ثورة الضريبة الحدية
لم يكن آرثر لافر والفلسفة الاقتصادية الريجانية القائمة على خفض الضرائب، والحد من القيود والتجارة الحرة، أقلَّ رواجًا بالخارج؛ لدرجة أنها أصبحت نظام التشغيل الاقتصادي العالمي.
ما الذي أدَّى إلى الانخفاض في فرض الضرائب التصاعدية في الولايات المتحدة والاقتصادات الغربية؟ يُعزى ذلك، من عدة نواحٍ، إلى انتصار اقتصاديات جانب العرض، ولا سيما سياسة خفض معدلات الضريبة الحدية المرتفعة، مثلما طورت على يد الاقتصاديِّين آرثر بي لافر، وجود وانيسكي، وبول كريج روبرتس، وبروس بارتليت، والحائزِ جائزةَ نوبل روبرت ماندل.
- (١) «أنصار جانب العرض يؤمنون بانتصار ريادة الأعمال وفاعلية الرأسمالية.» إن خفض الضرائب، على حدِّ قولهم، يُحفِّز النموَّ الاقتصاديَّ من خلال نقل مزيدٍ من الأموال من القطاع العام، الذي يعتبرونه غير فعالٍ ومضيعةً للمال، إلى قطاع المشروعات الخاصة، الذي يعتبرونه أكثر إنتاجية؛ فالنمو الحقيقي في الاقتصاد يُعَدُّ أكثر فائدةً ومنعةً للعامل العادي من خطط إعادة توزيع الثروة، حتى إن جون كينيث جالبريث اعترف ذات مرةٍ قائلًا: «الزيادة في الإنتاج خلال العقود الأخيرة، وليس إعادة توزيع الدخل، هي التي جلبت الزيادة المادية الكبيرة، ورفاهية الإنسان العادي.»5
- (٢)
«خفض الضرائب يزيد العائدات.» حين تكون معدلات الضريبة شديدة الارتفاع (حيث تتجاوز في مرحلةٍ ما ٩٠ بالمائة)، يكون من الأسهل خفض معدل الضريبة الحدية عن خفض معدلات الضريبة العادية. والواقع أنه بغلق الثغرات المصممة من أجل التحايل على المعدلات الحدية الباهظة، يعوض الخفض في المعدلات الحدية بعائداتٍ إجماليةٍ أعلى. ويُعَدُّ خفض معدلات الضريبة الحدية موقفًا مربحًا لجميع الأطراف بالنسبة إلى الساسة. فتاريخيًّا، عندما تُخفض المعدلات الحدية، ترتفع العائدات الضريبية.
- (٣)
«خفض معدلات الضريبة الحدية يقضي على الحاجة إلى ملاجئ ضريبية مخربة وغير فعالة، ويحد من أنشطة السوق السوداء.» إن المعدلات الشديدة الارتفاع تدفع جيوشًا من المحاسبين والمحامين إلى اكتشاف طرقٍ جديدةٍ للتحايل على مأمور الضرائب؛ ونتيجةً لذلك، يتم إنشاء صناعاتٍ جديةٍ ضخمةٍ في مجال العقارات، والمؤسسات، وصناديق أمناء الاستثمار فقط من أجل تجنُّب المصادرة عن طريق الضرائب التصاعدية. وخفض المعدل الحدي يقلل الحاجة إلى هذه الملاجئ الضريبية؛ إذ يقرر مزيد من الأشخاص أنه من الأوفر دفع الضريبة، وأنه يمكن تخصيص الأموال لمشروعاتٍ أكثر ربحية.
وتُعَدُّ الزيادة الهائلة في الاقتصاد التحتي (السوق السوداء) غير الخاضع للضرائب أحد المؤشرات على وجود مبالغةٍ في فرض الضرائب وحكومةٍ متضخمةٍ ومفرطةٍ في الرقابة وفرض اللوائح. ويقدِّر بعض الاقتصاديين أن نصف اقتصاد إيطاليا غير مسجل. وينبغي أن يكون النمو في الاقتصاد التحتي علامة خطرٍ على وجود إسرافٍ في فرض الضرائب. ولسوء الحظ، كثيرًا جدًّا ما يؤخذ هذا كعلامةٍ على حاجة الحكومة إلى التحلِّي بالصرامة وتشديد الإجراءات على هؤلاء الذين لا يدفعون نصيبهم العادل من خلال زيادة العقوبات والاستعانة بمزيدٍ من وكلاء مصلحة الضرائب لضبط المتهربين من الضرائب. غير أن العديد من الاقتصاديين يشيرون إلى أن فرض معدلِ ضريبةٍ معقولٍ من شأنه أن يجعل التهرُّب أقل جاذبيةً ويؤدي إلى زيادة الامتثال الطوعي. وبعد دراسة الاقتصاد التحتي، خلص الاقتصادي دان باولي إلى أنه «لو كانت مصلحة الضرائب تبذل كل جهدٍ لِجمع كل سنت مستحَقٍّ لها، لصارت أمريكا أقرب كثيرًا إلى دولةٍ بوليسية.»6 - (٤) «الضرائب تُشوِّه الحوافز.» يتساءل الاقتصاديان ويليام بومول وآلان بليندر «ما الذي سيحدث لو حاولنا تحقيق مساواةٍ مثاليةٍ بفرض ضريبة دخلٍ نسبتها ١٠٠ بالمائة على جميع العاملين؛ ومن ثَمَّ تقسيم العائدات بالتساوي بين السكان؟ لن يكون لدى أحدٍ أي حافزٍ للعمل، أو الاستثمار، أو المخاطرة، أو القيام بأي شيءٍ آخر لكسب المال؛ لأن المكافآت الخاصة لهذه الأنشطة جميعها سوف تختفي.»7ويذهب بول كريج روبرتس الاقتصادي المتخصص في اقتصاديات جانب العرض إلى أن الضرائب التصاعدية المرتفعة تُعَدُّ عقبةً أمام العمل والاستثمار والادخار، «لقد جلبت اقتصاديات جانب العرض منظورًا جديدًا للسياسة الضريبية؛ فبدلًا من التركيز على تأثيره على الإنفاق، أظهر أنصار اقتصاديات جانب العرض أن المعدلات الضريبية أثرت بشكلٍ مباشرٍ على إمداد السلع والخدمات؛ فوجود معدلاتٍ ضريبيةٍ أقل يعني حوافز أفضل للعمل، والادخار، والمخاطرة، والاستثمار. ومع استجابة الناس لمكافآتٍ أعلى بعد دفع الضريبة، أو ربحيةٍ أعلى، ترتفع الدخول وتنمو القاعدة الضريبية؛ مما يعيد بعضًا من العائدات الضائعة إلى الخزانة. كذلك ينمو معدل الادخار؛ مما يوفر مزيدًا من التمويل للاقتراض الحكومي والخاص.»8
تقديم منحنى لافر
ويختلف الكينزيون والمنتقدون الآخرون لمنحنى لافر على الموضع الذي نقف عنده على منحنى لافر؛ فيشيرون، على سبيل المثال، إلى أنه حين تم خفض الضرائب في عهد الرئيس ريجان في عام ١٩٨٤، اتجه العجز إلى الأسوأ، وليس إلى الأفضل. وعلى العكس، في عام ١٩٩٤، حين ضغط الرئيس كلينتون، عبر الكونجرس، لتمرير زيادةٍ في معدل ضريبة الدخل الفيدرالية إلى ٣٩٫٦ بالمائة، حذَّر أنصار اقتصاديات جانب العرض من أن الزيادة الضريبية سوف تُقلل العائدات، ولكن العائدات ارتفعت بالفعل خلال فترة انتعاشٍ توسُّعي. فهناك العديد من المتغيرات الفاعلة في السوق.
ارتبطت اقتصاديات جانب العرض بشكلٍ وثيقٍ بالإدارات الجمهورية لكلٍّ من رونالد ريجان وجورج دبليو بوش، اللذَين أيَّدا إجراء خفضٍ حادٍّ في معدلات الضريبة الحدية على الدخل الشخصي ودخل الشركات، وأرباح رأس المال، وحصص الأرباح. وتبنَّى العديد من الدول الأخرى حول العالم التخفيضات الضريبية التي تنادي بها اقتصاديات جانب العرض لتحفيز النشاط الاقتصادي. ونشأت منافسة في خفض الضرائب في أوروبا، بعد قيام أيرلندا بخفض معدل ضريبة الشركات لديها إلى ١٢٫٥ بالمائة. وتبعتها في ذلك دول أخرى، من ضمنها الولايات المتحدة، وألمانيا، والنمسا. وتُعَدُّ فرنسا هي أحدث الدول المنضمة إلى الرَّكْبِ، تحت قيادة الرئيس نيكولا ساركوزي، التي تخطط لخفض ضريبة الدخل على المشروعات التجارية بمقدار خمس نقاطٍ مئوية.
حركة الضريبة الثابتة
في التصدير لدراسته عن الاقتصاد التحتي، يوصي دان باولي بأن «المجتمع الحر يقلِّل ويبسِّط بشكلٍ كبيرٍ من المعدلات الضريبية.» ويبدو أن هذا هو الاتجاه الذي تسلكه دول عديدة. ويؤيد أنصار اقتصاديات جانب العرض فرض ضريبةٍ واحدةٍ منخفضةٍ بعددٍ محدودٍ من الإعفاءات الشخصية باعتباره النظام الضريبي المثالي. وترتبط حركة القضاء على النظام الضريبي الحالي بما يشوبه من تعقيداتٍ وثغراتٍ وإهدارٍ ارتباطًا وثيقًا بثورة جانب العرض؛ فعقب نشر كتاب «الضريبة المنخفضة، الضريبة البسيطة، الضريبة الثابتة» لروبرت إي هول وألفين رابوشكا (١٩٨٣)، اكتسبت الحركة الداعية إلى وضع معدل ضريبةٍ بسيطةٍ منخفضةٍ على الدخل دعمًا وتأييدًا، لا سيما في الدول الشيوعية السابقة.
على سبيل المثال، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كانت إستونيا بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي تواجه معدلاتِ تضخمٍ سنويةً بنسبة ١٠٠٠ بالمائة وتراجعًا في الاقتصاد بنسبة ٣٠ بالمائة على مدى عامين. تبنَّت الدولة الصغيرة في عهد رئيس الوزراء الإستوني مارت لار معدل ضريبةٍ فرديةٍ للأفراد ومعدل ضريبةٍ على الشركات قيمتُه صفر على الأرباح المعاد استثمارها، إلى جانب اقتصادٍ متحرِّرٍ من الضوابط واللوائح التنظيمية. والنتائج مبهرة حتى الآن؛ إذ تبلغ معدلات نموِّ إجمالي الناتج المحلي ٨ بالمائة سنويًّا.
حذت دول أخرى من دول شرق أوروبا الحذو نفسه؛ فتبنَّت روسيا ضريبةً ثابتةً على الدخل قيمتها ١٣ بالمائة في ٢٠٠١، واختارت أوكرانيا نفس معدل الضريبة الثابتة في ٢٠٠٤؛ وأدخلت سلوفاكيا معدلًا قيمته ١٩ بالمائة في عام ٢٠٠٤؛ ورومانيا ١٦ بالمائة في ٢٠٠٥؛ وتخطِّط ألبانيا لوضع معدلٍ بنسبة ١٠ بالمائة في ٢٠٠٨. وتخطط كلٌّ من اليونان وكرواتيا لوضع نفس المعدلات الثابتة. من الواضح أن حركة الضريبة الثابتة في انتشارٍ وتوسع. ما الذي يمكن أن يكون أكثر عدالةً وسهولةً في الحساب من أن يدفع الجميع نفس المعدل؟
تمتعت هونج كونج أيضًا بضريبةٍ ثابتةٍ نسبتُها ١٦ بالمائة على الدخل الفردي لعقودٍ عديدة، فيما تُفرض ضريبة صفرية على أرباح رأس المال. كما قامت سنغافورة مؤخرًا بخفض معدلها الضريبي للتنافس مع هونج كونج. وتبنَّت ملاذاتٌ ضريبيةٌ أخرى نظامًا ضريبيًّا صفريًّا على الدخل، على الرغم من أن العديد من الدول قد قلَّص عدد الشرائح الضريبية. وفي إحصاءٍ أخير، تبنَّت ١٤ دولة ضريبة ثابتة على الدخل، ١٠ منها من دول الستار الحديدي السابقة.
في الولايات المتحدة، ترشَّح ستيف فوربس، رئيس تحرير مجلة «فوربس» ومؤلف كتاب «ثورة الضريبة الثابتة» (٢٠٠٥) للرئاسة في عامَي ١٩٩٦ و٢٠٠٠ على برنامجٍ انتخابيٍّ يؤيد فرض ضريبةٍ ثابتةٍ بنسبة ١٧ بالمائة، ولم تنجح خطته كثيرًا. من الواضح أن هناك مزيدًا من التأييد للضريبة الثابتة خارج الولايات المتحدة.