هل يمكن أن يحدث كساد عظيم آخر؟
الاقتصاد الأمريكي محصن ضد الكساد.
هل يمكن أن يحدث «كساد عظيم» آخر في ظل انهيار الأسهم، وتدهور أرباح الشركات، والارتفاع السريع في معدل البطالة إلى ٢٥ بالمائة أو أكثر؟ يتفق معظم الاقتصاديين مع ميلتون فريدمان، الذي ألقى خطبة عن هذا الموضوع في السويد في عام ١٩٥٤، ذهب فيها إلى أن القادة الحكوميين ومديري البنوك المركزية يتفهَّمون الآن أساسيات الاقتصاد، ولديهم الأدوات التكنولوجية لمنع الانهيار الكامل. وأشار إلى العديد من التغييرات المؤسسية التي تجعل حدثًا كهذا محالًا، مثل التأمين على ودائع البنوك الفيدرالية، والتخلي عن قاعدة الذهب الدولية، والزيادة في حجم الحكومة، وفي ذلك مدفوعات الرعاية الاجتماعية، وتأمين البطالة، وغيرها من أدوات حفظ الاستقرار الثابتة الأخرى. والأهم من ذلك أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يعرف كيف لا يكرر أخطاء الماضي وكيف يتجنب أيَّ انهيارٍ نقديٍّ مهما كلف الأمر (من خلال ضخ سيولةٍ نقديةٍ في السوق والنظام المصرفي بشكلٍ أساسي).
لا شك أن تكهُّن فريدمان بعدم وقوع أي أزمات كسادٍ أخرى قد ثبتت صحته حتى الآن؛ فقد مررنا بالعديد من فترات الانكماش والركود في الاقتصاد، بل وبعض الانهيارات في سوق الأسهم، ولكننا تجنبنا الأزمة الكبرى؛ «كسادًا عظيمًا» ضخمًا مشابهًا لنكبة ثلاثينيات القرن العشرين.
غير أنني أود الإشارة إلى أنه على الرغم من أن حدوث «كساد عظيم» آخر قد لا يكون مرجحًا، فمن المؤكد أنه ليس مستحيلًا؛ فنحن مقاومون للكساد، ولكن لسنا محصنين ضده. قبل الشرح والتوضيح، دعونا نستعرض معنى «الكساد العظيم»، ولماذا وقع، ولماذا استمر للفترة التي استمر خلالها، وكيف خرجنا من الكساد.
تأثير الكساد العظيم
قد يكون «الكساد العظيم» الطويل الذي وقع في ثلاثينيات القرن العشرين ذكرى خافتة الآن، إلا أن تأثيره لا يزال ملموسًا سياسيًّا ونظريًّا؛ فقد خلق الكساد بيئةً حسَّاسةً تجاه سياسات الحرية الاقتصادية وعدم التدخل ومؤيدةً للتدخل الحكومي الواسع الانتشار عبر أنحاء العالم الغربي. وقد قاد الكساد إلى نشأة دولة الرفاهية وإيمان لا محدود ﺑ «الحكومة الضخمة». ودفع معظم ممارسي مهنة الاقتصاد الأنجلوأمريكيين إلى التشكيك في الاقتصاد القديم للسوق الحرة والبحث عن بدائلَ جذريةٍ مضادةٍ للرأسمالية، ليتحوَّلوا في النهاية إلى النظرية الكينزية الجديدة في الاقتصاد، واقتصاد جانب الطلب.
قبل «الكساد العظيم»، كان معظم الاقتصاديين الغربيين يتقبلون المزايا الكلاسيكية الخاصة بالادخار، والحكومة ذات الصلاحيات المحدودة، والموازنات المتوازنة، وقاعدة الذهب، وقانون ساي. وبينما واصل معظم الاقتصاديين الدفاعَ عن الاقتصاد الحر والتجارة الحرة على نطاقٍ اقتصاديٍّ جزئي، رفضوا الآراء التقليدية على مستوى الاقتصاد الكلي في فترة ما بعد الحرب، محبِّذين الاستهلاكَ على الادخار، والنقدَ الإلزاميَّ على قاعدة الذهب، والإنفاق بالعجز على الميزانية المتوازنة، والتدخل الحكومي النشط على الحكومة ذات الصلاحيات المحدودة. واقتنعوا بالحجة الكينزية القائلة بأن أي سوقٍ حرةٍ هي سوق غير مستقرةٍ بطبيعتها ويمكن أن تسفر عن مستوياتٍ مرتفعةٍ من العمالة والموارد المعطلة لفتراتٍ غير محدودة. وألقَوا مسئولية «الكساد العظيم» على الرأسمالية المتحررة وزعموا أن الإنفاق الحكومي الضخم إبَّان الحرب العالمية الثانية هو وحده من أنقذ النظام الرأسمالي من الهزيمة. بإيجاز، فتح «الكساد العظيم» الباب على مصراعيه أمام مبدأ الجماعية في الولايات المتحدة وحول العالم.
لحسن الحظ، تدارك اقتصاديو السوق الحرة بالتدريج الثغرات في هذه الحجج، وتحوَّلَتِ الدفة ببطءٍ نحو إعادة تأسيس اقتصاد السوق الحرة القديم. وكان هناك ثلاثة أسئلةٍ بحاجةٍ إلى مواجهتها: ما السبب وراء «الكساد العظيم»؟ لماذا استمرَّ طويلًا هكذا؟ هل أعادتِ الحرب العالمية الثانية الرخاء؟ وقد أطلق المؤرخ الاقتصادي البريطاني روبرت هيجز على هذه المجالات الجدلية الثلاثة «الانكماش العظيم»، و«الاستمرار العظيم»، و«الخلاص العظيم».
السبب وراء الانكماش العظيم
الانحدار الممتد
أصيب النشاط الاقتصادي والتوظيف بحالةٍ من الركود على مدار حقبة الثلاثينيات؛ ما أدَّى إلى تحوُّلٍ في النموذج من علم الاقتصاد الكلاسيكي إلى الكينزية. كان فريديريك هايك، الاقتصادي النمساوي الذي تحدى كينز في الثلاثينيات، في غاية الإحباط إزاء الحالة التي وصل إليها اقتصاد العالم الحر لدرجةٍ دفعته إلى هجر دراسة علم الاقتصاد لأجل الفلسفة السياسية.
ما الذي أخرجنا من الأزمة؟
بإيجاز، لقد كانت حربًا طويلةً وشاقةً لاستعادة التأييد لرأسمالية السوق الحرة. وأخيرًا، ومن خلال الأعمال الرائدة لفريدمان، وروثبارد، وسمايلي، وهيجز وعلماء آخرين، يمكننا القول الآن بأن المعركة قد انتهت بالنصر.
هل يمكن أن يحدث مجددًا؟
- (١)
يمكن أن تزعزع الحكومة استقرار الاقتصاد بالمبالغة في الوعود والتعهدات فيما يتعلق بالاستحقاقات، ومدفوعات الرعاية الاجتماعية، والإنفاق الحربي؛ ما يهدد بالإفلاس وحدوث تضخُّمٍ هائل.
- (٢)
يمكن أن تتسبب الحكومة في نكبةٍ اقتصاديةٍ وركودٍ دائمٍ بالإسراف في فرض اللوائح الرقابية، والبيروقراطية، والضرائب على الأعمال والتجارة.
- (٣)
يمكن لسلسلةٍ من الأحداث غير المتوقعة أن تتسبب في أزمةٍ اقتصاديةٍ كبرى — سحب على الدولار، أو أزمة عقارية، أو تحولات مفاجئة من فئةٍ من الأصول (مثل السندات الحكومية) إلى أخرى (مثل الذهب، أو عملة صعبة)، أو هجوم إرهابي كبير، أو كارثة طبيعية — من شأنها أن تدحر السلطات النقدية.
ما دامت المنظومةُ المالية العالمية قائمةً على سياسةٍ تضخميةٍ متقلبةٍ ومزعزعةٍ للاستقرار مقترنة بمنظومةٍ مصرفيةٍ احتياطيةٍ جزئيةٍ هشَّةٍ وأسواقٍ عالميةٍ حرة، وإمكانية حدوث فوضى وما يتبعها من نكبةٍ اقتصادية؛ فلا ينبغي الاستهانة بها. لقد ظلت الحكومات لسنواتٍ قادرةً على الاستجابة بفاعليةٍ لمجموعةٍ متنوعةٍ من الأزمات، وتعافت الأسواق. ولكن الذعر الاقتصادي الأخير بالتأكيد ليس الأخير، ولا ينبغي للمرء مطلقًا أن يقلِّل من قدرة السوق العالمية على إصدار ردة فعلٍ غير متوقعة.