معدن ميداس
هناك حاجة إلى معيارٍ أقل ارتباطًا بالزمن؛ والذهب يفي بالغرض تمامًا.
يحتفظ الذهب بقوته الشرائية على مدى فتراتٍ طويلةٍ من الزمن، لِنَقُل فترات تمتد لنصف قرن.
عند الحديث عن معدن ميداس، تحضرني مقولة لمارك توين: «تقارير وفاتي مبالَغ فيها بشدة!» خلال تسعينيات القرن العشرين، وبعد سنواتٍ من بيع البنك المركزي وهبوط السوق في مجال المعادن الثمينة، أعلنت جريدة «فاينانشيال تايمز» عن «وفاة الذهب». ولكنه لم يمت، بل كان في حالةٍ أشبه بالبيات الشتوي.
ما الشيء المفقود في هذه الصورة؟
خلال عقدَي ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين اللذين شهدا انخفاضًا في معدَّل التضخم، دخلت في اشتباكٍ مع محرري «وول ستريت جورنال» و«نيويورك تايمز» حول أهمية الذهب كمؤشرٍ للتضخم العالمي وعدم الاستقرار الجيوسياسي. خلال هذه الفترة، كان الذهب يُحتضَر نسبيًّا، وتجاهلَتِ الصحافة الرسمية معدنَ ميداس؛ ففي صفحات المال، كانت جريدة «تايمز» تُلقي الضوءَ على النفط، لا الذهب، كأفضل علامةٍ على التضخم. وكانت الصفحات الأولى من جريدة «وول ستريت جورنال» تُدرج اثني عشر مؤشرًا للسوق، من بينها الأسهم، والسندات، والعملات، والسلع، بما فيها النفط، ولكنها كانت تحذف أي ذِكرٍ للذهب.
ولكن كل هذا تغير في الألفية الجديدة؛ فقد عاد الذهب إلى الحياة في عام ٢٠٠٠، بعد أن أطلقت الهجمات الإرهابية حقبةً تضخميةً جديدةً من إنفاق الحكومة الضخمة والاقتراض الميسر؛ فقد وصل سعره الآن لأكثر من ٨٠٠ دولارٍ للأوقية.
عودة إلى قاعدة الذهب؟
ليست مجرد سلعةٍ أخرى
على الرغم من أن مقترح موبيوس النقدي لم يحقق أيَّ شيء، استمر مديرو البنوك الآسيوية، ومن بينها بنك الصين، في تجميع كمياتٍ كبيرةٍ من الذهب. والدراسات الحديثة تؤيد خطة موبيوس؛ فوفقًا لهذه الدراسات، يتميز الذهب بثلاث سماتٍ فريدة؛ الأولى: هي أنه يوفر وحدةَ حسابٍ مستقرةً للنظام النقدي العالمي؛ وحدةً تضاهي «القاعدة النقدية» بشكلٍ دقيق. السمة الثانية: أن الذهب كان له قدرة مذهلة على الاحتفاظ بقوته الشرائية على مدار التاريخ، وهو ما أطلق عليه الراحل روي جاسترام «الثابت الذهبي». أما السمة الثالثة فتكمن في القدرة الغريبة للمعدن الأصفر على التنبؤ بالتضخم ونِسب الفائدة في المستقبل.
قارن استقرار مخزون الذهب بالتغيرات السنوية في احتياطي النقد الورقي الذي تحوزه البنوك المركزية. لقد ارتفع مؤشر مجموعة الثماني للاحتياطي النقدي بمعدلٍ كبيرٍ وصل إلى ١٧ بالمائة في مطلع سبعينيات القرن العشرين، وبمعدلٍ طفيفٍ قدرُه ٣ بالمائة في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة. علاوةً على ذلك، كانت السياسات النقدية للبنوك المركزية أكثر تقلبًا بكثيرٍ من احتياطي الذهب. لقد ثبت عالميًّا أن الذهب أكثر استقرارًا وأقل تضخمًا من أي نظامِ نقدٍ إلزاميٍّ.
يتفق النقاد على أن الذهب بطبيعته عملة «صعبة»، إلا أنهم يشكون من أن إنتاج الذهب الجديد لا يمكنه مواكبة النمو الاقتصادي. بعبارةٍ أخرى، الذهب عملة صعبة أكثر من اللازم؛ فاحتياطي الذهب، كما أشرنا، يرتفع بمعدل نموٍّ سنويٍّ طفيفٍ لا يتجاوز ٣ بالمائة، وغالبًا ما يكون أقل من ٢ بالمائة، بينما نمو إجمالي الناتج المحلي عادةً ما يتجاوز ٣ أو ٤ بالمائة وأحيانًا ٧ أو ٨ بالمائة في الدول النامية. والنتيجة؟ يصبح انكماش الأسعار أمرًا حتميًّا في ظل قاعدةٍ للذهب الخالص؛ فالنقاد على صوابٍ في أنه من غير المحتمل أن يواكب نموُّ احتياطي الذهب النموَّ الحقيقي لإجمالي الناتج المحلي. فقط أثناء الاكتشافات الكبرى للذهب، كما في كاليفورنيا وأستراليا في خمسينيات القرن التاسع عشر أو جنوب أفريقيا في تسعينيات القرن التاسع عشر، كان نمو احتياطيات الذهب العالمية أسرع من ٤ بالمائة سنويًّا. ونظرًا لضغوط الانكماش، فإن احتمالات الرجوع عن تطبيق قاعدةِ ذهبٍ كلاسيكيةٍ هي احتمالات مستبعَدة.
الذهب باعتباره تحوُّطًا ضد التضخم
ماذا عن الذهب باعتباره تحوُّطًا ضد مخاطر التضخم؟ أوضح البروفيسور روي جاسترام، ببيركلي، وآخرون الاستقرارَ النسبي للذهب فيما يتعلق بقوته الشرائية؛ أي قدرته على الاحتفاظ بقيمته وقوته الشرائية عن السلع والخدمات على المدى البعيد. ولكن لا بد من التأكيد على عبارة المدى البعيد؛ فعلى المدى القصير، تعتمد قيمة الذهب بقدرٍ كبيرٍ على معدل التضخم؛ ولذا، غالبًا ما يعجز عن الحفاظ على سمعته باعتباره تحوُّطًا ضد التضخم.
والدراسة الكلاسيكية للقوة الشرائية للذهب هي كتاب «الثابت الذهبي: التجربة الإنجليزية والأمريكية، ١٥٦٠–١٩٧٦» لروي جاسترام، الأستاذ الراحل بجامعة كاليفورنيا، ببيركلي. يتناول الكتاب، الذي نفدت طبعته الآن، الذهبَ باعتباره تحوُّطًا ضد التضخم والانكماش على مدار ٤٠٠ عام.
شكلان بيانيان مذهلان
- (١)
دائمًا ما يعود الذهب إلى قوته الشرائية الكاملة، وإن كان يستغرق فترةً طويلةً في ذلك.
- (٢)
في محاضراتي في علم الاقتصاد بكلية رولينز وجامعة كولومبيا، أوضِّح قيمة الذهب على المدى البعيد بالاستعانة بعملة سانت جودينز الذهبية ذات النسر المزدوج فئة ٢٠ دولارًا كمثال. قبل عام ١٩٣٣، كان الأمريكيون يحملون هذه العملة في جيوبهم كنقود. وفي تلك الآونة كان بإمكانهم شراء حُلَّةٍ مفصَّلةٍ مقابل نسرٍ مزدوجٍ واحد، أو ٢٠ دولارًا. واليوم تستطيع هذه العملة ذاتها — التي تساوي ما بين ٩٠٠ إلى ١٢٠٠ دولار، اعتمادًا على ندرتها وحالتها — شراء نفس الحُلَّة المفصَّلة. إن لعملة النسر المزدوج قيمة نقدية، أو ندرة، بالطبع؛ فعملة سبيكة ذهبية تزن أوقية واحدة، من دون قيمةٍ نقدية، تساوي نحو ٩٠٠ دولارٍ فقط؛ فقد ارتفع سعر الذهب بالدولار بشكلٍ كبير، ولكنه لم يرتفع بنفس معدل ارتفاع عملاتٍ نقديةٍ أمريكية.
كان سعر سبيكة الذهب يزيد على ٨٠٠ دولارٍ للأوقية الواحدة في عام ١٩٨٠، وظل في هبوطٍ مستمرٍّ في القيمة لما يقرب من عقدين. وهو الآن في طريقه للتعافي واستعادة سابق عهده. هل يُعَدُّ الذهب تحوُّطًا جيدًا ضد التضخم؟ في الواقع، توضح التقارير أنه حين يكون معدل التضخم ثابتًا أو في انخفاض، يكون الذهب تحوطًا سيئًا ضده؛ فالمعدن الأصفر (وأسهم المناجم) عادةً ما تستجيب على أفضل نحوٍ للتضخم المتسارع. وعلى المدى الطويل، احتفظ معدن ميداس بتحوُّطه، إلا أنه لا ينبغي اعتباره تحوطًا مثاليًّا أو وافيًا، بل إن الأسهم الأمريكية قد أثبتت أنها مربحة أكثر بكثيرٍ من الذهب كاستثمار.
ويوضح عمل الأستاذ بكلية وارتون، جيرمي سيجل، أن الأسهم الأمريكية قد تفوقت في أدائها على الذهب تفوقًا كبيرًا على مدار القرنين الماضيين. وعلى غرار جاسترام، يؤكِّد سيجل استقرارَ الذهب على المدى البعيد. غير أن الذهب لا يمكنه الارتقاء لمستوى أداء سوق الأسهم الأمريكية. وكما يوضح في كتابه «الأسهم على المدى الطويل»، فقد تفوقت الأسهم في أدائها إلى حدٍّ كبيرٍ على السندات، وأذون الخزانة، والذهب. لماذا؟ لأن الأسهم تمثل نموًّا اقتصاديًّا وإنتاجيةً أعلى على المدى الطويل؛ فقد ارتفعت الأسهم ارتفاعًا حادًّا في القرن العشرين بسبب الارتفاع الكبير في مستوى المعيشة ومنظومة الاقتصاد الحر الأمريكية.
ما الذي تبقَّى للمعدن الأصفر؟ أرى وظيفتين أساسيتين للذهب؛ الأولى: استثمار مربح حين تتسارع الأسعار العامة، والثانية: مقياس مهم لتضخم الأسعار ومعدلات الفائدة في المستقبل.
الذهب باعتباره استثمارًا مربحًا
منذ أطلقت الولايات المتحدة قاعدة الذهب في عام ١٩٧١، أصبحت سبائك الذهب وأسهم مناجم الذهب استثماراتٍ دوريةً معروفة. وينبغي تحذير المستثمرين من الطبيعة المتقلبة للذهب وأسهم المناجم، علمًا بأن أسهم المناجم تميل إلى التذبذب أكثر من الذهب ذاته؛ فمن الممكن أن توفر صناعة الذهب أرباحًا فائقةً أثناء فترات الصعود، وخسائرَ فادحةً أثناء فترات الهبوط.
الذهب باعتباره وسيلةً للتنبؤ
غير أن الذهب لديه القدرة المذهلة على التنبؤ بدقةٍ باتجاه المستوى العام للأسعار؛ ففي منتصف تسعينيات القرن العشرين، قمنا أنا وجون ليست (الذي كان آنذاك عالم اقتصادٍ في جامعة سنترال فلوريدا، والآن في شيكاجو) بتطوير نموذج تنبؤٍ للتضخم. فاختبرنا ثلاثة مؤشرات للسلع (مؤشر داو جونز للسلع الحاضرة، والنفط الخام، والذهب) لتحديد أفضلها في توقع التغيرات في مؤشر أسعار المستهلك بين عامَي ١٩٧٠ و١٩٩٢. وتبين أن الذهب قد أثبت أنه أفضل مؤشرٍ للتضخم المستقبلي حسبما يقاس بمؤشر أسعار المستهلك. ويبلغ الفارق الزمني نحو عام؛ أي إن الذهب يقوم بعملٍ جيدٍ في التنبؤ باتجاه مؤشر أسعار المستهلك قبلها بعام (علمًا بأن المؤشرات الثلاثة جميعًا تتسم بالرداءة في التنبؤ بالتغيرات في مؤشر أسعار المستهلكين على أساسٍ شهري.)
بإيجاز، إذا أردت أن تعرف مستقبل تضخم الأسعار، فراقِب المضاربين على الذهب في سوق بورصة نيويورك التجارية، فإذا دخل الذهب في موجة ارتفاعٍ مستديم، فتوقع تضخمًا أعلى في المستقبل.
إن الذهب هو المؤشر الأكثر أهميةً على الإطلاق.