الاستثمار ذو العائد المرتفع
يُمثِّل التنوُّع الحقيقي بديلًا للاستثمار في الاتجاه المعاكس؛ ففئات الأصول ذات العائد المرتفع المتوقَّع من أسهمٍ محلية، والأسهم الأجنبية، والأسهم السوقية الناشئة، والعقارات … تيسر عملية تحسن خصائص العائد والمخاطرة.
في عامَي ٢٠٠١-٢٠٠٢، كنت رئيسًا لمؤسسة التعليم الاقتصادي في إرفينجتون، بمدينة نيويورك. كان للمؤسسة تاريخ عظيم كواحدةٍ من أقدم المؤسسات التعليمية في البلاد؛ إذ كانت تُعلم الطلاب والكبار المبادئ الأساسية للاقتصاد السليم. حين انضممتُ إلى المؤسسة أصبحتُ أيضًا مسئولًا عن صندوق هباتٍ قيمته بضعة ملايين من الدولارات. يتم تكوين صناديق الهبات من قِبل مؤسساتٍ مثل مؤسسة التعليم الاقتصادي من أفرادٍ يقدِّمون تبرعاتٍ ضخمةً بشكلٍ غير معهود، غالبًا ما تكون في شكل ميراثٍ موصًى به في وصية. تُعَدُّ الهبات، بشكلٍ ما، مثل أموالٍ مدخرةٍ للأيام الحالكة. وهي مرغوبة بشكلٍ كبيرٍ من قِبل المؤسسات غير الربحية؛ لأن الصندوق يمنح المؤسسة سندًا احتياطيًّا تستند إليه في الأيام العجاف، حين تسير جهود جمع التبرعات بإيقاعٍ بطيء. بالإضافة إلى ذلك، يجيز معظم مجالس إدارات المؤسسات غير الربحية للمؤسسة استخدام نسبةٍ صغيرةٍ من صندوق الهبات لتمويل عمليات التشغيل الحالية.
تحظى صناديق الهبات بميزة الادخار التراكمي المُعفى من الضرائب. فأي فائدةٍ أو أرباحٍ أو مكاسبَ على رأس المال تُجنى في الصندوق تتراكم دون الخضوع للضرائب الفيدرالية وضرائب الولايات. وعادةً ما تُستثمر هذه الأموال بطريقةٍ متحفظةٍ للغاية. حين انضممتُ إلى مجلس الإدارة باعتباري رئيسًا لمؤسسة التعليم الاقتصادي، لاحظتُ أن ٧٠ بالمائة من المَحفظة استُثمر في الأغلب في سنداتٍ حكومية، و٣٠ بالمائة استُثمر في أسهمٍ عالية الجودة؛ فصناديق الهبات يُعتز بها في عالم المؤسسات غير الربحية، ولا أحد يرغب في أن يرى انخفاضًا في قيمة أي صندوقٍ من صناديق الهبة. وقد قيل لي بوضوحٍ إنه حتى لو كانت لي سلطة إدارة صندوق الهبات التابع لمؤسسة التعليم الاقتصادي، ما كنتُ لأُغيِّرَ نسبة اﻟ ٧٠ : ٣٠ الشديدة التحفُّظ تلك.
ونتيجةً لذلك، كان صندوق هبات مؤسسة التعليم الاقتصادي يساير التضخم بالكاد على مدار السنين. وهذا هو العيب الأساسي لمعظم صناديق الهبات التي تُدار من قِبل الجامعات والمؤسسات والشركات والكنائس والمراكز البحثية؛ فهي ببساطةٍ محافظة بشدةٍ وتميل إلى انخفاض الأداء عن مؤشرات سوق الأسهم الأوسع نطاقًا.
نموذج ييل الجديد
يتحدَّى هذه الرؤيةَ التقليديةَ ديفيد إي سوينسن، الذي عُين مديرًا تنفيذيًّا للاستثمار لدى صندوق هبات جامعة ييل في عام ١٩٨٥؛ فَتَحْتَ قيادتِه، زادت استثمارات صندوق ييل من ٦ مليارات إلى ١٨ مليار دولار، بربحٍ سنويٍّ قيمتُه ١٧٫٢ بالمائة على مدار السنوات العشر الماضية، وهو ما يتجاوز متوسطات السوق بنقطتين مئويتين، ويتفوق على صناديق الهبات الأكثر تحفظًا. علاوةً على ذلك، لم يعانِ صندوق ييل من عامٍ انخفاضيٍّ واحدٍ خلال فترة هبوط السوق ما بين عامَي ٢٠٠٠–٢٠٠٣. ويعتبر سوينسن هُوَ «بيب روث» صناديقِ الهبات.
بعد حصوله على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية تحت إشراف جيمس توبين، الحائز جائزةَ نوبل، عمل سوينسن لدى بنكَيْ ليمان براذرز وسالومون براذرز في وول ستريت قبل أن يعود إلى ييل لإنشاء «نموذج ييل» للاستثمار في فئة الأصول المتعددة. يوظف أسلوب سوينسن للاستثمار القاهر للسوق مبادئ المنافسة السوقية والحوافز والعمل الحر والاقتصاد. وقد أظهر نجاحًا بشكلٍ ممتازٍ حتى الآن.
ما الذي صنع الفارق؟ بادئ ذي بَدء، لم يكن سوينسن يُكِنُّ أيَّ إعجابٍ للأسلوب التقليدي لاستثمار الهبات: المحفظة الاستثمارية المحافظة في الأسهم الأمريكية (يفضل أسهم الشركات الممتازة)، والسندات الأمريكية (يفضل سندات الخزانة الأمريكية). وتتباين التوليفة؛ فبعض صناديق الهبات كانت لديها أسهم أكثر من السندات، والبعض الآخر، مثل صندوق مؤسسة التعليم الاقتصادي، كانت لديه سندات أكثر من الأسهم. وفي كلتا الحالتين، أدرك سوينسن أن مثل هذه المحفظة الاستثمارية المحافظة مقدَّر لها أداءٌ متوسطٌ أقلُّ من متوسطات السوق.
كبديل، ابتكر سوينسن برنامجًا يتضمَّن تنويعًا أكبر في فئات الأصول الأخرى، من ضمنها الأسواق الأجنبية، والموارد الطبيعية، والاستثمارات البديلة في صناديق التحوُّط وصناديق الأسهم الخاصة. وفي كتابه «نجاح غير تقليدي»، يحدد سوينسن الفئة التالية للأصول المتعددة لمحفظةٍ استثمارية، تتألَّف من ست فئاتٍ للأصول في العينة التالية:
أسهم محلية | ٣٠٪ |
أسهم أجنبية | ١٥٪ |
أسهم الأسواق الناشئة | ٥٪ |
العقارات والموارد الطبيعية | ٢٠٪ |
سندات الخزانة الأمريكية | ١٥٪ |
سندات الخزانة الأمريكية المحمية من التضخم | ١٥٪ |
لاحظ مدى الاختلاف الشاسع لهذه المحفظة المتعددة الأصول عن صندوق التبرعات المتحفظ التابع لشركةٍ، أو جامعةٍ، أو مؤسسةٍ خيرية؛ فبدلًا من ٧٠ بالمائة في السندات، خفض سوينسن عنصر السندات إلى ٣٠ بالمائة، نصفها في سندات الخزانة الأمريكية المحمية من التضخم؛ وبدلًا من ٣٠ بالمائة في الأسهم، زاد الأسهمَ إلى ٥٠ بالمائة، مع تعرُّضٍ لمخاطرَ كبيرةٍ في الأسواق الأجنبية. ويذهب سوينسن إلى أن مثل هذا الصندوق المكوَّن من أصولٍ غير تقليدية يمكن أن يتغلب على السوق بتقلباتٍ أقلَّ إذا كانت الأصول داخل الصندوق «غير مقيدة»؛ ويعني بذلك أن الأصول المتنوعة تتحرك في اتجاهاتٍ مختلفةٍ حين تتغير اتجاهات السوق. على سبيل المثال، إذا ارتفع التضخم، فقد تنخفض الأسهم المحلية، ولكن العقارات والموارد الطبيعية — المعروفة بالتحوُّطات ضد التضخم — قد توازن الأسهم وتحمي المحفظة الاستثمارية من الانخفاض الحادِّ بشكلٍ كبير.
على الرغم من أن الغالبية العظمى منكم — قرَّاءَ هذا الكتاب — لن تدير صندوق هبات، يمكن أن يسريَ أسلوب سوينسن على نحوٍ مماثلٍ على خطة التقاعد التي تُديرُها ذاتيًّا، أو حساب التقاعد الفردي، أو أي برنامج تقاعدٍ آخر. ويمكنك أن تحقق عائداتٍ سوقيةً رائعةً بالاستثمار في مجالاتٍ استثماريةٍ «غير خاضعةٍ للتصحيح» على غرار تلك التي طوَّرها سوينسن.
- (١)
تحرَّ التنويعَ في فئات الأصول الست المدرجة سابقًا.
- (٢)
أَعِدْ موازنةَ محفظتك الاستثمارية بالنسبة إلى أوزان فئات الأصول الست المذكورة سابقًا بصفةٍ منتظمةٍ (مرةً أو مرتين في العام).
- (٣)
ركِّز على صناديق المؤشرات المنخفضة التكلفة وصناديق الاستثمار المتداولة.
«تناولْ ما صنعَتْ يداكَ!»
يستمتع معظم مديري الصناديق والمديرين الاستثماريين قليلًا بالاستثمار التعاوني. بل إن الغالبية العظمى من الصناديق المشتركة تحوي القليل من الاستثمارات الثمينة الموازية. ولعلَّ من السمات الفريدة لصندوق ييل الاستثماري أن مديريه يبحثون عن مديرين استثماريين متخصصين لديهم «مَحافظ مركَّزة» في حفنةٍ صغيرةٍ فقط من الأسهم، وغالبًا لا يكون عليها إقبال؛ فهم يتنافسون أحدهم مع الآخر من أجل حسابات استثمار ييل، ويتم إقصاء المديرين المختارين إذا لم يكن أداؤهم جيدًا مثل أقرانهم، في مثالٍ آخر لعملية «التدمير الخلاق» في الاقتصاد العالمي الجديد.
مدارس أخرى من مدارس آيفي ليج تتبنَّى نموذج ييل
لم يمر نموذج سوينسن غير التقليدي دون أن يَلفت الانتباه؛ فهناك مدارس أخرى مثل ستانفورد وهارفارد تتبع خطاه. كانت صناديق الهبات الأعلى أداءً التابعة للجامعات مجتمعةً تربح نحو ١٥ بالمائة خلال العقد الماضي، متخطيةً بسهولةٍ خطط المعاش العادية ومؤشرات سوق الأسهم الأمريكية. ويُعَدُّ صندوق جامعة هارفارد، الذي يديره محمد العريان، هو أكبرَ صندوق هباتٍ في العالم؛ فمنذ عشرين عامًا، كان نحو ٨٠ بالمائة من محفظته يُستثمر في الأسهم والسندات المحلية. أما اليوم، تحت إدارة العريان، فإنه يبدو مختلفًا تمامًا؛ إذ صار ٣٠ بالمائة منه يُستثمر في الأسهم الأجنبية والمحلية، و٣٥ بالمائة في السندات الأمريكية وسنداتٍ أخرى ثابتة الدخل، و١٧ بالمائة في صناديق التحوُّط، و٣١ بالمائة في الأصول الحقيقية، من بينها العقارات، والأخشاب، والطاقة. ومن خلال التنويع في الأسهم الأجنبية، لا سيما في الأسواق الناشئة، نما صندوق هبات هارفارد بنسبة ٢٣ بالمائة إلى ٣٥ مليار دولار في العام الماضي، متخطيًا مؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ بثلاث نقاطٍ مئوية. وقد استفاد بشكلٍ خاصٍّ من محفظة أسهم الأسواق الناشئة، التي تقدمت بنسبة ٤٤ بالمائة.
التغلُّب على السوق مستبعد كثيرًا، ولكنه ليس مستحيلًا
استطاع سوينسن وشركاؤه الاستثماريون تحقيقَ عائداتٍ فائقة، ولكن ييل، وهارفارد، وأي مدرسةٍ أخرى من مدارس آيفي ليج تستطيع الوصول إلى مديرين بمهاراتٍ ومعرفةٍ أفضل من المستثمر العادي. في كتابه «نجاح غير تقليدي»، ينصح سوينسن بأنه من الأفضل لمعظم المستثمرين أن يقيدوا أنفسهم بمؤشرات سوق الأسهم. وبحسب جيرمي سيجل وشركته ويزدوم تِرِي، بوسعك أن تُحسِّن عائداتك بمخاطرةٍ أقلَّ قليلًا عن طريق الاستثمار في مؤشرات أسهمٍ مرتبطةٍ بحصصٍ ربحية (انظر الفصل السابق).
تنكر النسخة المتطرفة من نظرية السوق الكفء القدرةَ على إيجاد صفقاتٍ منخفضةِ القيمة في الأسواق المالية، بِناءً على الاعتقاد بأن الأسواق ذات كفاءةٍ دائمًا والمعلومات متاحة بلا تكلفةٍ لعامة الناس. ولكن الحقيقة هي أن المعلومات ليست بلا تكلفةٍ وليست متاحةً دومًا للعامة. ومن الممكن جَنْيُ الكثير من الأموال في أسهمٍ صغيرةٍ مجهولةٍ بسبب افتقار الناس إلى المعلومات؛ فالمضاربون من الداخل ومتخصصو التداول في المقصورة يعرفون بالشركات المطروحة للتداول قبل العامة؛ ومن ثَمَّ يمكنهم تحقيق أرباح. علاوةً على ذلك، يجهل العامة، إلى حدٍّ مثيرٍ للشفقة، الاتجاهات الاقتصادية؛ ومن ثَمَّ لا يستطيعون التصرُّف على أساس أحداث الاقتصاد العالمي بشكلٍ مربح. وهناك الكثير من النظريات الزائفة يذهب إلى أن المستثمرين والمحللين الذين يتصرفون على أساس ذلك يتسببون في خسارةٍ مالية؛ مما يترك الباب مفتوحًا للأفراد ذوي الحنكة والدهاء الذين يتفهمون الاتجاهاتِ الحاليةَ ويجنون مكاسب وفقًا لذلك.
لقد حقَّق الاقتصاديون السلوكيون معجزاتٍ في اكتشاف طرقٍ لزيادة مدخراتنا واستخدام صناديق تقاعدنا بمزيدٍ من الحكمة والحصافة؛ فهل يمكن فِعل الشيء نفسه مع برنامج التقاعد الحكومي؛ أي الضمان الاجتماعي؟ في الفصول القليلة القادمة، أعالج هذه القضية المثيرة للجدل، بادئًا بالنجاح الملحوظ لإصلاح المعاشات في تشيلي. ولكن هل يمكن تكرار هذا النجاح في الولايات المتحدة؟ لنستكشفْ ذلك معًا.