الفصل الثامن والعشرون
رسم بياني واحد يبوح بكل شيء
نشأة مؤشر الحرية الاقتصادية
الحديث عن الحرية الاقتصادية أمر سهل، أما قياسها، وتحديد سماتها المميزة،
وتخصيص أرقام تُبيِّن خصائصها، وتجميعها داخل مجالٍ واحدٍ شامل، فتلك مهمة أكثر
صعوبةً بكثير.
ما الطريقة المثلى لإنتاج السلع والخدمات وتوزيعها على أكبر عددٍ من الناس وتأمين
اقتصادٍ مزدهر؟ هل ينبغي أن نختار التخطيط المركزي، أم سياسة الحرية الاقتصادية وعدم
التدخل، أم شيئًا بين الاثنين؟
من بين جميع الحريات التي نتمتع بها، تظل الحرية الاقتصادية هي الأكثر إثارةً للجدل؛
فالعولمة، والتجارة الحرة، وتفاوت الدخل، وقوة الاحتكار، والهجرة، وتجاوز التسعيرة،
والغش والاحتيال التجاري؛ كل هذه الجوانب الخاصة بالرأسمالية الحرة خاضعة لمجادلاتٍ
شرسة.
يُعَدُّ آدم سميث، أستاذ الفلسفة الأخلاقية الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، رائدَ
علم
الاقتصاد الحديث. وقد نُشرت رائعته «ثروة الأمم» في عام ١٧٧٦ كإعلانٍ للاستقلال
الاقتصادي. وأطلق على برنامجه للرأسمالية غير المقيدة «نظام الحرية الطبيعية»، وقد تألف
من ثلاثة أجزاء: الحرية القصوى، والمنافسة، والعدالة. وأعلن أن:
كل فرد، ما دام لم ينتهك قوانين «العدالة»، يُترك «حرًّا» تمامًا في السعي وراء
مصلحته الخاصة بطريقته الخاصة، وفي إدخال صناعته ورأس ماله في «المنافسة» مع
صناعة ورأس مال أي فردٍ آخر، أو مجموعةٍ من الأفراد.
2
بل إن سميث ذهب إلى أبعد من ذلك بكثيرٍ وأعلن أن الحرية الاقتصادية حق مقدس:
إن منع شعبٍ عظيم … من الاستفادة بكل استطاعته من كل جزءٍ من إنتاجه، أو من
توظيف بضائعه وصناعته بطريقةٍ يرى أنها الأكثر ربحًا ونفعًا له، هو انتهاك واضح
لأقدس حقوق البشرية.
3
وباستخدام رمز «اليد الخفية»، ذهب آدم سميث إلى أن نموذجه للمصلحة الشخصية المستنيرة
سوف يفيد المجتمع بأسره: «إنه منقاد بيدٍ خفية … فمن خلال السعي خلف مصلحته الخاصة، فإنه
دائمًا ما يعزِّز مصلحة المجتمع.»
4 الأهم من ذلك كله أن الحرية الاقتصادية من شأنها أن
تفيد البشرية؛ فهي ستقود إلى النمو الاقتصادي و«الوفرة الشاملة التي تمتد إلى أدنى
طبقات الشعب.»
5 بعبارةٍ أخرى، مَنْحُ الناسِ حريتَهم الاقتصادية من شأنه أن يحقق
مستوياتٍ معيشيةً أعلى للجميع، أغنياءَ وفقراءَ على حدٍّ سواء.
الحرية الاقتصادية: تكلفة أم فائدة؟
يُعَدُّ مبدأ آدم سميث التحرري الخاص بالحرية وعدم التدخل — أي منْحك الحرية لتفعل
ما
تشاء ما دمت لا تضر الآخرين — مفهومًا جديدًا نسبيًّا؛ فقد كانت الملكيات
والديكتاتوريات تُسلِّم به كأمرٍ بديهيٍّ على مدى معظم فترات التاريخ. وبعد نشر عمل آدم
سميث الإبداعي، صارت فكرة الحرية المدنية والاقتصادية محل جدالٍ حامٍ. وبشكلٍ
خاص، صارت الرأسمالية الحرة، بعد الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية في القرن
العشرين، عبارةً غير مستحبةٍ في أروقة الحكومة وفي حرم الكليات؛ فقامت الحكومات في
أمريكا والخارج بتأميم صناعةٍ بعد أخرى، ورفع الضرائب، وتضخيم الإصدار النقدي، وفرض
ضوابط على الأسعار وتداول العملات الأجنبية، وأنشأت دولةَ الرفاهية، وانخرطت في شتى
أنواع العبث التدخلي في محاولةٍ للسيطرة على الاقتصاد والحيلولة دون حدوث كسادٍ آخر.
وفي المجال الأكاديمي، أصبحت الكينزية والماركسية هما الاتجاه السائد، وعانى
اقتصاديو السوق الحرة صعوبةً في الحصول على مناصب بدوامٍ كاملٍ في أحرام
الكليات.
كان اقتصاد الحكومة الضخمة يُنظر إليه من قِبل النظام الحاكم كأداة استقرارٍ آليةٍ
ومحفزٍ للنمو. وبدايةً من أواخر خمسينيات القرن العشرين، ذهب الكثير من صفوة
الاقتصاديين إلى أن التخطيط المركزي، ودولة الرفاهية، والسياسة الصناعية سوف تؤدي
إلى معدلات نموٍّ «أعلى»؛ ما يُعَدُّ مناقضًا لما جاء به آدم سميث. وبشكلٍ لا يصدق، في
أواخر عام ١٩٨٥، كان كلٌّ من بول صامويلسون (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) وويليام
دي نوردهاوس (جامعة ييل) لا يزالان يعلنان أن «الاقتصاد السوفييتي المخطط منذ عام
١٩٢٨ … قد تجاوز النمو الطويل الأجل لكبرى اقتصادات السوق.»
6 كذلك ذكر مانكيور
أولسون، وهو اقتصادي سويدي، أنه «في الخمسينيات كانت نزعة الدول ذات مستوى الرفاهية
الأعلى لأن تنمو بشكلٍ أسرع ضعيفةً، إن كانت موجودةً أصلًا.»
7
قام هنري سي واليش، وهو أستاذ اقتصادٍ بجامعة ييل وعضو سابق بمجلس إدارة
الاحتياطي الفيدرالي، بتأليف كتابٍ يدفع فيه بأن الحرية تؤدي إلى نموٍّ اقتصاديٍّ أقل،
وتفاوتٍ
أكبر في الدخل، ومنافسةٍ أقل. وأعلن بجرأةٍ في كتابه «ثمن الحرية» قائلًا: «ولكن
السوق الحرة ليست بالأساس أداةً لتحقيق النمو، إنها أداة لتأمين الاستغلال الأكثر
فعالية للموارد.» وذكر بالإضافة إلى ذلك أن «القيمة النهائية لأي اقتصادٍ حرٍّ ليست
الإنتاج، وإنما الحرية، والحرية لا تأتي كربح، وإنما كثمن.»
8 وكان يُعَدُّ اقتصاديًّا محافظًا!
التنوير الجديد
بدايةً من عقد السبعينيات التضخمي، تغيرت توجهات المؤسسة الحاكمة تدريجيًّا. وفي
السنوات الأخيرة أحرز المدافعون عن فلسفة آدم سميث تقدمًا، وادَّعَوْا، منذ انهيار
سور برلين والتخطيط المركزي السوفييتي في مطلع التسعينيات، الانتصارَ على القوى
الظلامية للماركسية والاشتراكية. واليوم تعمد الحكومات حول العالم إلى إلغاء
التأمين، والخصخصة، وخفض الضرائب، والسيطرة على التضخم، والانخراط في شتى أنواع
إصلاحات السوق. ومن الممكن اليوم أن نجد الاقتصاديين الأصدقاء للسوق في معظم أقسام
علم الاقتصاد، وأغلب الفائزين بجوائز نوبل مؤخرًا في الاقتصاد كانوا من أنصار السوق
الحرة.
علاوةً على ذلك، ثَمَّةَ أدلة جديدة تُظهر بقوةٍ أن الحرية الاقتصادية تأتي كفائدة،
وليس كثمن؛ فبالنظر إلى بيانات عقد ثمانينيات القرن الماضي، خلص أولسون إلى أنه
«يبدو أن الدول ذات القطاعات العامة الأكبر (الرقابة الحكومية) كانت تميل إلى النمو
بمعدلٍ أبطأ من الدول ذات القطاعات العامة الأصغر.»
9 قارن ذلك بتصريحه عن عقد الخمسينيات.
تأسيس مؤشر الحرية الاقتصادية
في ثمانينيات القرن العشرين، قام مايكل ووكر، رئيس معهد فريزر بكندا، بجمع مجموعةٍ
من اقتصاديي السوق الحرة ليرى إن كانوا قد استطاعوا إيجاد أدلةٍ تجريبيةٍ على فرضية
آدم سميث بأن المزيد من الحرية الاقتصادية يؤدي إلى نموٍّ اقتصاديٍّ أعلى. وبإلهامٍ من
ميلتون فريدمان وقيادة ألفين رابوشكا بمعهد هوفر، أنشأ هؤلاء الخبراء أخيرًا
«مؤشرًا للحرية الاقتصادية للعالم» لكل دولةٍ على حِدَةٍ على مدار الزمن، بِناءً على
خمسة مجالاتٍ للحرية الاقتصادية: الضرائب، والإنفاق الحكومي، والنقد والائتمان،
والتنظيم الاقتصادي للأعمال والعمالة، والتجارة الخارجية.
10
في مطلع التسعينيات، أصبح جيمس جوارتني، أستاذ الاقتصاد بجامعة ولاية فلوريدا، من
المشاركين في المشروع، وهو الآن الاقتصادي الرائد في صياغة المؤشر السنوي للحرية
الاقتصادية في العالم لمعهد فريزر. ومنذ عام ١٩٩٦ يقوم على معاونة جوارتني المؤلف
المشارك روبرت لاوسون، أستاذ الاقتصاد بجامعة كابيتال. ووفقًا لجوارتني ولاوسون،
تتمثل المقومات الأساسية للحرية الاقتصادية في «الاختيار الشخصي، والتبادل الطوعي،
وحرية المنافسة، وحماية الأفراد والممتلكات.»
11
وتحت قيادة جوارتني ولاوسون، أصبح المؤشر أكثر تعقيدًا. في البداية، كان المؤشر
قائمًا على ١٧ عنصرًا قابلةً للقياس الكمي، مثل حجم المصروفات الحكومية بوصفها جزءًا
من إجمالي الناتج المحلي. غير أنهما سرعان ما اكتشفا أن ثَمَّةَ عناصرَ قانونيةً وتنظيميةً
قد حُذفت من المؤشر. ولتصحيح هذا الخلل، أُضيفت عناصر جديدة إلى المؤشر خلال الفترة
من عام ١٩٩٧–٢٠٠٠. ويحتوي المؤشر الآن على ٣٨ عنصرًا مقسَّمةً إلى خمسة
مجالات:
- (١)
حجم المصروفات الحكومية والسياسة الضريبية.
- (٢)
الهيكل القانوني وتأمين حقوق الملكية.
- (٣)
سهولة الوصول إلى العملة القوية.
- (٤)
حرية التجارة الدولية.
- (٥)
تنظيم الائتمان، والعمالة، وقطاع الأعمال.
باستخدام هذه المعايير، يسعى مؤشر الحرية الاقتصادية بشكلٍ موضوعيٍّ لتصنيف مستوى
الحرية الاقتصادية برقمٍ مفردٍ في أكثر من ١٠٠ دولةٍ سنويًّا. يقوم معهد فريزر أيضًا
بتصنيف الولايات والمقاطعات في أمريكا الشمالية. وفي عام ٢٠٠٧، قاموا لأول مرةٍ بنشر
خريطةٍ للحرية الاقتصادية للعالم، مصنِّفين كل دولةٍ بألوانٍ مختلفة.
دراسة هيريتاج/وول ستريت جورنال
منذ عام ١٩٩٠ صارت مؤسسة «هيريتاج» أيضًا تنشر مؤشرها السنوي للحرية الاقتصادية
في يناير من كل عام. يتم نشر المؤشر بالتعاون مع «وول ستريت جورنال»، مصحوبًا
بخريطةٍ للعالم تصنِّف الدولَ بألوانٍ مختلفة. وقد تنوَّع مؤلِّفو الدراسة على مرِّ
السنين، وكان من بينهم جيرالد بي أُو دريسكول الابن، وإدوين جيه فولنر (رئيس مؤسسة
هيريتاج)، وماري أناستاسيا أُو جرادي.
تُعرِّف مؤسسة هيريتاج الحريةَ الاقتصاديةَ بأنها «غياب الإكراه أو القيد الحكومي
على إنتاج، أو توزيع، أو استهلاك السلع والخدمات أكثر من الحد الضروري للمواطنين
لحماية الحرية ذاتها والحفاظ عليها.»
12 ويستخدم المؤلفون ٥٠ متغيرًا في ١٠ فئاتٍ
شاملةٍ لصياغة تقييمٍ ﻟ ١٥٧ دولة:
- (١)
السياسة التجارية (وتُسمَّى الآن حرية التجارة).
- (٢)
العبء المالي للحكومة (الحرية المالية).
- (٣)
التدخل الحكومي في الاقتصاد (التحرر من الحكومة).
- (٤)
السياسة النقدية (الحرية النقدية).
- (٥)
تدفقات رأس المال والاستثمار الأجنبي (حرية الاستثمار).
- (٦)
المعاملات المصرفية والتمويل (الحرية المالية).
- (٧)
الأجور والأسعار (حرية العمالة).
- (٨)
حقوق الملكية.
- (٩)
التنظيم (حرية الأعمال).
- (١٠)
النشاط السوقي غير الرسمي (الحرية من الفساد).
في معادلة هيريتاج، تُقيَّم العوامل العشرة جميعًا بشكلٍ متساوٍ لتحديد درجةٍ
إجماليةٍ للحرية الاقتصادية من صفر إلى ١٠٠ بالمائة؛ حيث ١٠٠ تشير إلى أعلى درجةٍ
للحرية الاقتصادية بينما يشير صفر إلى أقل درجة.
تقسم الدول إلى خمس فئات:
-
حرة: وهي دول تسجل درجة إجمالية متوسطة من ٨٠–١٠٠ في المتوسط.
-
حرة في الأغلب: وهي دول تسجل درجة من ٧٠–٧٩٫٩.
-
متوسطة الحرية: وهي دول تسجل درجة من ٦٠–٦٩٫٩.
-
الأكثر تقيدًا: وهي دول تسجل درجة من ٥٠–٥٩٫٩.
-
مكبوتة: وهي دول تسجل درجة من ٠–٤٩٫٩.
الحرية الاقتصادية والنمو
تتوصل كلٌّ من دراسات فريزر وهيريتاج إلى استنتاجاتٍ متشابهة، كما هو موثَّق في
الشكلين
٢٨-١ و
٢٨-٢.
يخلص كلا المركزين البحثيين إلى أنه كلما كانت درجة الحرية أكبر، ارتفع المستوى
المعيشي (بحسب قياسه بنمو إجمالي الناتج المحلي للفرد)؛ فالدول التي تحظى بأعلى
مستوًى للحرية (مثل الولايات المتحدة، ونيوزيلاندا، وهونج كونج) نَمَت بشكلٍ أسرع من
الدول التي تحظى بدرجاتٍ متواضعةٍ من الحرية (مثل المملكة المتحدة، وكندا، وألمانيا)،
بل وبشكلٍ أسرع وأسرع من الدول التي تحظى بقدرٍ محدودٍ من الحرية الاقتصادية (مثل
فنزويلا، وإيران، والكونغو).
حين رأى ميلتون فريدمان هذا الرسم البياني لأول مرة، صاح قائلًا: «إن التلازم
الفعلي بين مؤشر الحرية الاقتصادية ومعدل النمو الاقتصادي مثير لأقصى الحدود. ما من
وصفٍ لفظيٍّ يمكنه أن يضاهيَ قوة ذلك المخطط البياني.»
13
وجدت دراسات معهد فريزر أيضًا أن: (أ) الدول المحدودة الدخل التي تحظى بمستوياتٍ
عاليةٍ من الحرية الاقتصادية تميل إلى النمو بشكلٍ أسرع من الدول المحدودة الدخل التي
تحظى
بمستوياتٍ منخفضةٍ من الحرية، وأن (ب) وجود هيكلٍ قانونيٍّ يؤمِّن حقوق الملكية ويطبِّق
العقود وسيادة القانون أمر أساسي إذا قُدِّر لأي دولةٍ أن تنموَ وتحقق مستوًى مرتفعًا
من الدخل. وإجمالًا، يخلص جوارتني ولاوسون إلى أن: «هذا البحث وجد أن الحرية
الاقتصادية تتلازم إيجابيًّا مع معدل الدخل للفرد، والنمو الاقتصادي، وارتفاع متوسط
العمر المتوقَّع، وانخفاض وفيات المواليد، وتطور المؤسسات الديمقراطية، والحريات
المدنية والسياسية، والنتائج الاجتماعية والاقتصادية المرغوبة الأخرى.»
14
ولكن ماذا عن البيانات التي بدا أنها تُظهر وجودَ تلازمٍ إيجابيٍّ بين الحكومة
الضخمة والنمو الاقتصادي في خمسينيات القرن العشرين وما بعدها؟ في حالة الاتحاد
السوفييتي، يتفق جوارتني وآخرون، عمومًا، على أن البيانات كانت مغلوطة ومضللة. وفي
حالة أوروبا، ربما يكون الحافز الاقتصادي لإعادة البناء بعد الحرب قد عتم على نمو
دولة الرفاهية. بعبارةٍ أخرى، نمت أوروبا على الرغم من الحكومة — وليس بسببها. وما
إن انتهت عملية إعادة البناء مع أواخر الخمسينيات، حتى بدأ الشعور بحجم
الحكومة.
منذ عدة سنواتٍ سألتُ البروفيسور جوارتني عن أكثر ما أدهشه أثناء إعداد مؤشر
الحرية الاقتصادية؛ فأجاب قائلًا: «لقد تبيَّن أن المنظومة القانونية — سيادة
القانون، وتأمين حقوق الملكية، والسلطة القضائية المستقلة، ومنظومة قضائية محايدة —
هي الوظيفة الأهم للحكومة، والعنصر الأساسي لكلٍّ من الحرية الاقتصادية وإنشاء
مجتمعٍ مدني. وهي ذات دلالةٍ إحصائيةٍ أكبر بكثيرٍ من المتغيرات الأخرى.» وأشار جوارتني
إلى عدد من الدول التي تفتقر إلى منظومةٍ قضائيةٍ لائقة؛ ونتيجةً لذلك تعاني من
الفساد، وانعدام تأمين حقوق الملكية، والتنفيذ الهزيل للعقود، وبيئة تنظيمية
متضاربة، خاصةً في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط. وفي ذلك كَتَب
جوارتني ولاوسون: «إن المزايا الهائلة لشبكة السوق — المكاسب من التجارة، والتخصص،
وتوسع السوق، وأساليب الإنتاج الضخم — لا يمكن تحقيقها دون منظومةٍ قانونيةٍ
سليمة.»
15
القضاء على الفساد السياسي: ميزة الثراء
يتزايد اهتمام الاقتصاديين بالمنظومة القانونية المقارنة وطرق تطبيق التحليل
الاقتصادي على مشكلة الفساد المستشري، والرشاوى، ودور المؤسسات الدولية. كان
المحللون الاقتصاديون ينظرون بشكلٍ تقليديٍّ إلى الفساد باعتباره قضيةً سياسيةً وثقافيةً
خارجةً عن نطاق البنك الدولي والمؤسسات الاقتصادية. ولكن ثَمَّةَ دراسات حديثة تُبيِّن
أن
العوامل الاقتصادية تلعب دورًا أساسيًّا في مستوى الفساد، خاصةً في الدول النامية.
ويمكن أن يكون الفساد على عدة مستويات: رشوة المسئولين الكبار؛ المحسوبية
والمحاباة؛ الإتاوات والعمولات الخفية من أجل المشروعات الحكومية المجزية؛ القروض
والمعونات الخارجية التي توجَّه بشكلٍ خاطئٍ وتنتهي بها الحال في حسابات بنوك سويسرا؛
مبيعات السلع القيِّمة بأقل من أسعار السوق، والرشاوى لتجنب اللوائح، والرسوم
الجمركية والضرائب؛ المحاباة في مكافآت عقود الامتياز؛ استغلال النفوذ. تقول سوزان
روز أكرمان، وهي أستاذة اقتصادٍ بجامعة ييل ومرجع قانوني في قضايا الفساد: «تمثل
الرشاوى رسومًا لصاحب حق الانتفاع، أو ضرائب، أو رسوم اشتراكٍ في خدمة الهاتف، تُدفع
لوكلاء حكوميين. وتؤثر هذه المدفوعات على قراراتٍ تتراوح بين حجم المشروعات
الاستثمارية العامة ونوعيتها، ومستوى الالتزام بلوائح الأعمال والتجارة
وقوانينها.»
16
وقد أجرى جيكوب سفينسون، وهو أستاذ اقتصادٍ بجامعة ستوكهولم، أبحاثًا موسعةً على
الفساد السياسي وسيادة القانون. وكما يُبيِّن الشكل
٢٨-٣، فقد
وجد سفينسون أن الاقتصادات الاشتراكية والاقتصادات الحديثة العهد بالاشتراكية تُظهر
مستويات أعلى من الفساد عن غيرها.
وفقًا لسفينسون واقتصاديين آخرين، يميل الفساد إلى الانخفاض مع اتجاه الدول لمزيدٍ
من
الرخاء. ومن بين العوامل التي اختبرها، وجد سفينسون أن المستوى التعليمي، والانفتاح
على الواردات، وحرية الصحافة، وعدد الأيام اللازمة لإنشاء مشروعٍ تجاريٍّ؛ كلها أظهرت
تلازمًا واضحًا بين هذه المتغيرات والمستوى الإجمالي للفساد.
17
ولكن المحللين السياسيين لا يعلمون أيُّهما يأتي أولًا؛ سيادة القانون أم الرخاء.
هل يأتي الرخاء بقيام الدولة بتطبيقٍ صارمٍ للقانون على الفساد، أم أن ارتفاع الدخل
يؤدي بشكلٍ طبيعيٍّ إلى انخفاض مستويات الفساد؟ بالتأكيد عندما يحقق المواطنون مستوًى
أعلى من الملكية في الأصول والممتلكات، يكون لديهم حافز أكبر للحفاظ على هذه الأصول
بالمطالبة بمنظومةٍ قضائيةٍ وتشريعيةٍ أفضل. وقد حقَّق العديد من الدول الآسيوية
نموًّا سريعًا في وقتٍ كان فيه الفساد السياسي والمحاباة منتشرَين. وكما تورد صحيفة
«ذي إيكونوميست»: «على الرغم من أن معظم الاقتصاديين يتفقون على أن الفساد يبطِّئ
النمو، فإن الدولة الفاسدة تستطيع مع ذلك تحقيق نموٍّ سريع؛ فقد تكون الدول فاسدة
لأنها فقيرة، وليس العكس.»
18
نقد لمؤشرات الحرية الاقتصادية
تعرَّض العديد من الاقتصاديين بالنقد لمحاولات مؤسستَي فريزر وهيريتاج الرامية إلى
قياس الحرية الاقتصادية وربطها بالنمو وغيره من الإحصائيات الأخرى. وتشمل
اعتراضاتهم صعوبة التوصُّل إلى قياسٍ دقيقٍ للحرية الاقتصادية والمقارنة بين دولٍ مختلفة.
ما العناصر التي ينبغي إدراجها، وما الوزن الذي ينبغي منحه لكلٍّ منها؟ هل المملكة
العربية السعودية أكثر حريةً من الصين؟ لماذا تمنح مؤسسة هيريتاج درجاتٍ عاليةً من
الحرية الاقتصادية لدول الرفاهية السيئة السمعة مثل السويد والدنمارك؟ لماذا يجب أن
تحصل على مثل هذا التقييم المرتفع بالنظر إلى مستوى سياستها الصناعية وخطط الادخار
الإجبارية؟ هل ارتفاع مستوى «الأسواق غير الرسمية» (الأسواق السوداء) دلالة على
الحرية الاقتصادية أم على افتقادها؟
كذلك يثير الكينزيون والماركسيون القضية الخاصة بمدى موضوعية المؤشرات والدراسات،
بالنظر إلى أن مؤشرات الحرية الاقتصادية قد أُنشئت على يد مجموعةٍ من اقتصاديي السوق
الحرة. وعلى الرغم من تصريحات ميلتون فريدمان وجيمس جوارتني بأنهما تجريبيان
موضوعيان، فدائمًا ما يتساءل المرء إلى أي مدًى تؤثر الآراء الشخصية على منهجيتهما.
لا شك أن تأييد «وول ستريت جورنال» ومشاركتها في نشر مؤشر هيريتاج للحرية
الاقتصادية يمنحه مصداقية. بالإضافة إلى أن معهد فريزر يقدم منتدًى مفتوحًا لتشجيع
النقاش حول المؤشر. ويعرض موقعه الإلكتروني عبر الإنترنت أبحاثًا تم تقييمها من
قِبل الأقران عن قضايا الحرية الاقتصادية (انظر الرابط:
http://www.freetheworld.com/papers.html).
وسواءٌ أتفقنا أم لم نتفق مع مؤشرَي الحرية الاقتصادية اللذين نُشرا من قِبل معهد
فريزر أو مؤسسة هيريتاج، تكتسب المؤشرات سمعةً سيئةً مع الوقت؛ فوفقًا لإد فولنر،
رئيس مؤسسة هيريتاج، يتلهَّف القادة السياسيون لرؤية تصنيف المؤشرات لهم كل عام،
وهناك أدلة على أنهم يتخذون قراراتٍ مثل خفض الضرائب وخفض التعريفات الجمركية في
محاولةٍ منهم لزيادة مَرتبتهم على مؤشر الحرية الاقتصادية.