضمَن أن أصحابها يعلمون ولو أقلَّ القليل عن البيانات. لكن الأرقام لا تتساقط علينا كالفاكهة الناضجة من الشجر، بل لا بد أن يبذل شخصٌ ما جهدًا للتوصل إليها؛ لذا يشعُر البعض أن تناسيَ أمرها أسهلُ بكثير.
الكثير من الأمور التي تكشفها الأرقام يكتنفها الغموض، لكن جهل الناس بالكثير من الأشياء يُعزى إلى إهمالهم إياها، أو إلى الخطأ أو الخوف. وُضعت سياساتٌ خاطئة، بل ضارَّة أيضًا، بسبب الإحجام عن البحث عن الأرقام الواضحة في الوزارة المُجاورة لمَقرِّ عملِ واضعيها. ومات أشخاص بلا داعٍ في المستشفيات؛ بسبب عدم وجود إحصائية تُخبرنا بأن أشخاصًا كثيرين غيرهم كانوا قد ماتوا بالفعل.
الصعوبة الكُبرى فيما يتعلق بالأرقام لا علاقة لها بالأرقام في حدِّ ذاتها، بل بالتراخي في التعامل معها، وباللامُبالاة التي تصل إلى حدِّ الازدراء. لكن الأرقام، مع كل ذلك، قوية الأثر ومُقنِعة، وتُعَد أداةً مُتعددة الاستخدامات لتسهيل الفَهم والنِّقاش.
والأرقام هي أيضًا كل ما لدينا، وإهمالها بديلٌ صعب. من المفترَض أن يبدوَ كل ذلك لمن تُربِكهم الأرقام باعثًا للاطمئنان على نحوٍ غريب. فأولًا، هذا يعني أنك لستَ وحدك. وثانيًا، يُتيح ذلك فرصةً للمُضي قُدمًا. كل ما عليك هو أن تُولِيَ صحةَ الأرقام عنايةً كافية، وأن تتعامل معها بجِدِّية، وعندئذٍ ستكون في طريقك إلى التمكين.
•••
في محادثات وندواتٍ عديدة خلال السنوات العشر الماضية على الأقل، طُرِح على موظَّفين من ذوي المناصب الأرفع، وصحفيِّين، والعديد من رجال الأعمال والأكاديميين في بريطانيا، أسئلةٌ لاختيار إجاباتها الصحيحة من بين عددٍ من الاختيارات، ودارت الأسئلة حول حقائقَ أساسيةٍ عن الاقتصاد والمجتمع. وطلب بعضٌ من هؤلاء عدمَ الكشف عن أسمائهم مُراعاةً لوضعهم أو مكانتهم السياسية. وحسنًا فعَلوا عندما طلبوا ذلك.
إليك عينةً من الأسئلة، بالإضافة إلى إجابات مجموعة محدَّدة تتألَّف من خمسة وسبعين إلى مائة من كبار الموظَّفين الحكوميِّين في سبتمبر ٢٠٠٥. ولن يكون من العدل أن نكشف عن هُويَّتهم، لكن من المعقول أن نقول إنك كنتَ بلا شك ستأمُل أن يفهم هؤلاء الاقتصاد. (خضعَت الإجابات لبعض التقريب؛ لذا لن يكون مجموع كل الإجابات ١٠٠ في المائة، ولم يُجِب الجميع عن كل الأسئلة.)
ما نسبة ما يدفعه الواحد في المائة من سكان المملكة المتحدة الذين يَجنون أعلى الدخول من إجمالي قيمة ضرائب الدخل التي تُدفع في المملكة المتحدة؟ | |
النسبة هي … | نسبة من اختاروا كل إجابة ٪ |
(أ) ٥٪ من إجمالي ضرائب الدخل | ١٩ |
(ب) ٨٪ | ١٩ |
(ﺟ) ١١٪ | ٢٤ |
(د) ١٤٪ | ١٩ |
(ﻫ) ١٧٪ | ١٩ |
كانت الإجابات كلُّها خاطئة. فقد كانت الإجابة الصحيحة أن أصحاب الدخول الأعلى يدفعون ٢١ في المائة من إجمالي ضريبة الدخل التي تُحصَّل. قد يبدو من غير العادل أنهم لم يُمنَحوا فرصة اختيار الإجابة الصحيحة؛ لذا فمن المنطقي أن نُشِيد بمن اختاروا أكبرَ رقم مُتاح، وهو ١٧ في المائة. كل الآخرين ابتعَدوا عن الصواب، واعتقد ثُلثا المشاركين أن الإجابة هي ١١ في المائة أو أقل، وهو ما يقرُب من نِصف الرقم الحقيقي، ويُمثل درجةً مُرعبة من الجهل بالنسبة إلى مناصبهم. فتحليل تأثير نظام الضرائب وتأثير التغيُّرات التي تطرأ عليه يُفترَض أنه من أهمِّ واجبات هذه المجموعة من الأشخاص، لكنهم ببساطة لم يعرفوا من يدفع ماذا. أما المفاجأة الأخرى التي لا يقلُّ وقعُها عن كون هذا العدد القليل منهم هم فقط من عرَفوا الإجابة الصحيحة فهي أن إجاباتهم ربما كانت قد اختِيرت عشوائيًّا. وليس هناك ما يُوحي بوحدة الرؤية بين المشاركين. إذا كنت تُشارك في برنامج «من سيربح المليون؟» وطُرِح عليك هذا السؤال، فلرُبَّما اعتقدتَ أن جمهورًا من هؤلاء هو الأقدرُ على إجابتك. لكن أمَلك كان سيَخيب.
ما قيمة الدخل «بعد الضرائب» الذي يجب أن يَجنيَه شريكا حياة لا يُعيلان أطفالًا ليكونا من أعلى ١٠ في المائة من الناس دخلًا؟ | |
القيمة هي … | نسبة من اختاروا كلَّ إجابة ٪ |
(أ) ٣٥٠٠٠ جنيه إسترليني | ١٠ |
(ب) ٥٠٠٠٠ جنيه إسترليني | ٤٨ |
(ﺟ) ٦٥٠٠٠ جنيه إسترليني | ٢١ |
(د) ٨٠٠٠٠ جنيه إسترليني | ١٩ |
(ﻫ) ١٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني | ٣ |
الإجابة الصحيحة هي ٣٥٠٠٠ جنيه إسترليني. وقد يصعُب على البعض تصديقُ أن ٣٥٠٠٠ جنيه إسترليني بعد خصم الضرائب تكفي لجعل شريكَي حياة (عند جمع دخلَيهما، إذا كان لكلٍّ منهما دخلٌ مُنفصل) من أعلى ١٠ في المائة من الناس دخلًا. وهو رقمٌ مُهم وله دلالته، وجدير بأن يكون معلومًا. لكن ١٠ في المائة فقط من المجموعة عرَفوه. الإجابة الأكثر تَكرارًا «٥٠ ألف جنيه إسترليني» كانت تزيد عن القيمة الحقيقية بنحو خمسين في المائة. ومع ذلك اعتقدَ ٩٠ في المائة من مجموعةٍ من الأشخاص قوامها نحوُ خمسة وسبعين شخصًا وظيفتهم تحليلُ اقتصادنا والمساعدة في وضع السياسات أن الناس يَجْنون أكثر بكثير مما يَجنون بالفعل، وكان أكثرُ من ٤٠ في المائة منهم مُخطئين إلى حدِّ السُّخف.
بأيِّ قدرٍ يزيد حجم اقتصاد المملكة المتحدة الآن «الدخل القومي للمملكة المتحدة بعد احتساب التضخم» عما كان عليه عام ١٩٤٨؟ | |
النسبة هي … | نسبة من اختاروا كل إجابة ٪ |
(أ) أكبر بنسبة ٥٠٪ | ١٠ |
(ب) ١٠٠٪ | ٢٥ |
(ﺟ) ١٥٠٪ | ٤٢ |
(د) ٢٠٠٪ | ١٧ |
(ﻫ) ٢٥٠٪ | ٥ |
الإجابة الصحيحة أن الاقتصاد الآن أكبر بنسبة ٣٠٠ في المائة مما كان عليه عام ١٩٤٨. وهذا سؤالٌ آخر لم تكُن الإجابة الصحيحة من ضِمن الاختيارات المُتاحة له. ولكن نظرًا إلى أن ٥ في المائة فقط من المجموعة اختاروا الاحتمالية الأعلى، يبدو أن معظم المشاركين لم يكُن لديهم أدنى فكرة عن الإجابة الصحيحة. فقد نَما الاقتصاد في هذه المدة بنسبةٍ متوسِّطها ٢٫٥ في المائة في العام. لكن أكثر من ثلاثة أرباع المجموعة اختاروا إجابات لو صحَّت لكان معناها أن معدَّل النمو نِصفُ ما كان عليه فعلًا أو أقلُّ من ذلك، وأن ثراءنا نِصفُ ما هو عليه في الواقع. وهذا خطأٌ كبير؛ فالعلم بسرعة نموِّ اقتصادٍ ما من أبسط أساسيات المعرفة بعلم الاقتصاد؛ لذا كانت الإجابات صادمة.
يتلقَّى ٧٨٠٠٠٠ من العائلين الوحيدين المساعدات المرتبطة بالدخل. فكم عدد من هُم دون سن ١٨ عامًا منهم؟ | |
العدد هو … | نسبة من اختاروا كل إجابة ٪ |
(أ) ١٥٠٠٠ | ٢٩ |
(ب) ٣٠٠٠٠ | ٢١ |
(ﺟ) ٤٥٠٠٠ | ٠ |
(د) ٦٠٠٠٠ | ٢١ |
(ﻫ) ٧٥٠٠٠ | ٢٩ |
كان الرقم الصحيح لعام ٢٠٠٥ هو ٦٠٠٠. لذا يجدُر الثناء على من اختاروا الخيار الأصغر. لكن يبدو أنَّ هناك اعتقادًا شائعًا في هذه المجموعة وفي أماكن أخرى بأننا نُواجه وباءً من الأمَّهات المُراهقات — وهو هدفٌ سياسي شائع — حيث يعتقد نِصفُ أفراد المجموعة أن المشكلة أسوأ مما هي عليه ١٠ مرَّات على الأقل، وكان البعض سيختارون إجاباتٍ أعلى بلا شكٍّ إذا كانت ضِمن الاختيارات.
لقد كان أداء جميع المجموعات في الإجابة عن هذه الأسئلة ذات الاختيارات المُتعددة على مرِّ السنين شائنًا على الدوام. ولذلك تبِعاتٌ مُهمة؛ فإذا أردت فكرةً أساسية للغاية عن طبيعة هذا البلد، فمن الصعب أن يتخيَّل المرء أن هذه الفكرة يمكن أن تُكتسَب بدون أن يعرف — ولو بالتقريب — كم تبلُغ الدخول الشائعة. فإذا كنت تتوقَّع أن تُعلق على عبء الضرائب، فما احتمال أن يكون تعليقك جديرًا بالاستماع إليه إذا لم تكُن لديك أدنى فكرة عمَّن يقع على كاهلهم عبءُ الضرائب؟
•••
البروفيسور مايكل راني أيضًا يُحبُّ طرح الأسئلة. فهو أكاديميٌّ من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، ولديه الكثير من الطلاب الشباب المُتنوِّرين وأصحاب الرأي الذين يُمكنه تجرِبة الأمور عليهم، لكنه يحرص على وضوح أسئلته. ومع ذلك لا يتوقع أن يعرف الطلبةُ الإجاباتِ بدقة؛ فاهتمامه الأول أن يعرف ما إذا كانت لديهم فكرةٌ قريبة من الواقع عن إجابات أسئلته. على سبيل المثال، كم عدد المُهاجرين الشرعيِّين في الولايات المتحدة في العام لكل ١٠٠٠ شخص مقيم في الولايات المتحدة؟ وكم عدد الأشخاص الذين يُحتجَزون من كل ألف شخص؟ وكم عدد السيارات المُتاحة لكل ألف سائق؟ وكم عدد أجهزة الكمبيوتر لكل ألف شخص؟ وكم عدد حالات الإجهاض؟ وكم عدد حالات القتل لكل مليون ساكن؟ وما إلى ذلك.
فيما يتعلق بحالات الإجهاض وبالهجرة، ٨٠ في المائة ممن طُرِحت عليهم الأسئلة بنَوا آراءهم على معلوماتٍ بعيدة عن الدقة فيما يتعلق بالمعدَّلات الأساسية. فعلى سبيل المثال، عادةً ما يُقدر طلاب أحد كليات النخبة أن معدَّل الهجرة الشرعية السنوي ١٠ في المائة من السكان الحاليِّين للولايات المتحدة (أي إن من بين ٣٠٠ مليون نسمة، هناك ٣٠ مليون مُهاجر شرعي كلَّ عام). في حين خمَّن آخرون — من غير الطلاب — أرقامًا أعلى.
كان المعدَّل الفعلي ٠٫٣ في المائة. أي إنه حتى التقديرات الأقل كانت أعلى من الواقع أكثرَ من ثلاثين مرة. إذا ارتكب كاتبَا هذه السطور خطأً مُكافئًا في الأعداد بأنْ زعمَا أن طول قامة كلٍّ منهما لا يقلُّ عن خمسين مترًا، فالأرجح أنك ما كنت ستأخذ آراءهما عن طول قامة البشر، ولا عن أي شيء آخر، على مَحمل الجد. وفي الغالب كنت ستنصحُهما بأن يُغلِقا فمَيهما.
تبايَنت تقديرات الطلاب لعدد حالات الإجهاض بشدة، ولكن الرقم الذي توسَّط نِطاق الآراء كان نحو ٥٠٠٠ حالة لكلِّ مليون حالةِ ولادة لجنينٍ حي. وكان الرقم الفعلي في الولايات المتحدة حينئذٍ (عام ٢٠٠٦) ٣٣٥٠٠٠ لكلِّ مليون حالةِ ولادةٍ لجنين حي، وهو رقمٌ يفوق التقديرات الشائعة بسبع وستين مرة. وهذه الإجابات — اقتباسًا لعبارة الفيزيائي وولفجاج بولي — ليست غيرَ صحيحة فحسْب، بل بعيدةٌ جدًّا عن الصواب لدرجة أنها لا تُعتبر خاطئةً حتى.
الخطوة التالية كاشفةٌ بالقدر نفسِه. فعندما اكتشف الطلاب الأرقام الحقيقية، أحدَث ذلك فارقًا. فقد اعتقد عددٌ أكبر منهم أنه يجب أن يحدُث انخفاضٌ كبير في حالات الإجهاض. ومن بينِ من اعتقدوا في أول الأمر أن حالات الإجهاض ينبغي أن يُسمح بها دائمًا، مالت آراءُ البعض إلى تفضيل تقييده إلى حدٍّ ما. ولن نُعلِّق على صحة هذه الآراء أو عدم صحتها. لكننا نُلاحظ تأثيرَ البيانات الواضحَ عليهم.
يقول البروفيسور راني إنه إذا دُعِي الناس أولًا إلى التخمين، ثم صُحِّحت تخميناتهم، فإنهم سيشعرون بمفاجأةٍ تفُوق تلك التي كانوا سيشعرون بها لو أُخبِروا بالرقم الصحيح ببساطة في أول الأمر. وقد تبيَّن أن المُفاجأة مُفيدة. فهي تُساعد على تذكُّر الرقم الصحيح، وتجعل تغيير الآراء حول السياسات أرجح. أما بالنسبة إلينا، فالدرس المُستفاد أبسطُ من ذلك. وهو أن العديد من المُتعلمين الذين يُدْلون بآرائهم عن الأرقام التي تُعبِّر عن صميم القضايا الاجتماعية والاقتصادية ليست لديهم في واقع الأمر أدنى فكرة عن حقيقة هذه الأرقام. ولكنهم — وهو المهم — يُغيِّرون حُجتهم بالفعل عندما يكتشفون الحقيقة.
وإليك مثالًا آخرَ من جعبة مايكل راني: الأعداد غير المتوقَّعة الواردة في إجابات الطلاب عن معدلات الوفَيات الناتجة عن أمراضٍ عديدة دعَتهم إلى توفير مخصصات مالية لتتبُّع هذه المعدلات عن كثب. في بداية الأمر، كانوا يَميلون إلى المبالغة في تقدير معدل الوفَيات الناتج عن أمراض مِثل سرطان الثدي مقارنةً بأمراض القلب — ومن ثَم خصَّصوا ١٠٠ دولار في البداية لهذا الغرض. وبمجرَّد أن اكتشفوا الأرقام، حوَّلوا المزيد من الأموال لأمراض القلب. ويبدو هذا العمل الرائع له دلالةٌ قوية، على نقيض النظرة المُتشكِّكة، وهذه الدلالة هي أن الآراء ليست منيعةً أمام البيانات، وإنما البيانات الدقيقة تؤثِّر في آراء الناس بالفعل. ويبدو لنا الاعتمادُ على الحدس أو الآراء المسبقة باعتبارها أحدَ البدائل عن استخدام البيانات غير مبرَّر، ولو كان شائعًا.
للجهل قائمةٌ طويلة من الأعذار. السخرية أسهلُ بكثير من البحث عن الفهم الصحيح. ويسهُل أيضًا أن نقول إن الأرقام ليست مهمةً أو إنها خاطئة على أي حال؛ لذا لا يأبهُ بها أحد، أو أن نقول إننا نعرف كل الأشياء المهمة بالفعل. وعندما تترسَّخ هذه الآراء المسبقة، تكون النتائج كارثية.
•••
عندما تُوفي جوشوا لافداي وهو ابنُ ثمانية عشر شهرًا على سرير العمليات في عيادة بريستول الملكية، بدأت سلسلةٌ من التحقيقات، وتحوَّلَت القضية لاحقًا إلى فضيحة. وتبيَّن من تحقيقٍ لاحق أشرفَ عليه البروفيسور إيان كينيدي أن الأطفال الذين يخضعون لعمليات جِراحية لعلاج بعض حالات القلب في بريستول، يموت عددٌ منهم يُساوي بالضبط ضعفَ المعدل الشائع وطنيًّا. ووُصفت القضية بأنها واحدةٌ من أسوأ الأزمات الصحية في تاريخ بريطانيا.
بدأت الحقائق تتكشَّف عندما وصل طبيبُ تخدير يُدعى الدكتور ستيف بولسين إلى بريستول قادمًا من أحد مستشفيات لندن. فوَجد أن جِراحات قلب الأطفال تستغرق وقتًا أطوَل مما اعتاده، وأن المرضى يظلُّون على أجهزة مجازة القلب لأوقاتٍ أطوَل، فقرَّر أن يكتشف أثر ذلك، وكان قد اشتبهَ بالفعل في أن معدلات الوفَيات كانت مُرتفعة إلى حدٍّ غير طبيعي. ففتَّش هو وأحد زملائه في البيانات، ومنها اكتشفا ما ظنَّاه دليلًا مُقنِعًا على ما يُطلَق عليه في الطب زيادة معدل الوفَيات.
تباطأ القائمون على المستشفى في الاستجابة في أول الأمر، وبعد أن حرَّك موت جوشوا المياهَ الراكدة، وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف تغمرُهم الرِّيبة، والضغط عليهم من الصحافة والجمهور لإجراء تحقيقات. وجاء أولُ غيث التحقيقات من جرَّاح وطبيب قلب خارجي، ثم من المجلس الطبي العام (وكان أطولَ تحقيق أجراه المجلسُ في تاريخه)، وبعدهما تحقيقٌ ثالث أجراه فريقٌ مستقلٌّ يقوده السير إيان، أسفر في النهاية عن النتيجة التي مُفادها أن ثلاثين إلى خمسة وثلاثين طفلًا على الأرجح ماتوا بلا مُبرر.
اعتقد معظم المُتورِّطين أنهم على دراية بمدى فعالية إجراءاتهم وأنها لا تقلُّ فعاليةً عن تلك التي تُجرى في أي مستشفيات أخرى. غير أن أحدًا منهم لم يكُن على دراية بالأرقام، ولا بالفارق بين معدَّل الوفَيات لديهم وفي المستشفيات الأخرى.
وهناك نقطةٌ مهمة لم تجذب كثيرًا من الاهتمام ذلك الحين؛ فقد كان الحزن والغضب من الحقائق المحضة قد طغَيا على كل شيء، لكن أعضاء فريق التحقيق رأوا أنه لو لم تكن نسبةُ زيادة الوفَيات ١٠٠ في المائة (ضِعف الحالات الطبيعية)، وكانت ٥٠ في المائة بدلًا من ذلك، لكان من الصعب الجزمُ بأن القائمين على بريستول قد تجاوَزوا حدود المقبول بالفعل. أي إنه إذا كان ١٥ إلى ١٧ طفلًا قد ماتوا بلا مُبرر بدلًا من العدد الذي استقرَّت عليه التقديرات وهو ٣٠ إلى ٣٥ طفلًا؛ فلرُبَّما استحال استنتاج وجود أي شيء خاطئ. فالتخلُّف عن المستوى المُعتاد بنسبة خمسين في المائة قد يعتبره البعض معدلًا صادمًا من الفشل، خاصةً عندما يكون الفشل مُرادفًا للموت. فلماذا تحتَّم أن يكون معدل الوفَيات أسوأ بنسبة ١٠٠ في المائة قبل أن يتيقَّن فريق التحقيق من استنتاجاته؟
قال الجرَّاحان اللذان ألقى عليهما الجمهور باللائمة على ما حدث إنه حتى بالأرقام المُتاحة، ليس من الممكن إثباتُ أن أداءهما كان سيئًا (والقائمون على التحقيق أنفُسهم تردَّدوا في لوم الأفراد بدلًا من النظام في بريستول بوجهٍ عام، وقالوا إن «قصة قسم جِراحة قلب الأطفال في بريستول ليست قصةَ أشخاص سيِّئين. وكذلك ليست قصةَ أشخاص لا يكترثون أو يؤذون المرضى عمدًا»).
كانت زيادةُ عدد حالات الوفاة بنسبة ١٠٠ في المائة عن المعتاد تُمثل فارقًا كبيرًا، خاصةً بالنظر إلى عدد الأطفال المُتأثرين، بل كان الرقم كبيرًا بما يكفي ليُمثل واحدةً من أسوأ الأزمات الطبِّية في تاريخ بريطانيا، وحتى في ذلك الحين ظلَّت النتيجة مثارًا للجدل.
يُفترض أن تكون الإجابة عن الأسئلة البسيطة التي تقود إلى الحقيقة أمرًا يسيرًا؛ كم عدد العمليات التي أُجريَت؟ وكم عدد حالات الوفاة؟ وما الفرقُ بين هذا العدد والأعداد المعتادة؟ أتُراها بسيطة؟ اعلم إذَن أن التحقيق استغرق ثلاثة أعوام.
كانت أودري لورانس إحدى أعضاء فريق التحقيق في قضية بريستول، وهي خبيرةٌ في جودة البيانات. سألناها عن مدى الاهتمام بحفظ السِّجلَّات على النحو المُلائم وبجودة البيانات عن أداء الجرَّاحين في بريستول. سألنا أولًا: من الذي يحفظ السِّجلَّات؟
«وجدنا أنه كان بالإمكان أن نحصُل على بياناتٍ خام لسجلِّ جرَّاحي القلب في المملكة المتحدة، وهي البيانات التي جرى جمعُها من خلال نماذج استبيان منذ ١٩٨٧، وكانت مخزَّنة في مِرآب أحد الأطباء. لم يكُن لذلك أيُّ علاقة بوزارة الصحة، وهذا مَربط الفَرس. أي إن النماذج كانت تُجمَع مركزيًّا على يدِ طبيب واحد، دفعه إلى ذلك الاهتمام الشخصي، وهو من كان يُدخل البيانات في سِجلَّاته الخاصة ويضعُها في مِلفَّات في المرآب.» ولم يكُن هناك أي مصدر مركزي آخَر للبيانات المُتعلقة بعمليات القلب ونتائجها.
وكان السؤال التالي: ما مدى موثوقية البيانات؟
«وَفقًا لتجرِبتي الخاصة في جمع البيانات في المستشفيات، كان الغالبُ ألا تتَّسم تلك البيانات بالدقة. وساورَنا قلقٌ بالغٌ حول جودة البيانات. لم يكُن لدينا سوى هذه النماذج؛ لذلك طُفنا بالوحدات كلٌّ على حِدة لنطَّلع على الإجراءات المتَّبَعة. وجاءت النتيجة كما توقَّعنا؛ فقد تبيَّن الافتقاد الشديد إلى الإحكام، والتباين الشديد في طريقة جمع البيانات، وأثارت الكثير من الأرقام الرِّيبة. كان جمع البيانات يحتلُّ مرتبةً متأخِّرة على قائمة الأولويات (بالنسبة إلى المستشفيات)، وكانت الأرقام تُحصى على عجَل فقط ليكون أيٌّ منها مُتاحًا في نهاية اليوم.»
وإذا كنا سنستنتج من هذا شيئًا، فما هو؟
«اتَّفقت النتائج إلى حدٍّ ما في الإشارة؛ أي إن عدد حالات الوفاة في بريستول كان استثنائيًّا بالفعل، فقد فاقت المعتاد بنسبة ١٠٠ في المائة، ولكن لو كانت نسبة الزيادة قريبة من ٥٠ في المائة، لما سمحت لنا جودة البيانات بالتيقُّن من أن بريستول كانت حالةً استثنائية. كنَّا متأكِّدين، وكان اختلافُ الأرقام عن المُعتاد إلى هذا الحد هو سببَ تأكُّدنا.»
وهل يعني هذا الاستنتاج أنه ربما توجد أماكن أخرى مِثل بريستول بها زيادة في معدَّل الوفَيات يصعُب اكتشافها لكون نِسبتها نحوَ ٥٠ في المائة؟
«بلا شك.»
من المُثير للقلق — وربما لأكثر من ذلك — أن الاهتمام بجودة البيانات قد يكون قاصرًا لدرجةِ افتقادنا حتى الآن إلى أبسطِ تدابير جودة الرعاية الصحية التي نرغب فيها بشدة وأوضحها — سواءٌ ترتَّب على علاجنا النجاةُ أو الموت — وهو وجود درجة مقبولة من الدقة. لماذا استحالت كلَّ هذا الوقت الإجابةُ عن مِثل هذه الأسئلة؟ والإجابة، جزئيًّا، أن المهمة أصعبُ من المتوقَّع. ولكن هذا يُعزى أيضًا إلى عدم احترام البيانات في المقام الأول؛ نظرًا إلى تعقيداتها والعناية المطلوبة لفهمها. كثيرًا ما تكون البيانات فاسدة نظرًا إلى أن ما يُبذَل للتوصُّل إليها من جهدٍ يُبذَل على مضض، وبدون تفكير كافٍ، وكذلك بسبب الاستخفاف بالمهمة باعتبارها قدرًا مُفرِطًا من الكتابة. أي إن البيانات في حقيقة الأمور تخرُج فاسدة لأننا نُفسِدها بأنفُسنا.
•••
ولترى لماذا تَحيد عملية جمع البيانات عن الصواب، سنضرب لك مثالًا بهفوةٍ بسيطة في النظام، أخبرَنا بها ديفيد هاند، البروفيسور في إمبيريال كوليدج بلندن. فقد تبيَّن من مسحٍ أُرسِل بالبريد الإلكتروني إلى أطباء المستشفيات أن عددًا مُنافيًا للمنطق منهم وُلدوا يوم ١١ نوفمبر ١٩١١. فما الذي كان يجري وسبَّب ذلك؟
تبيَّن أن كثيرين منهم تكاسَلوا عن مَلء كل الخانات على جهاز الكمبيوتر، وعندما وصلوا إلى خانة تاريخ الميلاد، حاوَلوا أن يضغطوا ٠٠ أمام خانة اليوم، و٠٠ أمام خانة الشهر، و٠٠ أمام خانة العام. ولما كان واضعو نظام الكمبيوتر مُدرِكين لهذا الاحتمال، فقد أعدُّوا النظام لرفضه وإجبار الأطباء على إدخال بيانات أخرى. فما كان من الأطباء إلا أن ضغطوا الرقم المسموح التاليَ ستَّ مرات: ١١ / ١١ / ١١؛ ولهذا تبيَّن في اكتشافٍ صادم أن خدمة الصحة الوطنية بها الكثيرُ من الأطباء الذين تجاوزوا سنَّ التسعين.
حاوِل أن تَقيس شيئًا بدائيًّا للغاية عن الناس، مِثل تاريخ ميلادهم، وستجدهم غيرَ مُتعاونين؛ وذلك لأسبابٍ تتفاوت بين الإرهاق أو ضِيق الصدر أو الكسل أو الامتعاض من الأسئلة السخيفة، أو اقتناعهم بأنَّ طارحي هذه الأسئلة يعرفون أجوبتها على الأغلب أو لا يحتاجون إلى معرفتها في الحقيقة؛ وستجد لدى الناس ميلًا إلى الإقدام على أيِّ عدد من التصرفات الواقعية والطبيعية تمامًا كالتي يفعلها البشر، والتي يُمكن لأيٍّ منها إفشال مَسعاك. يبدأ الوعي بهشاشة الأرقام بالإقرار بالتصرفات المضطرِبة التي يُقدِم عليها الناس.
قال لنا البروفيسور هاند: «الفكرة المثالية عن مصدر الأرقام تقول إن شخصًا ما يقيس شيئًا ما، فيخرُج الرقم دقيقًا ويُضاف مباشرةً إلى قاعدة البيانات. تلك الفكرة أبعدُ ما يمكن عن الحقيقة.»
لذا عندما وُجدت النماذج الخاصة بتَعداد عام ٢٠٠١، مضمومةً في رِزَم ومُلقاةً في سلة النُّفايات أو على مَمسحة الأحذية حيث ألقاها مسئولو التعداد في نهاية يوم مُنهِك من الطُّرق على الأبواب وعدم الترحيب بهم، أو تخلص منها الساكنون الذين لم يرَوا من ذلك نفعًا يُرجى، وعندما حدثَت محاولة لإفساد إجابات الأسئلة الخاصة بالانتماء الديني عمدًا بحملة بالبريد الإلكتروني تشجَّع الناس على الإجابة: «من فرسان الجيداي» (وهم من شخصيات فيلم حرب النجوم)؛ وعندما اعتبر البعضُ أن العملية كلَّها مؤامرةٌ تستحضر شخصية «الأخ الكبير» وتستهدف المُواطنين، فأخفَوا أكبر قدرٍ ممكن من التفاصيل، ثم انكشف ذلك كلُّه وأكثرُ في سلسلةٍ فاضحة من أوجُه القصور التي شابت الأرقام، ماذا عسانا أن نتوقع عندما يُستهان بالأرقام بهذه السهولة؟
لا تجري عملية العد بصورةٍ ميكانيكية على الإطلاق. ولكي تفهم الأرقام التي تَزخَر بها الحياة، ابدأ باللحم والدم. فمن يُنفِّذون الإحصاءَ بَشر، قد تكون منهم من هي قلِقة على كلبها الذي يحتاج إلى أن يفحصه البيطري، أو شخصٌ آخر يحلُم بالمَوعد الغرامي القادم، فضلًا عن ذلك، فمن يخضعون للإحصاء هم أيضًا بشرٌ آخَرون. ما يُسبِّب خطأ الإحصائيات في أغلب الأحيان هو الخرقُ والخطأ الذي نرتكبه جميعًا. وهذه المخاطر لا تتَّضح جليَّةً بالوسائل الإحصائية الغامضة، بل بالتماهي مع الطبيعة البشرية. ينبغي أن نبدأ بمعالجة تعقيداتنا وأوجُه ضعفنا، وأن نسأل أنفُسنا هذه الأسئلةَ البسيطة: «من الذي نفَّذ الإحصاء؟» و«كيف جرى الإحصاء؟» و«ما سِماتي الطبيعية؟»
في عام ٢٠٠٦، وُزِّع نحو ٦٥ مليار جنيه إسترليني من قيمة منح حكومية وأسعار تِجارية على الحكومة المحلية، وهو رقمٌ كبير يُمثل ٢١ جنيهًا إسترلينيًّا للشخص في الأسبوع وَفقًا لأعداد السكان التي نتجَت عن التَّعداد، لكن جميع الجهات المُستفيدة، مِثل الخِدمات الاجتماعية والنوادي الشبابية، رفضت تلقِّيَ هذه الأموال. تعتمد الكثير من الأمور على دقة التعداد. وفي عام ٢٠٠٦ كانت التحضيرات لتَعداد ٢٠١١ تجري على قَدم وساق بالفعل، «كانت الخمس سنوات مدةً قصيرة للتحضير لهذه المهمة المَهولة التي تتطلب ١٠٠٠٠ مسئول تَعداد، وكان من المتوقَّع أن تتكلف نحو ٥٠٠ مليون جنيه إسترليني، أي ما يقرُب من ٨ جنيهات إسترلينية لكل بالغ وطفل في البلاد». وعقَد بعض الإحصائيين المسئولين عن إنجاح التعداد مؤتمرًا عن المخاطر المحتملة.
ولم تكُن «المخاطر» التي قصدوها سِوانا جميعًا؛ مسئولي التَّعداد، والخاضعين للتعداد، والساسة الذين كانوا أحيانًا يُشجعون الناس على عدم التعاون، والإحصائيين الذين كانوا — بطبيعتهم البشرية — يفشلون في توقُّع كلِّ المصاعب البشرية. فكلنا مجرَّد مخاطر. وهناك مخاطر فنية أيضًا، وما يمكننا أن نُسميَه أحداثًا قدَرية، مِثل انتشار الحُمى القلاعية في منتصف التعداد الماضي، لكن المخاطر البشرية — في رأينا — هي الأصعب. ويمكن أن يتحسَّن العمل إذا كفَّ الناسُ عن التقليل من شأن البيانات.
•••
من الأشياء التي لا يُلاحظها الكثيرون عن الأرقام التي تملأ الحياة العامة أن الكثير من الأرقام المهمَّة مفقودة، وليس معروفًا سوى القليل منها. من أهم الدروس التي ينبغي أن يعيَها من يعيشون في خوف من الأرقام ويخشَون أنهم لا يعرفون شيئًا أن هؤلاء الأشخاص أنفُسَهم يُشاركون الكثير من المعلومات مع من يدَّعون معرفة الكثير من الأمور.
وفيما يتعلق بسِجلَّات المرضى، يتسبَّب تدفُّق البيانات في نطاقٍ واسع من المشكلات البشرية. ففي كل مرة يذهب فيها شخص إلى المستشفى، يُسجل ما يجري معه في مذكرة. وتُترجَم هذه المذكرة إلى كود لكل نوع من الإجراءات. لكن ما يجري مع المريض قد لا يتطابق بالضبط مع أيٍّ من الأكواد المُتاحة، فأمراض الناس قد تكون عشوائيةً في نهاية المطاف؛ فقد يصلون إلى المستشفى وهم يشتكون من علة بعينها ثم تحدُث مضاعفات، أو يصلون وهم يشتكون من عِدَّة عِلل ثم يتعيَّن اختيارُ علة بعينها لتُسجَّل في النماذج. ولا يكون التحقُّق من وضوح النماذج وإحاطتها بكل التفاصيل المطلوبة من أولويات المستشفى دائمًا. وكثيرًا ما تظهر الفجوات. يُساعد بعض الأطباء مسجِّلي الأكواد في فهم مذكراتهم، ويُحجِم فريقٌ آخر منهم عن ذلك. بل إن بعض الأطباء يتعاملون مع المنظومة كلِّها بعُدوانية. وبعض مسجِّلي الأكواد مدرَّبون جيدًا، وفريقٌ آخر منهم يُعْوزهم التدريب. وعلى الرغم من أنه من المفترَض أن تعمل كل المستشفيات وَفقًا للأكواد نفسِها، فإن بعضها لا يلتزم بذلك، ومن هنا تتسلل التباينات؛ فالمستشفيات في الحقيقة تجري إحصاءاتها بطُرقٍ مختلفة. ثم تُرسل البيانات — مترجمةً إلى أكواد — عبر ثلاثة مستوياتٍ وظيفية في خدمة الصحة الوطنية قبل أن تُنشَر. وليس من النادر ألا يتعرف أحدُ المستشفيات على البيانات التي خرَجَت منه بعد مرورها بالمستويات البيروقراطية المختلفة.
ومنذ قضية بريستول، ظهر المزيد من الأنظمة لاكتشاف أي أداء غريب في خدمة الصحة الوطنية. ولكن هل تُعَد هذه الأنظمة جيدةً بما يكفي لاستبعاد وجود أماكن بها زيادة في معدَّل الوفَيات يتعذَّر علينا اكتشافُها؟ تُجيب أودري لورانس عن هذا السؤال بالنفي.
وليس هذا أقصى ما قد تتسبَّب فيه هذه الصعوبة في جمع البيانات في خدمة الصحة. استحدَثَت خدمة الصحة في إنجلترا وويلز نظامًا يُتيح للمرضى الاختيار. فقد أصبح لدينا الآن وعدٌ بأن نحظى بحقِّ اختيار المكان الذي نودُّ تلقِّيَ العلاج فيه، بالتشاور مع المُمارِس العامِّ المُتابع لحالة كلٍّ منا، من بين خمسة مستشفيات كبداية، على أن تتَّسع دائرةُ الاختيار في الوقت المُناسب لتشمل خدمة الصحة كلها.
كان الساسة — ولم يزالوا — متيقِّنين من أن البيانات الصحيحة تُسهل اختيار الوجهة التي يمكننا فيها تلقِّي أفضل علاج. فقد قال ألان ميلبرن الذي كان وزيرَ الدولة للصحة حينئذٍ: «أُومنُ بأن النشر العامَّ لن يؤدِّيَ فقط إلى جعل خدمة الصحة أكثر انفتاحًا، لكنه أيضًا سيُساعد في رفع المعايير في جميع أجزاء خدمة الصحة الوطنية.» وقال جون ريد عندما كان يَشغَل المَنصب نفسَه: «سيَحظى الكادحون في هذا البلد بحرية الاختيار، وسيحصُلون على معلوماتٍ عالية الجودة، وستكون لديهم سيطرةٌ على مستقبلهم وصحتهم، شئنا أم أبَينا.»
مَربط الفَرس في المقولة الأخيرة هو عبارة «معلومات عالية الجودة». فبدونها يستحيل الاختيارُ الفعلي. فكيف لنا أن نعرف المكان الأمثل لتلقِّي العلاج؟ وكيف لنا أن نعرف كم ستكون مدةُ الانتظار؟ لا يمكن ذلك إلا من خلال بيانات شاملة تعقد المقارنةَ بين مستوى نجاح طبيب وآخر، أو مستشفًى وآخر، أو بين قائمة انتظار وأخرى. وتأخذ هذه البيانات في أغلب الأحيان شكلًا كَميًّا.
في وقت كتابة هذه السطور، وبعد مرور عدة سنوات على حقبة تولِّي السيد ميلبرن لمنصبه، وانتقال السيد ريد أيضًا إلى وظيفةٍ أخرى، أفضل المعلومات العالية الجودة المُتاحة من خلال نظام «اختيار المريض» هو ما يُمكِّنه من مقارنة أماكن انتظار السيارات والمقصف في المستشفيات، أما عن الأداء في العمليات الجِراحية، فلا شيء مُفيد. غير أنَّ هناك استثناءً واحدًا، ولو لم يكن جزءًا راسخًا من نظام اختيار المريض. في جِراحة القلب، أنشأ الجرَّاحون مَوقعًا على الإنترنت لأنفُسهم به إمكانية بحث تشمل كلَّ جرَّاحي القلب في البلد، وتُدرَج بجوار صورة كلٍّ منهم معدلات النجاح والفشل التي تقع عليهم مسئوليَّتها في كل العمليات التي يُجْرونها (وسيُعدَّل قريبًا ليُظهِر معدَّلات النجاح في العمليات التي أجرَوها فعليًّا). ولكن هذا بدَوره لا يتضمَّن تصنيفًا لمدى خطورة الحالات التي تولَّوا علاجها؛ لذا فلا يمكننا أن نعرف ما إذا كان الجرَّاح ذو النتائج الأسوأ هو في الحقيقة الجرَّاحَ الأفضل الذي يتولَّى الحالات الأكثرَ صعوبة. وبخلاف ذلك، بيانات الوفَيات مُتاحة للمستشفيات كلٌّ على حِدة، وليست مُتاحةً باستمرار للجمهور من خلال نظام اختيار المريض. ومع ذلك يمكن التوصُّل لهذه البيانات بالإصرار في البحث، وفي بعض الأحيان تُنشَر في الصُّحف.
وفي ويلز، يبدو أنها ليست مُتاحةً للجمهور على الإطلاق. فلأكثر من عام، وبالتَّزامُن مع بي بي سي ويلز ومركز الاقتصاد الصِّحي في يورك، حاوَلنا أن نُقنِع جهاتٍ عديدةً تابعةً لهيئة الصحة الويلزية بالإفصاح عن عدد الأشخاص الذين يموتون في كل مستشفًى أو بالسماح لنا بالاطلاع على إحصائيات المستشفيات لنتمكَّن من إجراء الحسابات باستقلالية. فكانت شدةُ مقاومة الإفصاح عن هذه المعلومات الأساسية مُحيرةً وكاشفة في الوقت نفسه. تتعلَّل خدمة الصحة الويلزية بأن البيانات قد تخترق سِرية المرضى، لكنها ترفض الإفصاح حتى عن إجمالي عدد الوفَيات لعموم البلاد، وهو العدد الذي ينعدم معه خطر انكشاف هُويَّة أي مريض. لذا لا نعرف كيف كان مستوى أداء المنظومة بأكملها حتى في هذا الصدد، ناهيك عن كل مستشفًى على حدة. صحيح تمامًا أن البيانات تحتاج تحليلًا دقيقًا نظرًا إلى احتمال تسبُّب بعض الظروف المحلية الخاصة في التأثير على معدل الوفَيات، بيدَ أن هذا لا يُعَد عذرًا كافيًا لمعاملتها كأسرار الدولة. وفي إنجلترا، كان الأكاديميون ووسائل الإعلام قادرين على الاطلاع على مِثل هذه المعلومات لاثنَي عشَر عامًا. ولا يبدو أن المرضى في إنجلترا قد تعرَّضوا لانتهاكاتٍ شديدة لخصوصيَّتهم بسبب ذلك. تُخبِرنا السُّلطات الويلزية أنها الآن تبدأ في إجراء تحليلها الخاص للبيانات. أما السماح للجمهور بالاطلاع عليها فهذا شأنٌ آخر.
لم تكُن هذه البيانات لتجعلنا نُحرِز تقدمًا كبيرًا على أي حال؛ فعبارة «الأمور على ما يُرام، ستُواصل العيش» تُعَد مِقياسًا قاصرًا لجودة معظم العلاجات، ولا تنطبق — كما نأمُل — على عملية استبدال مَفصِل الوَرِك على سبيل المثال. معظم الناس يريدون إرشادًا عن جودة الرعاية الصحية التي سيحصُلون عليها لا يقتصر على إخبارهم بما إذا كانوا سيُواصلون العيش من بعده، لكن هذه العبارة ستكون بدايةً على الأقل، وقد تُنبهنا إلى أي مشكلات خطيرة إن وُجدت.
أفضل تطوير ممكن لأداء الحكومة وعملية وضع السياسات في بريطانيا هو إرساءُ ثقافة احترام البيانات، وبذلُ الجهود المناسبة في جمع المعلومات الإحصائية وتفسيرها بعناية وإخلاص، وإعلاءُ قيمة الإحصائيات باعتبارها وسيلةً للفهم، والاجتهاد في التوصل إلى دلالات الإحصائيات التي بين يدَينا بالفعل، بدلًا من الاكتفاء باعتبارها أداةً سياسية.
وما الذي يمكن لكلٍّ منا فِعله بنفسه؟
في بعض الأحيان يحاول كلٌّ منا استجماع شجاعته. وقد ينجح ذلك ولو نسبيًّا؛ فكلٌّ منا يعرف أكثرَ مما يظنُّ أنه يعرف. لقد تطرَّقْنا إلى تسهيل الإحصائيات بإضفاء الطابع الشخصي عليها، والتأكُّد من أنها تحمل معنًى إنسانيًّا. وقد يُجدي اتباعُ مُقاربة مُماثلة نفعًا عندما تُحاول أن تعرف رقمًا ما وتشعر أنك تفتقد لأدنى فكرة عنه.
إليك مثالًا غيرَ متوقَّع استخدمناه مع الجماهير في أرجاء المملكة المتحدة وعلى محطة راديو ٤. كم عدد محطات البنزين في المملكة المتحدة؟
الكثيرون لا يعرفون الإجابة ويُصيبهم السؤالُ بالحَيرة. لكن إضفاء الطابع الشخصي على السؤال يُقرِّبنا كثيرًا من الإجابة. فكِّر في المنطقة التي تعيش فيها، أو — على وجه التحديد — في منطقةٍ تعرف عدد سكانها. ينطبق ذلك بالنسبة إلى معظمنا على البلدة أو المدينة التي نسكُنها. والآن فكِّر في عدد محطات البنزين في هذه المنطقة. قد يصعُب ذلك إذا كنتَ قد نقلت سكنك إلى المنطقة حديثًا، لكن هذه مهمةٌ سهلة نسبيًّا بالنسبة إلى معظم البالغين، ويبدو الناسُ بارعين جدًّا فيها. والآن اقسِم عدد السكان على عدد محطات البنزين. وهذا يُعطيك عدد السكان لكل محطة بنزين في منطقتك. بالنسبة إلينا كانت الإجابة محطة بنزين واحدة لكل ١٠٠٠٠ شخص. معظم الناس يُجيبون بأن هناك محطةً لكل ٥٠٠٠ شخص إلى ١٥٠٠٠ ألف شخص.
نعلم أن إجماليَّ عدد سكان المملكة المتحدة نحو ٦٠٠٠٠٠٠٠. لذا فكلُّ ما علينا فِعله هو قسمة عدد السكان الإجمالي على عدد السكان لكل محطة بنزين حسَب تقديرنا. فإذا كانت هناك محطة بنزين واحدة لكل ١٠٠٠٠ شخص، تكون الإجابة ٦٠٠٠ محطة بنزين. وإذا كانت هناك محطة لكل ٥٠٠٠ شخص، تكون الإجابة ١٢٠٠٠ محطة بنزين. الإجابة الصحيحة هي ٨٠٠٠ محطة تقريبًا. والشاهد أن الجميع تقريبًا يُمكنهم التوصُّل إلى إجابة قريبة من الصواب بتحليل الأمور بهذه الطريقة. ويمكن باستخدام الأفكار نفسِها التوصلُ إلى إحصائياتٍ قريبة من الدقة لعدد المدارس أو المستشفيات أو الأطباء أو أطباء الأسنان أو متاجر السوبر ماركت خارج البلدة.
كل ما يحدُث هو أننا بدلًا من أن ننهزم بجهلنا بالإجابة الدقيقة، يمكننا استخدامُ المعلومات المُتاحة لدينا للتوصل إلى إجابةٍ قريبة من الصواب، وهو كل ما نحتاج إليه في أغلب الأحيان. ما دُمنا نعرف شيئًا له صلة بالسؤال، يُفترض أن نكون قادرين على محاولة التوصل إلى الإجابة. لا نعجز تمامًا عن الإجابة إلا إذا كان السؤال عن شيء ليس لدينا أيُّ خبرة به.
وإليك أفضلَ مثال أمكنَنا التوصلُ إليه في هذا الصدد: «كم عدد البطاريق في القارَّة القطبية الجنوبية؟» في هذه الحالة، يتبيَّن بالفعل أنك إذا لم تعرف الإجابة سلفًا، فلن يُساعدك أيٌّ مما تعرف في الاقتراب منها. وبخلاف البطاريق، ستُفاجأ بقدرِ ما تعرفه بالفعل.