قِدمها وآثارها
إذا لم يكن في زحلة من الآثار القديمة الضخمة مثلما يوجد في جوارها، ككرك نوح ونيحا وغيرهما، فليس ذلك بنافٍ عنها أنها مدينة قديمة عاصرت العبادات الوثنية الأولية، وشاهدت الأساطير الخرافية. أما آثارها فإنها درست لأسباب، أهمها قلة الحجارة في هذا الوادي ومشارفه السفلى، فاتخذت حجارة تلك الأبنية للبيوت الحديثة، وهكذا طمرت المدينة القديمة بزحل الأرض عليها من الأسناد والروابي ونحو ذلك من الفواعل الطبيعية، ولا سيما الزلازل التي خرَّبت بلادنا مرارًا حتى في الأيام الأخيرة، ولا يزال اسم سيدة الزلزلة في زحلة شاهدًا على هذه المؤثرات، وكذلك اسم «زحلة»، فضلًا عن اجتياح الغزاة لهذه البقعة وتخريب هياكلها.
وإذا رجعنا إلى التواريخ القديمة واستقرينا أساطيرها وتقصينا في البحث عن العبادات، نستشف من ورائها ما يدلُّ على أنَّ زحلة كانت من المدن التي احتفلت احتفالات وثنية، وضجت للمعبودات الخرافية؛ لوقوعها في سورية المجوَّفة (كيلوسيري) ولوجود نهر غزير المياه فيها، والهياكل كانت تُبنى على ضفاف الأنهار وقرب الينابيع، كما هو الحال في معظمها إن لم نقُل في كلها بلا استثناء. وكثرة كرومها التي اتخذت خمورها لاحتفالات ديونيس أو باخوس كما سيأتي.
ولقد اعتقد كثير من المؤرخين القدماء أنَّ إحدى الجنان الأرضية في هذا السهل الأفيح بين الجبلين لبنان الغربي والشرقي (أنتيلبنان)؛ ولذلك كثرت فيه مدافن الأجداد الأولين، مثل نوح وشيت وهابيل وقايين ويوشع وإيليا وغيرهم من الأولياء والأنبياء. وتابعهم في هذا الرأي مؤرخو العرب من مسلمين ومسيحيين، حتى إنَّ الدويهي كبير مؤرخي الطائفة المارونية قال في تاريخه المطبوع في بيروت صفحة ١١٦ ما نصه: «ولما طرد من الفردوس آدم سكن جبل حرمون (الشيخ)، وسكن أولاده شرقي الفردوس في البقعة، وبنوا قلعة بعلبك واستنبطوا الطبول والزمور وكانوا قومًا جبابرة. وتدل على ذلك مدافن هابيل وقايين وشيت التي هي بالقرب منها.»
هذا ما رأيته في تسمية المدينة وأرباضها، مما يدل على قدمها، بقي أنَّ ما فيها من المغاور في الصخور قرب نزل (لوكندة) الصحة إلى غربيها، التي يسميها العامة الطوق، وبها سمي دير النبي إلياس يدل على سكن الإنسان قديمًا فيها، في طور الظرَّان؛ أي الطور الحجري؛ لأن لبنان كان فيها أناس يسكنون مغاوره الكثيرة الطبيعية، وذكر يشوع بن نون (١٣ : ٤) مغاور الصيدونيين، والمراد بها مغاور نيحا «من الشوف في لبنان الآن» وعدلون. وكذلك اسم الصفه ربما كان عبرانيًا؛ لأن «صفه» العبرانية بمعنى استشرف ونظر، فلعلَّ هذا الاسم كان لمحل على رابية عالية كثيرة الأحادير على ضفة النهر الجنوبية تسمى الآن سور المشيرفة (تصغير المشرفة)، وصفا سميم وبعل شميم بمعنى عبدة السماء ورب السماء، من العبادات الفينيقية، وهو زفس عند اليونان، فعرِّب بالمشيرفة وبقي اسمه القديم لحضيضه، وهناك قبالة نزل الصحة غرفة منقورة في الصخر مربعة تدل على أنها كانت هيكلًا صغيرًا ونحوه. وفوقها مغاور قديمة منحوتة في الصخور، كانت مدافن للموتى ذات حنايا وأضرحة منقورة في الصخر، وهي مقابل المغاور المسماة بالطوق. وفي المدينة كثير منها ولا سيما في صخر، هو كالنطاق لتلة المشيرفة التي هي أكمة خرماء «لها جانب لا يمكن الصعود فيه»، وقد ظهرت مؤخرًا فيه مغارة قديمة شاهدتها، ووصفتها في جريدة المهذب وهاك الآن ما عرفته عنها بالتفصيل: إنَّ في ذلك النطاق الصخري في سفح المشيرفة مغاور كثيرة قريبًا بعضها من بعض، كما يظهر للمتأمل على علو أكثر من ألف وأربعمائة متر عن البحر، وعلى بعد نصف ساعة عن المدينة، ولم يحتفر منها إلا مغارة اهتدى محتفرها إلى معرفتها بكثرة الأرانب التي كانت قد اتخذتها مخزَّة «المخزة بيت الأرنب»، فانتبه بعد مراقبتها مرارًا إلى أن ثمَّ مغارة اتخذتها الأرانب مأوًى لها، فاحتفر الفتحة الصخرية التي تبلغ نحو ثلاثة أمتار، وهي مدخل إلى باب المغارة الحجري وغلقه أيضًا من حجر، وطوله نحو ثمانين سنتيمترًا بعرض سبعين، والغلق الحجري مركز على نجرانين؛ أي محورين حديديين في أعلاه وأسفله لفتحه وإغلاقه بسهولة، وهو ضخم أبيض اللون قد نُزع من محله، وفيه ثقب مستطيل يدل على أنه اتخذ لوضع شيء فيه، إحكامًا لسده وتوثيقًا لإغلاقه، وفي جانب الباب المقابل لمحل المحورين ثقب يقابله. وفي داخل المغارة ثمانية نواويس منقورة في أرض المغارة الصخرية، اثنان منها على جانبي الداخل وخمسة في وسطها متناسبة الوضع وناووس في أقصاها. وهناك نواتئ صخرية تمثل رفوفًا وجدت عليها سرج من فخار منقوش، مستديرة أو بيضية الشكل مستطيلته، ولكلٍّ منها ثقبان؛ أحدهما في مستدق طرفه، والثاني في وسطه. وقياس كل قبر منها نحو ثمانية أشبار طولًا وأكثر من اثنين عرضًا ونحو شبرين عمقًا. وعلو سمك (سقف) المغارة عن سطح النواويس نحو ثمانين سنتيمترًا فقط، بحيث لا يستطيع الداخل أن ينتصب. وطول هذه المغارة من الشرق إلى الغرب نحو عشرين شبرًا في عرض مثلها، وهي منحوتة في صخر أبيض رخو، يُعرف بالحجر السكري، ولها حنايا (قناطر) فوق القبور كلها منحوتة، ووجد في هذه النواويس عظام نخرة بعضها كبير والآخر صغير، وفوق الباب وجدت كوة غير نافذة. ولو تقصَّى الباحثون في حفر هذا النطاق وغيره، لعثروا على أشياء كثيرة ترشد المؤرخ إلى حالة المدينة القديمة.
فما هو هذا البناء يا ترى؟ وأي متى شيِّد؟ ومن رفع دعائمه؟ وكيف أصبح أطلالًا دارسة؟ إنَّ من راجع التاريخ بتبصر وتروٍّ علم أنَّ الفاتحين من فراعنة مصر، والغزاة من الفرس والرومان والأمم القديمة التي اجتاحت سورية من جهات مختلفة، كانوا لا يستغنون عن الدخول في المضايق المحصنة المحدقة بلبنان وسهوله أو الخروج منها. وأهم هذه المضايق المطروقة هي مضيق جبل المنيطرة، قرب بحيرة اليمونة مقابل بعلبك، حيث هناك آثار طرق رومانية مرصَّفة بالحجارة، تؤَدي من نهر الكلب إلى بعلبك على طريق العاقورة قرب مغارة أفقا، حيث يخرج نهر إبراهيم أو أدونيس (تموز) المشهور في التأريخ، وسمي ذلك الجبل بالمنيطرة لكونه كان محرسًا ومرتقبًا. والمدخل الثاني هو بين جبلي صنين والكنيِّسة. والثالث هو قرب المريجات عن طريق بيروت إلى دمشق. وهناك معابر أخرى من جهة وادي التيم إلى البقاع، ومن جهة حمص إلى سهل بعلبك وغيرها، مثل مضيق وادي القرن إلى دمشق، ومدخل وادي يحفوفه إليها أيضًا. ولما كان كلامنا منحصرًا الآن في تأريخ زحلة، نخص بالذكر من هذه المضايق ما بين صنِّين والكنيِّسة، وهو الذي اجتازه بومبي القائد الروماني الشهير، لما اجتاح سورية في القرن الأول للميلاد، كما ذكر اسطرابون الجغرافي الشهير، وقوَّض في غزوته بعض المعاقل منها قلعة «سنَّان»، ومن رأي الأب هنري لامنس اليسوعي في «تسريح الأبصار ١ : ٣٤»، أنَّ هذه القلعة لم تكن في مشارف صنين العليا لكثرة الثلوج وقرس البرد، وإنما كانت على منعطف رباه، وإذا بحثنا في جوار صنين الذي سمي باسم هذه القلعة «سنَّان»، لا نجد أفضل من هذا الموقع المتوسط بين السهل والجبل، لهذا المعقل فنرجح إذن أنَّ قلعة «سنَّان» كانت في محلة المشيرفة، فهدمها بومبي ودكها برمتها إلى الأرض، لما غزا الأيطوريين (الجبليين) الذين مدُّوا سلطتهم من حوران إلى بطاح سورية المجوفة، وأعالي لبنان الغربي، وسفوحه حتى شاطئ البحر المتوسط، ولا سيما في مدينتي طرابلس وجبيل. ثم أخنت الأيام عليها، فضعضعت أركانها ونسفت أبنيتها ومحت آثار عظمتها، فنقل سكان زحلة القدماء ومجاوروهم حجارتها الضخمة، وصغروها ليستعينوا بها في أبنيتهم لقلة الحجر في المشارف السفلى. ولا خفاء أنَّ هذا المعقل كان في الأصل معبدًا وثنيًّا حُوِّل إلى حصن.
والمروي على ألسنة الشيوخ إلى عهدنا، أنَّ تحت معقل المشيرفة نفقًا (سردابًا) على مسافة ميل، يصل إلى مياه البردوني كان المحاصرون يستقون منه في أيام الحروب. ويسمُّون هذه الأطلال «سور المشيرفة»؛ لأن زحلة لما جدِّد بناؤها كانت آثار السور باقية فنسبوها إليه. وإلى غربي هذه الأكمة الشمالي على مقربة منها مغارة الراهب. وهي فتحة في صخر ناتئ، لها باب مربع يتجه إلى أعلى التلة، وفي داخلها ثلاثة نواويس محفورة في الأرض الصخرية وناووس رابع في أقصاها، منقورة جميعها في صخر صلد، ولها كوة نافذة من سطحها، وهي تمثل غرفة بديعة الوضع.
ومن الآثار التي ظهرت في الوادي والبساتين وتل شيحا وعلِّين نواويس رصاصية على أغطيتها صور أشخاص بديعة ونواويس حجرية مفردة مسنمة الأغطية، على بعضها نقوش بسيطة، وفوق قصر (سراي) الحكومة في محلة البيادر على مشارف التلة الجنوبية، وُجد كثير منها قريب بعضه من بعض يدل على أنه كان مقبرة، ولن يزال أحدها على طريق العربات تحت ميزاب «عين السراي» النافذة مياهه هناك أمام قصر الحكومة. ووُجد في بعض هذه النواويس رمم هياكل بشرية، وعلى بعضها رقٌّ ذهبي يغطي الوجه، وشنف أي حلقة من حجر بديعة الصنع رماها أحد الفعلة فانكسرت، ومما يؤسف له أنَّ الذي ظهرت له هذه النواويس لم يحافظ عليها، بل كسَّرها وباعها حجارة والرصاصية أذابها، فهكذا تلفَت آثار المدينة القديمة، حتى كاد تأريخها يطمس ذكرًا.
وإذا راجعنا أقوال الأثريين في مثل هذه المدافن، نجدهم قد قسموها إلى أربعة أشكال: أولها القبور الغائرة، وهي المنقورة في الصخور كالأضرحة الحديثة والمسدودة بالحجارة، وثانيها القبور النفقية (الدهليزية) وهي ذوات فتحات من خمس إلى ست أقدام طولًا، ونحو قدم ونصف عرضًا، تكون في الغالب محفورة في الصخر أفقيًّا، وفيها ضريح لطمر الجثة. وثالثها القبور الرفية وهي ذوات رفوف أو مقاعد لاستقبال الجثة تعلو نحو قدمين عن الأرض، وتكون في الغالب مقببة، ورابعها القبور ذوات الكوَّة الغير النافذة وهي منحوتة غالبًا في وجه الصخر.
أما غرف القبور فهي ثلاثة أنواع: أولها القبور المفتوحة ولها أضرحة غائرة في أرضها. وثانيها القبور ذوات الرفوف أو المقاعد الحجرية الممتدة حول الجدران المتخذة كرفوف للقبور. أو القبور ذوات الضرائح التي كالجسور المحفورة في الجدران فوقها. ومدخلها مغلق بصفيح حجري أو باب حجري صغير. وثالثها مجموع غرف ذوات باب له أسكفة (العتبة العليا) تؤدي إلى مدخل فيه أبواب صغيرة مفتوحة لغرف مختلفة. ونقوشها تكون في الغالب أضاميم من ورق أو زهر. على أنَّ القبور الحجرية المفردة لم يكن يستعملها إلا الأغنياء، وقد اقتبسها الفينيقيون والعبرانيون عن المصريين، وربما كانت هذه القبور الحوضية زوجًا ولها غطاء واحد. وكثير منها ينظر الآن في سورية أجرانًا للينابيع تستقي منها المواشي.
أما عادة النقش على النواويس، فكانت أقل شيوعًا بين العبرانيين والفينيقيين القدماء، تابعة لذوقهم وحبهم للتاريخ منها بين الأشوريين والمصريين الذين نقل الأولون عنهم. ثم أخذ عنهم الرومان واليونان والمسيحيون في أول عهدهم.
فمن كل ما ذُكر نستنتج أنَّ هذه المدافن التي وُجدت في مدينة زحلة ومشارفها وأرباضها، هي من عهد العبرانيين أو الرومانيين إن لم تكن أقدم، لما في وضعها من المناسبة لمدافنهم. وقد وجدت مدافن محفورة في الأرض مبنية بالحجارة في أنحاء المدينة، منها ضريح عليه قبرية (بلاطة يكتب عليها اسم الميت وتاريخ وفاته) بتاريخ سنة ٢٠٠ﻫ/٨١٥م، وفي الضيعة؛ أي حارة دير النبي إلياس للرهبنة المخلصية في وسط المدينة قرب قصر الحكومة، توجد مقابر تحت البيوت الحالية، وقد ظهر على أحدها قبرية كُتب عليها: «توفي في شهر ذي الحجة من شهور سنة ٧٣٢ﻫ/١٣٣١م رحمه الله.» وقد وجد قرب دير النبي إلياس للرهبنة الحناوية في غربي المدينة حجارة منحوتة اتُّخذت لبناء الدير منذ القديم. وظهرت في أنحاء المدينة آثار حرائق ومخازن في بعضها آثار صياغة، وأبنية نُقشت بالفسيفساء. وقنوات للمياه ذات أنابيب (قساطل) خزفية متينة ضخمة، تدل على توزيع المياه في المدينة القديمة. وحنايا تحت الأرض أو أقبية، منها سَرَب في بيت يوسف حجي متجه إلى الغرب، يستطيع الإنسان أن يدخله منتصبًا ولا آخر له ولا منفذ. ووجد في القديم تمثال حجري لأحد الأصنام، وربما كان لزحل. وظهر في تل شيحا تمثال خروف من خزف وآنية خزفية بديعة. وفي حضيض وادي البردوني الجنوبي قرب عين البخاش، ومقابل محلة الطوق سَرَب يسمى مغارة الرصد، يتجه إلى الشرق حتى يقابل دير النبي إلياس الطوق ولا منفذ له. وكذلك في علِّين وتل شيحا آثار خزف قديمة وآبار وأساسات متينة الحجارة وخزف بديع، وفي المشيرفة آثار خزف منقوش بديع الألوان متقن الصقل. وظهرت آثار آبار قديمة بعضها مربع والآخر مستدير، وهي من القصرملِّ؛ أي الرمل والحصى والكلس. وكذلك خواتم من حجر المرمر عليها نقوش أشخاص بديعة.
وكان فيها جسر عظيم الحجارة متين البناء، ربما كان رومانيًّا أو من زمن الصليبيين محل الجسر الكبير الآن قرب الحارة السفلى (التحتا)، فهدمته السيول سنة ١٨١٥م، وجدِّد بناؤه بقنطرة واطئة فهُدم ثانيةً وتجدَّد سنة ١٨٢٢م، وكان هذا الجسر أشبه بجسر المعلقة القديم، كأنهما أخوان شق الأبلمة. وعند محلة (الصفة) في منقطع الوادي، كان جسر قديم مثله يعبر عليه إلى قرية عين الدوق، فهدمته سيول عظيمة وجدِّد بناؤه بزمن نعوم باشا سنة ١٨٩٧م. ولعله كان من بناء الصليبيين أو أقدم منهم.
فكل هذه الآثار لا يصح أن تبقي تاريخ المدينة حديثًا، بل هي أدلة على أنها كانت معاصرة لما يجاورها من القرى التي فيها آثار لم تعبث فيها يد التخريب والتشويه إلى يومنا.
ففي الصفة أو المشيرفة وعين الدوق وعلِّين وكرك نوح وعرجموش وترحين وبحوشه وقمل وبلوده وكساره والتويته والرمثانية وبوارش أدلة واضحة على قدم زحلة ومعاصرتها لما يجاورها من الأماكن القديمة، مثل عين الجروماسة ونيحا وقصرنبا والفرزل وجديتا وقب إلياس ومندرة اليونانية الاسم وغيرها.
وحبذا لو تفرَّغ فريق من العلماء لدرس آثارنا، وكشف القناع عن محيا قدمها. وقد اكتُشف في الفرزل أثر يمثل صورة إله غريب الشكل ممتطٍ جوادًا، ولابس لبس الأسويين، وهو معبود شمسي اتخذه الشرقيون، كما اتخذ اليونانيون عبادة الشمس باسم هليوس، ومنها اسم هليوبوليس لبعلبك ومعناها مدينة الشمس (مجلة المشرق ٨ : ٢٧٠). واكتشف في تل شيحا من زحلة تمثال لهذه العبادة. وفوق قصرنبا صورة المشتري منقوشة على صخر كبير. وكذلك قرب قب إلياس نقوش معبودات يونانية وغيرها على صخور كبيرة، وفي مشارف صنين والكنيسة فوق زحلة نقوش وكتابات.
هوامش
وإلى فرزل البقاع هذه تُنسب أسقفية زحلة للروم الكاثوليك، ولعل ذلك مسبب عن خراب زحلة قبلها فنقلت الأسقفية إليها، ثم أُعيدت إلى مقرها الآن منذ أوائل القرن الثامن عشر للميلاد، كما صرَّح بذلك الطيب الذكر المطران غريغوريوس عطا. وقد ذكر أسقف هذا الكرسي بردانوس في القرن الخامس للميلاد. ويقال: إنَّ الملك الظاهر خرب الفرزل في القرن الثالث عشر، ثم عمرت بعد ذلك باندفاق الأُسر (العيال) الحورانية إلى سهل بعلبك والبقاعين، ثم نزح كثير من سكانها إلى زحلة وجهات لبنان وسورية كما ترى في تاريخي «دواني القطوف» لما خرَّبها الحرفوشيون في القرن السادس عشر، فبقيت على ما هي عليه اليوم، وسكانها أكثر من ثمانمائة نفس من الروم الكاثوليك، وهي الآن من قضاء البقاع، وفيها كنيسة السيدة وآثار قديمة، منها مغاور إلى الغرب الشمالي تسمَّى «مغر الحبيس»، على بعضها نقوش رائعة قديمة، سكنها الناس في الطور الظرَّاني (الحجري). وفي سند الجبل على علو نصف ساعة آثار هيكل قديم ربما كان معبدًا، وأمامه مسلة (عمود) مصرية الشكل متوجة بإكليل الغار. وهناك في الجبل أنقاض قرية تسمَّى «بستي». وأما ما ذهب إليه الطيب الذكر وطنينا المطران غريغوريوس عطا في تاريخ زحلة المخطوط. أنها هي أبلية ليسانيوس المذكورة في إنجيل لوقا، وأنَّ اليونانيين سموا الأبلية برادسوس أي الفردوس لخصبها، فحرفت إلى فرزل، فهو مما لم يثبته المؤرخون، والمؤكد الآن أنَّ الأبلية هي سوق وادي بردي كما سترى.
ومرَّ بها الرحالة ابن بطوطة في القرن الثالث عشر ووصفها بكثرة الفواكه. وكانت في عهده مبيتًا للذاهبين إلى دمشق من بعلبك وضواحيها. ووصفها أبو الفداء في تأريخه أنها مدينة بلا أسوار. وذكر خليل بن شاهين الظاهري أنها شبه مدينة، وأنَّ في إقليمها نيفًا وخمسين قرية ويتبعها الآن ثمان وعشرون قرية فقط. ونبغ فيها كثير من العلماء مثل العدل الزبداني الذي كان من خاصة صلاح الدين الأيوبي، ولكنه لم يكن محمودًا في طريقته، والشيخ إبراهيم بن محمد المعروف بابن الأحدب الزبداني الفرضي المشهور المتوفى في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، وكانت أسرته «بنو الأحدب» من مشاهير تلك الجهة. ومن متأخريها بني التل الذين كانت لهم كلمة نافذة عند الأمراء الحرفوشيين حكام بعلبك، وأشهرهم عباس التل الذي حكم الزبداني ونواحيها في أثناء القرن الثامن عشر للميلاد. وعلى الجملة فإن الزبداني واقعة في سفح الجبل مرتفعة عن الحدائق الغناء التي تحيط بها وتملأ بطاحها الواسعة، وهواؤها جيد وماؤها لذيذ وفوقها إلى الشمال على سند الجبل الأعلى الذي يعلو عن البحر نحو سبعة آلاف وأربعمائة قدم قرية بلودان، وهي مشهورة بقدمها وفيها آثار دير فخيم وأبنية قديمة تنتقل إليها في الصيف حكومة الزبداني، ويقصدها المصطافون من جهات مختلفة ولا سيما الدمشقيون. وقرب الزبداني على بُعد ساعتين إلى الجنوب قرية البطرونة في سفح الجبل على بعد ربع ساعة عن نبع بردى، وفيها أطلال قلعة قديمة. ومقابلها على ضفة بردى محلة التكيَّة حيث تتولد الكهربائية التي تنير دمشق وتسير قطاراتها الكهربائية، وفيها مغاور قديمة بديعة بأفاريز. وهناك موقف للقطار الحديدي. وأبنية لشركة التنوير الكهربائي البلجيكية وشلال بديع.
والظاهر أنها كانت مساكن للإنسان في الطور الظرَّاني، ثم اتخذها السياح والنساك معتزلات للعبادة، وربما كانت هذه المغاور ومغاور التكية في هذا الوادي مناسك لدير القديس قونن المسمى الآن «دير قانون» وفيه موقف للقطار. ولقد كثرت الأسماء المضافة إليها لفظة آبل؛ مثل آبل معكة وآبل القمح وآبل السقي في جهات فلسطين، وآبل في جهة حمص وغيرها.
ومن أهم صناعاتها القديمة السيوف والقيشاني والنسج والترصيع «التطعيم» ولا يزال إلى الآن اسم الدامسكو أو الدمقس والدامسكينة عند الإفرنج شاهدًا عليها. وهي منوَّرة بالكهرباء وفيها قطارات كهربائية وإليها جرَّت مياه نبع الفيجة.
وذكر هذه المدينة يوسيفوس المؤرخ، وقال: إنَّ بومبي عاج بها قبل الميلاد بثلث قرن. وبقي ذكرها مطويًّا إلى زمن الصليبيين، فكانت عامرة تسمى عين الجر، كما سماها مؤرخو العرب وياقوت في معجمه، فسموها «أمجرا» محرَّفة عن هذا الاسم. وزحف إليها بلدوين الرابع من صيدا وخيم في مشغره، ثم هاجمها ففرَّ أهلها إلى الجبال فنهبها وأحرقها ولن تزال أطلالًا دارسة. وفيها بركة ماء دورية تمد مياهها ثم تجزر، وهناك آثار قنوات قديمة تُنسب إلى زينب تدل على جر المياه إلى محل آخر، ولعلها أخذت من هنا اسمها، وفيها أنقاض سور سُمكه نحو ثلاثة أذرع وأطلال ونقود رومانية. ومن المواقع الأخيرة التي حدثت فيها معركة بين الأمير فخر الدين المعني حاكم لبنان والأمير موسى الحرفوشي حاكم بعلبك والبقاع سنة ١٦٢٣م، كان فيها الظفر للمعني. ومنها يجري نهر عنجر أو الغزير أو مرسيا باسم البقاع القديم ويصب في الليطاني ذكره بلين واسترابون وغيرهما من المؤرخين. وهي على بُعد ربع ساعة من محطة المصنع المعروف بمجدل عنجر على طريق العربات بين بيروت ودمشق في مدخل وادي الحرير ووادي القرن. وخلكيس اسم قنَّسرين قرب حلب ومدن وأنهر قديمة في اليونان وتركية.
ومن تلك القرى نزح كثير من الزحليين في أيام عمران مدينتهم، وبعضهم يُنسب إلى القرى التي نشأوا فيها مثل بني المعلولي والنبكي والمعراوي والقاري وغيرهم. وقسم من هذا الجبل الآن يتبع قضاء النبك والآخر قضاء دومة دمشق. ومن تلك الجهات جبة عسال الورد. وقد نشأ منه علماء وأدباء من جميع المذاهب وأساقفة الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وقد مرَّ في هذا الجبل الرحالة ابن جبير الأندلسي في القرن الثاني عشر للميلاد ونزل بقارة ووصفها بأنها قرية كبيرة للنصارى، وليس فيها من المسلمين أحد، وكذلك مرَّ بالنبك إلى أن نزل بدمشق قادمًا من حمص. وفي صيدنايا دير الشاغورة القديم للراهبات الأرثوذكسيات ومكتبة مخطوطة. ويسمى جبل القلمون الآن باسم «بلاد الشرق». وإليه تُنسب الحنطة المشرقانية؛ أي البيضاء، ومعظم الاتجار بها في زحلة.
وفي سورية ثلاث محلات باسم الكرك؛ أحدها كرك نوح هذا، والثاني في فلسطين، والثالث قرب طبرية باسم الكرك والشوبك. وفي بغداد وغيرها محل يعرف بالكرخ وهو تحريف الكرك. ويسمى كرك نوح بكرك بعلبك أيضًا.