ماؤها وهواؤها
إنَّ ماء زحلة هو من نهر البردوني «البارد» الذي ينفجر من مغارة إلى غربي قرية قاع الريم في السفح الشرقي من جبل صنين، وتلك المغارة طبيعية بديعة المنظر تتدلى من سقوفها وجدرانها حُليمات من المتجمدات المائية والرواسب الكلسية، فتكوِّن فيها مشجرات حجرية أشبه بأشجار المرجان في البحر، إلا أنها بيضاء وتنضب بعد أن تذوب الثلوج، وذلك في تموز أو بعده بقليل. ولا يخفى أنَّ خزَّانات الماء في الجبال العالية هي من الثلوج التي تملأ النخاريب والأخاديد والمغاور، وتنساب في الشقوق الصخرية متخللة الأتربة إلى أن تصادف منفذًا لها، فتنفجر منه أنهارًا وينابيع ومترشحات.
ومما لا يجب على المؤرخ أن ينساه، هو تهافت الناس على الاستقاء من المياه الجارية، مع كثرة ما يرمى فيها من القمامات (الكناسات)، ويغسل فيها من الثياب الملوثة بالأمراض العضالة ونحو ذلك، اعتقادًا أنَّ المياه الجارية لا تحمل أقذارًا، فتفشت الحميات وبعض الأمراض، وانتقلت بالعدوى لوجود جراثيمها في مياه الشرب. ولولا ما في هواء المدينة من المناعة؛ لكانت موباة يتجافى الناس عن النزول في ربوعها.
أما ينابيعها المنفردة عن النهر والتي في ضواحيها ومشارفها فأشهرها بل أنفعها للصحة عين الدوق، وموقعها على تلة في غربي المدينة على العدوة الشمالية حيث مزرعة عين الدوق، وتوصف مياهها للضعفاء لجودتها. وتحتها على ضفة النهر الشمالية عين الدويليبي، نسبة إلى أسرة الدويليبي الموجودة إلى الآن في المدينة، وهي تجري بميزابين غزيرين متقنة البناء، فخرَّبها سيل خريف سنة ١٩٠٩. ثم عين البخاش نسبة إلى أسرة موجودة فيها إلى عهدنا، وهي على ضفة النهر الجنوبية فوق نزل الصحة. ثم عين القرداحي (وتسميها العامة عين القرداح)، وهي في أعلى الكروم فوق دير القديس إلياس (الطوق) على طريق المتن العمومية. وتحتها عين أخرى قد جرَّ بعضها إلى الدير المذكور وإلى الكلية الشرقية.
وفي محلة البيادر قرب سراي الحكومة غدير تجمَّع فيه مياه المطر، فتبقى إلى منتصف الصيف أو آخره، فيمثِّل بركة بديعة المنظر كأنها المرآة أو صفحة البلور النقية تنبسط حولها البيادر، التي هي أشبه بمرج مرصع بالنبات والأزهار. وفي هذه البقعة يتنزه الزحليون في الشتاء وأول الربيع، إلى أن يشتد الحر فيتحولون إلى الصفة في غربي المدينة. وفي هذه الجهة يضرب السياح سرادقاتهم (صواوينهم)، ومن هنا تنجلي المدينة للناظر بأجمل مشهد طبيعي يملأ العين، فتنبسط له النفس فضلًا عن جمال هذه البركة التي ترى فيها المدينة وجهها، فهي لها كالمرآة أو كما قال ابن تميم:
ومن المقرر أنَّ هواء المدن النقي هو ما كان على ارتفاع ٢٥ قدمًا عن أسواقها المزدحمة بالسكان، وزحلة ترتفع عن النهر نحو مائة متر، ويعلو معظم بيوتها عن الأسواق نحو سبعين قدمًا، وهي منضدة بعضها فوق بعض، بحيث تنكشف للشمس وينفسح فيها مجرى الهواء؛ فلذلك ترى الصحة فيها جيدة جدًّا، وهي أشبه بدمشق والقاهرة بجفاف هوائها، ولكنها تفضلهما بتوسطها بين جبلي صنِّين والكنيِّسة المتعميين بالثلج في أكثر أيام السنة، ومقابلتها للبنان الشرقي (أنتيلبنان) المكلل ببياض المشيب.
فالخريف فيها جيد في بعض السنين، حتى يكاد يضاهي الربيع بطيب هوائه واعتدال مطره، ولكنه قد يكون طورًا رطبًا فتكثر الحميات، وتارة جافًّا فتكثر النزلات الصدرية كجفافه في العام الماضي سنة ١٩١٠م، ورطوبته في السنة التي قبلها سنة ١٩٠٩م، حتى إنَّ السيول خرَّبت كثيرًا من المدينة على جانبي النهر فاستنهر، وقد تنقطع السيول كما جرى في خريف السنة الماضية ١٩١٠، ولم يتساقط المطر والثلج إلا في منتصف كانون الثاني من السنة الحالية ١٩١١.
وصيفها جميل، لكنَّ الشمس في أثناء النهار ترسل أشعتها عموديًّا على هذا الوادي المسوَّر بالتلال إلا من شرقيه، فتنحصر حرارتها فيه كأنها في محترق عدسية (زجاجة محرقة)؛ فضلًا عن أنَّ الشمس تنعكس عن مشارف المدينة البيضاء التربة (التي ليس فيها ظلٌّ يلطف الحر. أما الكروم فلا ساق لها منتصبة لترمي ظلًّا)، فتشتد فيها حمارَّة القيظ حتى تصهر الأدمغة، ولما تميل الشمس إلى المغيب يكون الأصيل فيها لطيفًا والنسيم بليلًا، فيخرج الناس زرافات ووحدانًا إلى المتنزهات مزدحمين في طرقها حتى بعض ساعات من الليل الذي يكون في الغالب رطبًا بليلًا.
وشتاؤها قد يكون باردًا كثير الثلوج قارص الهواء جدًّا، كما كان قبلًا منذ سنين، وكما هو في هذه السنة. وقد يكون معتدلًا كما في غيرها. وقد تكتسي مشارف المدينة حلة بيضاء ترسل أهدابها إلى حضيض الوادي، فتطول إقامة الثلج ولا سيما في الضفة الجنوبية، فيحفظها الجمد (الجليد). وقد تمزِّق الشمس ذلك الرداء الأبيض، ويساعدها المطر فتتعرى المدينة وضواحيها منه، ولكن يبقى مطلًّا عليها من بعيد كالرقيب الخائف والمحب المكروه. على أنَّ الهواء الشمالي لا يكثر هبوبه فيها، لما حصنتها به الطبيعة من التلال والآكام التي تسوِّرها، وفي هذا تلطيف لبردها الشديد في بعض السنين. ولكن كثرة الحطب والفحم الخشبي في الأيام القديمة، مما كان في المدينة أو جلبه البعلبكيون والبقاعيون ليباع في أسواقها، كان يخفف قرص البرد بوقيده، فلما قلَّ في أيامنا الحاضرة استبدل بالفحم الحجري وفحم كوك واستعيض عن المواقد (الكوانين) بالمصطليات (الوجاقات).
ومع كل ما ذكرنا، فقلما تصل درجة الميزان المئوي (السنتغراد) إلى ما تحت الصفر بكثير في الشتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق ٣٠ درجة في إبَّان اشتداد الحر، فمعدَّل درجة البرد ٨ والحر ٢٠ في الظل. وتعصف في المدينة أحيانًا الزوابع وتثور الأعاصير منتهية إليها من السهل، فتندفع عليها بقوتها وتصدم منفرجها إلى أن تنتهي إلى مآخير الوادي ومنقطعه، فتدور في أنحائها وتثير الغبار، ولكنها لا تدوم طويلًا. ومما تمتاز به زحلة أنه لا يتراكم فيها الضباب في أثناء السنة، مثلما يحدث في مشارف لبنان الساحلية التي تطل على البحر.
ولو كانت روابيها ومشارفها مشجرة؛ لكانت ظلال أشجارها تلطف حرارة الصيف وتحسن الهواء وتجمل مناظر الربيع وتعدل الأمطار والثلوج، فلا تنصب عليها السيول الجارفة ناقلة الأتربة والصخور حتى تخرَّ منها مرافض الأودية وتتخرَّب البيوت والعقارات؛ بل كانت التربة تتشرب الأمطار شيئًا فشيئًا وتنفذ في جذور الأشجار، فتخزنها في حياضها الطبيعية وتتوازعها الأرض مستفيدة منها خصبًا وافرًا. وقد عُرف بالتعديل أنَّ المطر الذي يجود الغابات لا يسيل منه إلا ستة أعشاره، والأربعة الباقية تخزن إلى حين الحاجة، فضلًا عن أنَّ الأهلين يستفيدون من الأشجار ماديًّا، فيكثر لديهم الحطب ويتوفر الوقيد وتكثر الأخشاب والألواح للنجارة ونحوها.
أما الربيع فقد يكون في بعض السنين باردًا لكثرة الثلوج والأمطار، ولكنه في الغالب بديع لكثرة المياه والمتنزهات، مع جفاف في الهواء يبعث في الجسوم نشاطًا، وهو يتميز تميزًا ظاهرًا ويقوِّي الأبدان؛ فلذلك تجد الزحليين أقوياء البنية صحيحي الأجسام مفتولي العضلات، تترقرق على وجوههم مياه العافية، وتشفُّ وجناتهم عن قوة الدم في أبدانهم.
ومن غريب ما يؤثر من جودة الإقليم في زحلة صفاء الجو ليلًا، حتى إنك ترى السماء عريانة معظم السنة، والكواكب نيرة متوقدة وصورها ماثلة بأحسن مظاهرها الفتانة، حتى إنَّ مذنب هلِّي الذي ظهر في الصيف الماضي كان بديع الطلعة فيها؛ ولذلك اتخذ الآباء اليسوعيون مرصدًا في سفح تلة كساره الواقعة على المنقلب الجنوبي من تلة المدينة الجنوبية بإدارة الأب برلوتيِّ الفلكي الفرنسي المشهور منذ ثلاثة سنوات، وهو مبنيٌّ بأمكنة متفرقة على آخر طرز حديث، مجهز بالآلات اللازمة، وذلك لأن الرصد في هذه الجهة يكون على أتمِّ وضوحه؛ لقلة الأبخرة التي تعكر صفاء الجو، ولجفاف الهواء الذي لا تحول رطوبته بين المراقب (التليسكوبات) والكواكب المرصودة، ولهذا وصفتُ هذا الجو الجميل بقولي في ليلة صافية الأديم:
ولقد حسن هواء المدينة الآن اتخاذ القنوات لفضلات أقذارها، وتجفيف غاب عميق وقلة مستنقعاته، واعتناء الأهلين بالكنس والرش. ولم تكن هكذا في القديم حتى دهمها الطاعون مرارًا وأفنى كثيرًا من سكانها، وكان آخر عهدها به سنة ١٨٢٨م، ولما حدث أول هواء الأصفر في دمشق هرب سكانها إلى زحلة في صيف سنة ١٨٤٨م؛ فأصيب من الزحليين ثلاثة، ونقلت إليهم العدوى في ٢٦ آب ومات منهم اثنان. وفي اعتقاد سكانها ومجاوريهم أنَّ الهواء الأصفر لا يتفشى فيها؛ ولذلك كثر المختلفون إليها في كل وباء يجتاح سورية ومصر.
ومن محسناتها أنَّ الخطاف (السنونو) يأتيها في الربيع والصيف، فيلتهم البعوض الذي يكثر في جوار النهر ويكف أذاه. وعلى الجملة فالمدينة صحية طيبة الهواء لذيذة الماء، فيها مناعة ضد الأمراض حتى لا يؤثر فيها أشدها فتكًا تأثيره في غيرها.