القنبلة السكانية
الزيادة السكانية هي أخطر تهديدٍ لسعادة الإنسان وتقدُّمه في هذه الفترة الحرجة للغاية من تاريخ العالم.
أول من نبَّه للخطر السكاني: الأب مالتوس
كان توماس روبرت مالتوس (١٧٦٦–١٨٣٤) قَسًّا بريطانيًّا قام في عام ١٧٩٨، في سن الثانية والثلاثين، بنشر عملٍ بعنوان «مقال عن السكان» دون ذكر اسم المؤلف، وفيه زعم أن موارد الأرض لا يمكن أن تواكب متطلبات كثافةٍ سكانيةٍ دائمة النمو. وقد ساهم عمله الذي يبعث على التشاؤم في تغيير المشهد على ساحة الاقتصاد والسياسة للأبد، وسرعان ما أجهض نظرة آدم سميث، وجيه بي ساي، وبنجامين فرانكلين، وغيرهم من مفكري عصر التنوير؛ فقد أكد مالتوس أن الضغوط على الموارد المحدودة دائمًا ما يجعل الأغلبية الكاسحة من البشر على مقربةٍ من حافة الكفاف.
كان لمالتوس تأثير قوي على الفكر الحديث؛ فهو يعتبر مؤسس علم السكان والدراسات السكانية، ومعترَف به باعتباره مرشدًا ومعلمًا للمهندسين الاجتماعيين المؤيدين للتحكم الصارم في الزيادة السكانية ووضع حدودٍ للنمو الاقتصادي. ويبرز مقاله عن السكان النظرة الكئيبة والقدرية للعديد من العلماء والمصلحين الاجتماعيين الذين يتنبئون بالفقر، والجريمة، والمجاعات، والحروب، والتدهور البيئي نتيجةً للضغوط السكانية على الموارد. بل إنه كان مصدر إلهامٍ لنظرية تشارلز دارون للتطور العضوي، التي تُبيِّن كيف أن الموارد المحدودة التي تواجه مطالب غير محدودةٍ من شأنها أن تخلق قوة الانتقاء الطبيعي وبقاء الأقوى. وفي النهاية منح التشاؤم القدري لمالتوس (وصديقه ديفيد ريكاردو) الاقتصادَ سمعتَه بوصفه «علم كئيب».
هل مالتوس محقٌّ بشأن «قانون الطبيعة» الأول، أن السكان يتزايدون بمتواليةٍ هندسية؟ في الواقع، منذ أن كتب مالتوس مقاله، ازداد سكان العالم بشكلٍ رهيبٍ من أقل من مليار نسمةٍ إلى أكثر من ٦ مليارات. غير أنه بإلقاء نظرةٍ أعمق على الزيادة الحادة في عدد سكان العالم منذ عام ١٨٠٠، يتبين لنا أن السبب ليس مالتوسيًّا في جوهره؛ فقد كانت الزيادة راجعةً إلى عاملَيْن لم يتنبأ بهما مالتوس؛ الأول هو الانخفاض الحاد في معدل وفيات الأطفال بفضل القضاء على العديد من الأمراض التي تُشكِّل تهديدًا للحياة من خلال التقنيات الطبية، والعامل الثاني هو الزيادة المطردة في متوسط فترة حياة الأفراد بفضل التحسينات التي طرأت على الصحة الوقائية، والرعاية الصحية، والتغذية، وارتفاع المستويات المعيشية، والإنجازات الطبية المبهرة، والانخفاض في معدل الحوادث؛ ونتيجةً لذلك، صار مزيد من الناس يصلون إلى مرحلة البلوغ والرشد، وصار مزيد من الناس يعيشون لفتراتٍ أطول.
علاوةً على ذلك، هناك احتمال لا بأس به أن يتوقَّف سكان العالم عن التزايد قريبًا، ولا سيما بفضل التباطؤ الحاد في معدل المواليد خلال الخمسين عامًا الماضية في الدول الصناعية والنامية على حدٍّ سواء. ويُعزى هذا بشكلٍ كبيرٍ إلى تأثير الثراء؛ فالأشخاص الأكثر ثراءً يميلون إلى إنجاب عددٍ أقل من الأطفال (على عكس ما تنبأ به مالتوس). وعلى مدى الخمسين عامًا الماضية، انخفض معدل المواليد في الدول المتقدمة من ٢٫٨ إلى ١٫٩ وانخفض في الدول النامية من ٦٫٢ إلى ٣٫٩. والاتجاه واضح لا لبس فيه؛ فالنساء يُنجبن عددًا أقل من الأطفال، وفي بعض الدول الأكثر تقدمًا، لا سيما أوروبا، يقل معدل المواليد كثيرًا عن مستوى الإحلال. ولا يوجد اليوم أي قلقٍ في أوروبا بشأن الزيادة السكانية المالتوسية. بل على العكس؛ هم أكثر قلقًا بشأن انخفاض عدد سكان أوروبا واعتمادهم المتزايد على الهجرة.
خطايا السهو لدى مالتوس
لقد ثبت على نحوٍ لافتٍ خطأ مالتوس بشأن إنتاج الغذاء، وظهور تكنولوجيا الزراعة، واستخدام الأسمدة، والتوسُّع الشاسع للري؛ فقد زادت مساحة الأراضي المستزرعة وإنتاج الغذاء بشكلٍ مثير. ومعظم المجاعات يمكن إلقاء اللوم فيها على السياسات الحكومية غير الرشيدة، وليس الطبيعة.
إن قصة توماس مالتوس لها تأثير توجيهي في تنمية فهم آليات أي اقتصادٍ متنامٍ وكثافةٍ سكانيةٍ متصاعدة؛ فمن المسلَّم به أن مالتوس أدرك أن التدخل الحكومي عادةً ما يأتي بنتائجَ عكسيةٍ في التخفيف من وطأة الفقر والتحكم في نمو السكان؛ ومن ثَمَّ انضم إلى آدم سميث في تبنِّي سياسةٍ غير قائمةٍ على التدخل الحكومي (وقد شُهِّرَ به من جانب النقاد لمعارضته برامج الفقر، وتحديد النسل، وحتى اللقاحات). ولكنه في النهاية تخلَّى عن معلِّمه بالتنصل من الإيمان بالطبيعة الأم، وقدرة السوق الحرة على مواءمة المعروض من الموارد مع المتطلبات المتزايدة لسكانٍ آخذين في التزايد. وقد فشل، بشكلٍ أساسي، في فهم دور الأسعار وحقوق الملكية كحافزٍ لترشيد استهلاك الموارد النادرة، وكآليةٍ لحل المشكلات. والأسوأ أنه قد أساء فهم آليات أي اقتصادٍ تجاريٍّ متنامٍ؛ كيف لقطاعٍ سكانيٍّ كبيرٍ أن يصنع بذور رخائه من خلال تشكيل أفكارٍ جديدةٍ وابتكار تقنيةٍ جديدة.