نموذج ييل الجديد للتكهنات
لا يزال الناس في كثيرٍ من بقاع العالم يثقون بشكلٍ مفرطٍ بأن سوق الأسهم، وسوق الإسكان في أماكن عدة، سوف تحقق أداءً بالغ الروعة، وهذه الثقة المفرطة يمكن أن تؤديَ إلى عدم الاستقرار.
يُعَدُّ إرفينج فيشر (١٨٦٧–١٩٤٧)، الأستاذ بجامعة ييل، رائد الاقتصاد النقدي ويعتبره الكثير من الاقتصاديين (مثل جيمس توبين وميلتون فريدمان) أعظم الاقتصاديين الأمريكيين الذين وُجدوا على الإطلاق. وُلد فيشر في عام ١٨٦٧ في نيويورك لأبٍ يعمل كاهنًا، وتفوَّق في الرياضيات وكان أول خريجي دفعته بجامعة ييل. تحت تأثير الدارويني الاجتماعي ويليام جراهام سمنر، نمَّى لديه اهتمامًا بعلم الاقتصاد، مكرِّسًا بقية حياته لدراسة المال، والأسعار، والاقتصاد. وبعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة ييل، تزوج وأنجب واستقرت به الحال على عيش حياة الأستاذ الجامعي والكاتب. ألَّف عشرات الكتب عن الاقتصاد النقدي، والحياة الصحية (بعد نجاته من الالتهاب الرئوي)، والاستثمار في سوق الأسهم. وفي عام ١٩١٨، انتُخب رئيسًا للجمعية الاقتصادية الأمريكية، وساهم فيما بعدُ في تأسيس جمعية الاقتصاد القياسي.
ونظرًا لما حُبِيَ به من عقليةٍ إبداعية، اخترع نظامًا للبطاقات المفهرسة (المعروفة اليوم ببرنامج رولوديكس)، وقام ببيعه مقابل سهمٍ في شركة رمينجتون راند. وفي ذروة انتعاش سوق وول ستريت، قُدِّرت قيمة سهمه من الفئة «أ» الذي يمتلكه في رمينجتون بعشرة ملايين دولار. بالإضافة إلى تدريس علم الاقتصاد بجامعة ييل، أصبح فيشر مستشارًا ماليًّا وصار معروفًا بأنه «عرَّاف وول ستريت»، وكثيرًا ما كان يُستشهد بأقواله في الإعلام المالي.
كان فيشر من متفائلي «العهد الجديد» الذين لا يتزحزحون عن موقفهم؛ إذ كان يؤمن بأن «العشرينيات الصاخبة» سوف تؤدي إلى عالمٍ جديدٍ وأفضل. وكان مؤيدًا بشدةٍ للسوق الصاعدة في وول ستريت. ومع سيطرة مجلس الاحتياطي الفيدرالي على المنظومة النقدية، كان فيشر على قناعةٍ بأن دورة الأعمال قد أُلغيت. ومع استقرار الأسعار في عقد العشرينيات، لم يكن يبالي ﺑ «صخب المضاربة» في وول ستريت، على الرغم من أن أسعار الأسهم قد زادت ثلاثة أضعافٍ في المتوسط خلال سبع سنواتٍ فقط حتى عام ١٩٢٩.
لم تتجاوز جامعة ييل الخزيَ الذي خلَّفته نبوءة فيشر الشهيرة، ودائمًا ما كانت تنبؤات الاقتصاديين يُنظر إليها بريبة. وكما علَّق بول صامويلسون ذات مرةٍ مازحًا: «لقد تنبأ الاقتصاديون بسبعٍ من أزمات الركود الثلاث السابقة!»
لم يكن في قراءة هذه الورقة البحثية من قِبل ثلاثةٍ من صفوة علماء الاقتصاد القياسي أي عزاءٍ أو راحةٍ في ضوء المخاوف الأخيرة من الانعدام المتزايد لاستقرار الاقتصاد القياسي بسبب فقاعات البورصة والعقارات التي قد تثير الفوضى في العالم المالي.
نموذج كلي جديد في ييل
بالنظر إلى الوراء، أتذكر أنني اعتقدت للوهلة الأولى أن نموذجه التنبُّئي كان مصادفةً أكثر منه علمًا، ولكن بعد ذلك وفي أواخر عام ٢٠٠٥، أصدر الطبعة الثانية من كتاب «الوفرة اللاعقلانية». وفي هذه الطبعة الجديدة، أضاف فصلًا جديدًا عن سوق العقارات الأمريكية؛ حيث أشار بوضوحٍ إلى تأثيرٍ «صاروخيٍّ» غير مسبوقٍ وغير مستديمٍ في قيم المنازل بدءًا من عام ١٩٩٧. وأعلن أن «شعورنا بالقلق والخطر يتزايد»، محذرًا المستثمرين من «فقاعة سوقية» مشابهة يمكن أن تكون بمنزلة استثمار «محفوف بالمخاطر». وفي خلال عام، وصلت أسعار العقارات في أكثر الأسواق سخونةً (خاصة فلوريدا، وكاليفورنيا، ونيفادا) إلى أعلى معدلاتها، لينتهيَ الأمر بانخفاض الأسعار، وارتفاع المعروض، وانهيار في قروض الرهانات العقارية في عام ٢٠٠٧.
حين حاورت البروفيسور شيلر، كان أول سؤال طرحته عليه هو: «في ضوء نجاحك المذهل في التنبؤ بالقمم في الأسهم والعقارات، والعائدات المذهلة التي حققها ديفيد سوينسن من إدارته لصندوق ييل للهبات، هل زالت لعنة إرفينج فيشر أخيرًا عن جامعة ييل؟» وجاءت إجابته متفائلة؛ إذ أجاب وعلى وجهه ابتسامة عريضة: «حسنًّا، أعتقد ذلك.»
على صعيدٍ أخطر، ما الذي يميز نموذج شيلر التنبُّئي عن النماذج الاقتصادية القياسية القديمة التي فشلت في توقع التغيرات في اتجاهات الأسهم والسندات والعقارات؟ إن كتابه «الوفرة اللاعقلانية» هو دراسة في السلوك البشري وسيكولوجية المضاربة في الأسواق المالية. وقد أخبرني قائلًا: «الاقتصاد السلوكي والمالي يكتسبان الكثير من الزخم، وهو الشيء الأكثر إثارةً الذي يحدث في علم الاقتصاد الآن. ولكن هذا غالبًا ما يحدث في كليات الأعمال.»
ووفقًا لشيلر، يمكن للمراقب الفَطِن أن يُبليَ بلاءً حسنًا في الأسواق المالية: «إنه مجال عملٍ تنافسي، ومعظم المديرين الاستثماريين لا يستطيعون التغلب على السوق. ولكن ثَمَّةَ مكافأة للبحث السليم الذكي. إن الاستثمار الناجح يتطلب إلهامًا، وجهدًا خاصًّا لتكريس الوقت والجهد، والانتباه والتركيز. ولعل أحد الأسباب وراء وقوع المستثمرين في أخطاءٍ هو عدم كفاية ما يولونه من انتباهٍ للأمر. إن الناس قادرون على إظهار ذكاءٍ فوق العادة، ولكنهم غالبًا ما لا يعرفون أين يطبقونه، فتنتهي بهم الحال باتباع القطيع والعزوف عن التفكير بشكلٍ مستقل. إنها ليست مسألةَ ذكاءٍ فقط؛ إنها مسألة قدرةٍ على الاحتفاظ بالاهتمام.»