زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر
أما موقع المدينة القديم، فربما كان في الوادي القائمة فيه الآن، ثم زحلت الأرض من الجانبين فطمرتها. أو أنها كانت في مشارفها الدُنيا ممثلة مستعمرات صغيرة مثل المشيرفة وعلين وعين الدوق وكساره (قيصرية) وتل زينة. أو أنها كانت في محلة البساتين مثل دمشق؛ لأن فيها أطلال أبنية كثيرة تحت الأرض ولا سيما عرجموش وترحين. فكان البردوني يتخللها كما يتخلل بردى تلك، ويتوزع في أحيائها. وهكذا بنى الأقدمون مدنهم المجاورة للمياه مثل طرابلس الشام وجبيل وغيرهما.
وسنة ١٦٩٤ لما سكن الاضطراب، ظهر الأمير أحمد المعني واجتمع إليه القيسيون، فنهض بهم من وادي التيم إلى الشوف ومعه الأميران نجم وبشير الشهابيان برجالهما. فلما وصل الشوف ذهب الأمير موسى الحاكم من دير القمر إلى صيداء ملتجئًا إلى واليها مصطفى باشا، فأعيد الحكم للأمير أحمد بعد استرضاء الدولة عليه.
ولما كانت أخت الأمير أحمد المعني، متزوجة بالأمير حسين الشهابي أمير راشيا، وكان لها منه ولد اسمه الأمير بشير، اتفق أعيان البلاد جميعًا على توليته حكم المعنيين خلفًا لهم.
وسنة ١٦٩٧ قدم اللبنانيون بالأمير بشير حسين الشهابي من راشيا إلى دير القمر، وبايعوه فيها الولاية بحفلة حافلة فكان أول الأمراء الشهابيين حكام لبنان، فتحولت إليه مقاطعات المعنيين ومتخلفاتهم ورتبت عليه الأموال لأيالة صيداء حسب العادة. واستأذنوا السلطان مصطفى العثماني بذلك، فأمر بتقرير ولاية لبنان بواسطة الأمير حسين ابن الأمير فخر الدين المعني نزيل الأستانة على الأمير حيدر موسى الشهابي؛ لأنه ابن بنت الأمير أحمد المعني، فهو أحق من ذاك بالولاية. ولما ورد الأمر بتقرير الولاية للأمير حيدر توسط الأمير بشير الأمر مع أرسلان باشا والي صيداء أن يعرض للسلطان أنَّ الأمير حيدر قاصر؛ لأنه ابن اثنتي عشرة سنة وأنَّ عمه الأمير بشير كفء للنيابة عنه إلى أن يبلغ ذاك أشدَّه، وهكذا كان. أما اليمنيون فاعترضوا على ذلك، ولما لم يجب طلبهم فرَّ أمراؤهم آل علم الدين إلى دمشق وسكنوا في غوطتها، فاستفحلت الشحناء بين القيسيين واليمنيين على حدِّ قول المتنبئ بهذا المعنى:
والأجدر أن يقال الآن:
وما ثبتت ولاية لبنان للأمراء الشهابيين أخلاف المعنيين، حتى خرج عليهم الشيعيون (المتاولة) في جبل عامل، والحرفوشيون في البقاع وبعلبك، والحماديون في بلاد جبيل، وغيرهم في غيرها؛ وذلك لأن الشهابيين من القيسيين وهؤلاء من اليمنيين.
أما محمود أبو هرموش فظلم الناس، وأخذ أموالًا زائدة عن المرتبات المعينة، فنمى ذلك إلى الأمير حيدر فاستقدمه للمحاسبة نحو سنة ١٧١٠م، ففرَّ إلى صيداء والتجأ إلى واليها بشير باشا، وكان يحبه لكثرة هداياه له فحماه مدة. وأرسل فأثار بعض الأمراء والأعيان اليمنيين في الغرب والجرد بمساعدة الأمير يوسف أرسلان حاكم الغربين الأعلى والأدنى (في الشوف). وانحاز أبو هرموش من الحزب القيسي إلى اليمني، وصار من زعمائه وتبعه بعض القيسيين، فصاروا يمنيين فتقوَّى اليمنيون في الشوف واستولى كبيرهم الأمير يوسف علم الدين مع محمود أبي هرموش على لبنان، فترك الأمير حيدر دير القمر بولديه الأمير ملحم والأمير أحمد وتبعه من أعيان البلاد الشيخ قبلان القاضي وولده الشيخ أمين والشيخ علي النكدي والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخان محمد تلحوق وولده شاهين. وبقي له في البلاد حزب آخر مثل الأمراء اللمعيين مقدمي المتن وغيرهم من الأعيان.
فسار الأمير حيدر بمن تبعه إلى غزير وأرسل عياله إلى مقاطعة الفتوح إلى المشايخ الخازنيين. فما وصل محمود أبو هرموش إلى دير القمر حتى استقدم إليه الأمراء آل علم الدين من دمشق؛ إذ كانوا قد فروا إليها كما مرَّ، وأرسل عسكرًا إلى غزير لقتال الأمير حيدر الذي أنجده المشايخ الحبيشيون، وانتشب بينهم القتال من الفجر إلى المساء. فاندحر عسكر أبي هرموش إلى جهة البحر متقهقرًا. وفرَّ الأمير حيدر بأعوانه، واختبأ في مغارة فاطمة أو مغارة عزرائيل في سفح جبل الهرمل، وفرَّ الغزيريون إلى جهات طرابلس.
وعاد عسكر أبي هرموش إلى دير القمر، وقد كثر قتلاه وجرحاه، فتحامل على القيسيين وصادرهم ورفع منزلة اليمنيين، وتزوَّج ابنه من أمراء آل علم الدين، وصار مدبرًا لشئون حاكمي لبنان منهم وهما الأمير يوسف وشقيقه الأمير منصور، فصار زمام الولاية بيده، فحصر المقاطعات باليمنيين وضرب على أيدي القيسيين، ولم يبقِ لهم حرمة ولا حفظ لهم عهدًا، فأضمر القيسيون له ولأعوانه السوء وسعوا في جمع كلمتهم والتئام شملهم واستعادة سلطتهم. وهكذا حمي وطيس التحزُّب في أنحاء لبنان وضواحيه بسبب هذه العصبية، واضطرب حبل الأمن وانتشرت القلاقل، فصارت البلاد ميدانًا للمشاحنات والتعصبات ومثارًا لعواصف الفتنة، ومهبًّا لزعازع المخاصمات في جميع المقاطعات.
ولما كان حكام صيداء وعكاء ودمشق وطرابلس يرون سلطة الإقطاعيين وسطوتهم واعتزازهم بالمال والرجال، سعوا بخضد شوكتهم وتفريق كلمتهم، فكانوا يثيرون فيهم العصبيتين القيسية واليمنية وينحازون إلى أحد الحزبين لإضعاف الآخر، فأوقظوا بذلك طرف الفتنة وكثرت الدسائس، وانتشر الخداع بين القوم فأخذوا يتطاحنون ويتنابذون. وكانت قرية عين دارة إذ ذاك قد اعتصم بها اليمنيون وتقوَّوا وبنوا لهم فيها حصونًا منيعة، ووقفوا في طريق المارة من القيسيين في أعلى الجبل، وكان أكثر مقدمي المتن والجرد وشيوخهما يمنيين وعين دارة نقطة اجتماعهم، وهي من العرقوب في الشوف.
وسنة ١٧١١م عقد القيسيون اجتماعات كثيرة قرَّروا فيها الضرب على أيدي اليمنيين، فأرسلوا يستقدمون إليهم زعيمهم الأمير حيدر الشهابي بواسطة المشايخ الخازنيين، وكان هذا لن يزال مختبئًا في الهرمل ومعه بعض أعوانه، فقدم إليهم برجاله المذكورين، وسار إلى قرية رأس المتن ونزل عند المقدم حسين بن عبد الله بن قيدبيه بن محمد اللمعي زعيم أحزابه، وراسل مشايعيه القيسيين في الشوف وغيرها واستقدمهم إليه، فاجتمع عنده المقدم مراد ابن المقدم محمد والمقدم عبد الله اللمعيان برجال المتن، والشيخ سيد أحمد أبو عذرا والشيخ سرحال العماديان برجال الباروك وما يليها، والشيخ خازن الخازن برجال كسروان، والشيخ علي أبو نكد برجال المناصف، والشيخ محمد تلحوق برجال الغرب، والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخ قبلان القاضي وغيرهم.
فلما علم محمود أبو هرموش بذلك، بعث إلى أنسبائه الأمراء السبعة من آل علم الدين الفارِّين كما مرَّ قبلًا، فحضروا إليه من غوطة دمشق بتسعمائة من أعوانهم، وانضم إليه جميع الأحزاب اليمنية من الجرد والمتن والغرب وغيرهم، فاشتد بهم أزره، وكتب إلى حليفيه بشير باشا والي صيداء ونصوح باشا والي دمشق يستصرخهما، فجاء والي صيداء المذكور برجاله إلى حرش بيروت، ثم إلى بيت مري في المتن، ووالي دمشق الموما إليه إلى قب إلياس في البقاع، ثم إلى المغيثة فوق حمانا في الجبل حسب طلب أبي هرموش، الذي نهض بعسكره إلى عين دارة ليجتمع بأعوانه، ويزحف على الأمير حيدر بيوم واحد.
أما الأمير حيدر، فلما علم بوصول محمود باشا إلى عين دارة، قصدها برجاله الذين اجتمعوا عنده في عين زحلتا، وقسم عسكره إلى ثلاثة أقسام وفاجأوا عين دارة. وكان أسرع من زحف إليها اللمعيون؛ لأنهم ساروا في وادي قطليج عند جسر شمليخ، فوصلوا إلى رأس القرية قبل غيرهم.
وكانت زحلة في القديم تابعة للبقاع، وبعلبك تحت حكم الشام، لاتجاهها إلى السهل واتصالها به، ولا سيما أنَّ لبنان الغربي بقي مدة يحدُّه منقلب الماء الشرقي من الجبل. ثم قسمت معاملة لبنان إلى اثنتين؛ إحداهما معاملة صيداء، والثانية معاملة طرابلس. فالأولى كانت من جسر المعاملتين تحت غزير في كسروان المسمى بالمعاملتين؛ لأنه تخمهما إلى نهر الأولى عند صيداء. ومعاملة صيداء هذه صارت سنة ١٦٦٠ وزارة، وصار حاكمها يلقب بالباشا، وأول من استمد لها ذلك أحمد باشا الكبرلي والي دمشق، فولى عليها علي باشا الدفتردار واستوزره، وتوالى عليها الوزراء. وكان يتبعها من المقاطعات الشوف والجرد والمتن والغرب وكسروان وإقليم جزين وإقليم الخروب. وبزمن الشهابيين سنة ١٧٠٠ امتدت ولايتها من جسر المعاملتين إلى صفد.
وأما معاملة طرابلس الشام، فقد جعلتها الدولة سنة ١٥٧٩ وزارة لكسر شوكة الأمير منصور العسافي، الذي امتد ملكه سنة ١٥٧٢ من جسر المعاملتين إلى حماة، وكان أول وزير تولاها يوسف باشا سيفا الكردي، ومن مقاطعاتها بلاد جبيل والبترون وجبة بشرِّي والكورة والزاوية والضنية وعكار والحصن وصافيتا.
وكانت ولاية لبنان بزمن الأمير فخر الدين المعني الشهير قد امتدت من حدود حلب إلى تخوم القدس، وسمي سلطان البرِّ وذلك سنة ١٦٢٤م، واشتهر بحروبه مع بني سيفا والحرفوشيين وغيرهم من المجاورين، على أنَّ لبنان كان يتسع ويضيق بحسب نفوذ حكامه وسطوتهم، حتى اتصل بعجلون وحوران وغيرهما.
وكان سكان زحلة الأولون من اللبنانيين، ومن الفرزل وأبلح ممن حدثت بينهم وبين الأمراء الحرفوشيين الشيعيين موقعة قُتل فيها أمير منهم، فتحاملوا عليهم، فجاء المتهمون إلى الأمراء اللمعيين وسكنوا في مقاطعاتهم بزحلة، فرفعوا عنهم تعديات الحرفوشيين. وكانت أسرة الحاج شاهين المعروفة بسلالة إبراهيم الحنا النصراني قد تبعت السلطان سليم العثماني فاتح سورية سنة ١٥١٧م من مسقط رأسها كفربهم قرب حماه إلى سورية المجوفة (البقاع وبعلبك)، فأقطعها قرية ترحين قرب عرجموش، وترك لها الأموال الأميرية ببراءة كانت في أيدي أبنائها سلموها إلى حكومة دمشق، وحدث في تلك الأثناء بينها وبين السيَّاد في برِّ إلياس خصام استفحل أمره، فتركوا ترحين وجاءوا زحلة واستوطنوها. وكان بنو شحادة الخوري صعب من بعلبك وغيرهم من البعلبكيين قد تركوا بعلبك؛ لجور الحرفوشيين وسكنوا زحلة، فاجتمع من هؤلاء مستعمرة صغيرة مسيحية في إقطاع الأمراء اللمعيين مع المتنيين، فضلًا عمن كان في البلدة من الدروز كالحواطمة وبني القنطار وبني حسان. ومن المسلمين كبني الطرابلسي الذين سكنوا إذ ذاك في حي مارتقلا «الآن»، ثم انتقلوا إلى دمشق بعد ذلك ولم يبقَ منهم أحد في زحلة. فهكذا بدأت زحلة الحديثة تعمر وتنمو.
وكان الأمير يرسل من قبله وكيلًا أو دهقانًا (خوليًّا) يدير حوشه، ويقضي حاجات عهدته، وكثيرًا ما يزور زحلة ترويحًا للنفس ومشارفة لأعمال وكلائه. ويصطاد في المدينة الكثيرة الأطيار والوحوش. وقد جاء مرة الأمير مراد بن شديد اللمعي ليصطاد ويستثمر غلة زروعه؛ لأن الزرع كان في السهل والجبل والدياسة على البيادر، التي هي باقية إلى اليوم بجوار السراي. وكان عنده بازٍ مولع به كثيرًا يستخدمه للصيد. فوقع مرة في جدَّاد (هيش) قرب الأنزال (اللوكندات) الحديثة حذاء عين الدويليبي اليوم. ولحب الأمير إياه وحرصه عليه أمر أن تقطع مشتبكات النباتات، حيث سقط ويفتش عليه، فوجد ذلك البازي في قنطرة طاحون قديمة سالمًا، فأُخرج وانتبه الأمير إلى إقامة طاحون على أنقاض القديمة، فبناها وسميت باسمه؛ أي طاحون مراد وهي إلى اليوم، فكانت أول طاحون شيدت في هذا القرن بعد استعمار زحلة الأخير.
وسنة ١٧٤٠ بنيت كنيسة للكهنة غير الرهبان قرب تلك الأحواش باسم القديس جاورجيوس، التي هي الآن بيد الرهبان الحلبيين الكاثوليكيين، ووسعت سيدة الزلزلة للروم الأرثوذكس.
وسنة ١٧٤١ حدثت موقعة بين الأمير ملحم الشهابي حاكم لبنان وأسعد باشا العظم والي دمشق في البقاع، فانهزم عسكر دمشق فتأثره عسكر الأمير إليها، ثم رجع فأحرق قرى البقاع، وكان في عسكره بعض الزحليين.
وسنة ١٧٤٣ حصل اختلاف بين الأمير ملحم والأمراء اللمعيين، ثم تصالحوا بعد أن لحق الزحليين خسائر.
وسنة ١٧٤٧ جاء البقاع أسعد باشا العظم حاكم الشام لمحاربة الأمير ملحم حاكم لبنان، فالتقاه هذا بعسكره اللبناني الباسل، وفيه الزحليون إلى برِّ إلياس، فظفر به وبعسكره وهزمه إلى دمشق، فطار صيت اللبنانيين ببسالتهم وثباتهم في مواقف القتال.
وسنة ١٧٤٨ حدث بينهما اقتتال في صحراء برِّ إلياس، وظفر الأمير وأحرق قرى البقاع، وسباها وصار غلاء شديد.
وكان للأمراء اللمعيين في تلك الأيام فريضة على سكان زحلة ثلاثة غروش على كل مكلف، ومال أميريِّ حدًّا على الكروم. وامتدت سطوتهم في زحلة والبقاع وبعلبك، وكل أمير يحمي سكان حارته الذين من عهدته ويدافع عنهم بقوته. ولم يكن لحاكم لبنان العام الشهابي مال معين على السكان؛ بل كان يصادرهم (يبلصهم) بما يريد من الأموال وما يضرب من الضرائب، وهكذا كان الحال في زحلة. ولما اشتهرت برواج أعمالها بعد ذلك العهد، انصبت إليها صادرات البلاد المجاورة لها، فرتب الأمراء فيها حسبة على المدِّ والقبان، واحتكروا هم بأنفسهم دخلها كما سيأتي.
وفي هذه السنة تطاول المشايخ المناكرة على إقليم جزين وقتلوا اثنين من خدام الشيخ علي جنبلاط، فشق ذلك على حاكم لبنان الأمير ملحم الشهابي، فجمع عسكرًا من لبنان بينه الزحليون وسار بهم إلى جباع الحلاوة، فهرب المتاولة من وجهه، فاستظهر عليهم وأحرق كثيرًا من قرى جبل عامل وقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقطع أشجارهم وأحرق بلاد الشقيف وبلاد بشارة، وفرَّ بعضهم إلى مزار تحصنوا به فوجه إليهم كتيبة من الجيش بقيادة الأمير مراد اللمعي بعسكر المتن وزحلة والشيخ ميلان الخازن بعسكر كسروان، فظفروا بهم وأهلكوهم جميعًا. ولما عاد إلى دير القمر منصورًا، وزع غرامة على أهل بلاده تعويضًا عما دفعه من الأموال السلطانية على كل رجل غرشًا، فأبى الإقطاعيون ذلك فعدل عن مطلوبه مكرهًا، وأخذ يلقي الدسائس والفتن بينهم، ولا سيما بين الأمراء اللمعيين والمشايخ النكديين حتى تغلب عليهم لانقسام كلمتهم.
وفي تلك الأثناء ظلم الشيخ شاهين تلحوق في البقاع وقطع الطريق على المسافرين. فوجه سليمان باشا حاكم دمشق نائبه بعسكر لمناصبته ورفع تعديه. فدهم الشيخ شاهين في قرية تعنايل، فهرب وقتل من حاشيته ثلاثة رجال. فجمع الأمير ملحم عسكره وبينهم الزحليون ودهم النائب، فهزمه إلى دمشق وقتل عددًا من عسكره. فأوغر ذلك صدر سليمان باشا، وتأهب للخروج إلى بلاد الشوف بعساكره اقتصاصًا من الأمير ملحم، فتوسط الأمر مصطفى القواس والي صيداء، وجاء البقاع وأصلح بين الحاكمين ذات البين، على شرط أن يدفع ملحم لسليمان باشا خمسة وسبعين ألف غرش بدل نفقة عسكره، وأرسل الأمير ملحم أخاه الأمير عليًّا رهنًا إلى مدينة صيداء، فوضع في خان الإفرنج خمسة أشهر، فوزع الأمير ملحم المال السلطاني على بلاده مضاعفًا، وفك أخاه من الرهن فلحق الزحليين خسائر كثيرة.
وفيها صار ثلج عظيم كان في زحلة كثير الارتفاع، فسدَّ طرقاتها واتصل إلى ساحل بيروت، حتى كان على المراكب ثلاثة أشبار وعقبه ضيق وجوع وغلاء.
وسنة ١٧٥١ كثر الخصام بين الأمير ملحم الشهابي حاكم لبنان والمشايخ النكديين، وتوسط أمرهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا، فعادوا إلى المناصف بعد أن نزحوا من دير القمر إلى وادي التيم، وكان في البلاد قلق شديد اتصل بزحلة وضواحيها.
وسنة ١٧٥٣م قتل الأمير إسماعيل اللمعي ابن عمه الأمير أسعد، فركب الأمير منصور الشهابي الحاكم إلى المتن وزحلة، وصادر القاتل وأتلف أبنيته وأغراسه، وضبط ما بقي من أملاكه، وبعد ذلك رضي عنه وأخذ منه عشرين ألف غرش وزَّعها على مقاطعته، فلحق زحلة قسم منها.
ونحو سنة ١٧٥٦م ضرب الأمير حسين الحرفوش ضريبة فادحة على سكان قرية راس بعلبك، فعجزوا عن دفعها فحاربهم وصادرهم، فهجروا بلادهم وجاءوا زحلة ملتجئين إلى الأمراء اللمعيين. فأرسلوا وفدًا منهم إليهم في الشبانية يستأذنونهم في النزول بزحلة والسكنى فيها، فأذنوا لهم بالإقامة فيها واستعمار جهتها الغربية، فبنوا حارة الراسية المنتسبة إليهم حتى الآن. وكانت الرهبانية تتساهل مع سكان هذه الحارة، وتسهِّل لهم أسباب الإقامة، فتعطيهم محل البيت وتساعدهم بعماره وتقطع لهم من غاباتها الخشب لسقفه، فتكاثروا فيها وصاروا شركاء الدير، وبينهم المكارون فعمرت الجهة الغربية من زحلة.
وعلى الجملة فكان الذين من خاصة الأمراء اللمعيين يتبعون الرهبنة المخلصية، والذين من خاصة آل قيدبيه يتبعون الرهبنة الشويرية. وكانت حارة المعالفة مختصة بأمراء صليما من بني قيدبيه؛ لأنهم كانوا من عهدتهم قبل مجيئهم من كفر عقاب وكفر تيه في قضاء متن لبنان.
وسنة ١٧٥٧م في شهر حزيران مات الأمير فارس اللمعي حاكم الشبانية في لبنان، فأقيم له مأتم حافل حسب عادة تلك الأيام حضره اللبنانيون وبينهم الزحليون، وكانت مناحته عظيمة عند هؤلاء؛ لأنه سعى بعمران زحلة وأحب سكانها، فحزنوا عليه كثيرًا وخلفه ابنه الأمير سلمان الذي أحبهم مثل أبيه.
وسنة ١٧٥٨م ارتفعت أسعار الحنطة في زحلة، وحصل ضيق شديد على سكانها، وامتد الغلاء في جميع سورية، ومات كثيرون جوعًا ولا سيما في حلب.
وسنة ١٧٥٩م في ١٩ تشرين الأول حدثت زلزلة (هزة) في الصباح، وقتل فيها كثيرون وخربت كنيسة السيدة الأرثوذكسية، فسميت بعد تجديدها بسيدة الزلزلة. وأعادت الكرة في نصف تشرين الثاني من تلك السنة بعد غياب الشمس، فأخربت بلاد بعلبك ونواحيها وجهات الشام، وقتل نحو ثلاث مائة نفس، فأضرت بأبنية زحلة مع حقارتها إذ ذاك، وهدمت كثيرًا منها وقتلت بعض سكانها. وبعد أن انقطعت معاودتها رممت أبنيتها وكنائسها بمساعدة الأمراء.
وسنة ١٧٦٠م تفشى طاعون جارف عمَّ بلاد الشرق، وأفنى كثيرين في مدنها ولا سيما حلب ودمشق، وامتد إلى زحلة ولبنان، فأمات كثيرين في زحلة وفرَّ الناس إلى الأديار والجبال العالية مذعورين، وبقوا مدة طويلة إلى أن تقلصَّ ظله.
وسنة ١٧٦١م في ١٧ نيسان عادت الزلزلة في الساعة الثانية ليلًا، وهدمت رأس بعلبك برمتها ودير السيدة فيها، وقتلت خلقًا كثيرًا بأنقاض المهدومات منها، وبينهم أربعون امرأة كنَّ في محضن (مدخن) القز وأصاب زحلة بعض الضرر، ولجأ إليها كثير من الراسيين، فسكنوا بين مواطنيهم في حارة الراسية وغيرها.
وفيها وقع الخلاف بين الأمير قاسم ملحم الشهابي وعميه الأميرين أحمد ومنصور على الحكم، وذلك على أثر وفاة أبيه، فجاء الأمير قاسم زحلة والبقاع، ثم ذهب إلى عين دارة التي من أقطاعه وصالح عميه، وبهذه الأثناء تنصَّر الأمراء الشهابيون، وأول من قبل ذلك منهم الأمير عُمر جد الأمير بشير الشهابي الكبير لأبيه.
وسنة ١٧٦٦م جاء زحلة السيد أغناطيوس جوهر بطريرك الروم الكاثوليك، ونزل ضيفًا على المطران أفتيموس فاضل المعلولي في الدار الأسقفية، وكان قاصدًا زيارة بعلبك بصفة بطريركية، فلم يتمكن من ذلك؛ لأن الأمير حيدر الحرفوشي حاكمها كان قد أخبره المطران فيلبس أسقف بعلبك أنه ليس ببطريرك فعدل عن ذلك.
وفيها توفي القس بروكوبيوس الحكيم الراهب الشويري في صليما يوم عيد ميلاد العذراء في ١٤ أيلول، وكان كثيرًا ما يطبب بزحلة وغيرها بارعًا بصناعته، وكان فن الطب إذ ذاك منحصرًا بالرهبان وببعض الخاصة.
وسنة ١٧٦٧م ضبط الأمير حيدر الحرفوشي دير السيدة في رأس بعلبك وضايق بعض رهبانه، ففروا إلى دير النبي إلياس الطوق في زحلة، وأخبروا بما حدث لهم، فذهب بعض رهبان زحلة إلى الأمير بشير اللمعي في برمانا وكان هذا الأمير مشهورًا بسطوته ونفوذ كلمته، فأرسل معتمده إلى الأمير الحرفوشي المذكور في بعلبك، فأصلح ذات البين وعادت مياه الراحة إلى مجاريها، ورجع بعض الرهبان إلى دير سيدة الراس.
وسنة ١٧٦٩ في شهر تموز جاء زحلة البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي، قادمًا إليها من بيروت، وحلَّ في دير النبي إلياس نحو أربعة أشهر. ففض بعض مشاكل الرهبان ورتب لهم نظامًا جديدًا. وسُرَّ بعمران زحلة وترقيها، وفيها حضر من حلب جبرائيل بن الغضبان شقيق إلياس الغضبان، فمكث مدة في دير النبي أشعيا للرهبنة الحناوية، ثم جاء زحلة فقضى مدة طويلة في دير النبي إلياس.
وسنة ١٧٧٠م ثار متاولة جبل عامل، وناهضوا درويش باشا والي صيداء، الذي سلَّم ولاية لبنان إلى الأمير يوسف الشهابي بدلًا من حليفهم عمه الأمير منصور، في شهر آب من تلك السنة. فانحازوا إلى الشيخ ظاهر العمر الزيداني، وشرعوا يزرعون الفتن ويقلقون الراحة حتى اتصلوا بحاصبيا، وكان أشدهم تحمسًا وعيثًا الصغيرية والصعبية. فأوغر تعديهم صدر الأمير يوسف ونوى التنكيل بهم، فنهض من دير القمر في أول تشرين الأول بزهاء عشرين ألف مقاتل بين فرسان ومشاة، وقيل: كان عددهم ثلاثين ألفًا وبينهم الزحليون، فاحتدم القتال بينهم وبين المتاولة في نواحي جبل عامل، ولما كاد اللبنانيون ينالون النصر ويستظهرون على الأعداء، ارتد بعض الجنبلاطيين والأمراء على أعقابهم في إبان العراك، فأضعف ذلك قلوب اللبنانيين، وانهزموا فطمع بهم المتاولة، ولا سيما بعد أن وصلت نجدة لهم من ظاهر العمر، فتأثروا اللبنانيون وأصلوهم نارًا حامية وأعملوا السلاح في أقفيتهم، حتى قتلوا منهم نحو ألف وخمسمائة قتيل من دروز ونصارى. وكان بينهم بشير بن صعب كساب كاخية الأمير عساف اللمعي من أمراء صليما. والمتناقل على ألسنة الشيوخ، أنه قُتل في هذه الموقعة مائتا زوج أخوة من لبنان، ومن عسكر اللمعيين ستة عشر زوج أخوة معظمهم من المعلوفيين من كفر عقاب وزحلة. وفي هذه الأثناء كان قد وصل عسكر الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا وخال الأمير يوسف لنجدته، إذ كان قد استصرخه قبل زحفه وهو كثير بقيادة الأمير إسماعيل، فاشتد أزر اللبنانيين ولكنهم كانوا قد بعدوا عن المتاولة، فدخلوا لبنان مدحورين، واستثأر المتاولة منهم لقاء ما فعل بهم سلفه الأمير ملحم سنة ١٧٣٤ كما مر.
وقد اشتهر بهذه الموقعة مخايل عيد المعلوف ببسالته وطنوس أبو عقل المعلوف، وهما من فرع أبي مدلج، فهذا خلَّص العلم (البيرق) عند انكسار اللبنانيين ولم يقوَ الأعداء على أخذه. ويقال: إنه لم يسلم سواه فشكره الأمير ولقبه بالكُحَيل، واشتهر فرعه بهذا اللقب (راجع «دواني القطوف» صفحة ٢٠٧). وعرفت هذه الموقعة بحادثة الجرمق أو الزهراني، حيث حدثت في بلاد الشقيف في وادي الجرمق وقرب نهر الزهراني. ولم يذق اللبنانيون فشلًا مثل هذا في مواقعهم؛ لأن بعض المشايخ خانوا الأمير يوسف وأرادوا خذلانه انتصارًا للأمير منصور، وكان الأمير يوسف في بدء هذه المعركة منتصرًا؛ لأنه لما وصل إلى جباع الحلاوة أول بلاد المتاولة هاجم الشيخ حيدر الفارس زعيمهم المقيم هناك، فهزمه ودخل الأمير القرية وأحرقها، ثم انتقل إلى النبطية. فورد إليه كتاب من الشيخ ظاهر العمر يسأله أن يكف عن القتال بثلاثة شروط؛ أولها: إنه يرسل إليه شيوخ المتاولة ليقدموا له الطاعة، وثانيها: إنهم يقدمون له دراهم نفقة عساكره، وثالثها: إنه يعطيه مدينة صيداء فيتولى شئونها. وكانت هذه الشروط على يد الشيخ علي جنبلاط فلم يقبل الأمير يوسف بها. فتراجع عنه الجنبلاطيون بإشارة زعيمهم الشيخ علي. وكذلك مال عنه كلٌّ من الشيخين عبد السلام العماد وكليب نكد خدمةً للأمير منصور الذي كان يحركهما سرًّا ضد الأمير يوسف، وهما اللذان أقنعاه بعدم قبول شروط الشيخ ظاهر الآنفة الذكر. وكانا يراسلان مشايخ المتاولة سرًّا، وأنهما سيغدران بالأمير خدمةً لهم، فتشدد المتاولة وهجم نحو مائة فارس منهم على عسكر الأمير يوسف فانهزم زعماؤه من أمامهم إنجازًا لوعدهم، وتمت المكيدة وتمزق شمل اللبنانيين وعمَّ العويل والنحيب في جميع لبنان وما يجاوره، حتى كانت النساء في كل مكان كالأغربة حدادًا على القتلى، وتمرَّد المتاولة كما فصَّل ذلك القس حنانيا المنير في تاريخه الدر المرصوف، في تاريخ الشوف وغيره من المؤرخين.
وسنة ١٧٧٢م طلب الأمير يوسف حاكم لبنان من عثمان باشا المصري والي الشام ولاية البقاع لأخيه الأمير سيد أحمد، فألقى إليه مقاليد أمورها، فجاء الأمير سيد أحمد، وتوطن قلعة قب إلياس التي كانت الزلازل قد هدمتها، ورممها وجهزها بالمدافع والرجال وصار يمخرق في البقاع، فنهب قافلة لتجار دمشق كانت مارَّة في طريق البقاع، فكتب عثمان باشا إلى الأمير أن يردع أخاه عن العيث في البلاد وأن يرد ما سلبه، فكتب الأمير إلى أخيه فلم يرعوِ، فاعتذر الأمير يوسف للوزير فرأى اعتذاره غير واقع في محله.
وسنة ١٧٧٣م خرج الوزير مع بعض الباشوات بعساكر جرَّارة أكثر من خمسة عشر ألفًا، فنزلوا في صحراء برِّ إلياس، وضربوا فيها خيامهم وارتجت البلاد لقدومهم، وكانوا يحبون الاقتصاص من الأمير سيد أحمد الذي لم يترك المخرقة في البقاع ولا ردَّ مال القافلة الذي سلبه. فلما بلغ الأمير يوسف قدوم عساكر دمشق جمع رجاله وسار إلى المغيثة. ثم انتقل إلى زحلة فانضم إليه رجالها الأشداء، فحارب عسكر دمشق مرارًا، فلم يظفر بهم ولا ظفروا به، وذلك لخيانة الأمراء والمشايخ الذين كان الجزَّار قد رشاهم بالمال الذي قبضه من مركب فرنسي جاء بيروت حاملًا الدراهم لتجارها، وقيمتها أربعمائة كيس في أثناء محاصرة الجزار إياها. فاستصرخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، فأرسل إليه عسكرًا وافرًا بقيادة ولده الشيخ علي والشيخ ناصيف النصار زعيم المتاولة، فلما وصلوا إلى القرعون في أول البقاع من جهة الجنوب علم بهم عثمان باشا وأعوانه، فأركنوا إلى الفرار بعساكرهم وتركوا خيامهم وذخائرهم وعددهم ومدافعهم وساروا إلى دمشق، فغنم كل ذلك عسكر الأمير وجهزوا بالمدافع قلعة قب إلياس وحصَّنوها، وتجددت المودَّة بينهم وبين الشيخ ناصيف النصار ورجاله، وأذهبت الحفائظ أحقادهم القديمة. فعاد عسكر الشيخ ظاهر ظافرًا مشكورًا من الأمير الذي عاد إلى دير القمر. وجدد المواثيق بينه وبين المشايخ آل ظاهر العمر وآل علي الصغير وغيرهم.
وفي هذه السنة شيَّد الرهبان الشويريون كنيسة دير النبي إلياس الطوق؛ لأنهم كانوا قبل ذلك قد بنوا الأقبية والممشى الشمالي فقط، وكانوا يقيمون الصلاة بغرفة صغيرة.
وسنة ١٧٧٤ كان الأمير أحمد قد قويت شوكته في البقاع، وحصَّن قلعة قب إلياس بالمدافع كما مرَّ، فعصى على أخيه الأمير يوسف وسوَّلت له نفسه محاربته، فانحاز إلى الذين أبعدهم أخوه من اليزبكية مثل الشيخ عبد السلام العماد والشيخ حسين تلحوق وغيرهما، وكان عنده في القلعة الأمير فارس يونس، فاستمال إليه الأمير منصورًا صاحب راشية، وانضمَّ إليه كثير من مناوئي أخيه، فثقَّل على قرى الشيخ علي جنبلاط في البقاع، فحنق عليه أخوه الأمير يوسف وزحف بعساكره لقتاله، وحاصر قلعة قب إلياس نحو شهر فلم يظفر منها بطائل، فانفض أكثر عسكره ضجرًا بدسيسة الشيخ عبد السلام المذكور. فاستقدم إليه عسكر المغاربة من دمشق، وأقامهم على حصارها حتى استنفد ما فيها من الماء والزاد فضويق الأمير سيد أحمد، وكتب إلى الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي أنه يريد التسليم لأخيه على أيديهما. فتوسط الأمر فقبل الأمير يوسف بذلك. فخرج أخوه الأمير سيد أحمد من القلعة بمن معه، وسلمها لأخيه وسار إلى حارة حدث بيروت، وتوطنها مع بعض مريديه الذين كانوا محاصرين معه. فاستولى الأمير يوسف على القلعة، وأراد تقويض دعائمها فلم يستطع الفعلة الكثيرون إلا هدم بعض جدارها لمناعتها.
ثم كتب الأمير يوسف إلى محمد باشا العظم خلف عثمان باشا المصري في ولاية دمشق أن يسند إليه إدارة ولاية البقاع، فأرسل إليه الخلعة بذلك، وطلب منه أن يعيد لتجار دمشق ما كان سلبه منهم أخوه الأمير سيد أحمد من قافلتهم ففعل، وكان ذلك اقتصاصًا من الأمراء اللمعيين؛ لأن الأمير شديدًا منهم قتل دهقانه، فنهض الأمير يوسف من غزير إلى الرمتانية لقصاصهم، فوضع يده على أملاكهم ورجع إلى غزير، وأقام أخاه الأمير قاسمًا وكيلًا عنه في ولاية البقاع، فأخذ من أخيه مال التجار وأرجعه إلى أصحابه، وعوَّض عليه مالًا من عنده.
وسنة ١٧٧٥م في أواخرها سقَّف البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي في دير القديس أنطونيوس القرقفة في كفر شيما (لبنان) القس يوسف فرحات الراهب المخلصي على ضيعة الفرزل باسمه، وشرع ببناء كنيسة حذاء داره الأسقفية في زحلة، وكان يلقب بأسقف الفرزل، فزاد على لقبه لفظة البقاع؛ أي أسقف الفرزل والبقاع، وكان قد تكاثر مجيء سكان بعلبك إلى زحلة واستعمارها تخلصًّا من ظلم الأمراء الحرفوشيين، فكثر البناء فيها وبنى المطران بعض غرف في الدار الأسقفية، وهو أول من طاف بالقربان المقدَّس في زحلة، إذ كان قد أدخل عيد الجسد الإلهي البطريرك مكسيموس الحكيم الكاثوليكي، فكان كثير من السكان والمجاورين يقصدون زحلة للاحتفال بذلك، ولن تزال هذه العادة جارية إلى عهدنا.
وسنة ١٧٧٦م في ١٦ نيسان صار ثلج وبرد كثير، حتى اتصل الثلج بحدود الساحل، وكان في زحلة وما يجاورها كثيرًا، فحصل ضيق للسكان والمواشي.
وفيها في أول تموز جاء عسكر من دمشق إلى بعلبك، فعزلوا الأمير مصطفى الحرفوشي حاكمها وولُّوا عوضه أخاه محمدًا، فهرب الأمير مصطفى إلى زحلة ودخل في حماية الأمراء اللمعيين، ولبث فيها مدة وتمكنت المودة بينه وبين الزحليين، (راجع تفصيل ذلك في «دواني القطوف»).
وفيها صار أحمد باشا الجزار واليًا على صيداء، وعزل عنها محمد باشا الذي كان قد وضعه حسن باشا القبطان فيها. ولما بلغ الأمير يوسف قدومه اضطرب، لما كان بينهما من الضغينة عند حصار بيروت، ولكنه رأى من المناسب أن يتظاهر بالسرور، فأرسل يهنئه وبعث إليه هدايا من الخيول المطهمة ونحوها، فأجابه الجزار شاكرًا صداقته. ومالأ الأمير يوسف حسن باشا اقتصاصًا من الجزار منتهزًا الفرصة لذلك، وأراد خدمته بتقديم المال المرتب عليه، فاستشار مريديه وأعوانه فقر رأيهم على أن يضع الأمير يوسف يده على عقارات الأمراء الشهابيين أنسبائه ويدفع المال من ريعها ففعل. وأغضب بذلك الأمراء، فنهضوا إلى البقاع وعاثوا فيه وكدَّروا مياه الأمن، وأثاروا القلق وسلبوا ما لأهل البلاد هنالك. فسار الأمير بعسكره إلى قب إلياس لردعهم؛ ففروا إلى إقليم البلان ومنه إلى الحولانية، فتوسط أمرهم نسيبهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبية. فقبل الأمير يوسف وساطته، وتعهد لهم بإرجاع ما تناوله من ريع عقاراتهم ورجع كل إلى وطنه، ما عدا شقيقيه الأميرين سيد أحمد وأفندي، فبقيا يناوئانه بالانحياز إلى ناصيف النصار زعيم المتاولة، فاسترضاهما وأعادهما إلى البلاد، وعاد هو إلى دير القمر فجمع المال الذي تعهد به إلى حسن باشا ودفعه له، فأعطاه البراءة والخلعة بحكم جبل الشوف وملحقاته وبيروت وجبيل والبقاع. وكتب له ميثاقًا بأن والي صيداء لا يطالبه إلا بالمال الأميري، وسار إلى الأستانة فانتهز الجزار الفرصة وحرَّك دفين حقده على الأمير يوسف، وجاء بيروت وملكها ورفع يد الأمير يوسف عنها، وضبط ما فيها من عقارات وأبنية للشهابيين، وكتب إلى الأمير يوسف يطلب منه الأموال السلطانية عن السنوات الثلاث الماضية وألحف في الطلب، فخشي الأمير غدره وكتب إلى حسن باشا يستصرخه، فأدركه الرسول في جزيرة قبرس، فعاد ببعض السفن إلى بيروت وأخرج الجزار منها، ووعد الأمير أنه سيعزل الجزار عن الولاية واستأنف السفر إلى الأستانة. وكان عسكر الجزار الذي جاء به بيروت ستمائة فارس من اللاوند الشجعان، فساروا إلى صيداء برًّا فأرسل لهم الأمير المشايخ النكدية، فكمنوا لهم في أرض السعديات قرب الدامور، وكان معهم مائتا رجل والتقيا في الصباح، فاستظهر عليهم اللاوند وجندلوا زعيمهم الشيخ أبا فاعور، وأمسكوا ولده الشيخ محمودًا والشيخ واكدًا، وجرح أخوه الشيخ بشير فساروا بالأسيرين إلى الجزار غانمين الأسلاب فحبسهما في القلعة. ثم فكهما الأمير يوسف معتذرًا إلى الجزار أنَّ ذلك جرى دون علمه؛ ولذلك اضطر الأمير يوسف أن يوزع فدية الأسيرين، وهي مائة ألف غرش على البلاد، فعصى عليه الأمراء اللمعيون وأبوا دفع تلك الضريبة وأثاروا الخواطر ضدَّه، فأوغر ذلك صدر الأمير والجزار معًا فأرسل هذا مصطفى أغا قراملا (أي القارئ الأسود) قائد عسكره بجماعة إلى بيروت، ومنها إلى مقاطعة اللمعيين في المتن وزحلة والبقاع، فأحرقوا قرى المكلس والدكوانة والجديدة وقتلوا جماعة من أعوانهم، وساروا إلى البقاع فاستولوا على ما للأمراء الشهابيين واللمعيين فيه من العقارات والقرى. فانحاز الأمير يوسف إلى اللمعيين، وجمع عسكرًا من البلاد كان بينه الزحليون وزحف به إلى المغيثة.
وفي آخر شهر نيسان من سنة ١٧٧٧ كان قراملَّا مع عسكره الأكراد قد مرُّوا بقلعة قب إلياس، فعلم محافظ القلعة بقدومهم فحصنها، حتى امتنعت عليهم وردَّهم عنها بقنابل المدافع، فساروا إلى بعلبك وعاثوا فيها كلَّ العيث وأمسكوا زعماء الشيعيين فيها، وصادروهم بأموال كثيرة وحبسوا الأمير محمدًا الحرفوشي وضبطوا أمواله، وكان في بعلبك القس أكلمينضوس الراهب الحناوي بارعًا في الطب فطبَّب ذات يوم قراملَّا وشفاه، فصار له عليه دالَّة، فاستأمنه على المسيحيين فأمَّنهم وجمعهم في الدار الأسقفية في بعلبك، وأقام عليهم محافظين فلم يمسُّوا بسوء.
وكان الجزار قد استصرخ حاكم الشام وولده حاكم طرابلس ليساعداه على محاربة جبل لبنان، فامتنعا حفظًا لعهدهم مع الأمير حاكمه.
فجاء عسكر قراملَّا وخيموا في البقاع، وقطعوا الطريق على المارَّة، ونازلوا قرية سعد نايل في جوار زحلة ونهبوا مواشيها وقتلوا بعض سكانها وذلك في شهر حزيران، وأرادوا الهجوم على زحلة فمنعهم المطر الكثير الذي انهمر في تلك الأثناء.
وفي ١٩ تموز هاجموا زحلة ودير مار إلياس الطوق في غربيها، فهرب الرهبان إلى القلعة فوق الدير. فدخلوه ونهبوا ما فيه من الحرير والأمتعة، فجمع الزحليون رجالهم بقيادة بعض الأمراء اللمعيين ونازلوهم قرب الدير المذكور وحمي وطيس القتال، فظفر الزحليون بهم وقتلوا منهم خمسين رجلًا، ولم يُقتل من الزحليين سوى ستة رجال. واستعادوا جميع ما نُهب من الدير سوى بعض الحرير الذي لم يجدوه بين المسلوبات. وقد اشتهر بهذه الموقعة من الزحليين نجم أبو ضاهر المعلوف جد المرحوم نعمان المعلوف لأبيه مع أخوته وغيرهم، وهو الذي حاصر في بيته وحماه من الحريق مع ما حوله، فترك الأكراد زحلة مدحورين وعادوا إلى مخيمهم في البقاع. ولما ذاع خبر مهاجمتهم لزحلة جاء بعض المشايخ والأمراء من لبنان لمعاضدة الزحليين بعساكرهم.
ولما استعاد الأكراد قوتهم وجمعوا شملهم؛ أعادوا الكرة على زحلة في السابع من شهر آب، ولما بدأ القتال فرَّ المشايخ بعسكر الدروز وبعض الأمراء اللمعيين، فتبدد شملهم وضعف عزائم الزحليين لهذه الخيانة. فقتل منهم الأكراد أكثر مما قتل من عسكرهم، وأحرقوا القرية ودير مار إلياس الطوق وغابات المدينة المشتبكة. ولولا معاضدة الأمير مصطفى الحرفوشي للزحليين ووقوفه برجاله في وجه الأكراد، لما أبقوا أحدًا من السكان الذين فرُّوا إلى الجبال العالية في لبنان، وقتلوا الشيخ سيد أحمد العماد من الباروك ونحو ثلاثين من غير الزحليين. أما رهبان دير مار إلياس الطوق، فغادروه فارغًا وحملوا أمتعتهم وذهبوا إلى قرية بر إلياس ونزلوها مدة، واشتهرت هذه الموقعة في زحلة باسم موقعة قراملَّا إلى يومنا.
وفي ١٢ آب نزل قراملَّا بعسكره من زحلة إلى جهات ثعلبايا وقلعة قب إلياس، فالتقاه العسكر اللبناني، فاستظهر عليهم وقتل منهم نحو مائة بينهم زين الدين مزهر مقدم حمانا، والشيخ ظاهر عبد الملك من الجرد في الشوف من الدروز، ورحال بن شبلي كسَّاب من مسيحيي صليما، وقتل من الأكراد نحو أربعين شخصًا، وفر عسكر لبنان. فأحرق الأكراد كثيرًا من قرى البقاع وما يجاورها، وهاجموا قرية سغبين مرتين؛ فعادوا عنها مدحورين لصعوبة مسالكها، وقتل منهم نحو مائتين. ثم استقدمهم إليه الجزار فجأة، فرحلوا عن البقاع تاركين فيها آثارًا سيئة.
وأما الأمير يوسف فأوغر صدره ما فعله هؤلاء في بلاده، فجمع عسكرًا كان فيهم الأمراء اللمعيون برجالهم وبينهم الزحليون، وانضمَّ إليه الحرفوشيون حكام بعلبك برجالهم، وبينهم المعلوفيون فواقعوا الجزار وهزموا عساكره وشفوا غليلهم منه.
وفي هذه السنة كثر الجراد في الجروم (السواحل) فأضرَّ بها كثيرًا، واتصل إلى الصرود (الجرود) فكان فيها قليل الضرر.
وفي هذه الأثناء كان الأمير يوسف قد وزَّع مالًا على البلاد، فدفع الشيخ علي جنبلاط ما خصَّه هو وأعوانه، فخشي الأمير زعامته ونفوذه، فألقى زوان الفتنة بينه وبين الشيخ عبد السلام العماد، فتجاذبا كلاهما أهداب الزعامة، وأراد كلٌّ منهما أن يحتكرها لنفسه. فنشأ في البلاد حزب جديد خلف القيسي واليمني، وهو الحزب المعروف باليزبكي والجنبلاطي، فعمَّ الانقسام الشهابيين واللمعيين والنصارى اللبنانيين إلا المشايخ النكديين، فإنهم كانوا على الحيادة؛ فصار حزب يزبك يطلق على المشايخ آل العماد وآل تلحوق وآل عبد الملك ومواليهم وزعماؤه آل العماد الذين كان بينهم اسم يزبك، فنسبت العصبية إليه، والباقون من الإقطاعيين والعشائر كانوا جنبلاطيين وزعماؤهم آل جنبلاط.
وسنة ١٧٧٨م حدث غلاء فاحش عم جميع أنحاء سورية، فكان ثمن كيل الحنطة البيروتي اثني عشر غرشًا، وثمن قفة الأرز عشرين غرشًا؛ ونال زحلة من ذلك ضيق شديد.
وفيها قتل الأمير شديد مراد اللمعي دهقانه (خوليَّه)، فلم يتمكن الأميران سيد أحمد وأفندي حاكما لبنان من الاقتصاص منه. وكان أخوهما الأمير يوسف في غزير، فكتب إلى محمد باشا العظم والي دمشق يطلب منه حكم البقاع، فولَّاه إياه فقام من غزير إلى قرية الرمتانية فوق زحلة للاقتصاص من الأمراء اللمعيين، وكان قد انضمَّ إليه بعض أعيان البلاد والأميران إسماعيل وبشير الأخوان حاكما حاصبية، فتقوى بهم وضبط أملاك الأمراء اللمعيين، وألحق بالزحليين الخسائر وعاد إلى غزير ثم أصلح ذات البين بينه وبين أخويه، ولم يطل العهد حتى أعيدت له الولاية وصالح أخويه واستتبَّ له الحكم.
وسنة ١٧٧٩م في آذار توفي الأمير حسين أبو إسماعيل جد الأمير حيدر إسماعيل الشهير حاكم صليمة لأبيه، وفي ١١ تشرين الثاني توفي الأمير أحمد حاكم بسكنته، فأقيم لهما مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون الذين من عهدتهما، ولبست مقاطعة المتن وزحلة عليهما الحداد.
وفيها صار ثلج تعاظم جدًّا جدًّا وبقي أيامًا طويلة متجمدًا، وضويق الناس. وفي الثامن من شهر أيار أمطرت السماء مطرًا خرَّت منه مرافض الأودية، وجرت السيول الطامية وسقط في قرية رأس بعلبك ونواحي مدينة حمص برد كان حجمه يتراوح بين حجم الخوخة وبيضة الدجاجة، فسبَّب أضرارًا كثيرة وخسائر فادحة في الأشجار. وفي ذلك اليوم نزل شهاب ناري من السماء منقضًّا على ثلاثة رءوس خيل في تلك الجهات فقتلها لساعته. وفي ١٣ من شهر تشرين الثاني خسف القمر خسوفًا كاملًا طالت مدته.
وسنة ١٧٨٠ في ليلة الحادي عشر من كانون الثاني بعد غياب الشمس بساعتين ونصف حدثت زلزلة (هزة) خفيفة، لم ينجم عنها أضرار واشتد هبوب الرياح فاقتلع الأشجار. وفي آخر شهر نيسان سقط ثلج وبرد عظيم الواحدة بقدر الجوزة وأتلفت أشجارًا كثيرة. وفي أيار انهملت الأمطار العظيمة، وفاضت الأنهار وتجاوزت حدودها وطغى نهر الكلب في كسروان، فحمل أخشابًا ضخمة صدمت في جريها الجسر فانهدم، وكان جسرًا قديمًا عظيمًا من أيام الرومانيين فصاروا يقطعون النهر بالقوارب إلى أن رمموا الجسر ولحق زحلة المطر والثلج وما سببا من الأضرار. وفيها ضرب الأمير يوسف ضريبة على التوت، فأصاب أوقية بزر الحرير خمسة غروش، وتضايق الناس لأن هذا كان مالًا ثانيًا على البلاد فأصاب زحلة منه قسمٌ وافرٌ.
وسنة ١٧٨١م جاء راهبان من دير مار يوحنا الصابغ في الخنشارة بأمر رئيسهما القس أكاكيوس ابن بولس الحكيم الشابوري إلى دير النبي إلياس الطوق في زحلة، وأخذا معهما راهبًا من دير النبي إلياس، وقصدوا سهل البقاع ليصطادوا السمك من نهر الليطاني، وكان حاكم البقاع محمد أغا العبد، فقبض عليهم ووضع الحديد في أعناقهم وتهددهم بالقتل، فبلغ الخبر رهبان دير الطوق، فقدموا له خمسة أرطال قهوة وقفتي أرز فأطلق سراحهم، وكان بينهم القس حنانيا المنير المؤرخ صاحب «تاريخ الرهبنات»، و«الدر المرصوف» و«مجموع الأمثال العامية» وغيرها.
وفي تلك الأثناء حدثت نزغة بين الأميرين محمد الحرفوشي وشقيقه مصطفى، فلجأ هذا إلى زحلة لما كان بينه وبين سكانها من المودَّة، ولا سيما المعلوفيون أنسباء آل شبلي المعلوف الذين كانت لهم منزلة كبيرة عند الحرفوشيين في بعلبك؛ لأنهم كانوا مستشاريهم. فرفع عليه أخوه الشكوى إلى حاكم دمشق، فأرسل هذا عسكرًا إلى زحلة لإلقاء القبض عليه في شهر آذار، ففرَّ منها وخشي الزحليون فتك الحاكم وغدره، فتركوا بلدتهم وساروا إلى لبنان بأمتعتهم، أما غلالهم فكانت على البيادر فاستولى عليها عسكر دمشق ونهب أمتعة دير النبي إلياس الطوق وتركوه قاعًا صفصفًا، فكان ما فقد منه يقدر بثلاثة آلاف غرش.
وإذ ذاك جاء زحلة الأمير سيد أحمد الشهابي فارًّا من وجه أخيه الأمير يوسف؛ لأنه كان قد سعى مع أخيه الأمير أفندي بقتله فقتل الأمير أفندي، وجرح الأمير سيد أحمد وذلك بالاتفاق مع المشايخ الجنبلاطيين ضد المشايخ اليزبكيين، وكان هذا الحزب في معظم شدته. فطلب الأمير سيد أحمد من حاكم الشام الذي كان في دير النبي إلياس الطوق أن يوليه حكم البقاع ويسلمه قلعة قب إلياس، فسلَّمه مقاليد حكم البقاع، واتفق مع الوزير أن يغرِّم أهل زحلة بعشرة أكياس لحمايتهم الأمير مصطفى الحرفوشي ويرفع عنهم العسكر؛ فقبل، فاستقدمهم الأمير سيد أحمد من لبنان، ودفعوا ما تعهد به وعادوا إلى بلدتهم، وعمَّروا ما خرب منها وجدد الرهبان الشويريون بناء الدير.
وسنة ١٧٨٢م أرسل الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان الأمير شديد بن مراد اللمعي، فنهب بر إلياس وخرب قلعتها فهرب البقاعيون، وكان بين عسكره رجال من زحلة نهبوا قرية النبي إيلا (إيليا) قرب أبلح والفرزل، وقتلوا أراجة حميَّة من طاريا، فاستاء الأمير مصطفى الخرفوشي حاكم بعلبك وأرسل يتهدد الزحليين ويصادرهم بأموال كثيرة، وكان يتأهب لمقاتلتهم فرحل بعضهم خوفًا من مكره، وكان ذلك في شهر آذار ونقلوا أمتعتهم. وفي تلك الأثناء تصدَّى الأمير محمد الحرفوشي لمحاربة أخيه الأمير مصطفى في بعلبك بعسكر جرَّار، فهرب هذا إلى نواحي حمص وجمع عسكرًا وهاجم بعلبك، فالتقاه أخوه محمد برجاله وبعد مناوشات كثيرة، كانت الغلبة للأمير مصطفى بعد قتل عشرة من رجاله، فدخل إلى بعلبك وحكمها وهرب الأمير محمد إلى زحلة برجاله.
وسنة ١٧٨٢م جاء زحلة أنتيموس بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي قادمًا من الأستانة بطريق طرابلس الشام، وأصلح الخلاف بين المعلوفيين على كنيسة الخرائب في كفر عقاب، إذ استقدم إليه كهنتها وشيوخها، وكتب بينهم وثيقة كما في «دواني القطوف».
وسنة ١٧٨٤م في شهر كانون الثاني ظهر في الغرب مذنَّب كان ذنبه متجهًا للشرق، وخاف الناس منه وتطيَّروا من منظره، وحسبوا لظهوره حسابات تدور على تفشي الأمراض والحروب والفواجع، وكانوا يقرعون صدورهم ويستغيثون بالإله ليدفع عنهم شرَّه.
وكان الزحليون خائفين من مكر الحرفوشيين الذين كانوا يتجاذبون أهداب حكم بعلبك والبقاع، ويمخرقون في البلاد فتارةً يوالون الزحليين وطورًا يعادونهم، حتى ملَّوا من معاشرتهم وأحبوا البعد عنهم. ففي بدء هذه السنة أرسل حاكم دمشق محمد درويش باشا عسكرًا إلى بعلبك بالاتفاق مع أحمد باشا الجزار حاكم عكاء، وألقوا القبض على الأمير مصطفى الحرفوشي وأخوته الستة، ونقلوهم إلى دمشق، فشنقوا ثلثة منهم وحبسوا ثلثة، وتولى بعلبك رمضان آغا ورفعت يد الحرفوشيين عن بعلبك وضواحيها، وصفت كأس الراحة، وأرسل محمد باشا أمرًا إلى الزحليين يطيب به خاطرهم ويعدهم بالخير، وأوصى بهم حاكم بعلبك. ثم انتقل حكم بعلبك إلى يد الجزار، فأرسل عليها حاكمًا من قبله اسمه سليم أغا، وكثرت القلاقل والفتن فصح بهذه البلاد قول الشاعر:
وكان أغناطيوس صرُّوف مطران بيروت قد استفحل الخلاف بينه وبين الرهبان الحناويين، فعمَّ البلاء واشتد الخطب وساد الاضطراب، وفيها توفي الأمير مراد منصور اللمعي وحضر الزحليون مأتمه ولبسوا عليه الحداد.
وسنة ١٧٨٥م عمَّ الطاعون مصر وبيروت وطرابلس وبعض أنحاء سورية ولبنان، وهرب السوريون إلى الجبال العالية، وكثر الغلاء وتضايق الناس ما عدا مدينة حلب، فإنها كانت بسعة لرخص الحبوب والحاجات فيها، ولحق زحلة ضيق شديد.
وسنة ١٧٨٦م حكم بعلبك محمد أغا العبد الذي كان حاكم البقاع، فجاء الأمير مصطفى الحرفوشي زحلة، وكان فارًّا عند عرب خزاعة أنسبائه في شمالي سورية، فجمع من زحلة مائة مقاتل وبينهم بنو شبلي المعلوف المقربين منه، فنعل الخيول باللباد ودخل بعلبك بعسكره ليلًا، وقتلوا من التقوا به وأهلكوا من عسكر العبد كثيرًا، وكاد هو يسقط في أيديهم ففرَّ إلى دمشق، واستتب الحكم لجهجاه وجاء زحلة كثير من سكان بعلبك وضواحيها، وعمروا كنيسة القديس ميخائيل الكاثوليكية.
وفيها انتشر الطاعون في البقاع واتصل بزحلة وضواحيها، ومات كثير من بدو البقاع وبعلبك، ولا سيما عرب الفضل، وامتد منها إلى حمص ونواحيها وأفنى التركمان، وكان فتكه ذريعًا. وفي الصيف جفت المياه والينابيع ولا سيما العاصي وكثر الغلاء. وفي ٢٢ تشرين الأول بعد نصف الليل حدثت زلزلة خفيفة. وفي تشرين الثاني من هذه السنة انفجرت ميازيب السماء، وجرت المياه على الأرض وحملت المواشي والغراس وأماتت اثني عشر شخصًا، وهدمت كثيرًا من الأبنية، وكان ضررها في زحلة عظيمًا حتى طاف البردوني، وحمل بعض الناس وخرَّب العقارات.
وسنة ١٧٨٨م كان أظن إبراهيم باشا قد نال ولاية دمشق بعد قتالٍ وخلاف، فأرسل إلى الأمير جهجاه الحرفوشي يتهدده لاعتدائه على بعلبك، فأرسل حريمه إلى زحلة وخرَّب طواحين بعلبك التي تركها أهلها وفروا إلى زحلة وغيرها، فأسند والي الشام المذكور حكم بعلبك إلى الأمير كنج بن محمد الحرفوشي، وخلع عليه وأمدَّه بعسكر دالاتية ومغاربة، فحارب هذا ابن عمه الأمير جهجاه، فاستنجد هذا بالأمير يوسف الشهابي وبالأمير شديد مراد اللمعي حاكم زحلة إذ ذاك، فأرسلا له عسكرًا بينهم الزحليون فقصدوا قرية صنبرة فوق بعلبك، حيث كان عسكر دمشق محاصرًا إياها للقبض على الأمير جهجاه، ففرقوا شمل المحاصرين وارتد عسكر جهجاه على المغاربة، فقتلوا منهم أربعين نفرًا والباقون فروُّا إلى بعلبك، وكان ذلك يوم عيد الأربعين شهيدًا في ٩ آذار، وتوسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فدفع جهجاه ثلثين كيسًا غرامة (بلصة)، ونحو مائتي كيس على حكم بعلبك، فأرسلت إليه الخلع مع حاكم الزبداني المذكور ليلة عيد البشارة في ٢٥ آذار، ويوم العيد وصل الخبر إلى زحلة فسرَّ أهلها وأطلقوا البنادق واطمأنوا بعدما كانوا قد أرسلوا أمتعتهم إلى الجبل، وبعدئذ حضر الأمير جهجاه إلى زحلة حيث أسرته فيها وفاوض المطران بنادكتوس أسقف بعلبك ليعود إليها لاستتباب الراحة، فيرجع جميع النصارى إليها قريرين، وعاد بأسرته وتبعه المطران وجميع الأهلين من نصارى ومسلمين وشيعيين.
وفيها توفي الأمير إسماعيل اللمعي أكبر أمراء المتن سنًّا وجاهًا ورأس عهدة (سميَّة) بني قيدبيه، وكان ذا سطوة ونباهة، فأجري له مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون؛ لأنهم من عهدته، وخلف ثلاثة أولاد وهم الأمير حسن والأمير عساف والأمير حيدر الذي اشتهر بعد ذلك.
وفيها سقط ثلج عظيم حتى بلغ سواحل بيروت، وتضايق الزحليون منه ومات كثير من المواشي.
وفي ٢٤ أيار انكسفت الشمس قبل الظهر بساعتين، وبقيت بضع ساعات.
وسنة ١٧٨٩ حدث خلاف بين الأمير يوسف الشهابي والجزار، وانضم الأمير جهجاه الحرفوشي إلى الأمير الشهابي، فزحفت عساكرهما على وادي التيم، وفي ٢٠ تموز التقيا في وادي عباد بعسكر الجزار وأمراء حاصبيا وعساكرها؛ فكان النصر للشهابي والحرفوشي وقتل من عسكر الجزار نحو مائتي نفر، فأوغر ذلك صدره غيظًا وأرسل عسكرًا إلى البقاع، وضبط غلالها ليحمل الناس على خلع الأمير يوسف واستمال الجنبلاطيين، فسعوا بتأييد آرائه فترك الأمير يوسف الحكم لابن أخيه الأمير بشير قاسم الشهير، وما استتب له الحكم حتى طلب منه الجزار طرد الأمير يوسف من البلاد، ففر هذا إلى صرد (جرد) كسروان، والتقى الجيشان في وادي الميحان، وهو عسر لا تسلك فيه الخيل إلا بشعب ضيِّق في حرج (حرش) كثيف الأشجار. وكان كمين من عسكر الأمير يوسف بينه رجال جبة بشراي والمشايخ الحماديون وأعوانهم في ذلك المضيق، فلما أقبل عسكر الأمير بشير وبينهم الزحليون وغيرهم من رجال البلاد أوقعوا بهم وفتكوا كل الفتك، فقتلوا منهم على حين غرة خلقًا كثيرًا، ولما رأى الأمير بشير أنَّ عسكره كاد يندحر جرد سيفه وكرَّ أمامهم، فتبعوه وصدموا عسكر الأمير يوسف بقلوب قوية، فشتتوا شملهم ومزَّقوهم كل ممزق ففر الأمير يوسف إلى الجبة ومنها إلى طاريَّا في بلاد بعلبك فالزبدانة فمنين قرب دمشق فحوران. وقتل بهذه الموقعة بعض الزحليين لهجومهم مع الآراء اللمعيين، ومن الجنبلاطيين قتل أو دعيبس بن علي بن بشير جنبلاط. والشيخ يوسف الدويهي من الجبة وغيره، وعرفت هذه الموقعة بموقعة الميحان إلى يومنا.
وفي هذه الأثناء اشتد الخلاف بين الأمراء الحرفوشيين على حكم بعلبك، وكان الخلاف بين الجزار والأمير يوسف شديدًا، وهكذا الحال في وادي التيم، فعمَّ الويل في البلاد وكثر القلق واضطرب حبل الأمن، وكثرت المهاجرة إلى زحلة من جهات كثيرة، ولحقها خسائر ومخاوف ومصادرات كثيرة. وكان الأمير جهجاه قد صودر بأموال وافرة كما مرَّ، فلم يستطع دفعها فدهمه الحاج إسماعيل الكردي من حمص بعساكره تلبية لطلب وزير الشام، ولما كان جهجاه خارج بعلبك سُبي حريمه الأربع وماله وأمتعته وذهب إلى دمشق. فاشتد غيظ جهجاه وجاء بعلبك وعاث فيها وتهدَّد سكانها، ففروا مع كثير من سكان قرى بعلبك إلى زحلة ونواحي دمشق.
وفي شهر تشرين الثاني جاء الحاج إسماعيل المذكور واستلم زمام أحكام بعلبك، وتأثر الأمير جهجاه حتى كرك نوح، ففر إلى زحلة وذهب معه بعض سكانها إلى فالوغا مستصرخًا الأمراء آل مراد اللمعيين، فسكَّنوا روعه مدة ثم عاد إلى زحلة بكثير من الرجال، فبعث نقولا الدروبي من زحلة إلى الحاج إسماعيل في بعلبك يخبره بمجيئه، فقصده بست مائة فارس ومائة راجل ولما دنا من زحلة أرسل چاويشًا ينادي فيها بالأمان، وأن لا يتعرض لأحد من الزحليين ولكنه يبغي القبض على الأمير جهجاه؛ فأجابوه أنَّ هذا خصمك جهجاه خارج إليك فاعمل به ما تشاء. وكان جهجاه قد هجم برجاله وبينهم الزحليون، فدحر حاكم بعلبك وعسكره وتأثروهم وأعملوا السلاح في أقفيتهم، فقتلوا منهم نحو مائتي رجل دون أن يُمسُّوا بسوء وبقي يطاردهم إلى قرب الزبداني، ثم عاد إلى زحلة، وكان ذلك في العاشر من كانون الثاني سنة ١٧٩٠م. وفعل جهجاه أشياء منكرة مع من عاد إلى بعلبك، ولا سيما قطع رأس المفتي وغيره ممن حرَّضهم على تركها، فزاد في طين الخلاف بلة وأوغر صدر الوزير حقدًا ونوى الاقتصاص منه ومهاجمة زحلة وإحراقها، فمنعه سقوط الثلج الذي برَّد نار انتقامه. فبلَّغ الزحليين قصده فتركوا بلدتهم، ثم توسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فأطلق سراح حريم الأمير جهجاه وأصلح بينه وبين الوزير على أن يغرَّم بأربعين كيسًا، ويرهن أخاه لقاء الأموال الأميرية المتأخرة عنده وحمل إليه خلع الولاية، فطلب الأمير بشير مالًا من الزحليين، فجمعوا له خمسة عشر كيسًا وأرسلوها فلم يكتفِ بهذه المصادرة؛ بل أرسل من قبله من صادر أغنياءها، فأخذوا من فرنسيس ابن الحاج فرح البعلبكي نحو ثمانمائة غرش، ومن طنوس حجي خمسمائة ومن غيرهم غير ذلك، ثم فرض على زحلة ١٥ كيسًا فتضايق الناس وفر بعضهم.
وفيها جاء زحلة الأمير قاسم الحرفوشي بإيعاز الأمير بشير والجزار، ومعه عسكر من الدروز والنصارى من دير القمر وجمع من زحلة نحو ٥٠٠ راجل، وذهب بهم لمحاربة ابن عمه الأمير جهجاه الذي كان معسكرًا في تمنين، فلاقاهم إلى أبلح فهرب الدروز ولحقهم جهجاه، فقتل بعضهم ونزع سلاح الآخرين، وذلك في ٢١ حزيران فبعث الأمير عسكرًا لمصادرته، فجاء زحلة ونهب بغال دير مار إلياس الطوق وحرق بيادره.
وسنة ١٧٩١ اشتد الخلاف واتقدت نيران الفتن بين الأمراء الشهابيين، وشنق الجزار الشيخ غندور بن سعد الخوري وغيره. وكان بعض ممالئي الأمير يوسف الشهابي ضد الأمير بشير قد حركوا دفين حقده، فطلب الأمير بشير عسكرًا من دمشق ومن الأمير أسعد الشهابي حاكم حاصبية وأرسلهم إلى البقاع، فخيموا في بر إلياس وهاجموا زحلة مرارًا، فانتصر الزحليون عليهم وقتلوا منهم ١٥ شخصًا، ثم نزل الدروز إليها وثقلوا على سكانها، ففرَّ بعضهم والباقون حاربهم عسكر دمشق، فانتصر عليهم وأحرق زحلة في ٢٦ تموز وأحرق دير النبي إلياس الطوق، ولما عاد العسكر إلى دمشق رجع الزحليون والأمراء إلى بلدتهم، وأعادوا بناء بيوتها حقيرة كبيوت القرى، ولكنها أحسن من ذي قبل.
وكثرت في هذه السنة الضرائب، فجمع حكام لبنان الشاشية من الفقير ثلاثين بارة ومن غيره أكثر، فجمعوا ثلاثين ألفًا ثم جمعوا مالًا ونصفًا أيضًا، ليدفعوا للجزار تتمة مائتي كيس صادرهم بها. وكان موسم الحرير غير جيِّد، فتضايق الناس أشد الضيق، وصار في هذه السنة ثمن كيل الحنطة الشامي ٢٧ غرشًا وكيل الذرة ١٨ غرشًا ورطل الرز ريالًا (عشرين بارة) ومد الكرسنة ريالًا. وفشا الطاعون في البلاد.
وفي تلك الأثناء لما كثرت المهاجرة إلى زحلة بسبب الفتن التي سادت في سورية ولبنان وكثرة الضرائب التي استنزفت الأموال وضايقت الناس؛ صار الأمير بشير الشهابي يناوئ الزحليين ليعيد المهاجرين إلى مواطنهم، فقوَّى بني القنطار وحاطوم الذين كانوا في زحلة مع بني حسان، وجميعهم من الطائفة الدرزية من متن لبنان، فعاثوا في البلدة فسادًا واشتد أزرهم، فازدادوا شرًّا وعتوًّا. وكان الأمراء الحرفوشيون قد شعروا بكثرة مهاجرة سكان بعلبك وقراها إلى زحلة، فأخذوا يصادرون المسيحيين ويقوون الدروز والشيعيين ليناوئوهم ولا سيما بنو مكارم الذين كانوا في ماسَّة من الدروز، وكثير من الإقطاعيين في البقاع.
ولكن الحواطمة الدروز سكان كفر سلوان وزحلة الذين كانوا من خاصة الأمراء اللمعيين، أوقدوا نار الثورة ضد الأمير بشير لما طلب الضرائب من اللبنانيين، فحاربهم بقيادة ابن عمه الأمير حيدر ملحم الشهابي الذي جاء بخمسين نفرًا من العسكر ليحرق منازل بني حاطوم في كفر سلوان، فثار عليه أهل القرية واجتمع إليهم المتنيون وحاصروه في القرية ودخلوها وسلبوا رجاله، وقتلوا ثلثة منهم وقتل منهم هم خمسة، فامتدت الفتنة وامتنع اللبنانيون عن دفع الضرائب فأغر ذلك صدر الأمير غيظًا.
وفي ١٩ حزيران سنة ١٧٩٣ توفي المطران يوسف فرحات الكاثوليكي، وبقي مطرانًا على «الفرزل والبقاع» كما كان يدعى إذ ذاك نحو ثماني عشرة سنة. وقد أرسل من قبله القس أنطون الجمال المخلصي لينوب عنه في المجمع الذي عقده البطريرك اثناسيوس جوهر في دير المخلص في ٨ تشرين الثاني في سنة ١٧٩٠م بعد تثبيته بطريرك على أثر وفاة البطريرك ثاودوسيوس الدهان. وكان برًّا تقيًّا محبًّا للزحليين ساعيًا في ترقية شئونهم.
وفي هذه الأثناء صارت زحلة محل تجارة الغلال التي كان الزحليون يبتاعونها من حوران وحمص وجبل القلمون (بلاد الشرق)، وكثرت فيها أسواق البيع والشراء وازدحمت فيها الأقدام. وكان سكانها يشترون الأغنام من حمص ومن العرب في البقاع وبعلبك وما إليهما. وشاعت فيها صناعة النسج حتى اشتغل بها نحو جميع سكانها، وكانوا يحملون المنسوجات إلى نواحي حوارن ونابلس وحمص وبعض الجهات ويجلبون القطن فيغزلونه وينسجونه، وأهم منسوجاتهم الخام البلدي الذي كانت النساء تطرِّزه بالحرير أكسية للرجال والنساء. وكان عندهم خان يسمى «خان القطن» في حارة بني غرة الآن، فضلًا عن اتجارهم بالقطران وغيره، فلما كثرت فيها الحركة التجارية والصناعية راجت سوقها، فطمع بها الدروز الذين كانوا فيها وفي البقاع فاتخذوها موطنًا لهم، وكان الأمراء إذ ذاك يعضدونهم؛ لأنهم لم تنتشر المسيحية بينهم انتشارًا كاملًا، وكان حاكم لبنان يطلب المال الأميري من الأمراء والنواطير الدروز تجمعه؛ فتضايق الزحليون من هذه المصادرة والتثقيلات، وكانت عمشاء القنطار وأنسباؤها يعيثون في هذه البلدة فسادًا واستبدادًا، ولن يزال الناس يتناقلون أخبارهم الهمجية إلى الآن.
ولما كانت كثرة الضغط تحدث انفجارًا أخذ الزحليون يستحثون قواهم ويجمعون كلمتهم وشتاتهم للتملص من هذا الاستبداد، فكانوا يعقدون الجمعيات ويتشاورون في اتخاذ أقوم الذرائع للضرب على أيدي مناوئيهم، وكان شيوخهم ذوي تدبير وسداد رأي، فرأوا من الحكمة أن يوالوا حاكم لبنان وينالوا لديه الحظوة ليتمكنوا من نيل متمناهم، فانتهزوا فرصة غضبه على الحواطمة وبعض الدروز.
ولما كان الخلاف مستفحلًا بين الأمير بشير الشهابي الكبير وأولاد عمه أبناء الأمير يوسف الشهابي، وكان الزحليون ينتمون إذ ذاك إلى هؤلاء؛ لأنهم أصدقاء الأمراء اللمعيين استاء الأمير بشير من الزحليين، وهو معروف بحزمه وشدة انتقامه؛ فاجتمع وجهاء زحلة وشيوخها مرارًا لإعداد الذرائع التي تخلِّصهم من الجور المحدق بهم، فلما رأوا الخلاف بين الأمير بشير والحواطمة وبعض الدروز؛ اغتنموا الفرصة وأخذوا يتحفزون للقيام على الدروز الذين أرهقوهم ولا سيما بني القنطار.
وفي سنة ١٧٩٥ اشتد الخلاف بين الأمير بشير الشهابي والجزار، فجاء عسكر الجزار إلى البقاع، وكان يعيث فيه فسادًا فنقل الزحليون أمتعتهم إلى الجبل، لكثرة ما نابهم من التحامل والضرائب والانتقام الذي عم البلاد ومصادرة الأمير بشير للأمراء اللمعيين أصحاب زحلة، فبحث الأمير بشير عن مستودعات أمتعة الزحليين، وضبط كثيرًا منها في دير النبي إلياس شويا الأرثوذكسي قرب الشوير في متن لبنان. وكذلك في دير القديس يوحنا الصابغ في الخنشارة بجواره، وفي دير سيدة النياح في بقاع توته من أعمال كسروان قرب بسكنته وهما للكاثوليك، فازداد الزحليون كرهًا له، وكذلك كان كثير من اللبنانيين يميلون مثلهم إلى أولاد الأمير يوسف.
وفي هذه السنة تولى أولاد الأمير يوسف حكم بلاد جبيل من خليل باشا والي طرابلس الشام، فحاربهم عسكر الجزار بإشارة الأمير بشير. فهربوا وجاءوا زحلة وأرسل والي الشام الملَّا إسماعيل لنجدتهم، فأرسل الأمير بشير عسكرًا من لبنان مع عسكر الجزار، وشبت الحرب في أراضي قب إلياس، فانهزم الملَّا إسماعيل وأولاد الأمير يوسف فرَّوا من زحلة إلى بلاد بعلبك فدمشق، وقتل في هذه الموقعة الشيخ نمر النكدي وغيره.
وفيها فرضت الشاشية على كل شخص ثلاثة غروش، وصار على أثرها ضريبة فادحة، وكان ثمن كيل الحنطة في البيادر من ستة غروش إلى سبعة، ثم تناقص فرجع إلى الخمسة. وأتى جراد من الجنوب فأتلف المزروعات ورزَّ في الأرض، فسلط عليه السمرمر في شهر حزيران فأفناه، وتضايق الزحليون واللبنانيون.
وفي سنة ١٧٩٧م شاع قدوم نابليون بونابرت ملك فرنسه إلى مصر، فخاف المسيحيون ولا سيما سكان دمشق وجاء كثير منهم زحلة، ولبثوا فيها زمنًا وعمر أحدهم مسكنًا قرب الدار الأسقفية، ثم عادوا إلى مدينتهم لما سكنت الخواطر.
وفيها كان الزحليون مرهقين من بني القنطار وحاطوم، وكان الأمير بشير حاقدًا عليهم لا يقبل لهم شكوى على مستعبديهم، فانفتح لهم مجالًا؛ لأن بعض المسيحيين في زحلة وبلاد بعلبك قاموا على بني مكارم الدروز في ماسَّة (البقاع)، واشتد الخلاف بينهم وامتد إلى لبنان حتى انتهى بطرد المكارميين وغيرهم من قرى بعلبك والبقاع إلى لبنان كما فصلت ذلك في كتابي «دواني القطوف». وبقي الخلاف بضع سنين اضطرب فيها حبل الأمن، وانكسرت شوكة الدروز، وجاء زحلة بعض الأُسر مثل بني عطا وغيرهم من جبل القلمون ولبنان ورأس بعلبك.
وكان بنو القنطار سنة ١٧٩٩ قد أحرقوا دار ناصيف نصر الله الحويص في عين الصفصافة (قرب الشوير في لبنان)، وكان هذا كاخية (كتخدا) الأمير منصور مراد اللمعي في المتن، فحنق عليهم الأمراء اللمعيون وأثاروا الزحليين عليهم، فبدءوا يتأهبون للإيقاع بهم بعد أن نالوا من حكومة لبنان التأديب الشديد.
وكان الزحليون يحملون الخمر والكحول (العرق) إلى عكاء للعسكر الفرنسي، وكانوا هم أول من قطرها فاخرة، فقطع عليهم الدروز الطريق في البقاع، وأوقفوا بعض قوافلهم وقوافل أهل بكفية من متن لبنان الناقلة خمرًا، وكانوا من أخصَّاء الأمراء اللمعيين أيضًا، فأرسل هؤلاء إلى مشايخ الدروز العماديين والنكديين وغيرهم ليردُّوا القوافل لأصحابها فلم يفعلوا، فأرسل الأمراء رجالًا من زحلة والمتن إلى البقاع، فدهموا قرية كامد اللوز ونهبوها ثم أصلح ذات بينهم الشهابيون والتلحوقيون.
وكان الخلاف يشتد بين مشايخ الدروز والأمير بشير، مما سهل للزحليين التذرع لكسر قيود الذل التي أثقلتهم، ولا سيما بعدما تمكنت المبادئ المسيحية في نفوس الأمراء حكامهم فمالوا إليهم.
وهكذا كان ختام القرن الثامن عشر زمن تحريك لهمم الزحليين حتى يتخلصوا من ربقة الضغط، وكان يتعاقب على حكومة لبنان الأمير بشير الشهابي وأولاد عمه الأمير يوسف، فكثر الخلاف بين اللبنانيين لانحياز بعضهم إلى أحد الحاكمين، وكان الشعب في الغالب ينقاد للظافر منهما؛ فلذلك لم يستتب الأمر لفريق من الناس؛ بل كان الاضطراب سائدًا والشقاق كثيرًا والوزائع والضرائب فادحة والناس في ضيق شديد ينتظرون الفرج وانحلال هذه الضائقة (الأزمة)، وهكذا كان الزحليون ينشدون معهم قول الشاعر: