الفصل السابع عشر
دور القطاع الخاص
اقتصاد المدرجات الرياضية
تُقدِّم الحكومة خدماتٍ عامةً معينةً لا غنى عنها، لا يمكن تصوُّر المجتمع من
دونها، وبطبيعتها لا يمكن إسنادها إلى شركةٍ خاصة.
بول إيه صامويلسون
إذا تلقيت دورة دراسية في الماليات العامة، فسوف تتعرض دومًا لمسألة «السلع العامة»
التي يصب الجدل فيها لصالح الحكومة، وتتلخَّص في أن بعض الخدمات لا يمكن ببساطةٍ الحصول
على إنتاجٍ كافٍ منها من القطاع الخاص، مثل المدارس، والمحاكم، والسجون، والطرق،
والرعاية الاجتماعية، والمنارات.
وقد سُلط الضوء على مثال المنارات كسلعةٍ عامةٍ تقليديةٍ في مرجع بول صامويلسون الدراسي
الشهير منذ عام ١٩٦٤: «إن أشعتها الضوئية تساعد الجميع على مرمى البصر. ولا يمكن لرجل
أعمالٍ أن يبنيَها بغرض الربح؛ إذ ليس بإمكانه مطالبة كل مستخدمٍ بسعرٍ مقابلها.»
1 بعبارةٍ أخرى، بما أنه لا يمكن لأحدٍ أن يمنع الضوء من أن تراه جميع السفن،
بصرف النظر إن كانت السفينة قد دفعت مقابل هذه الخدمة القيِّمة أم لا، فلا أحد سيدفع
دون أن
يكون مجبرًا على ذلك من خلال فرض ضريبةٍ حكوميةٍ أو رسومِ ميناء.
ولكن قد لا يكون الأمر كذلك؛ فقد كشف الاقتصادي بجامعة شيكاجو، رونالد إتش
كوس، عن أن العديد من المنارات في إنجلترا كانت تُشيَّد وتُمتلَك من قِبل أفرادٍ وشركاتٍ
خاصةٍ قبل
القرن التاسع عشر. وكانوا يَجنون أرباحًا من خلال فرض رسوم مرورٍ على السفن الراسية على
الموانئ القريبة. وكانت ترينيتي هاوس مثالًا ممتازًا لشركةٍ ذات ملكيةٍ خاصةٍ تمنح عقد
امتيازٍ في عام ١٥١٤ لتشغيل المنارات وتحصيل رسم مرورٍ من السفن مقابل استخدامها. وكانت
تكلفة المنارة تُدرج ببساطةٍ ضمن رسوم الرسوِّ في الموانئ.
ومضى صامويلسون يوصي بتمويل المنارات من الإيرادات العامة. ولكن وفقًا لِكوس، لم
يجرب
هذا النظام التمويلي قط في بريطانيا: «لا تزال الخدمة في ترينيتي هاوس تُموَّل من رسوم
المرور المفروضة على السفن.»
2
الأمر الأكثر إثارةً للدهشة أن كوس كتب هذا المقال المبدع في عام ١٩٧٤، إلا أن
صامويلسون استمر في استخدام المنارة كنموذجٍ لسلعةٍ عامةٍ مثاليةٍ لا يستطيع توفيرَها
سوى
الحكومة. وبعد تعنيفي صامويلسون علنًا لعجزه عن الاعتراف بما كشف عنه كوس،
3 اعترف صامويلسون أخيرًا بوجود مناراتٍ خاصةٍ «في عصرٍ سابق» في حاشيةٍ
في الطبعة السادسة عشرة من مرجعه الدراسي، إلا أنه أصر على أن المنارات الخاصة لا تزال
تعاني من
مشكلة الاستفادة المجانية.
4
حلول خاصة للخدمات العامة
لا تُعَدُّ المنارةُ النموذجَ الوحيدَ لسلعةٍ عامةٍ يمكن لمؤسسةٍ خاصةٍ التكفُّل بتوفيرها؛
فهناك طريق خاص ذو رسومٍ في جنوب كاليفورنيا. وتدير شركة «واكنهوت كوريكشنز» سجونًا
حكوميةً من أجل الربح. وتوفر المدارس الكاثوليكية مستوًى تعليميًّا أفضل من المدارس
العامة. وتقدم كنيسة المورمون خطةَ رعايةٍ اجتماعيةٍ أفضل من برنامج الإعانات الغذائية
التابع لوزارة الزراعة الأمريكية. وتقوم شركة هابيتات فور هيومانيتي بتشييد منازل
للفقراء المعيلين.
والآن، ولأول مرةٍ خلال ٣٨ عامًا، يوجد مدرج بيسبول يشيَّد من قِبل مؤسسةٍ خاصة،
وهو استاد إيه تي آند تي بارك، المقر الجديد لفريق سان فرانسيسكو جاينتس. فبعد أن
رفض الناخبون في منطقة الخليج أربع مبادرات اقتراعٍ لتخصيص أموالٍ حكوميةٍ لإحلال
وتجديد استاد كاندل ستيك بارك المهجور، الذي لا يتردد عليه عدد كافٍ من الرواد،
تعاون بيتر ماجوان، أحد ورثة سيفواي آند ميريل لينش، مع مستثمرين محليين لشراء
النادي، وبمساعدة قرضٍ من بنك تشيس بضمان أوراقٍ ماليةٍ قيمتُه ١٥٥ مليون دولار، قام
ببناء الاستاد الجديد بتكلفة ٣٤٥ مليون دولار. كما أمَّن المُلَّاك عقود رعايةٍ ضخمة
من باسيفيك بل، وسيفواي، وكوكاكولا، وتشارلز شواب.
وحتى الآن لا يزال الاستاد الكروي ذو الملكية الخاصة يُحقِّق نجاحًا مدويًا؛ إذ
تباع ٣٠ ألف تذكرة لمباريات الموسم المهمة للاستاد الذي يسع ٤١ ألف مقعد، وتنفد
تذاكر مباريات الفريق التي يلعبها على أرضه. كان مُلَّاك الفرق الأخرى، الذين تتلقى
مدرجاتهم دعمًا ماليًّا باهظًا، في ريبةٍ من أمرهم، ولكن بعض مُلَّاك الفرق قاموا
بزيارة الاستاد الجديد للوقوف على ما قاموا به، ومن بينهم جورج شتينبرينر، الذي
يبني استادًا جديدًا لليانكي بتكلفةٍ تبلغ مليار دولار.
5
الاقتصاديون يهاجمون التمويل الحكومي
ربما يكون التمويل الخاص للمنشآت الرياضية قد تأثَّر بدراستين حديثتين متعمقتين
لاقتصاديين متخصصين يهاجمون الساحات الرياضية التي تتلقى دعمًا حكوميًّا؛ ففي كتاب
Major League Losers، درس مارك روزينتروب بجامعة إنديانا (وأحد كبار المشجعين الرياضيين) تمويل المدرجات
الرياضية في
خمس مدنٍ وأوضح على نحوٍ دقيقٍ أن الرياضات الاحترافية تُنتج القليل جدًّا من الوظائف
أو
التأثيرات التي تزداد اتساعًا في المجتمع، بل إنها تنتزع النشاط التجاري من محال الترفيه
والطعام
في الضواحي، وغالبًا ما تترك البلديات في مواجهة خسائر ضخمة.
6
وقد توصلت دراسة أجراها معهد بروكينجز لنتائج مماثلة؛ فبعد تفقُّد منشآتٍ رياضيةٍ
كبيرةٍ في سبع مدن، وجد كلٌّ من روجر جي نول (ستانفورد) وأندرو زيمباليست (سميث
كوليدج) أن هذه الساحات المحلية لم تكن مصدرًا للنمو الاقتصادي المحلي والتوظيف،
وأن صافيَ الدعم المقدَّم لها تجاوز المنفعة المالية للمجتمع.
7
وتؤكد هذه الدراسات التجريبية واحدًا من المبادئ الراسخة للمالية العامة، وهو
مبدأ المحاسبة: ينبغي على المستفيدين أن يدفعوا مقابل الخدمات التي يستخدمونها. ومن
المدهش كثرة انتهاك السياسيين لهذا المبدأ الأساسي. على سبيل المثال، حاول جون
هنري، وهو تاجر سِلَعٍ تبلغ قيمة نشاطه ٣٠٠ مليون دولارٍ ومالك فريق مارلينز
للبيسبول، أن يُمرِّر عبر المجلس التشريعي لولاية فلوريدا مشروعَ قانونٍ لفرض ضريبةٍ
على
ركَّاب البواخر السياحية للمساعدة في تمويل ملعبٍ رياضيٍّ جديدٍ لولاية ميامي (لحسن
الحظ عارض حاكم المدينة آنذاك، جيب بوش، مشروع القانون).
اقتصاديو الرياضة
لا يُعَدُّ مبدأ المحاسبة المثالَ الوحيدَ الذي يطبِّق فيه الاقتصاديون علم الاقتصاد
على البيسبول والرياضات الأخرى؛ فالمقايضات، وتكاليف الفرصة البديلة، والحوافز تُعَدُّ
جوانبَ مهمةً أيضًا للعبة.
أطلق جيه سي برادلي، الأستاذ المشارك بجامعة ولاية كينسو وجامعة ساوث، اسمًا على
تطبيق علم الاقتصاد على الرياضة؛ إذ يطلق عليه سابرنوميكس
sabernomics. والمقطع
الأول
saber مشتق من الجمعية الأمريكية لأبحاث البيسبول (
SABR اختصارًا).
يجمع علم السابرنوميكس بين الطرق التحليلية والإحصائية ومبادئ الاقتصاد؛ فهو يختبر
العديد من النظريات المتنوعة باستخدام تحليل الانحدار المتعدد وطرق الاقتصاد
القياسي الأخرى. على سبيل المثال، لماذا يضرب الرماة في الدوري الأمريكي عددًا أكبر
من الضاربين مقارنة بالدوري الوطني؟ إحدى الفرضيات في ذلك أن الحوافز الخاصة بضرب
الضاربين قد تغيرت حين تبنَّى الدوري الأمريكي قاعدة الضارب المختار في عام ١٩٧٣،
بينما ظل الدوري الوطني يلعب من دونها. وذهب بعض الاقتصاديين إلى أنه مع قاعدة
الضارب المختار، كان الرماة في الدوري الأمريكي يستطيعون الإفلات بضرب اللاعب
الضارب؛ إذ لم يكن الرامي يُضطر إلى الذهاب من أجل الضرب والمجازفة برد الضربة إليه.
منذ
عام ١٩٢١ حتى عام ١٩٧٢، لم يكن هناك فارق كبير بين الدوريين فيما يتعلق بضرب اللاعب
الضارب. ولكن بدءًا من عام ١٩٧٣، حين اعتُمدت قاعدة الضارب المختار من قِبل الدوري
الأمريكي فقط، كان معدل ضرب اللاعب الضارب دائمًا أعلى في الدوري الأمريكي. ومن عام
١٩٧٣ حتى عام ٢٠٠٥، كان معدل ضرب الضارب أعلى بنسبة ١٥ بالمائة في الدوري الأمريكي
من الدوري الوطني. ويخلص البروفيسور جيه سي برادلي
8 إلى أن «هذا دليل قوي على أن
الرماة يستجيبون ﻟ «فروق السعر» في ضرب الضاربين وفقًا لقانون الطلب.»
ثَمَّةَ قضية أخرى في رياضات الدوريات الكبرى هي ميزة المدن الكبرى المزعومة. هل
تحظى
فرق الأسواق الكبيرة بميزةٍ طبيعيةٍ عن الأندية في الأسواق الصغيرة؟ يشكو النقاد من
أن مدنًا مثل نيويورك، ولوس أنجلوس، وشيكاجو لديها مميزات جَلية عن الأسواق الأكثر
صِغرًا مثل سياتل، وسينسيناتي، وتامبا. غير أنهم يميلون إلى تجاهُل الاستثناءات لهذه
القاعدة؛ ففريق اليانكيز، على سبيل المثال، لم يَفُزْ بالمباريات الفاصلة على مدى
١٣ عامًا بين عامَي ١٩٨١ و١٩٩٥. غير أن الدليل واضح؛ فوفقًا للدراسات الخاصة بعدد
مرات الفوز لكل موسمٍ مقارنةً بحجم الأسواق، هناك ميزة واضحة، وإن كانت هامشية، لفرق
الأسواق الكبيرة.
9 وتستخدم الاتحادات الرياضية مجموعةً متنوعةً من الطرق لمنع الأسواق
الكبيرة من السيطرة، مثل: (١) قرعات الترتيب العكسي؛ حيث تحصل أسوأ الفرق على أفضل
اللاعبين الجدد أولًا. (٢) ضريبة الرفاهية، التي تُلزم الفِرق التي تتجاوز رواتب
لاعبيها مبلغًا محددًا بدفع نسبةٍ معينةٍ (تصل إلى ٤٠ بالمائة) فوق ذلك المبلغ
للاتحاد. (٣) تقاسم الإيرادات؛ بحيث تُمنح الفِرق ذات الإيرادات المنخفضة أموالًا
أكثر. المثير في الأمر أن مُحافظ الاحتياطي الفيدرالي السابق إدوارد «نيد» جرامليتش،
أحد قدامى مشجعي البيسبول، كان مدير فريق العاملين بلجنة الدراسات الاقتصادية على
دوري البيسبول الرئيسي، وهي هيئة رفيعة المستوى تأسست من أجل إيجاد طرقٍ لدعم الفرق
المتعثرة ماديًّا. وفي عام ١٩٩٢، أوصت اللجنة ببرنامجٍ للفرق الأكثر ثراءً لتمرير
بعضٍ من أرباحها للفِرق الأفقر. وقد تبنَّى اتحاد البيسبول هذه الخطة لتقاسم
الإيرادات عقب إضرابٍ وقع في عام ١٩٩٤.
غير أن بعض الاقتصاديين ينتقدون تقاسم الإيرادات؛ لأنه يخلق حافزًا سلبيًّا
للفوز، «إن ربط الإيرادات بالفوز من شأنه أن يخلق حافزًا قويًّا للإدارة لدفع
الفِرق الفائزة نحو المنافسة؛ فقد يُفضِّل مالك إحدى فرق الأسواق الصغيرة الذي يحصل
على نصيبٍ من إيرادات فِرق الأسواق الكبيرة العيشَ على نقل الثروة على هذا النحو عن
أن يقوم بتشكيل فريقٍ جيد.»
10