جدل الاقتصاد البيئي
إن الوعد البراق بألفيةٍ جديدةٍ صار قاتمًا بفعل التهديدات غير المسبوقة لمستقبل الإنسان.
نحن نعلم أن البيئة ليست في حالةٍ جيدة … وأرى أن الأمور في تحسُّن.
كان بيورن لومبورج، وهو أستاذ دنماركي في علم الإحصاء، ناشطًا بيئيًّا وعضوًا بجماعة السلام الأخضر لسنوات. وكان متقبلًا، دون تمحيص، للآراء المالتوسية، التي عبَّر عنها بول إرليتش، وليستر براون، وجماعات مثل معهد وورلدووتش، والسلام الأخضر، وسييرا كلوب، من أن مخزون العالم من الموارد المتجددة، والماء النقي، وأراضي الغابات، بصدد النفاد؛ وأن الأرض صارت أكثر تلوثًّا؛ وأن معدل النمو السكاني يزداد زيادةً هائلة.
قدَّم سايمون حجتين ساحقتين داحضتين للمتشائمين؛ الأولى: أن الموارد الطبيعية، بشكلٍ عملي، غير محدودةٍ على المدى الطويل؛ لأن ارتفاع الأسعار الذي يُعَدُّ انعكاسًا للندرة يحضُّ على اكتشاف احتياطياتٍ إضافيةٍ واللجوء إلى البدائل؛ فدائمًا ما يقوم روَّاد الأعمال والمخترعون بتطوير تكنولوجيا جديدةٍ ووسائلَ لخفض التكاليف تُتيح اكتشاف وتطوير مزيدٍ من الموارد. الثانية أن الكثافة السكانية الكبيرة والمتزايدة تؤدي إلى مستوًى معيشيٍّ أعلى؛ لأنها تخلق مخزون المعرفة المفيدة والعمَّال المدربين.
قرَّر لومبورج اختبار إحصائيات سايمون؛ فقام في خريف عام ١٩٩٧ بالاشتراك مع مجموعةٍ من طلابه بفحص المعلومات التي جاء بها سايمون، وخلصوا إلى أن سايمون كان على حق؛ ومن ثَمَّ قام لومبورج بتعديل المسار ونشر نتائجه في عام ٢٠٠١ في كتاب «البيئي المتشكك» الذي أثار عاصفةَ غضبٍ بين أوساط أنصار البيئة. وكان لكتابه تأثير وصل إلى حد أن قامت مجلة «تايم» باختيار لومبورج كواحدٍ من أكثر مائة شخصيةٍ مؤثرةٍ في العالم.
والآن ينضم لومبورج إلى سايمون في تفنيد معظم ادعاءات أنصار البيئة المتشائمين؛ فيفيد لومبورج بأن الغابات العالمية قد تزايدت منذ الحرب العالمية الثانية، وأن معدل النمو السكاني قد وصل إلى ذروته في عام ١٩٦٤ وأخذ في الانحدار منذ ذلك الحين، وأن ٠٫٧ بالمائة فقط من الأنواع قد انقرض خلال الخمسين عامًا المنصرمة، وأن عددًا أقل من الأشخاص في العالم محروم من الوصول إلى المياه، وأن معدل الإصابة بالأمراض المعدية لا يزال منخفضًا في جميع أنحاء العالم، وأن عدد الأشخاص الذين يُعانون من الفقر/الجوع بشكلٍ حادٍّ في انخفاضٍ أيضًا، وأن تلوث الهواء يقل في العديد من أنحاء العالم.
ماذا عن الاحتباس الحراري؟
في أحدث كتبه، «اهدءوا»، يذهب لومبورج إلى أن الكثير من الإجراءات المعقدة والمكلفة التي تعتبر الآن أنها توقف الاحتباس الحراري سوف تتكلف مئات المليارات من الدولارات، وغالبًا ما تكون قائمةً على افتراضاتٍ عاطفيةٍ وليس افتراضاتٍ علميةٍ بحتة، وقد يكون لها تأثير محدود للغاية على حرارة الأرض لمئات السنين. ويخلص إلى أنها «صفقة سيئة». ولسوء الحظ غالبًا ما يتخذ النقاش طابعًا انفعاليًّا وحادًّا؛ ففي العديد من الفصول، يسرد لومبورج ما قاله مَن يطلقون على أنفسهم علماء مناخٍ عن أي شخصٍ يُفنِّد معتقداتهم المقدسة، موضحًا بذلك الطابع المفتقد إلى الحرية والديمقراطية للجدل الحالي. أما لومبورج نفسه، فيتخذ موقفًا أقل عاطفية، موضحًا بشكلٍ تفصيليٍّ لماذا تُعَدُّ النبرة الهستيرية غير ملائمةٍ لمواجهة المشكلات التي نعانيها. ويبدأ بالإجهاز على خرافةٍ تُعرِّض منطقة القطبين للخطر. يناقش لومبورج القضية بالتفصيل، موردًا في البداية مصادر تبدأ من آل جور حتى «الصندوق العالمي للحياة البرية»، ثم موضحًا أن سكان القطبين قد تزايدوا بمقدار الضعف منذ ستينيات القرن الماضي.
الولاية الملوثة: مأساة المشاعات
وبِناءً عليه، يخلق غياب حقوق الملكية وأسعار السوق «مأساة المشاع»؛ التلوث غير الضروري، انقراض الحيوانات، تدمير الغابات، التعدين السطحي، وغير ذلك. في البداية كانت الحكومة تُحبِّذ القوانين واللوائح كحلٍّ، إلا أن الاقتصاديين حثُّوا على تأسيس حقوق ملكيةٍ محددةٍ بشكلٍ واضحٍ وحركة أسعارٍ مصاحبةٍ في الماء، والصيد، وأراضي الغابات، حتى يتسنَّى للمُلَّاك المحافظة على هذه الموارد وتجديدها بشكلٍ متوازن.
الحد من الانبعاثات والاتِّجار بها أم ضريبة الكربون؟
في تسعينيات القرن العشرين، لعب الاقتصاديون دورًا كبيرًا في تمرير قانون الهواء النقي لعام ١٩٩٠، الذي أرسى نظام «الاتجار في الانبعاثات» لأول مرةٍ فقد أرسى قانون الهواء النقي أول نظامٍ ﻟ «الحد الأقصى للانبعاثات والاتجار بها» وذلك بهدف التقليل من انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت، الذي يُعَدُّ المسبِّب الأساسي للمطر الحمضي. يعتمد نظام «الحد الأقصى للانبعاثات والاتجار بها» على قوة السوق للحد من غازات الدفيئة والانبعاثات الأخرى بأسلوبٍ مرنٍ وذي تكلفةٍ فعالة. وبشكلٍ أساسي، يخلق الاتجار بالانبعاثات حافزًا للحد من التلوث.
وإليك كيفية سير هذا النظام؛ أولًا: تتولى وكالة بيئية حكومية وضع حدٍّ («الحد الأقصى») على كمِّ التلوث المسموح به من قِبل مجموعةٍ معينة، مثل مصانع الطاقة أو شركات التعدين. بعد ذلك يتم تقسيم الانبعاثات المسموح بها بمقتضى الحد الأقصى الجديد إلى تراخيص فردية — عادةً ما تعادل طنًّا من الملوثات — تُمثِّل الحق في إطلاق هذا الكمِّ من التلوث. بعد ذلك يصبح للشركات حرية شراء وبيع التراخيص («الاتجار») على سبيل التبادل التجاري. ويمكن للشركات ذات التكاليف الأقل للانبعاث أن تبيع تراخيصها للشركات ذات التكاليف الأعلى.
كيف يشجع ذلك على خفض التلوث إجمالًا؟ تستفيد تراخيص الانبعاثات لكلٍّ من المشتري والبائع من خفض تكاليف التلوث. فإذا كان المصنع (أ) يُحدِث تلوثًّا منخفضًا، أقل من الحد الأقصى المحدد، يمكنه بيع تراخيصه للمصنع (ب) ذي التلوث العالي. ومن خلال خفض انبعاثاته، يمكن للمصنع (أ) بيع المزيد من التراخيص. ويمكن للمصنع (ب)، من خلال الحد من انبعاثاته، شراء تراخيص أقل ومن ثَمَّ توفير المال. وهكذا يفوز الاثنان من خلال الحد من التلوث.
وهكذا يمارس نظام الحد الأقصى والاتجار بالانبعاثات ضغطًا متواصلًا على الملوثين ويخلق حافزًا ماديًّا للشركات لتبنِّي أو ابتكار تقنيةٍ جديدةٍ للحد من التلوث تفي بأهدافهم أو تتجاوزها فيما يتعلق بالانبعاثات بأسلوبٍ مبتكرٍ وفعالِ التكلفة. وقد أثبت هذا النظام نجاحه بيئيًّا واقتصاديًّا؛ إذ يحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت بنسبةٍ بسيطةٍ من التكاليف المتوقعة. علاوةً على ذلك، اقتحمت الجماعات البيئية مجال الأعمال من خلال شراء وسحب ائتمانات التلوث؛ وبذلك هي تؤدي دورها في خفض إجمالي الانبعاثات ورفع سعر الائتمانات المتبقية وفقًا لقانون الطلب. قامت بعض الشركات أيضًا بسحب ائتمانات التلوث الخاصة بها عن طريق التبرع بها لجماعةٍ بيئيةٍ غير ربحيةٍ مستفيدةً بذلك من تخفيضٍ ضريبي.
قام الاتحاد الأوروبي ومناطق أخرى أيضًا بتصميم نظمها الخاصة للحد الأقصى والاتجار لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ ونتيجةً لذلك، ظهرت منافسة صحية في أوروبا على صعيد تجارة ائتمانات الانبعاثات. وصعدت البورصة الأوروبية صعودًا كبيرًا في القيمة؛ مما أدى إلى صعودٍ مفاجئٍ لأسهم بورصة المناخ العامة، وهي الشركة الأم للبورصة الأوروبية ويقع مقرها في جزيرة مان، في بورصة لندن للأسهم. وقد قفز إجمالي عقود الانبعاثات في البورصة الأوروبية من ٩٤٫٣ مليون طنٍّ متريٍّ في عام ٢٠٠٥ إلى أكثر من ٦٠٠ مليون طنٍّ متريٍّ في عام ٢٠٠٧.
وقد انتقدت بعض الجماعات البيئية والاقتصاديين نظام الحد الأقصى والاتجار باعتباره شديد التقلب وغير مضمونٍ في الوفاء بأهداف خفض التلوث. وقد صار للولايات المتحدة تراخيص قابلة للاتجار والتداول لثاني أكسيد الكبريت منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، ويمكن أن تتباين أسعارها بأكثر من ٤٠ بالمائة في العام. كذلك يمكن للتقلب الحاد في الأسعار أن يردع الناس عن الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء. بالإضافة إلى ذلك، لا يوفر نظام الحد الأقصى والاتجار أي عائداتٍ للحكومة، التي كان يمكن أن تستخدم النقد السائل في خفض ضرائبَ أخرى بلا فعالية. ويفضل المنتقدون فرض ضريبة كربون مباشرة على الشركات. وحتى في هذه الحالة، يكون هناك مشكلات؛ فهل يمكن أن يكون لدى صناع السياسة المعرفة الكافية لتحديد ضريبة مُثلى؟ لقد حذر الاقتصادي النمساوي فريدريك هايك من أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل لسلطةٍ مركزيةٍ أن تعرف المستوى الأمثل للانبعاثات والمعدل الأمثل للضريبة.