من هو هنري سبيرمان؟
لذا، إن كان هناك نموذج واقعي لسبيرمان، تظل هويته لغزًا، على الأقل بالنسبة إليَّ.
الآن ننتقل إلى شيءٍ مرح. في أثناء الصيف الماضي، أخذتُ راحةً من الكتابة وقررتُ قراءة ثلاث رواياتٍ بوليسية، جميعها من تأليف مارشال جيفونز، وهو اسم مستعار لويليام بريت وكينيث جي إلزينجا، أستاذَي العلوم الاقتصادية بجامعة ترينيتي بسان أنطونيو وجامعة فيرجينيا، على التوالي.
الاقتصاد الأساسي يا عزيزي واطسون
يكمن سر روعة وإبهار هذه القصص البوليسية في الأسلوب الإبداعي البارع لمؤلفيها في دمج المبادئ الأساسية للاقتصاد لحل لغز الجرائم؛ فالمنفعة الحدية، وقانون الطلب، وفائض المستهلك، وتكلفة الفرصة، وتعظيم الربح، ونظرية الألعاب، ويد آدم سميث الخفية؛ كلها تلعب دورًا في تطوُّر أحداث القصص والإمساك بالمجرمين في النهاية. وكما يقول هنري سبيرمان، المخبر البطل، لمحقق الشرطة المحلية في «جريمة على الهامش»: «الأساسي يا عزيزي فنسنت. أعني الاقتصاد الأساسي!»
دعني أقدم لك مثالًا من كل رواية، دون الإفصاح عن الحبكة بأكملها. في «جريمة على الهامش» (مطبعة جامعة برينستون، ١٩٧٨؛ طُبعت بغلافٍ ورقيٍّ عام ١٩٩٣)، يستطيع سبيرمان استبعاد السيدة فورتي كمشتبهٍ بها في قتل زوجها؛ لأن «أي امرأةٍ عادةً ما تصبح أفضل حالًا ماديًّا عن طريق الطلاق من زوجها أكثر بكثيرٍ من قتله.» ونفقة السيدة فورتي على مدار فترة حياتها المتوقعة ستتجاوز استحقاقات الوفاة التي ستحصل عليها من بوليصة التأمين على حياة زوجها. لا بد أن شخصًا آخر قد قتل السيد فورتي.
في الرواية الثانية «التوازن المميت» (مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ١٩٨٥؛ بالانتاين بوكس، غلاف ورقي، ١٩٨٦)، يكشف سبيرمان الستار عن واقعة غشٍّ في بحثٍ لزميلٍ له من أساتذة هارفارد؛ فمن خلال مراجعة كتاب الأستاذ الجامعي عن أسعار العديد من السلع في جزيرة نائية، يكتشف سبيرمان إحصائيةً تنتهك قانون تعظيم المنفعة. وسرعان ما يستنتج الشرطي السري أن زميله قد لفَّق الأرقام … ولذلك تورط في جريمة القتل لإخفاء بحثه المزيف.
في الرواية الثالثة، «فتور قاتل» (كارول آند جراف، ١٩٩٥)، يساق سبيرمان للاشتباه في شخصٍ يشتري سيارة على الرغم من توافر سيارةٍ أخرى بحالةٍ أفضل بنفس السعر، ليستنتج سبيرمان أنه من الواضح أن المشتبه به يُقدِّر شيئًا في السيارة الأولى لتبرير الفارق النقدي بين السيارتين، ويقوده ذلك الشيء إلى القاتل.
الدفاع عن السوق الحرة
ثَمَّةَ سمة محببة أخرى، هي التحيُّز للسوق الحرة المنتشرة في سلسلة الألغاز؛ فتجد هنري سبيرمان دائم الدفاع عن التحرر الاقتصادي ومهاجمة الفكر الاشتراكي؛ فهو يدعم التجارة الحرة، واللامساواة الاقتصادية، والمنافسة غير الشريفة، وحقوق الملكية الخاصة. والاقتصادي يستعين بأصحاب العقائد الجماعية من جميع الأطياف: علماء الإنسان، وعلماء الاجتماع، وخبراء البيئة، والديمقراطيين الاجتماعيين، والكينزيين، والماركسيين.
من هو هذا الاقتصادي المؤيد للسوق الحرة؟
من هو هنري سبيرمان، هذا المؤيد البارز للأسواق الحرة؟ يوصف سبيرمان بأنه أستاذ جامعي قصير، أصلع، عنيد، رث الثياب، كان رئيسًا للجمعية الاقتصادية الأمريكية، وابنًا ﻟ «مهاجرَيْن يهوديَّيْن مُعدِمَيْن». ويعترف بريت وإلزينجا بأنهما كانا بالأساس يفكران في ميلتون فريدمان، إلا أن سبيرمان قادم من هارفارد بدلًا من جامعة شيكاجو. ويعلن سبيرمان في «جريمة على الهامش» قائلًا: «لا يوجد شيء اسمه العشاء المجاني.» ومثل فريدمان، يتسم سبيرمان بأنه شخص عتيق الطراز، إذ يستخدم الورقة والقلم، بدلًا من الكمبيوتر، لحل المسائل. غير أن محور تركيز المخبر السري المغمور ينصبُّ بلا جدلٍ على الاقتصاد الجزئي بحكم طبيعته، وليس السياسة النقدية أو التنظير الشامل.
سوف يسعد الاقتصاديون النمساويون بإيجاد قدرٍ كبيرٍ من لودفيج فون ميزس في هنري سبيرمان أيضًا. (أشكر روجر جاريسون أستاذ الاقتصاد بجامعة أوبرن على هذه الملاحظة.) فالمخبر-الاقتصادي يدافع عن قانون ساي، والأسواق الاقتصادية، والإعلان، والمنافسة، والنقود السلعية، وحتى الازدواجية المنهجية. ويعلن سبيرمان أن «الاقتصاد يختلف عن الكيمياء؛ فالمناهج والطرق مختلفة، وما يسري في مكانٍ ليس بالضرورة يسري في مكانٍ آخر» («التوازن المميت»). وفي رواية «فتور قاتل»، يلقي الأستاذ الجامعي الجليل خطبةً لا تلقى قبولًا أمام هيئة التدريس بجامعة هارفارد في منتصف الستينيات من القرن الماضي، تنبَّأ فيها بانهيار الرأسمالية لكونها «لا تتسق مع كل ما نعرفه عن دوافع الفعل البشري». ومثل ميزس، الذي تكهَّن باستحالة الحساب الاقتصادي الاشتراكي، تعرَّض سبيرمان للسخرية بسبب موقفه المتطرف.
أقرب إلى بيكر
كذلك يُحبِّذ سبيرمان، شأنه شأن بيكر، تعريف ألفريد مارشال للاقتصاد بوصفه «دراسة الإنسان في سياق الحياة العادي». «كان سبيرمان يأخذ هذا التعريف بجديةٍ على الرغم من اعتباره تعريفًا قديمًا بعض الشيء لبعضٍ من زملائه الأصغر سنًّا الذين كانوا يرَوْن الاقتصاد حلًّا لألغازٍ مجردةٍ لا علاقة لها بالأحداث الواقعية» («جريمة على الهامش»). يكتب المؤلفان أن سبيرمان حاصل على تدريبٍ في الإحصاء، ويدمج «معاييره المنطقية العالية» مع «الأدلة التجريبية» («التوازن المميت»). وثَمَّةَ اتساق بين تطبيق جاري بيكر المخلص لمبادئ الاقتصاد الجزئي على حل المشكلات مع أسلوب عمل سبيرمان. قد لا يبدو شبيهًا بسبيرمان، ولكنه يتصرَّف مثله.
إن بريت وإلزينجا لَيستحقان التهنئة لما قاما به من وضع طريقةٍ مبتكرةٍ وبارعةٍ لشرح مبادئ اقتصاديات السوق الحرة وتوضيحها. وكان المردود مبهجًا ومرضيًا؛ فالكثير من الأساتذة الجامعيين يجعلون من «جريمة على الهامش» والروايتين الأخريين من القراءات المطلوبة في فصولهم. وأنصحك بأن تضعها على قائمة قراءاتك الصيفية.
يا حبذا لو أن بريت وإلزينجا فكَّرا بعقلَيْهما المبدعَيْن معًا للخروج بمسرحيةٍ على غرار مسرحيات برودواي بعنوان «قضية اليد الخفية الغامضة»!