اسم زحلة وموقعها
أرى أنَّ اسم زحلة مأخوذ من زحل الرجل عن مكانه إذا تنحى وتباعد، ومنه المزْحل اسم
مكان
للموضع يُزحل إليه، أو مصدر ميمي على حدِّ قول الشاعر:
ويركب حد السيف من أن تضيمهُ
إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحلُ
ومما يؤيد هذه التسمية، أنَّ الجهة الشرقية من القسم الجنوبي من المدينة عند محلة
البيادر
حذاء سراي الحكومة لن تزال معرَّضة للزحول في كل سنة؛ لعدم تماسك تربتها بشيء من الصخور
أو
الأشجار، وكذلك بعض أنحاء المدينة معرَّضة لهذا الخطر. وهناك موقع سيدة الزلزلة الأرثوذكسية
التي أُقيم معبدها تذكارًا لزلزلة حدثت، فخسفت الأرض حولها، كما يظهر للرائي الآن. وفي
لبنان قرية عين زحلتا بهذا المعنى.
وربما سميت المدينة بهذا الاسم منسوبة إلى هيكل أقيم فيها لزحل المعبود القديم، وإذا
صح
هذا الرأي فالأولى أن يكون هيكل هذا الإله الوثني على تلة المشيرفة الغربية الواقعة على
الجانب الجنوبي من المدينة مقابل قرية وادي العرايش، وهي في قضاءِ المتن الأعلى من لبنان،
وسيأتي ذكرها في آثار المدينة.
أما ادعاء العامة أنَّ زحلة سُميت باسم الملك الزحلان من بني هلال،
١ وأنَّ التلة الشرقية على الجهة الجنوبية مسماة باسم ابنته شيحا، فهو من المزالق
التاريخية المبنية على الوهم والتخرُّص، وذلك كثير في بلادنا ينكرهُ التاريخ الصحيح.
وموقع المدينة اللبنانية الحالي في حضيض جبل الكنيِّسة،
٢ وهذا الجبل من لبنان الغربي من قضاء المتن، وهو دون جبل صنِّين الذي يقابله
ارتفاعًا يشرف على سهلي بعلبك والبقاع والجهات الأُخر، وفي سفوحه كثير من القرى.
وبناء مدينة زحلة الحالي يمتد في وادٍ منفرج على ضفتي نهر البردوني، وموقعها بديع
يأخذ
بمجامع القلوب حسنًا، ويتخلل المدينة هذا النهر مترقرقًا على الحصى، ومنه تفرعت مجارٍ
على
الجانبين لإدارة الطواحين المائية.
٣ وهي على علوِّ ألف متر ونيف عن سطح البحر في أسفلها، ونحو ألف ومائتي
متر
٤ في أعلاها. وتملأ أبنية المدينة فسحة الوادي الواقع بين منعطف جبلين من سلسلة
لبنان الغربي، منفرجين في وسطهما وضيقين في الجانبين الشرقي والغربي. فالمضيق الغربي
هو تحت
قرية وادي العرايش التابعة لمديرية بسكنتا من أعمال المتن في لبنان، وهناك تنحدر ذراعان
من
سلسلة الجبلين المتقابلين، حتى تكادا تتماسان أمام نُزل — لوكندة — الصحة القائم على
الجانب
الشمالي من المدينة، ومن هناك إلى قاع الريم وادٍ عميق جدًّا ينفرج مرَّة ويضيق أخرى،
فيمثل
أبدع المناظر الطبيعية التي تملأ العين حسنًا، وفيه كثير من أشجار الحور والصفصاف والتوت
والكروم وغيرها. وهناك قريتا وادي العرايش وقاع الريم (قاع فرِّين) التابعتان لبسكنتا
في
العدوة الشمالية من الوادي ومقابلهما في العدوة الجنوبية قرية حزرتا، وسكانها من الشيعيين
(المتاولة)، وهي تابعة لمديرية المتن الأعلى من لبنان.
والمضيق الشرقي موقعهُ بين تلة شيحا، المار ذكرها، وتلة أخرى تقابلها على الجانب الشمالي
تُعرف بتلة الحمَّار؛ لاحمرار تربتها (ومعظم تربة زحلة بيضاء)، وهي فوق قصبة المعلقة
وأطراف
حوش الزراعنة التابع لزحلة.
ومن نظر إلى هذا المنفرج بمضيقيه، رآه أشبه بحنجرة يحدق بها مضيقا الفم والمريء
(الزلعوم)؛ فيجري البردوني من فم الوادي الغربي وينساب إلى الفم الشرقي، ثم يتخلل السهل
إلى
أن يصب في نهر الليطاني. فالمدينة غورية جبلية وأبنيتها منضَّدة بعضها فوق بعض، كأنها
سلالم
على سفوح وأسناد الوادي.
وذكر أحد سياح الإفرنج أنَّ زحلة أشبه بالرمانة
المفلوقة، وهذا التشبيه هو اليوم أصح منه في الأمس لكثرة مسنَّمات الآجر (القرميد)، التي
تمثل حَبَّ الرمان الأحمر. وذكر المرحوم الدكتور پوست الأميركاني: إنَّ قرية بيلان في
شمالي
سورية هي أشبه بمدينة زحلة؛ لأنها مبنية على عدوتي وادٍ عميق، ومنظر بيوتها أشبه بزحلة
وكذلك تلولها. فإن ترابها أبيض وفيها وحولها كروم كثيرة، ويشرف عليها جبال شامخة وموقعها
حصين.
والبردوني يقسم المدينة إلى قسمين، القسم الجنوبي منهما أكثر عمرانًا من الشمالي،
ولكن
هذا أحدث أبنيةً من ذاك، وعلى ضفتيه الأشجار المتمايلة بقدودها الممشوقة التي معظمها
من
الحور، وفي غربيها متنزهات الصفة، وهي من أبدع المواقع الطبيعية يختلف إليها الناس صيفًا،
فيروِّحون النفس بنسماتها البليلة، وحول هذه الحدائق النضرة والرياض الغناء طريق عربات
يحدق
بها، ويتصل بجسور هي أشبه بالأسورة لمعاصم المجاري المائية، يمثل أشكالًا هندسية تخلب
محاسنها القلوب وتملأ العين جمالًا. وفي أعالي المدينة دوالي الكروم اللذيذة العنب، كأنها
أصابع تشير إلى جماله، أو تعاويذ من الزمرُّد تردُّ عنه عين حاسده منشدة بلسان
الشاعر:
فتح عيونك في سواي فإنما
عندي قبالة كل عين إصبعُ
وعلى الجملة فإن وادي البردوني الجميل جامع لمحاسن الطبيعة، من خضرة النباتات وزرقة
المياه وصفائها وجمال الأبنية ولطف السكان.
ومما يحسن ذكرهُ أنَّ المغفور له الأمير بشير الشهابي الكبير لما جاء زحلة سنة ١٨١٤م،
ورأى معظم أبنيتها في الجانب الجنوبي وليس في الشمالي (القاطع)، إلا ثلاثة بيوت قرب الماء؛
تأسف لذلك وقال: إنَّ البناء سيتكاثر في هذه الجهة الشمالية وترتفع أثمان الأرض. فحققت
الأيام صدق قوله هذا ولا سيما اليوم.
وفي أسفل المدينة على جانبي النهر طريق للعربات، كأنه المنطقة المستديرة بخصر المدينة،
وهو يتصل مرارًا بجسور متقنة قائمة على النهر، فيمثل دوائر مختلفة الأشكال. وهناك المتنزهات
التي تصفُّ فيها الكراسي والمناضد، ويختلف الناس إليها على اختلاف أجناسهم ولا سيما بعد
العصر، يروِّحون النفس بتجاذب الأحاديث وبقبقة النارجيلات، ويقتلون الهموم بطلعة الكئوس
المقتولة بماء البردوني كأنها الشموس،
٥ وأوراق الأدواح تحدق بهم كأنها المراوح المتحركة تلطف حرارة الهواء، وتنعش
الأفئدة بنفحاتها المبردة. وخرير المياه يشنف الآذان بحسن إيقاعه. وبعض الشلالات تنحدر
من
الأقنية المرتفعة، كأنها الأفاعي الهاربة أو البلور المتكسر على الصخور. والفوَّارات
(النوافر) تنطاد في الجو، كأنها ترشقه بمثل ما رشقها به من حب الغمام (البَرَد) في الشتاء.
والأزهار مرصعة بها بسط الخضرة الزمردية، كأنها النجوم
في القبة الخضراء وقد وصفتُ هذه المناظر سنة ١٨٩٨م بقولي:
إلى متنزهات النهر بادر
وسرِّح في مشاهدها النواظر
فبرذونيُّ زحلة في صفاهُ
تكوَّر حول مفترِّ الأزاهر
ومن أعطاف «قاع الريم» يجري
لقاع ظبي الأوانس وهو حائر
فطورًا مثل نصل السيف يبدو
عليه فرندهُ يتلو البشائر
وطورًا في تحوِّيه تراه
حكى دور المناطق بالخواصر
يصفق بالخرير على حصاه
ليرقص عطف أغصان نواضر
تدغدغهُ النسائم في مزاحٍ
فيضحكُ عن حباب كالجواهر
تخالسهُ لحاظ الشمس هزءًا
وتغمزهُ بأحداقٍ فواتر
فيشكر فضلها طورًا ويشكو
فوا عجبًا لشاكٍ وهو شاكر
مطاحنها لطحن الهمِّ تجري
بماءٍ والفراش عليه دائر
ويسعى الماء في فصل الأراضي
وفي وصلٍ قد افتتنت قناطر
رعاه الله من فصلٍ ووصلٍ
بمنعطفاتها يسبي الخواطر
تخلل جنة تملا عيونًا
محاسنها فيا نعم المناظر
فثغرُ الزهر يضحك طيَّ كمٍّ
ولطف نسيمها بالذيل عاثر
وعند «الصفَّة» اصطفت كراسي
وكلٌّ للعشير غدا مسامر
مراكزها أحاط بها خطوطٌ
يمثل شكلها شبه الدوائر
طريق المركبات بها أحاطت
ودارت كالخواتم بالخناصر
فبعض الناس يعلو مركباتٍ
تسير برهطهم مثل البواخر
ومنهم راجلٌ يسعى حثيثًا
ومنهم فارسٌ للخيل زاجر
ومنهم راكبُ الدرَّاج يعدو
على عجلٍ فينظر مثل طائر
فقبَّعة تمايل فوق رأس
كميل مظلة عند الهواجر
وأزياءٌ يحسِّنها مشدٌّ
بضغط قلوب أهل الودِّ جائر
بها المتفرجون قد استداروا
كما دارت بمعصمها الأساور
فيا لله من أدبٍ وظرفٍ
تعزَّز فيهما تلك المظاهر
ترى السكان في طربٍ ولهوٍ
يؤَلف جمعهم طيبُ العناصر
كذا الغرباءُ في أمنٍ وصفوٍ
وتكريم به أمنوا المعاثر
معدَّات السرور لهم تدانت
وكم للصحب قد كشفوا السرائر
ويا حسن المناضد إذ تجلَّت
عليها أنجم الراح الزواهر
تحوَّل همهم حالًا سرورًا
فتحسب أنها إكسير جابر
وبعد مغيب شمس الأفق ذرَّت
مصابيح بها اندحرت دياجر
ولما تأخذ النفس انبساطًا
يعود الجمع بالأفراح خاطر
وينثر عقد ذاك النظم حالًا
فما أحلى انتظامًا غير ناثر
وعلى الجملة فإن المدينة تسر النفس بحسن مرآها، وأبنيتها الجميلة، وأنزالها الفسيحة،
وأسواقها ومياهها، ورياضها ولطف سكانها، وتستقدم إليها المصطافين؛ للتمتع بما حباها الله
به
من الامتيازات الطبيعية والتسهيلات النقلية. ويكفينا الآن في وصفها ما كتبهُ إبراهيم
أفندي
الحوراني لما زارها سنة ١٩٠٢ في الجزء ١٩١٥ من النشرة الأسبوعية الغراء، قال: «من المدن
التي تقدمت في سورية تقدمًا يُذكر مدينة زحلة فكل بيوتها إلا القليل منها يضاهي أحسن
بيوت
بيروت، وفيها كثير من المدارس والمعلمين والخطباء والشعراء والأطباء والفقهاء …» ثم أطال
في
وصف الكلية الشرقية.
ومن أفضل التسهيلات فيها؛ أنها في متوسط تشعبات السكة الحديدية، فمنها إلى دمشق نحو
خمس
ساعات وكذلك إلى بيروت وحماة، وإلى حلب نهار كامل. وكانت الأسفار قبلًا إلى هذه المدن
شاقة
خطرة فأصبحت اليوم سهلة كل السهولة؛ فضلًا عن أنَّ طريق العربات يمتد منها إلى دمشق فبيروت
فبعلبك فكثير من المدن والقرى.
وعلى الجملة فهي أكبر مدينة لبنانية شهيرة قائمة في شرقي لبنان، متجهة إلى سهلي بعلبك
والبقاع؛ بل هي قضاءٌ برأسها من الأقضية السبعة كما سترى.
هوامش