زحلة الحديثة ووقائعها في القرن التاسع عشر إلى يومنا
ما عطس أنف القرن التاسع عشر للميلاد حتى كانت المبادئ المسيحية قد تمكنت من قلوب الأمراء الشهابيين ولاة لبنان واللمعيين أصحاب زحلة وحكامها، ورأوا من الدروز مناوأة شديدة وعصيانًا، فأكثروا بينهم النزغات واستمالوا المسيحيين، ولا سيما الزحليين الذين كانوا أشداء بواسل، وتذرَّعوا بهم على الخضد من شوكة الدروز. وكانت الفتنة المسيحية المكارمية لن يزال شرارها متقدًا، وهم يعاضدون المسيحيين لإضعاف الدروز.
وكان مشايخ الدروز أصحاب مقتنيات وقرى في البقاع، وشوكتهم فيه قوية ونفوذهم كبير، فأقام الأمراء مشايخ من وجهاء الزحليين ليحكموها مع بعض قرى البقاع، وكان حاكم البقاع من قِبل والي دمشق أحيانًا، وطورًا من قِبل حاكم لبنان. فكثرت الحوادث بين حكام زحلة وحكام البقاع، وامتد الدروز الذين كانوا في زحلة إلى البقاع ملتجئين إلى حاكمه ليساعدهم على الزحليين الذين كانوا قد تنبهوا، وأخذوا في استعادة حريتهم المفقودة واستقلالهم الشخصي.
وفي مطلع هذا القرن كان الجزار لن يزال مرهقًا اللبنانيين ومن يجاورهم بتحامله، إلى أن توفي في ١٦ حزيران سنة ١٨٠٤م فسكنت الاضطرابات.
وفي سنة ١٨٠٥م وزع الأمير بشير الشهابي مائة وخمسين ألف غرش على لبنان؛ ليسدد ما بقي عليه لسليمان باشا والي عكاء، فعصى بنو حاطوم الدروز في كفر سلوان ولم يدفعوا هذا المرتب، فصادرهم ومنعهم عن التردُّد إلى زحلة. فشعر الزحليون بخفة وطأتهم ومالوا إلى الأمير بشير.
وفي سنة ١٨٠٧م توسط الأمير بشير الشهابي عند يوسف باشا كنج الكردي والي الشام أمر الأمير جهجاه الحرفوشي لحكم بعلبك، وكان الحرفوشي قد علم أنَّ الأمير بشيرًا يرغب في امتلاك الكرك قرب زحلة، فكتب له بها وثيقة باسم أولاده الأمراء قاسم وخليل وأمين فصارت ملكهم. ومن أسماء بعضها إلى يومنا «الشهابية»، وهنأه بذلك نقولا الترك من قصيدة:
وفيها وزَّع الأمير ثلاثمائة ألف غرش على ساحل بيروت وزحلة وإقليم الخروب، فدفع الزحليون ما عليهم مقابلة لما صنعه معهم الأمير، فازداد بهم تعلقًا ومال إلى موالاتهم بعد أن كان يناصبهم العداء فنال شيوخ زحلة لديه منزلة كبيرة، ونفذت كلمتهم وتقوَّوا على مناوئيهم، وبدأت حياتهم الاستقلالية من هذا الحين تنمو فيهم، وصار وكيل الأمير بشير يصرف أوقاته في زحلة لإدارة الكرك.
وسنة ١٨٠٨م التجأ إلى زحلة المعلم عبود بن مخايل البحري الحمصي الخطاط الشهير فارًّا من وجه يوسف آغا الكنج الكردي والي الشام الذي تغير عليه وكان صاحب ديوانه. فأقام عبود في زحلة مكرَّمًا، ومنها كتب إلى الأمير بشير وأخبره عن هربه والتمس منه استجلاب أسرته وأخوته وختم عريضته بقوله:
فأجاب الأمير إلى سؤله. ثم استرضى الوزير وعاد إلى خدمته كما ذكر ذلك إبراهيم العوراء في تاريخ سليمان باشا المخطوط. ويروي الشيوخ أنَّ عبودًا هذا كتب مرة بخطه الجميل هذين البيتين:
وكان عبود بعد رجوعه إلى دمشق يوالي شيوخ زحلة، ويفض مشاكلهم في البقاع وبلاد بعلبك ويزورهم، ذاكرًا ما لاقاه عندهم من الحفاوة، وزحلة مشهورة بتكريم ضيوفها وموالاتهم.
وفي سنة ١٨١٠م توفي في زحلة المطران يوسف سفر مطران حمص الكاثوليكي الذي سيم سنة ١٧٦٠م، وسكن القصير وعمَّر دير مار يوحنا في رأس بعلبك وسكن فيه مدة، ثم تحامل عليه الحرافشة فسار إلى الهند والعجم، وعاد إلى زحلة فعمَّر فيها دارًا بحارة الراسية، وسكن فيها إلى وفاته، ودفن في دير النبي إلياس الطوق؛ لأنه كان من الرهبان الشويريين. ونقش على ضريحه قول أحد الشعراء مؤرخًا:
وفي هذه السنة أرسل يوسف باشا كنج والي دمشق يستنجد سليمان باشا والي عكاء لمقاتلة الأمير عبد الله بن سعود الوهابي الذي زحف بجنوده الجرارة من الحجاز إلى الشام، فاستصرخ سليمان باشا الأمير بشير الشهابي الكبير، فجمع هذا خمسة وعشرين ألف مقاتل من اللبنانيين البواسل، وبينهم عدد غفير من زحلة وبلاد بعلبك والبقاع، فسار بهم إلى طبرية، فالتقى بعسكر سليمان باشا بحفلة عظيمة، وانضم إليه ونصب له نحو أربعمائة خيمة، فتداولا بشأن يوسف باشا وسعيه في أخذ الأراضي التي للأمير بشير في بقاع العزيز. ثم أراه الوزير التقليد (الفرمان) بإسناد ولاية الشام إليه وعزل يوسف باشا واليها ومحاربته إذا عصى، فرغب الأمير في الحرب ليرفع تعدي الوزير عن أملاكه في البقاع، فارتدَّا بعساكرهما إلى جهة دمشق وخيما في ضواحيها في جديدة عرطوز ودارية. وكان يوسف باشا قد ذهب بعساكره إلى المزيريب في حوران لمقاتلة الوهابيين الذين كسرهم وأركنوا إلى الفرار، فلما بلغه ذلك عاد إلى دمشق مسرعًا. وخرج بعسكره لمحاربة سليمان باشا، وحدثت موقعة في قرية قطنا والجديدة كما مرَّت الإشارة إلى ذلك من هذا التاريخ، وبقيت نحو ثلاث ساعات اندحر فيها والي الشام ببعض رجاله إلى طرابلس ومنها إلى مصر مستنجدًا بمحمد علي واليها. فدخل دمشق سليمان باشا والأمير بشير برجالهما الأشداء بحفاوة وإكرام، وكان عسكر الزحليين قد أبلى بلاء حسنًا، فنال التفاتًا من الوزير والأمير. وقد نظم المعلم نقولا الترك شاعر الأمير قصيدة في هذه الموقعة، قال فيها يذكر هجوم الأمير بشير برجاله وكان يكنى «أبا سعدي»:
ونال ولدا الأمير عناية سليمان باشا فولي الأمير قاسمًا حكم جبيل والأمير خليلًا حكم البقاع، كما أشار إلى ذلك نقولا الترك بهذه القصيدة:
وكان للزحليين كلمة نافذة لدى الوزير والأمير التفتت إليهم أنظارهما، فأخذت بلدتهم في التقدم وكان الأمير خليل يساعدهم على كف يد الاستبداد عنهم. ويصادر مناوئيهم ويصرف معظم أيامه في زحلة قرب الكرك التي نالها مع شقيقيه من الحرافشة كما مرَّ. فاغتنم الزحليون فرصة هذه المجاورة واستمالوا إليهم الأمير خليلًا هذا، فتمكنت محبتهُ لهم وألفت إليهم حبَّ والده؛ فكان كل هذا باعثًا لهم على كسر قيود الاستبداد عنهم.
وفي سنة ١٨١١م مرَّت بزحلة أربعمائة أسرة (عيلة) درزية، استقدمهم الأمير بشير من الجبل الأعلى قرب حلب حيث جرى عليهم تحامل، وكان يرافقهم فارس منصور الشدياق المسيحي والشيخ حسون الدرزي، فتحمل الزحليون ثقلة كبيرة للإنفاق عليهم، ولكنهم لم تطل إقامتهم فتوزعوا في مقاطعات الدروز.
وفيها كان الزحليون مجتمعين في مأتم أحد سكانها. فتفاوض الشيوخ بإقامة أسقف خلف لأسقفهم المتوفى فصاح الجمهور بفم واحد إننا نختار الخوري مكاريوس الطويل الدمشقي رئيس الرهبنة المخلصية العام، فكتبوا للحال يستأذنون البطريرك أغابيوس مطر بسيامته راعيًا لهم، فسامه باسمه وأرسله إلى زحلة، فعمر حالًا في الدار الأسقفية شبه قاعة بابها في الوسط، ولها نافذتان على الجانبين وسعى بنجاح رعيته.
وفي سنة ١٨١٢م أمر الأمير بشير الشهابي الكبير بإبطال الخفارة من جميع طرق بلاده لنشر الأمن وتقريب المواصلات، وأخذ في استعمار زحلة والبقاع التي ملك حاضرتها الكرك كما مرَّ.
وفيها جاء زحلة البطريرك أغناطيوس صروف الدمشقي، ونزل في الدار الأسقفية وألقى فيها عظات بليغة، ثم ذهب إلى بعلبك وعاد إلى زحلة ومنها إلى دير القديس سمعان العمودي قرب كفر عقاب حيث قتل على أثر ذلك في ٦ ت٢، وقاتله إلياس عماد المعلوف المكنى بأبي كشك وأولاده من كفر تيه (لبنان)، وملخص الحادثة التي فصلتها في «دواني القطوف» أنَّ إلياس المذكور كان له ولدٌ في سجن بيت الدين اسمه يوسف، متهم بقتل نسيب له، فجاء إلى البطريرك وتضرع إليه أن يعطيه وصاة إلى الأمير بشير الشهابي ليعفو عن ولده وهو يدفع دية القتيل، فأشار البطريريك إلى كاتم أسراره القس جرجس، الذي كان أخ المقتول أن يكتب له وصاة، وأخذ الكتاب إلى الأمير، وكان قد عزم على قتل ولد؛ فخشية أن يغضب البطريرك من عدم قبول وصاته علقه ليلًا على أثر وصول كتابه إليه. فلما أصبح الصباح ذعر إلياس لتداول الناس أمر تعليق رجل على المشنقة، فذهب إلى ساحة السراي وإذا بولده قد علق؛ فصار الضياء في عينيه ظلامًا، وعاد إلى كفر تيه قرب دير القديس سمعان العمودي وأساء الظن بالبطريرك معتقدًا أنَّ الوصاة كان سببًا لشنق ولده، وأنَّ كاتم أسرار البطريرك، هو الذي فعل ذلك والبطريرك سكت عنه. فترك قريته بأولاده الأربعة زمنًا قصيرًا، وفي أحد الأيام عادوا ليقتلوا نسيبهم كاتم الأسرار، ولعلمهم أنه ذاهب مع البطريرك إلى دير سيدة النياح كمنوا له على الطريق قرب زرعايا، وهناك لما شاهدوا البطريرك وحده أطلقوا عليه الرصاص، فقتلوه وفروا إلى قبرص، ثم عادوا إلى لبنان فشنقهم الأمير بعد سنة.
وفي سنة ١٨١٣ عاد فارس منصور الشدياق وأخوه يوسف إلى خدمة الأمير بشير الشهابي الحاكم بعد أن كان قد صادرهما وأبعدهما وتحامل على أقربائهما، فولى فارسًا شئون قرية بسكنته في متن لبنان وقرية شمسطار في بلاد بعلبك. وولي أخاه يوسف قرية الشوير ثم زحلة، فأخذ يجمع له منها المال الذي كان قد رتبه على السكان والعقارات والمطاحن.
وفيها جاء زحلة الأمير بشير الكبير الحاكم، فاحتفل سكانها بلقائه، وبدأ بنقل الكرك إلى المعلقة التي لم يكن فيها بيوت. وتأسف لأن أبنية زحلة في الجهة الجنوبية فقط وليس في شماليها على عدوة الوادي وضفة النهر المقابلة المعروفة الآن بالقاطع، إلا ثلثة بيوت قرب قناة الماء (السكر) في الجهة الغربية، ولكنه قال: إنَّ الزحليين سيحتاجون إلى مد أبنيتهم إلى هذه الجهة، وسيكون ثمن أرضها غاليًا. وقد حققت الأيام قوله ولا سيما في عهدنا الحاضر. وفي أواخرها على أثر وفاة البطريرك إثناسيوس مطر الكاثوليكي انتخب مطران زحلة مكاريوس الطويل بطريرك على طائفته وأقام في دير المخلص.
وسنة ١٨١٥ تمكن الأمير بشير من الحكم في زحلة والبقاع، واستولى على قرية قب إلياس، وكانت غلتها وافرة فعرضها على أهل زحلة بغرش واحد المد، وكثرت في زحلة تجارة الحبوب وتواردت إليها صادرات البلاد، فسميت ميناء البقاع وبعلبك والجبل الشرقي (القلمون)، فرتبت فيها الحسبة على المد والقبان وكان دخلها للأمراء اللمعيين.
أما الأمير بشير الحاكم فبعد أن كان أسلافه الحكام يصادرون السكان بما يفرضون عليهم من الأموال، وقد صودرت زحلة منه مرارًا رضي عن سكانها، وأحبهم ورتب عليهم كل سنة خمسة وعشرين قنطارًا من السمن تصل إلى داره في بيت الدين، وقد تستبدل بخمسة عشر ألف غرش تتوزع على الحارات بمعرفة الدهاقين (الخولية)، وتتقدم له عن يد مشايخ زحلة الذين نصبهم لإدارة شئونها. وبعد ذلك صار يطلب من زحلة قرضًا نحو أربعين ألف غرش في السنة، وقد يصل عند الحاجة إلى مائة ألف غرش، وكان هذا القرض عديم العوض، وكانت حركة التجارة في زحلة سريعة ونجاح البلدة وتقدمها غريبًا.
وفيها في ٣ ك١ استأثرت رحمة الله بالبطريرك مكاريوس الطويل مطران زحلة السابق في دير المخلص حيث دفن، وأقام على الكرسي البطريركي سنتين وأربعة أيام وكان برًّا غيورًا.
وسنة ١٨١٦ كان كرسي زحلة الأسقفي الكاثوليكي فارغًا منذ ثلاث سنوات لعدم اتفاق الكلمة على أسقف له، فذهب بعض شيوخ الزحليين إلى الخوري يواكيم بحوت الدمشقي، وبينوا له رغبتهم في انتخابه أسقفًا عليهم. وكان العالم الخوري سابا الكاتب الشهير لا يريد ذلك، فأشار إلى الخوري يواكيم أن يطلب من الزحليين ألفي غرش لتجهيز الدار الأسقفية فنفروا منه، وأما الخوري سابا الكاتب فأقنع البطريرك أغناطيوس قطان أنَّ الخوري أغناطيوس العجوري من الإكليروس الحلبي العلماني هو جدير بالأسقفية محبوب من الكرسي الرسولي وطلب منه أن يسيمه أسقفًا على ديار بكر ثم ينقله إلى الفرزل والبقاع، فعرض البطريرك ذلك على الأمير بشير فرضي به وسامه في دير المخلص، ثم بواسطة الأمير بشير قبله معظم الزحليين أسقفًا عليهم، وخلع عليه الأمير وأرسل معه بكباشي وعشرة فرسان، وكان الذين لا يريدونه من الزحليين قد أزمعوا أن يمنعوه من الدخول، وقد ذهبوا بحجة أنهم من الملاقين إلى ثعلبايا، فلما رأوا رجال الأمير معه ذهب بعضهم إلى جهة السهل والآخرون تظاهروا بالقبول ورافقوا جمهور الملاقين، فدخل باحتفال عظيم ولما تلي منشور البطريرك ومرسوم الأمير بشير أذعن الجميع لأسقفهم، وأحبوه كثيرًا فبدأ في عمار بلدتهم، وكان نافذ الكلمة عند الأمير بشير الشهابي الكبير، وفي عهده امتدت تجارة الزحليين إلى حلب وأوروبة وكثرت أبنيتها.
وسنة ١٨١٧م كثر العمار في جهة القاطع الغربية، وكان من اصطلاح الزحليين أنَّ الذين من سكانها بعهدة الأمراء آل مراد اللمعيين يتبعون الرهبان المخلصيين، والذين بعهدة الأمراء آل قيدبيه اللمعيين يتبعون الرهبنة الشويرية. وكانت الرهبنتان تبنيان الكنائس فتسمي الحارات باسمها، فسعى الخوري أغناطيوس الجامد من الرهبان الشويريين بعد استئذان السيد أغناطيوس ببناء كنيسة البربارة في جهة القاطع المذكورة، وأتمها فسميت تلك الجهة باسمها «حارة البربارة» إلى يومنا.
وسنة ١٨١٩ بعث الأمير بشير إلى الزحليين ريالات يوزلي، وطلب استبدالها بذهب عتيق بندقي فاستبدلوها وأرسلوها إليه.
وفيها قتل الأمير دياب الحرفوشي مخايل بن بولس غرَّه وابن هلال من زحلة، إذ كانا يجلبان القطران من القطارة في لبنان الغربي، فبلغ ذلك الأمير بشير فتحامل على الحرفوشيين اقتصاصًا منهم. وبعد بضعة أيام جاء الأمير دياب زحلة، فأهانه بولس غره وابنه شاهين ورميا به عن فرسه وهربا، فبحث الأمير عنهما واستقدمهما إليه وأرسلهما إلى الحرفوشيين على أمل أن يعفوا عنهما، فقتلوهما فأوغر عملهم هذا صدر الأمير بشير غيظًا، فكان ينتهز الفرصة للانتقام من الحرفوشيين وسعى بمعاضدة الزحليين ضد الحرفوشيين.
ويروى أيضًا أنَّ بولس غرة وابنه شاهينًا التقيا بالأمير دياب الحرفوش قرب سراي الأمير بشير أحمد «وهي إلى يومنا تحت ساحة القمح»، فأنزلاه عن فرسه وأهاناه فأغلظ لهما الكلام، فطعنه بولس بمدية طعنة كانت القاضية، ثم ردَّ المدية إلى قرابها وقال لها: «لا أسف عليك إذا صدَّيت (أي صدئت)». ثم أرسلهما الأمير بشير إلى مشغره في البقاع حيث كان الحرفوشيون، فقتلوا شاهين أولًا وأطعموا والده من لحمه، ثم ألحقوا به أباه بولس فاغتاظ الأمير منهم، وقيل إنَّ هذه الحادثة صارت سنة ١٨٢٢م والله أعلم.
وسنة ١٨١٩م كان الأمير بشير قد حنق من الحزب اليزبكي، وتظاهر بمعاضدة الجنبلاطيين؛ لأسباب لا محل لتفصيلها الآن، فاغتنم هذه الفرصة للتنكيل بهم وإخراجهم من البقاع، فأرسل إليهم ولده الأمير أمينًا ومعه فارس أبو حاتم من حمانا وعسكر من لبنان، فجاءوا زحلة وبقوا فيها أيامًا ثم عادوا إلى بيت الدين بعد أن فرَّ اليزبكيون من أمامهم. أما الأمراء اللمعيون فكانوا أصدقاءه ولذلك كان يميل إلى الزحليين الذين كانوا من خاصتهم.
- أولًا: رفع الحجز عن مقتنيات المشايخ الجنبلاطيين في البقاع مما ضبطه يوسف باشا كنج وسلفه.
- ثانيًا: أن يكون حاكم البقاع خاضعًا له كما هي العادة من القديم؛ وذلك لأن الحرافشة كانوا يحكمون البقاع ويعصون.
- ثالثًا: أن يرفع زيادة الضرائب المستحدثة على البقاع.
- رابعًا: أن يكون حاكم بعلبك ووادي التيم باختياره وإرادته وذلك لمصادرة الحرفوشيين وأنسبائه الشهابيين.
فأرسل الوزير يطلب الشروط خطًّا من الأمير، فمنعه عبد الله باشا من ذلك لئلا ينحاز إلى وزير دمشق خصمه، واستصرخه لمحاربته في راشية وأمدَّه برجال، فجمع الأمير العسكر اللبناني وبينهم الزحليون فأبلوا بلاءً حسنًا، وكان عسكر عكاء ولبنان نحو خمسة آلاف وعسكر دمشق ثلاثة آلاف وكانت الثلوج كثيرة. وحدثت بعض مواقع خاض فيها اللبنانيون الثلج وظفروا بخصومهم وتُوسط الأمر بين الأمير واليزبكيين فتهادنا.
(١) موقعة المزة
ثم استؤنفت المعارك في الربيع عند ذوبان الثلج، فنهض الأمير بشير بعساكره إلى المعظمية قرب المزَّة بجوار دمشق، وانحاز عنه المشايخ اليزبكيون وأحلافهم، وانضموا إلى عسكر دمشق إلا الأمراء اللمعيين، واجتمعت جنود الفريقين هنالك وبينهم الزحليون وذلك سنة ١٨٢٠.
فسار الأمير خليل ابن الأمير بشير بالأرناؤوط إلى الجبل فوق قرية المزَّة، فأطلق عسكر دمشق المدافع عليهم منها، فقتل مقدَّم الأرناؤوط وعادوا إلى المعظمية بعد أن أظهروا بسالة شديدة.
وفي ١٤ أيار (٦ رمضان) صباح الأحد انتخب الأمير بشير نحو ألفين من عسكره فرسانًا ومشاة من أهل الشوف والمناصف والمتن وبينهم الزحليون، ومن عسكر عبد الله باشا الدالاتية والهوارة، فهجم بهم على المزة هجمة واحدة وهدم أسوار البلدة، وكانت من لبن وامتلكها وأحرقها، وفرَّ عسكر دمشق منه بعد أن قتل منه نحو مائتين وخمسين وأُسر خمسمائة، وغنموا ذخائرهم وأسلحتهم. وكان ممن يحمل العلم اللبناني كل من يوسف الحاج شاهين وعبد النور الششم من زحلة، وهو أول علم لبناني مسيحي حمل إلى خارج لبنان، وكان من الألاوز (نوع من الحرير) ذا لونين أحمر وأخضر وفي أعلاه حربة في رأسها صليب. ولما هجم اللبنانيون وفي مقدمتهم الزحليون قتل بعضهم في هذه الموقعة، ومنهم إلياس حنا ضاهر من زحلة، وكان شابًّا فارسًا شجاعًا. ويقال إنَّ أبا حبيب يوسف السكاف من قاطع زحلة وأبا درويش سمعان الصدي تبعا عسكر دمشق المنهزم، وأخذا رايته وعادا بها إلى المعسكر، فسرَّ الأمير كثيرًا بالزحليين. وتعجب لما أخبره وكيله أنهم عند مرورهم على جسر دير زينون في البقاع، لم يقبلوا ذخائر منه كما قبل غيرهم من العسكر اللبناني فأثنى عليهم. وعاد إلى المعظمية منصورًا، وأطلق الأسرى اللبنانيين المنحازين إلى عسكر دمشق، وأرسل الباقين وكانوا ١٢٠ إلى عكاء، فسرَّ بهم عبد الله باشا وأرسل يهنئه بظفره، وكان يود الدخول إلى دمشق ولكنه عاد إلى بيت الدين غانمًا، فهنأه شعراؤه بقصائد رنانة مثل قول المعلم بطرس كرامه الحمصي من قصيدة طويلة في موقعة راشية:
وقول المعلم نقولا الترك في موقعة المزة من قصيدة طويلة:
ثم بعد عودة الزحليين من هذه الموقعة وغضب الدولة على عبد الله باشا والأمير بشير، خافوا من عسكر الدولة الذي جاء إلى البقاع للاقتصاص من الأمير ورجاله الأمراء اللمعيين والمشايخ الجنبلاطيين، ورحلوا إلى لبنان مدة إلى أن أمنهم درويش باشا، واستعادهم إلى بلدهم فعادوا إليها مطمئنين، وكانوا يترقون يومًا فيومًا ذائعين شهرةً ببسالتهم.
ولما شهد الأمير بشير بسالة الزحليين ازداد محبةً لهم، وأقام لهم شيخين يوسف الحاج شاهين وإبراهيم مسلَّم الملقب بأبي عبد الله. ووكل إليهما إدارة شئون البلدة، فكانت زحلة إذ ذاك أشبه بجمهورية صغيرة يحكمها شيوخها بإدارة هذين الشيخين. ولما كان الزحليون قد ذاقوا لذة الظفر أخذوا يناظرون الدروز الذين كانوا مستبدين فيهم من قبل، وكذلك كانوا يناوئون الأمراء الحرفوشيين الذين كانوا يأخذون بيد الدروز لإذلال الزحليين. ولكن لم يطل الوقت حتى ذهب الأمير بشير إلى مصر للتوسط لعبد الله باشا ليبقى والي عكاء وعاد غانمًا، فسر الزحليون وذهبوا إلى بيت الدين وهنأوه فوعدهم بالمساعدة وسرَّ بهم.
وفي أوائل هذه السنة لما كان محمد آغا بوظو واليًا في حوران استقبل الأمير بشير الشهابي الكبير عند ذهابه إليها، فأهداه الأمير سيفًا وبندقية ثمينين وسعى له بحكم البقاع، فجاءه ونال الزحليون لديه منزلة بإشارة الأمير، وكان بطرس نجم المعلوف والد نعمان المعلوف قد ضمن منه غلال البقاع، وقسم منها الثلث وأحيانًا النصف، وكان ذلك بمثابة الأعشار فاحتكرها وربح أرباحًا طائلة مع بعض مواطنيه، واتسعت تجارة زحلة وكثرت أهراء (حواصل) القمح فيها، وصارت واردات البقاع وبعلبك وجبل القلمون (الشرقي) وغيرها تباع فيها. وكانت الغلال رخيصة حتى بيع كل مدِّ ونصف من الحنطة بغرش واحد.
وسنة ١٨٢٢ كان الأمير بشير لن يزال حانقًا على الأمراء الحرفوشيين، فقوَّى الزحليين عليهم فكثر بينهم الخصام، وحدث إذ ذاك أنَّ الأمير جوادًا الحرفوشي رأى كلًّا من إلياس أبي خاطر ومرعي شبيب من زحلة في قرية بريتال (بريتان)، فقتلهما فزاد ذلك في غيظ الأمير بشير الحاكم، فصار ينتهز الفرص للاقتصاص من الحرفوشيين.
وسنة ١٨٢٣م بنت الرهبنة المخلصية كنيسة القديسة تقلا، وسميت الحارة التي تجاورها باسمها.
وفيها حدث سيل جارف في الشتاء حمل حجارة كبيرة وجنادل ضخمة وأشجارًا عظيمة، فهدمت الجسر الكبير القديم الذي يقال إنه من بناء الصليبيين، مثل جسر الكرك (أي جسر المعلقة)، وكان واطئًا متينًا ضخم الحجارة، فرمم كما هو على حالته إلى يومنا.
وسنة ١٨٢٤م نمي إلى الأمير بشير أنَّ الأمير أمينًا الحرفوشي في بدنايل «إحدى قرى بعلبك»، فأمر شيخي زحلة أن يذهبا برجالهما، ويقبضا عليه فسارا وطرقا القرية ليلًا برجالهما، ففرَّ الأمير هاربًا وتقاتل الفريقان مدة انجلت عن قتل إبراهيم قادره الزحلي برصاصة أصابته.
وفيها أسند الكرسي الرسولي وكالة كرسي حلب الكاثوليكية إلى المطران أغناطيوس العجوري مطران الفرزل وزحلة والبقاع، فسار إليها وأحضر من حلب عشرة شبان درسهم وهذبهم بأوقات فراغه، وسامهم لخدمة الرعية الحلبية، وبقي أحدهم الخوري بولس سنكي في زحلة من الأكليروس الأسقفي ومنذ ذاك الحين بدأ تأسيس هذا الأكليروس في زحلة.
وفي سنة ١٨٢٥م كسدت صناعة النسج التي كان نحو نصف الزحليين يشتغلون بها، وهي نسج الخام البلدي وجلب القطن، وكان من أنواع ذلك ما يعرف بخام تسع عدات، وهو نظيف ناعم وبعد صبغه يشبه الكرمسوت وأخذت في التناقض سنة فسنة.
(٢) موقعة بني القنطار
وفيها أي سنة ١٨٢٥ استفحل الخلاف بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط وأعوانه، فاقتص الأمير منه وضرب على أيدي الدروز، وخضد من شوكتهم وفتَّ في عضدهم.
فانتهز الزحليون هذه الفرصة وأخذوا يتحفزون للقيام على بني القنطار وحاطوم وحسان الدروز الذين كانوا قد مكنوا سلطتهم في زحلة، وأرهقوا سكانها وساموهم الخسف وأثقلوا كاهلهم بالاستبداد، وكثر تحاملهم على الزحليين إضعافًا لهم إذ رأوهم يزدادون تقدمًا يومًا فيومًا، فخافوا سطوتهم وخشوا نفوذ كلمة الزحليين لدى صديقهم الأمير بشير حاكم لبنان، الذي بدأ منذ ذاك الحين في مصادرة الدروز وإذلالهم، ولا سيما بعد مناوأته لرأسهم وكبيرهم الشيخ بشير جنبلاط (عمود الدروز) وعميدهم.
فاستمالوا إليهم الأمير بشير الشهابي، واعتصموا بآراء شيوخهم، واستعانوا باتحاد كلمتهم على ذلك حتى طفح الكيل عليهم وعيل صبرهم، فعقدوا جمعيات كثيرة دبروا فيها ما يتذرعون به لنيل هذه الأمنية تخلصًا من هذا العيث، ولما أجمعوا رأيًا واجتمعوا كلمة، ووثقوا بمساعدة الأمير بشير لهم لما لاقاه من الجنبلاطيين الذين كان هؤلاء من أتباعهم، عقدوا العزم على التنكيل بهم وجمعوا لذلك قواهم.
فرأوا من الحكمة أن يتوقعوا فرصة فيها يظهر من خصومهم ما لا يطاق، فيبادئونهم العداء ويضربون على أيديهم بحجة اعتدائهم وعيثهم.
وبينما كان الحاج إبراهيم الصفدي التاجر في حانوته يوم الاثنين، دخل عليه أحد القنطاريين وطلب منه كوفية (كفية) وأمتعة أخرى بقيمة مائتي غرش ونيف، ولما أراد الانصراف دون أن يدفع شيئًا من الثمن حسب العادة، أمسكه الصفدي، وقال له: ادفع لي الثمن لأن اليوم الاثنين ولا يجوز فيه الدين، فشتمه وذهب فلحقه إلى قرب خان الجبلي (في سوق البلاط الآن)، فرجع إليه ورفسه ودخل حانوته وأخذ يمزق البضائع ويلقيها ويدوسها ويرميها إلى الخارج، فحرك ذلك دفين غيظ الزحليين، ولكنهم حسب الاتفاق الذي دبروه صبروا على خصمهم حتى أفرغ جعبة حقده وكيده وعظم جرمه. فساروا مع الحاج الصفدي إلى شيخي البلدة إبراهيم مسلم ويوسف الحاج شاهين، فجمعا الزحليين حالًا وأوصياهم أن يتأهبوا للقيام على هؤلاء العتاة. وصاروا يكررون التحرش والتحكُّك بأحراج القنطاريين وغيرهم من أعوانهم ليخرجوهم ويزداد عيثهم لتكثر جرائمهم، فنمى الخبر إلى الأمير بشير، فأرسل إلى زحلة جندًا للمحافظة بقيادة بكباشي، وأمر شيخي البلدة أن يسهرا على حفظ الراحة، ولكن أوامره كانت مبهمة تدل على رضاه بإقامة الثورة ضد الدروز والتنكيل بهم، ولما عجز الشيخان والجند عن قمع الفتنة ثار الزحليون ذات يوم؛ لأن أحد القنطاريين تحرش بالخوري بطرس ديب مسلم الزحلي، وأهانه بمسمع ومرأى جمع غفير، فانقض عليه الكاهن وبدأ بضربه، وساعده الحاضرون حتى أثخنوه جراحًا وتركوه بين حي وميت.
ثم تجمهر الزحليون وحملوا أسلحتهم وهجموا على منازل القنطاريين وأعوانهم، وكانت في محلات حارة مار إلياس المخلصية ومار ميخائيل ومار جرجس الكاثوليك ومار أنطونيوس الموارنة الآن، وأحدقوا بها وقتلوا منهم أربعة وعشرين رجلًا للحال. فهرب القنطاريون وغيرهم من الدروز إلى السهول المجاورة حيث كانت عقاراتهم. فأرسل الزحليون شراذم إليهم، فقتلوا بعضهم ونهبوا قراهم واستولوا على عقاراتهم، فلذلك اعتصموا بجبال الزبداني وسرغاية، وقطعوا السابلة على المارة واتصلوا بوادي التيم، ولكنهم كانوا يضمرون السوء للزحليين ويتوقعون الإيقاع بهم والاستثآر منهم.
وعلى أثر ذلك كان كل من ظاهر حجيج من معلقة زحلة وصليبي أسطفان حريقة من وادي العرايش في جوار زحلة عائدين من دمشق، فاعتدى عليهم بعض القنطاريين وقتلوهما، فلما نمى الخبر إلى المعلقة جاء أيوب حجيج ابن أخ أحد القتيلين إلى زحلة وأثار السكان، فذهب منهم نحو ثلاثمائة بسلاحهم إلى بعض الجهات التي كان يعتصم بها القنطاريون وقتلوا من وقع في أيديهم ونهبوا القرى وأحرقوها، فخشي الناس من الزحليين ولم يستطع أحد أن يستقبل القنطاريين وأعوانهم في جميع البقاع وما يجاورها، فساروا إلى حوران ووادي التيم، واستولى الزحليون على عقاراتهم ومقتنياتهم وقراهم، وكان آخر العهد بهم ولن يزال على الألسنة ذكر هذه العداوة، فتقول العامة «مثل عداوة بيت القنطار» وكذلك مثل «عداوة بيت مكارم» التي مر ذكرها آنفًا.
ولن يزال من القنطاريين بقية في كناكر ودامت العليا (حوران) وبكا ودير العشاير في وادي التيم، وفي المتين وكفر سلوان في لبنان.
أما بنو حاطوم فبقيتهم في كفر سلوان (لبنان) إلى يومنا، وفي رخلة (وادي التيم) وغيرهما.
أنهم مستعدون للقتال ذودًا عن حياضهم ومحافظةً على أعراضهم وأموالهم، وأنهم كانوا يودون العمل بقول ابن الوردي لو أمكنهم ترك بلدتهم:
ولكن القنطاريين أحرجوهم فأخرجوهم، ففعلوا ما فعلوا تملصًا من استبدادهم ونفوسهم غالية لا يبيعونها رخيصة في سوق الهوان.
فلما قرأ الأمير هذه العريضة غضب غضبًا شديدًا وتغير على الزحليين، وحسب أنَّ ذلك تطاول منهم على القانون وقلة احترام له، فسكن مدبره المعلم بطرس كرامه ثائر غيظه، وقال له: إنَّ مثل هؤلاء الشجعان لا تحسن مصادرتهم، فلعلك نسيت ما أبلوا به من المواقع في قطنة والمزة وعهدهما قريب فالأولى بسيدي الأمير أن يعفو عنهم ويتخذهم أعوانًا لحين الحاجة وهو الآن في موقف حرج يحتاج فيه إلى أشداء الرجال.
فسري عن الأمير واستقدم إليه شيوخ زحلة، ووبخهم وأمرهم بالرجوع إلى بلدتهم والمحافظة على الراحة والإخلاد إلى السكينة، وأن يبعثوا إليه بزعماء الفتنة للاقتصاص منهم. فلما ساروا إليه قرعهم على عملهم وحذرهم من العودة إلى مثل ذلك، وخلع عليهم علامة رضاه وأعادهم إلى بلدتهم مكرمين. وهكذا انفضت المسألة على هذا الوجه، وأخذ الزحليون في تعاطي أعمالهم وترويج تجارتهم وتقدم بلدتهم.
ومما يجدر بالذكر من تفاصيل هذه الموقعة الدموية أنها حدثت في سوق البلاط، وامتدت إلى المقبرة قرب دير مار يوسف الأنطوني الآن، فجندل الزحليون هناك نحو أربعة وعشرين قتيلًا من القنطاريين، ففروُّا إلى أبلح وحشمش وعلي النهري من القرى التي كانت لهم، والغريب أنهم لم يدخلوا قرية حوش حالا وهي لهم، فلحقهم نحو ثلاثين من الزحليين ووراءهم كثير من سكانها، فقتلوا نحو ستة من القنطاريين على عين كفر سنه قرب أبلح و٢٤ في علي النهري واثنين في مجدلون. وهكذا كانوا يتأثرونهم ويقتلونهم حتى أرهبوهم وأبعدوهم من تلك الجهات، وهذه المذبحة كانت بدء استقلال الزحليين وفك قيود إذلالهم وكسر نير عبوديتهم، فأبلى كثير منهم إبلاءً حسنًا. ولقد عرفت بعد البحث الكثير والسؤال المتواصل والإعلانات المتعددة مع عدم التلبية، أنَّ الفاتكين في القنطاريين من الزحليين كثيرون، وأنَّ الموقعة كانت عامة لم تقتصر على أقوام من الخاصة؛ بل كانت الصدور جميعها موغرة حقدًا عليهم ومفعمة انتقامًا منهم، والسيوف كلها مرهفة للاستثآر بعد أن طفح كيل بغيهم، وسئمت الأنفس عيثهم وممن يحضرنا من أسماء الذين كانوا في مقدمة المبلين والفاتكين بخصومهم المذكورين كلٌّ من يوسف الحاج شاهين وإبراهيم مسلم شيخي البلدة وعبد الله أبي خاطر وسابا الخوري شحادة صعب ودرويش سمعان الصدِّي وإلياس دموس وشاهين مبارك ومخول غرة وفارس هلال وأبي فارس خليل حجي وسمعان البحنسي وموسى وضاهر الخياط وأبي سمعان جرجس الخياط وعبد النور الششم وإلياس هاشم المعلوف وأنسبائه طنوس شبلي ونجم أبي ضاهر ومراد قيامه وأبي يوسف فرح وجرجس طرزا، وغيرهم من لم تبلغنا أسماؤهم مع رجائنا المكرر لتسميتهم لنا، فليعذرنا المواطنون؛ لأن «جهد المقلِّ غير قليل.»
وفيها انتشر الطاعون في سورية واتصل بزحلة، وطُعن اثنان من سكانها فأخرجا إلى البيادر، وطاف المطران أغناطيوس العجوري بالقربان حول البلدة يوم اثنين الفصح، فانقطع دابر ذلك الوباء الأسود إلى يومنا، ولن تزال تلك العادة حتى الآن ولكنها نقلت إلى خميس الجسد.
وفيها صار المطران أغناطيوس المذكور يوقِّع (يمضي) هكذا «مطران الفرزل وزحلة والبقاع»، بزيادة كلمة زحلة على توقيعه.
وفي هذه الأثناء بلغ الأمير حيدر إسماعيل اللمعي في بكفية (لبنان) أنَّ ابن حجازي من قب إلياس أطال لسانه عليه، فأرسل الأمير يتهدده فخاف المذكور وجاء زحلة ليتوسط شيخها إبراهيم مسلم ليطلب له عفو الأمير عنه، فعلم الأمير بقدومه فأرسل ثلاثة من رجاله قتلوه، فتكدر الزحليون لعمله هذا؛ لأنه كان في حماهم، وندم الأمير على تسرعه وخصص راتبًا لابن المقتول.
وسنة ١٨٢٧م أحدث وزير دمشق مظلمة على سبع عشرة قرية من البقاع، فأمر الأمير برجوع سكانها بمالهم إلى بلادهم، فرجعوا وخربت البقاع. وجاء بعضهم زحلة.
(٣) موقعة سانور
وفي أواخر سنة ١٨٢٩ طلب عبد الله باشا وزير عكاء الأموال الأميرية من النابلسيين، فعصوا ولا سيما آل طوقان وجرار وبرقاوي وعبد العال ودحيش وأبي غوش وغيرهم، واعتصموا بقلعة سانور النابلسية، وكانت حصينة الموقع منيعة الجوانب حاصرها الجزار مرارًا، وكان زعيم العصاة أسعد بك طوقان والشيخ قاسم الأحمد الجرار، فحاصرهم عبد الله باشا زمنًا حتى أوشك أن يرجع عن هذا الحصن مخذولًا، فاستصرخ الأمير بشير الشهابي فجمع من مقاطعاته نحو ألفي مقاتل كلهم أبطال مدربون، وذلك في اليوم الثالث من بدء سنة ١٨٣٠م، وبينهم نحو خمسمائة مقاتل منهم مائتان من زحلة وثلاثمائة من بسكنته وكفر عقاب في المتن، كانت نفقتهم على حسابهم الخاص إذ لم يقبلوا مثل غيرهم نفقات الأمير الحاكم، فسار إلى عكاء فالناصرة، ثم جاء إلى قرية جنين التي تشرف على سانور واستقبله هناك عسكره باحتفاء بالموسيقى وإطلاق البنادق. فلما رأى النابلسيون الذين خارج القلعة العسكر اللبناني، وكانوا يعملون باسه في المواقع الماضية جمعوا ثلاثمائة فارس من العرب، ومنعوا العسكر الاستقاء من ينبوع خيموا قربه، فوثب عليهم المتنيون ولا سيما سكان زحلة وبسكنته وكفر عقاب، وأعملوا فيهم السيوف حتى دحروهم إلى قريتي عرابة وعجة طولوزة، فاعتصموا هناك، فحاصرهم عسكر الأمير الذين اندفق كالسيل فحمى بعض الفرسان المذكورين عين جباع، فلم يستطع النابلسيون أن يستقوا منها فضويقوا، ولكنهم ثبتوا في الحصار وحمي وطيس القتال، ففرَّ النابلسيون جميعهم إلى سانور، واعتصموا بمعقلها المنيع فشدد اللبنانيون في حصارها، وكان شجعانهم يحمونهم من هجوم النابلسيين، وجرت أمام القلعة مناوشات عديدة عادت على النابلسيين بالخسارة والفشل، فجدد حصارها بإطلاق المدافع، فهدم أكبر أعاليها، ولما خيم الغسق في ذلك اليوم العصيب كانت النابلسيات يغمسن الدُّثر (اللحف) بالزيت ويشعلنها ويطرحنها خارج القلعة؛ لينظر رجالهن عساكر الأمير ويطلقوا عليهم الرصاص. وكان الأمير بشير قد شعر بحرج الموقف وقلة العساكر، فأرسل رُسلًا إلى الأمير حيدر إسماعيل اللمعي ليوافيه بعسكر آخر من البلاد، فجمع من فوره جيشًا جرارًا بقيادته، وبادر لمعاضدة الأمير، فوصل إليه والقلعة قد فتحت عنوة، وتم النصر للبنانيين الذين أبدوا بسالة لا مثيل لها، ولا سيما الزحليون والمتنيون، وكانت قد نفدت ذخائر الخصوم وخارت قواهم، فأنفذوا حسينًا عبد الهادي من زعمائهم إلى الأمير، فتم الصلح على شرط أن يهدم الثائرون القلعة بأيديهم ويسلموا أسلحتهم لعبد الله باشا، فدكَّت أبنيتها حتى أُسسها وعطلت آبارها ومغاورها وأنفاقها (دهاليزها)، وغشى عبد الله باشا مدافعه بجوخ أحمر إشارةً إلى فتحها. وكان في داخل القلعة أكثر من ألف ومائتي نسمة منهم من مشايخ بني الجرار اثنان وأربعون، فعند تسليمها لم يبق منهم سوى ٣٦٧ رجلًا، والباقون قتل معظمهم وفر الآخرون، وقتل من عسكر الأمير بشير سبعة وثلاثون رجلًا للحال، ومنهم أسعد حمادة الدرزي من بعقلين، وحنا الشنتيري الماروني من بكفية، وكانا بطلين مدربين ووقع أحد عشر جريحًا توفوا منهم صليبي أبو طقا ويوسف الطباع، واثنان آخران وهم من زحلة، وبريء من المجاريح مائة وخمسة بينهم بعض الزحليين منهم بولس أبو سابا ممن كان الأمير بشير يضمد جراحهم بيده. وعاد الأمير بعسكره ظافرًا ولم يدخل عكاء؛ لأن الطاعون كان متفشيًا فيها، فلاقاه اللبنانيون بموكب عظيم إلى صيداء وهنأوه بالظفر، وطار صيت اللبنانيين ولا سيما الزحليين والمتنيين وعرفوا بشجاعتهم وإقدامهم.
ومما يرويه الشيوخ أنَّ كلًّا من إلياس هاشم المعلوف وطنوس شبلي المعلوف من شليفه في بعلبك حميا عين جباع، فلم يستطع النابلسيون الاستقاء منها فتضايقوا، وكذلك طنوس الطباع وخليل أبو عيد حجي من زحلة دخلا قلعة سانور ليلًا في أثناء الحصار، وقتلا أحمد الجرار البواب وحمل أحدهما طنوس رأسه وبندقيته، وتلك البندقية بيعت منذ أمد يسير إلى أحد أفراد أسرة الشميل؛ فسُر بهم عبد الله باشا حتى إنه قال لمشايخ بني الجرار العاصين: «أما تعلمون أنَّ عسكر الأمير بشير اللبناني مدرب بالحرب والكفاح، وأميرهم ما سار في مهمة إلا وكان النصر حليفه، أما سمعتم ما جرى بموقعة المزة وكيف اقتحم سورها بفرسانه وأحرق القرية، أما علمتم بفتكه بعسكر درويش باشا»، ثم أخذ يعدد لهم المواقع التي أبلى فيها اللبنانيون فوقع الرعب في قلوب المشايخ وطلبوا العفو.
ولما زار هذه القلعة كل من روبنصن وسمث الإنكليزيين على أثر هذه الموقعة، وصفاها وصفًا مدققًا وذكرا حصانتها وموقعها كما بينت ذلك في «دواني القطوف»، بتفصيل وافٍ راجع صفحة ٢٣٦ متنًا وحواشي.
(٤) إبراهيم باشا المصري في زحلة
وسنة ١٨٣٠م جاء إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا جد الأسرة الخديوية إلى سورية وفتح عكاء. وكان الأمير بشير الشهابي من أنصاره، فبعث إليه أن يجمع كمية وافرة من الشعير لخيول فرسانه فطلب الأمير من الزحليين ذلك، فأرسلوه وقدموا أيضًا ما تحتاج إليه خيول عساكره التي كانت مخيمة على بيادر الكرك وكان قوَّادهم نازلين في ثكنة (شونة) معلقة زحلة التي عمَّرها بأمر الأمير بشير عيسى الخوري مخايل عيسى من بحمدون جد بني البحمدوني في زحلة، وكان من خاصة الأمير وشيخ المعلقة نافذ الكلمة لدى الوزير والأمير يبلِّغ الزحليين أوامرهما.
وسنة ١٨٣١م جاء الأمير قاسم ابن الأمير بشير الشهابي الكبير مع مهندس أفرنجي زحلة، فاحتفر خندقًا حولها خشية أن تفاجئهم العساكر التي اجتمعت في حماة بقيادة الوزراء لمحاربتهم، وانضم إليها الأمير أمين الحرفوشي حاكم بعلبك، ولم يطل الوقت حتى بعث إبراهيم باشا إلى الأمير قاسم في زحلة يخبره بالنصر في مواقع حماة ونواحيها، ويطلب منه أن يرسل الذخائر الحربية (الجبخانة) إلى بعلبك؛ فأرسلها إليه وكان قد جاء بعلبك، ونزل في القلعة لكثرة المطر.
ثم جاء زحلة من عكاء عباس باشا أخ الوزير بألف جندي، وكانت طريقه على جسر المجامع فمرجعيون، وبقي ثمانية أيام لكثرة الأمطار، وكان يصحبه الأمير محمود ابن الأمير خليل ابن الأمير بشير الشهابي، ومعهما ذخائر حربية ومدافع وقافلة من الجمال، فوصلاها في أواسط شهر ذي القعدة سنة ١٢٤٧ﻫ (١٨٣١م). وفي ٢٣ ذي القعدة وصل الأمير بشير زحلة قادمًا من بيت الدين، وحضر إليها إبراهيم باشا من بعلبك يحف به أربعة فرسان، فرأى الخندق الذي حفر حول زحلة ونظم عساكره ورتب طريقة مدافعتهم، ثم بلغه حدوث خصام بين الدروز والمسيحيين في دير القمر والمتن بدسائس آل جنبلاط، فسار من فوره إلى بيت الدين بعساكره وسكَّن الثورة، ثم نمي إليه أنَّ عسكر حماة مخيم في بلاد بعلبك، فجاء زحلة بعسكر الجهادية فتأكد كذب الخبر وأنَّ الوزراء في حمص، فبقي هو في زحلة يرتب حركاتها العسكرية، ثم لما قدمت العمارة المؤلفة من أربع عشرة سفينة من الإسكندرية إلى طرابلس مثقلة بالذخائر، وفيها سريتان (ألايان) من الجهادية عددهم ثمانية آلاف أرسل، فاستقدم نصفهم إلى عكاء والنصف إلى زحلة. وصارت الحركة المركزية لجنده في زحلة لتوسطها بين المدن الأخرى.
ففي ١٢ ذي الحجة أرسل الأمير محمودًا الشهابي من زحلة، ومعه يوسف بك الضابط بخمسمائة جندي لملاقاة العسكر القادم من طرابلس، وللقبض على بعض الثائرين فأمسكوا بعضهم وعادوا إلى زحلة. وفي هذا اليوم سار إبراهيم باشا من فيلق (أوردي) زحلة إلى فيلق عكاء، فوصلها بيومين.
وفيها؛ أي سنة ١٨٣١م كادت تتلاشى صناعة النسج في زحلة، لورود الخام من أوروبة بحرًا في المراكب، فرخصت أثمان الخام فيها كثيرًا، فترك الأهلون هذه الصناعة التي كانوا جميعهم يشتغلون بها، ويربحون منها أموالًا كثيرة. وكان من بواعث إماتة هذه الصناعة تجنيد الزحليين وتسخيرهم مثل غيرهم من اللبنانيين، وانشغال نسائهم بخدمة الجنود المصرية المخيمة عندهم.
وسنة ١٨٣٢م أرسل الوزير إبراهيم باشا الذخيرة من صيداء إلى زحلة، وسخر لها جميع الجمال والبغال والحمير من بلاد جبيل إلى بلاد صفد، ودام ذلك شهرين، فاجتمع نحو ثلاثين ألف عسكري مصري فيها، وجمع الأمير عسكرًا من لبنان واتخذ الوزير زحلة النقطة الكبرى لمواقعه، وازدحمت الجيوش في ضواحيها واكتظت بالذخائر، وكان العسكر يجري التمرينات الحربية والموسيقى والطبول ترتج لها تلك الضواحي، ويتجاوب صداها في وادي البردوني. وفيها أرسل الأمير بشير الشهابي الذي كان مخيمًا بعسكره اللبناني، وبينه الزحليون في مرجة دمشق إلى ولده الأمير أمين أن يجيء زحلة من بيت الدين، ويجمع أربعة آلاف غرارة شعير من بلاد بعلبك والبقاع للعساكر، ويستودعها بعلبك وزحلة، فأتمَّ الأمير أمين أمر والده بمساعدة الزحليين، وأخذ كثير منهم يتَّجرون بالحبوب ويحتكرونها ولا سيما الشعير. وقد اشتد الغلاء في هذه السنة، وصار ثمن مد القمح ١٢ غرشًا مما لم يسبق له مثيل في زحلة التي كانت إذ ذاك مستودعًا لحاصلات حوران وبلاد الشرق وبعلبك والبقاع. وفيها سار إبراهيم باشا الصغير وعباس باشا شقيق الوزير بفيلق زحلة إلى قرية حسيا قرب حمص.
وكان الأمير أمين الحرفوشي قد انضم إلى وزراء الدولة، الذين كانوا في حماة كما مرَّ وجاءوا حمصًا، فاغتنم ابن عمه الأمير جواد الحرفوشي هذه الفرصة، وترك دمشق وجاء زحلة لمقابلة إبراهيم باشا، وبواسطة أعيان زحلة ولَّاهُ حكم بعلبك وما إليها. وكانت المواقع تتوالى إذ ذاك بين العساكر العثمانية والجنود المصرية، فبقيت زحلة في أثنائها مخيَّمًا للعساكر المصرية ومستودعًا لذخائرها وعددها ومؤنها ومباءة للوزير إبراهيم باشا والأمير بشير الشهابي وقوادهما ومدبريهما، مثل سليمان باشا الفرنسي وعثمان باشا وحنا بك البحري أمير اللواء وبطرس كرامة وغيرهم.
وسنة ١٨٣٣م قدم زحلة القائد طيفور بك بألف عسكري مصري، وانضم إلى الفيالق التي فيها تعزيزًا للأمن وتسكينًا للحركات التي كان الدروز والحرفوشيون يجرونها في ضواحيها، لتعكير صفاء الراحة وإقلاق العساكر المصرية والأمير بشير.
وكان في هذه الأثناء إبراهيم باشا يختلف إلى زحلة هو والأمير بشير وكبار رجالهما، فتمكنت المودة بينهم وبين أعيان الزحليين وأحبوهم كثيرًا، واتخذ الوزير ثلاثمائة عسكري من الزحليين بقيادة الأمير خليل ابن الأمير بشير الشهابي الكبير كان يرسلهم مع عسكره كأدلَّاء إلى كثير من الأماكن التي يجهلونها، واستخدم من سكانها أطباء في جيشه وصنَّاعًا وسُعاة ونحو ذلك، منهم المرحوم أبو سليمان خليل الصليبي الحلبي الأصل الذي كان من أطباء أحمد باشا الجزار في عكاء، وكان قد قدم زحلة نحو سنة ١٧٩٧م، وهو أول طبيب عامِّي طبَّب فيها؛ لأن الأطباء كان أكثرهم من الرهبان، ولن تزال سلالته فيها إلى يومنا باسم بيت أبي سليمان (بو سليمان). ومن نكات الوزير اللطيفة معه أنه استدعاه يومًا إلى المعلقة لتطبيب جندي يحبه، فلما رآه قال له: إنه يموت بعد ثلاث ساعات ولا فائدة من علاجه، فألحَّ عليه بتطبيبه؛ لأنه كان عزيزًا عنده، فكرر له كلامه الأول أنه سيموت بعد ثلاث ساعات، فقال لحاجبه: أوقفه حتى نرى إذا مات الجندي أجيزه وإلا اقطع رأسه. فمات الجندي بعد مرور ثلاث ساعات إلَّا بضع دقائق، فأُعجب به وأجازه هو وولده إبراهيم بقبضة من الرباعي المجنزرة (المزنجرة) وصرفهما، وكان يعتمد عليه في تطبيب عساكره، وعند غياب أطبائه الذين كان رئيسهم كلوت بك الشهير مؤسس هذا الفن في مصر، ومنهم الدكتور مخايل مشاقة الشهير.
واتخذ قينًا (قردحجيًّا) لأسلحته حنا مخايل عطا والد الطيب الذكر المطران غريغوريوس وموسى ابن شقيقه إبراهيم، الذي فاق عمه بمهارته في هذه الصناعة حتى أنَّ الوزير كان إذا احتدم القتال، وأراد أن يحث (ينخي) جنده على إطلاق البنادق يقول لهم: «انزلوا بزناد موسى» أي أطلقوا رصاص البنادق التي زنادها (ديكها) عمل موسى عطا. وكان من سعاته درويش فرنسيس المعلوف الذي كان مشهورًا بأمانته وسرعة سيره، فكان يبعث به إلى عكاء ودمشق وحمص وطرابلس، فيذهب ويعود بسرعة عجيبة؛ ولذلك لقب «الفرخ» لخفته ونشاطه، وكثيرًا ما كان يقطع المسافة بين زحلة وعكاء بيوم واحد ولا سيما في الليل، فأجزل الوزير له العطايا واستأمنه برسائله الرسمية ومهماته وله معه أحاديث غريبة. ولما احتفر المعادن في مرجبا وقرنايل من متن لبنان ومشغره من البقاع، كان بنو الجريصاتي في زحلة المشهورون بصناعة الحدادة في مقدمة المشتغلين بمسابك الحديد والمصلحين الآلات الحربية. وكان مهنا بالش يشتغل السيوف والسكاكين ويصقلها، وقد تعلمها من رجل عجمي جاء زحلة، وكذلك أنطون وشقيقه مخايل الصيقلي كانا يشتغلان بالسيوف والجوارح حتى إنَّ مخايل صك النقود، فقطعت الحكومة إبهام وسبابة يده اليمنى فلقب باسم «قريطم»، ولن تزال سلالته بهذا الاسم في زحلة وسلالة أخيه باسم الصيقلي. وكان كثير من أعيان الزحليين يضمنون نفقات الجنود المصرية، ويقدمون لهم حاجاتهم من مأكل ومشرب مثل بطرس أبي ظاهر المعلوف وشقيقه مخايل الملقب بأبي علي وعبد الله بو خاطر ويوسف العنِّ وجرجس الزرزور وجرجس القرعان وغيرهم. إلى غير ذلك من الصناعات والأعمال التي اعتمد فيها على الزحليين.
وفي هذه السنة شيدت الرهبنة الحناوية الكاثوليكية كنيسة القديس أنطونيوس في قلب المدينة فوق الجسر القديم ولن تزال هناك، وهي آخر كنيسة رهبانية شيدت في زحلة؛ لأن المطران أغناطيوس العجوري أسقف المدينة اشترط على جميع الرهبنات الكاثوليكية أن لا تبني كنائس بعد هذه.
وفيها قدم زحلة الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم على أثر عودته من أوروبة سنة ١٨٣١ فاستقبل استقبالًا حافلًا، وكان معه ثلاثة من الآباء اليسوعيين، وهم الأبوان مبارك بلانشة وبولس ريكادونا والشماس ناصر وضعهم في عين تراز، فوهبهم الأمير بشير الشهابي بواسطة السيد أغناطيوس أسقف زحلة، الذي كانوا يختلفون إليه في تلك الأثناء قطعة أرض في ذيل الجبل في معلقة زحلة، حيث لم يكن هناك أبنية وكانت ملك الأمير، فشيدوا على نفقته دير القديس يوسف، وهو أول دير لهم في سورية ولبنان في القرن التاسع عشر، وكان الأمير حيدر إسماعيل اللمعي قد وهبهم أرضًا في بكفيا وساعدهم ببناء دير لهم فيها.
(٥) موقعة جسر السنِّ
ومن النكات اللطيفة ما يروى عن عوض بك الأسد المرعبي أحد أعيان عكار، الذين تغير عليهم إبراهيم باشا أنه اجتمع مرة بأحد القواد المصريين على أثر هذه الموقعة في سوق العقادين في طرابلس الشام، فكتب القائد المصري على ورقة بيت عنترة القائل:
وقال له انظر ما أجمل خطي! ففطن عوض بك وكتب تحته بيتًا آخر من القصيدة هو:
وقال له: وانظر أيضًا ما أجمل خطي! وهي محاضرة بديعة.
وفي هذه السنة ١٨٣٤م مُني المطران أغناطيوس العجوري بداء الفالج، فعانى مضضه مدة ثمانية أشهر انتقل في آخرها إلى رحمة ربه وذلك في شهر آب، ودُفن في دير النبي إلياس تحت النافذة الشمالية، وترك للكرسي خمسمائة كيس؛ أي مائتين وخمسين ألف غرش وزعها بوصيته. وكان قد خدم الكرسي ثماني عشرة سنة بغيرة واجتهاد ووعظ ناجع، وقد انضم بواسطته كثير من بني الطوائف الأخرى إلى طائفته الكاثوليكية مثل بني المعلوف والحاج شاهين الأرثوذكسيين وغيرهم، وزاد على ختمه كلمة «زحلة»، وأرَّخ ضريحه الشيخ ناصيف اليازجي بقوله وهو من أقدم منظوماته المهملة:
ونال هذا الأسقف منزلة كبيرة لدى حكام عصره، ولا سيما إبراهيم باشا والأمير بشير وبهمته انتشرت تجارة الزحليين إلى حلب والعراق وأوروبة وأسس الأكليروس الأسقفي، الذي جاء بكهنته من حلب وبقي منهم الخوري بولس سنكي، فتولى الوكالة الأسقفية بعد وفاته. وأنشأ أيضًا أخوية القربان المقدس وأخوية العذراء، وكان لا يسام أحد من الكهنة والرهبان إلا بعد أن يمتحنه الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم أو هذا الأسقف، كما تقرر في مجمع «دير البشارة» قرب زوق مكايل سنة ١٨٣١م. وفي هذه السنة على أثر ذلك جاء زحلة السيد مكسيموس المظلوم لانتخاب أسقف عوض أسقفها المتوفى. فانتخب الخوري باسيليوس شاهيات الحلبي من الرهبنة الشويرية الحناوية، فعارض فريق من السكان الذين يميلون إلى الرهبنة المخلصية، ويودون أن يكون أسقفهم منها. فرفع البطريرك الأمر إلى الكرسي الرسولي في رومية، وغادر زحلة غير راضٍ عن بعض سكانها المعارضين. وبقي الكرسي فارغًا ثلاث سنوات ووكيله الخوري بولس سنكي.
وسنة ١٨٣٥م كان في زحلة طيفور بك المصري مع ألف جندي، ففرَّغ الزحليون لهم حارة الميدان فنزلوها، وكانوا يراقبون حركات الدروز، ويؤمنون الطرق المحدقة بزحلة والبقاع. وفي آخر هذه السنة سقط ثلج كثير تكاثف على الأرض، فتحير العسكر المصري في جرفه؛ لأنه لا يعرف ذلك، فتحمل الزحليون ثقلة جرفه لهم وإبعاده عن منازلهم؛ لأنهم لا يطيقون برده.
وفي هذه السنة انتظم مخايل بن حنا عطا الزحلي في سلك كهنة البطريرك مكسيموس مظلوم — وهو المطران غريغوريوس الشهير — فصار شماسًا إنجيليًّا يرافق غبطته.
وفي صيف سنة ١٨٣٦م ورد الأمر من الكرسي الرسولي أن يكون الخوري باسيليوس شاهيات الحلبي من الرهبنة الحناوية الشويرية الكاثوليكية أسقفًا للفرزل وزحلة والبقاع، فاستقدمه إليه من عين تراز البطريرك مكسيموس مظلوم إلى دمشق مع الوكيل الأسقفي وبعض الأعيان، وسامه في كنيستها الكبرى (كاتدرائيتها) يوم خميس الصعود في ٧ أيار من هذه السنة، وهو إذ ذاك ابن إحدى وأربعين سنة، فكان أول أسقف سيم فيها. ثم سار توًّا إلى بيت الدين وقابل الأمير بشير الشهابي ونال لديه منزلة، وعاد إلى زحلة وبدأ يرعى خرافه بغيرة وأسس الأكليروس الأسقفي الوطني الباقي إلى الآن، وأول من نعرفه منهم الخوري يوحنا ملوك الذي صار أسقفًا بعد ذلك والخوري بطرس القطيني المعلوف والخوري فيلبس النمير، وقد سامهم في هذه الأثناء شمامسة وكان واعظًا بليغًا ومدبرًا حكيمًا وراعيًا ساهرًا على أغنامه. ولما سافر البطريرك مكسيموس إلى مصر أقامه نائبًا بطريركيًّا عامًّا، فسار إلى دمشق ولبث فيها ستة أشهر وعاد إلى زحلة مترددًا بينها وبين دمشق، وهو أول من اتخذ سجلًّا للحوادث والوفيات والولادات ومنه اقتبسنا كثيرًا من الفوائد.
وسنة ١٨٣٧م أحدث الأمير بشير الكبير بيت مكس (كمرك) في زحلة لضمان ذبحية اللحم، ورتب الخرج (مال العنق) المسمى الفردة على سكانها لما شاهده فيها من رواج سوق الأعمال والحركة التجارية، ووكل تحصيل ذلك إلى خمسة من سكانها سماهم «الوكلاء»، كانوا يفضون مشاكل البلدة وقد ضمنوا (كمركها)، وصار الزحليون إذ ذاك يجلبون بضائعهم من بيروت بعد ما كانوا يستجلبونها من دمشق، وكانت هذه السنوات التي مرت على سورية بزمن الدولة المصرية أيام هناء وسلام ونجاح. ثم حدث غلاء عظيم فبيع مد الحنطة بثلاثين غرشًا وذلك لم يسبق له مثيل، وفي أواخرها حدثت زلزلة قوية هدمت قباب الأجراس، وكانت حركتها من جهة طبرية وصفد حيث كان تأثيرها قويًّا وأضرارها كثيرة هنالك، أما في زحلة فلم يحدث عنها ضرر عظيم. ومنذ هذا الحين ضعفت سلطة الأمراء اللمعيين على سكان زحلة ومنعت مداخلة دهاقينهم (خوليتهم) بشئون سكانها فسعوا بتفريق كلمة الزحليين المجتمعة.
وسنة ١٨٣٨م كان وكلاء زحلة المذكورون قد ضايقوا مواطنيهم بالرسوم التي يتقاضونها منهم وكثرت أحزابهم، فشكا الأهلون أمرهم إلى الأمير بشير مرارًا فلم يعرهم أذنًا صاغية؛ لأنه كان يحصل من زحلة بواسطة هذا الرسم أموالًا طائلة، فأرسل السكان الخوري بولس سنكي النائب الأسقفي إلى بيت الدين لمقابلة الأمير، فلما فاوضه بذلك قال له الأمير: «هذا ما هو شغلك ولا يعنيك»، وكان هذا الأب جريئًا فصيح اللسان قوي الحجة فأجابه: «يعنيني كثرة الخطايا الناتجة عن ذلك وتعطيل أشغال الفقراء.» وكانت عادة الأمير إذا تكدر من إنسان وأراد منعه عن الكلام يقول للواقف أمرق (انصرف)، وإذا لم ينصرف يأمر خدامه بطرده. فقال له بحنق «أمرق»؟ فأجابه الأب: «أنا مارق ومنصرف ولكن يوم القيامة يصيح الفقراء متظلمين أمام الله ولا تقدر أن تقول لهم امرقوا، وأنا سأشهد على ظلمهم، فأستغيث بالله وبسعادتك أن ترحمهم وترفع عنهم هذه المظلمة.» فأوغر كلامه صدر الأمير غيظًا، وقال له بصوت ارتجت له القاعة: «قلت لك امرق»، فانصرف ملتفتًا إليه وقائلًا: «أنا منصرف ولكن الملاقاة عند الله الديَّان العظيم.»
وعاد إلى زحلة بفشل متأثرًا، فلما رأى السكان ازدياد ظلم الوكلاء وعدم سماع الأمير شكاويهم رفعوا دعواهم إلى شريف باشا حاكم دمشق نزيل بيروت إذ ذاك، فجاء زحلة ومعه حنا بك البحري، فقص عليهما الخوري بولس سنكي حادثته مع الأمير، فتذاكرا وجزما بإبطال رسم الذبحية المذكور، وفاوضا الأمير بشيرًا، فاقتنع بإبطاله وبعث إلى كل من الطيبي الذكر أغابيوس الرياشي مطران بيروت ولبنان الكاثوليكي والخوري إبراهيم الكعدي الأرثوذكسي والخوري موسى أبي كرم الماروني كاهني قصبة بسكنته في لبنان أن يحضرا إلى زحلة مع بعض خاصته، ويفضَّا هذه المعضلة التي أقلقته، فجاءوا زحلة ونزلوا في دير النبي إلياس الطوق الشويري؛ لأن السيد شاهيات كان إذ ذاك في عين تراز يدبر شئون مدرستها البطريركية. فحاسبوا الوكلاء فإذا أموال طائلة باقية ضمنهم ورأوا ظلمهم للسكان، فأخبروا الأمير فعزلهم وأرسل عوضهم من قبله وكيلًا لفض مشاكل زحلة الشيخ وردان الخازن فنزل في المعلقة.
وفيها أمر إبراهيم باشا أولاد الأمير بشير وأعيان لبنان أن يلبسوا الطرابيش عوض العمائم، فعمَّ استعمالها ولبسها بعض الزحليين مثل غيرهم، وكانت تُعرف بطرابيش الدلح، وهي أشبه بجراب مسترسل على قذال (قفا) الرأس.
وفي هذه السنة سيم الشماس مخايل عطا الزحلي (المطران غريغوريوس) كاهنًا باسمه من يد السيد باسيليوس شاهيات، وصار نائبًا بطريركيًّا في دمشق وما يليها.
(٦) إخراج الدولة المصرية من سورية
ومن أهمها أنه أمر بجمع سلاح النصارى اللبنانيين، وأرسل مأمورًا لذلك إلى زحلة، فضايق سكانها كل المضايقة، وجمع كل الأسلحة بقساوة وتهديد لم يشاهد الأهلون نظيرهما بعد أن تحرروا من الاستعباد القنطاري، وذاقوا لذة الحرية والاستقلال الشخصي، ورأوا انعطاف وزير إليهم، فخسروا أموالًا طائلة ليس بقيمة الأسلحة الثمينة فقط؛ بل بقيم أسورة البنادق والسيوف المجوهرة (المسقَّطة) والخناجر المفضضة التي كانوا يتغالون باقتنائها، وكان بنو عطا يبالغون بإتقان عملها والتفوُّق برونقها ولا سيما لمواطنيهم.
وكان الزحليون فوق كل ذلك قد جشَّموا النفقات الباهظة بوجود العسكر المصري في بلدتهم وتجنيد الأهلين، حتى إنَّ كثيرًا منهم كانوا يستأجرون عوضهم رجالًا يذهبون للقتال وينفقون على الجميع، فضلًا عن تسخير الناس لحفر المعادن والدواب لنقل الذخائر والمؤن، فكثر الطمع بهم لسرعة نجاح بلدتهم، وحسبت في سعة كبيرة من العيش وذات أموال وافرة.
ومع كل ما أبدى الزحليون للعسكر المصري من المؤانسة والخدمة، وتحملوا لأجلهم من النفقات والأثقال لم يسلموا من تحاملهم عليهم حتى إنهم سنة ١٨٤٠ لما عزمت الدولة باتفاق الدول على إخراجهم من سورية، نووا وهم في المعلقة أن ينهبوا زحلة ويحرقوها، لولا سليمان باشا القائد الفرنسي وحنا بك البحري وبطرس كرامة الذين منعوهم بإشارة إبراهيم باشا وتوسط بعض الأعيان.
وما جمع إبراهيم باشا أسلحة المسيحيين الذين لم يقاوموه ولا حاربوه؛ بل قدموا له أسلحتهم وتجندوا متطوعين وبينهم الزحليون حتى رأى مقاومة الدروز والعرب في حوران ووادي التيم وعصيانهم عليه، فاضطر مكرهًا أن يعيد الأسلحة إلى المسيحيين لينجدوه على الدروز الذين أرسل جنوده لمحاربتهم في حوران، فتحصنوا في اللجأ وعاثوا بوادي التيم واضطرب حبل الأمن، فكان ذلك من أهم أسباب العداء بين الطائفتين المسيحية والدرزية، فتوطدت بينهم الشحناء وكثرت النزغات. وكان حرب الأمير بشير الكبير وسعيد بك جنبلاط أول جذوة من هذه النار التي زادت الآن ضرامًا. فذهب المسيحيون متجندين مع العساكر المصرية وحضروا المواقع الكبيرة التي نشبت بينها وبين الدروز في حوران ووادي التيم ولا سيما وادي بكَّة. فأبلى اللبنانيون وبينهم الزحليون وكانت الثورات تتوالى والخصام يزداد اتساعًا وعوامل الحقد تسكن القلوب فتحركها على جرِّ الويل وإهراق الدماء.
ولما حارب إبراهيم باشا الدروز كما مرَّ واعتقل بعض أعيانهم وأرسلهم إلى مصر مثل سعيد بك جنبلاط وملحم بك العماد وملحم بك حمادة وغيرهم ممن التجأ إلى الأستانة؛ أجمع الدروز على مقاومة إبراهيم باشا، وكان قد أرهقهم بأخذ سلاحهم وتجنيدهم مرارًا وأوغرت صدرهم إعادته أربعة آلاف بندقية (بارودة) للمسيحيين؛ بل للموارنة بعد أن كان جمعها منهم، وحسبوا أنه بذلك سيقوِّي المسيحيين عليهم ويضعفهم، فيفتكون بهم فصاروا يثيرون المسيحيين على المصريين. وما صدر أمر الوزير بإرجاع البنادق الأربعة آلاف إلى المسيحيين حتى جاء من أبيه الأمر بجمعها منهم. فتكدَّر أهل دير القمر وغيرهم، وتجمهر اللبنانيون من دروز ومسيحيين، وعصوا بأسلحتهم قاصدين حرب المصريين، وهي الحرب المعروف «بالعامَّية»، إذ اشترك فيها عامَّة المسيحيين والدروز واتفقوا يدًا واحدة على محاربة إبراهيم باشا، وكان ذلك في شهر أيار سنة ١٨٤٠م. فانقسموا أربع فرق (كاشات)، ونصبوا عليهم قائدًا عامًا (سر عسكر) الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن. واشتهر بهذه الحرب يوسف الشنتيري وأبو سمرا غانم من المسيحيين وأحمد داغر الشيعي (المتوالي) من برج البراجنة بظاهر بيروت، وكان قوادهم من الأمراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ الإقطاعيين وغيرهم، وكانت الفرقة (الكاشة) الرابعة قرب زحلة بقيادة الأمير علي بن الأمير أحمد قيدبيه، وانضم إليها الأمير خنجر الحرفوشي برجاله، فسلبوا ذخيرة العسكر المصري الذاهبة إلى صيداء، وجاء عثمان باشا المصري بعساكره إلى المعلقة، وكان زعماء الحركة (العامية) الأمراء الشهابيون واللمعيون ومشايخ الموارنة، وكانت الدولة العثمانية قد أرسلت السر ريتشرد وود الإنكليزي الشهير معتمدًا لطرد المصريين، فأثار ضرام هذه الحرب، وبقيت من منتصف أيار إلى أواخر تموز من سنة ١٨٤٠.
(٧) موقعة شتوره
ومن المواقع التي حدثت في جوار زحلة في أثناء الحرب (العامية) اللبنانية. موقعة «شتوره» التي انقض فيها نحو ستة عشر ألفًا من الجنود المصرية المدرَّبة على ألف ومائتين من اللبنانيين وأصلوهم نارًا حامية، وهجم الهنادي عليهم بالسيوف (الشلفات)، وأعملوا فيهم شفارها الحادَّة. فجندلوا كثيرًا من القتلى. وكان عثمان باشا قائدهم قد نصب المدافع على إحدى التلال المشرفة على شتوره وأمطرهم بقنابلها. فقتل نحو مائة وعشرين وثار ثائر العسكر المصري وتعقبهم وعاث في لبنان.
أما الزحليون فلم يدخلوا في الحرب (العامية)؛ ولذلك لم يحضروا موقعة شتوره؛ لأن الأمير بشير الكبير كان قد أرسل إليهم الشيخ رشيد غالب الدحداح لإقناعهم، وخشوا من فتك إبراهيم باشا المخيم بعساكره بين ظهرانيهم، ومع ذلك فإنهم أغضبوا اللبنانيين المسيحيين والدروز والدولة المصرية. وكان فضول قرقماز من كسروان شيخًا في زحلة من قبل الأمير بعد الشيخ وردان الخازن المار ذكره، فنسب إليه اللبنانيون الخيانة بإقناع الزحليين لعدم الدخول في الحرب (العامية) فقصدوا قتله، ففرَّ إلى «قعفرِّين» فوق زحلة قرب منبع نهرها البردوني فقتلوه هناك.
وهكذا اضطرب حبل الدولة المصرية في سورية، واتفقت دول إنكلترة وروسية وبروسية والنمسة مع الدولة العثمانية بموجب معاهدة «لندن» بتاريخ ١٥ تموز سنة ١٨٤٠ على طرد الحكومة المصرية من سورية. وكان إبراهيم باشا المصري قد اقتصر على امتلاك ولايتي سورية وأطنة وتنظيمهما، فأرسلت الدول المارة الذكر أسطولًا من بوارج إنكليزية ونمسوية بقيادة روبرت ستبفرد والسر شارل سمث، فحضرا وأرسلا الكومودور السرنابيه إلى بيروت، وكان محمولها نحو عشرة آلاف مقاتل من العثمانيين والإنكليز، فضربوا بيروت في ١١ أيلول سنة ١٨٤٠م، وفرَّ سليمان باشا الفرنسي قائد العساكر المصرية إلى زحلة وضربت الأساطيل عكاء، وذهب نابيه إلى مصر وعقد مع محمد علي باشا والد إبراهيم باشا اتفاقًا بتاريخ ٢٧ تشرين الثاني سنة ١٨٤٠ يصرِّح له أن تكون خديوية مصر وراثية لأسرته. وكان إبراهيم باشا المصري قد قدم من مرعش إلى زحلة واستقدم إليه الأمير بشيرًا الكبير وتفاوضا مليًّا، وخيَّم العسكر المصري في المعلقة وصار يتراجع إليها القواد بما بقي من جنودهم مدحورين، مثل عثمان باشا قائد حملة كسروان الذي حارب سكانه خمسة وعشرين يومًا، فاندحر في موقعة وطا الجوز واستظهر عليه الكسروانيون، وسليمان باشا عاد من الحازمية مدحورًا من أمام أساطيل الدول المتفقة المشار إليها. وانضم إليهم عسكر طرابلس الشام والجهات الأخرى فصارت زحلة محل سكنات هذا الجيش الجرار بعد أن كانت محل حركاته في أول مواقعه.
وإذ ذاك كان محمد علي قد أرسل يستقدم إليه ولده إبراهيم باشا من سورية، فبرح زحلة يوم السبت في ٩ تشرين الثاني سنة ١٨٤٠ إلى دمشق، وسار منها على طريق غزة بعد أن هدم الحصون والمعاقل. وعُرض على الأمير بشير الكبير أن يسلم، فاستمهل أيامًا اعتذر في آخرها أنه لا يستطيع أن يغضب عليه إبراهيم باشا؛ لأن أولاده وأنسباءه يحاربون مع جيشه فيفتك الوزير بهم انتقامًا منه إذا انحاز ضده. ولذلك استسلم إلى الأمير الإنكليزي وبعد ثلاثة أشهر أُخرج من سورية بأسرته ومدبريه وبعض أنسبائه فكانت نهاية حكمه في تلك السنة وإخراج الدولة المصرية من سورية أيضًا.
فهذه كانت أهم ذرائع التنافر والتنابذ والمناوأة بين طائفتي المسيحيين والدروز المتجاورتين المتحابتين، وكأن البلاد أَلفت التعصب فتوالى عليها من العصبيات القيسية واليمنية، واليزبكية والجنبلاطية، والمعلوفية والمكارمية، والزحلية والقنطارية. ثم بدأت العصبية المسيحية والدرزية فكانت الأخيرة أشر من الأولى وتحفز الدروز للتنكيل بالمسيحيين، ولا سيما سكان زحلة ودير القمر الذين أوغروا صدورهم ببسالتهم ونفوذ كلمتهم لدى إبراهيم باشا والأمير بشير ولمعاضدتهم إياهما.
(٨) مشيخة زحلة الأولى
كان الأمراء اللمعيون أيام تسلطهم على زحلة يتولون إدارة شئون سكانها ويفضون مشاكلهم، إما بذاتهم أو بواسطة دهاقينهم (خوليتهم) وخاصتهم. ثم استبد بهم القنطاريون فكانوا يأتمرون بأمرهم مدة إلى أن قيض لهم الظفر في موقعة المزة، وكانوا في مقدمة جيش الأمير بشير الشهابي الكبير. وفاتنا هناك أن نذكر أنهم ساروا بقيادة يوسف الحاج شاهين الأرثوذكسي وابن عمه أنطون فلما وزع الأمير السلاح على عسكره جميعه، وبقي الزحليون فقط أراد إعطاءهم السلاح، فمنعهم قائدهم المذكور عن أخذه وتلكأ برجاله عن القتال حتى عندما ضعف عسكر الأمير، وكاد يتقهقر تقدم يوسف برجاله البواسل ودحروا العدو، وكان يوسف السكاف والحاج نصر من حملة الأعلام اللبنانية فتقدما حتى القلعة، وكان فيها عسكر فوضعا سلمًا على سطحها وصعد يوسف السكاف عليه، ونصب علمه فوقها فكان النصر للزحليين باهرًا. فقال الأمير ليوسف: لماذا تأخرت بهجومك برجالك الأشداء، فأجابه: إنَّ تأخر توزيع الأسلحة عليهم أخَّر هجومهم. فأحبه الأمير كثيرًا، ورأى فيه بسالة وسداد رأي، فكان يعتمد عليه منذ ذلك الحين بعد أن كان عرفه عند وجود عبود البحري الخطاط في بيته أيام فراره من وزير دمشق.
فهذا كان بدء مشيخة الزحليين ففوض إليه حل المشاكل، وكان يستشيره بكثير من شئون زحلة وبلاد بعلبك ويعتمد على رأيه فنفذت لديه كلمته، وكان يوسف متزوجًا بشقيقة إبراهيم مسلَّم الكاثوليكي، فنال ابن حميه منزلة لدى الأمير وقلدهما مشيخة زحلة، فاتفقا طول حياتهما على رفع شأنها وحرراها من ظلم القنطاريين.
وفي حرب سانور كان أنطون الحاج شاهين ابن عم يوسف هذا قائد الحملة الزحلية والمتنية مع ابنه إبراهيم، فعادا بعسكرهما ظافرين فمضت مدة على مشيخة زحلة بزمن الأمير بشير الكبير، وفي عهد إبراهيم باشا المصري حتى كانت زحلة أشبه بجمهورية صغيرة يحكمها شيوخ ينصبهم الحاكم بإرادة الشعب.
ولما كان أنطون الحاج شاهين مدبر (كتخدا أو كاخية) الأمير أمين الحرفوشي وُشي عليه مرة إلى الأمير بشير الكبير، فذهب مع ابن عمه يوسف إلى بيت الدين لمقابلته حسب أمره، فامتنع الأمير عن مقابلتهما خشية أن يقنعه يوسف فيعفو عن أنطون الذي أمر بسجنه وإرساله إلى عكاء، وبعد ثلاث سنوات مرض أنطون فيها فأرسل الزحليون الطبيب ترانوبي من أطباء إبراهيم باشا المصري لتطبيبه وقيل: إنه سممه فتوفي نحو سنة ١٨٣٦م، فاشتد حزن يوسف عليه وتوفي بعده بنحو سنتين؛ أي نحو سنة ١٨٣٨م، وكان داهية في رأيه قويَّ الحجة كريمًا باسلًا مثل أنطون. أما إبراهيم مسلَّم فبقي نافذ الكلمة إلى أن توفي يوم الأحد في الرابع من أيار سنة ١٨٤١ قبل موقعة العريان وكان حصيفًا شجاعًا جوادًا، ولما اختلف الوكلاءُ في زحلة عند إنشاء بيت المكس (الكمرك)، وفشا التحزب بين سكانها أرسل الأمير بشير الكبير شيخًا على زحلة الشيخ وردان الخازن. ثم فضول قوقز من قرقماز في كسروان، وهذا قتله الأمير بشير قاسم في أثناء الحرب العامية عند إخراج الدولة المصرية. ثم خلفه مدة يوسف عدبا أحد رجال فضول المذكور فهذه حالة زحلة في سنواتها الأربعين الأولى من القرن التاسع عشر.
وكان للشيوخ حق الحبس والحكم بالدعاوى على اختلافها وجمع الجنود للمحاربة والفعلة لحفر المعادن والمكارين للتسخير فضلًا عن جباية الخراج والضرائب، وكان تحت يدهم بكباشية (بلوكباشية) من وطنيين وغيرهم ورجال للتحصيل وتبليغ الأوامر يسمون «حواليه»، كانوا ينزلون على المطلوبين فلا يبرحونهم حتى ينالوا منهم مطاليبهم المأمورين بها والواحد منهم يسمى «حوالي». وإلى الآن يضرب المثل بالحوالية وتثقيلهم على الناس.
(٩) موقعة عالية وبعبدا
ولما خرج إبراهيم باشا المصري من سورية سنة ١٨٤٠ وأبعد الأمير بشير الكبير إلى مالطة ولقِّب بالمالطي، ثم إلى الأستانة نُصِّب الأمير بشير قاسم الشهابي الملقب بأبي طحين حاكمًا على لبنان بموجب تقليد (فرمان) سلطاني سلَّمه إياه أمير البحر الإنكليزي السر ستبفرد. وكان الساعي بذلك السر رتشرد وود الذي جاء سورية للسعي بإخراج الدولة المصرية. وفي هذه الأثناء نُصب قنصلًا عامًّا لدولته الإنكليزية في دمشق وبقي يشارف أعمال لبنان.
ولما تولى الأمير بشير قاسم سار إلى بعبدا، ومنها إلى بيت الدين واتخذ مستشارًا له الأمير محمودًا سلمان الشهابي من وادي شحرور وقرب إليه كثيرًا من أنسبائه الشهابيين، وخالف عادة الحكام من أيام فخر الدين المعني الشهير؛ أي منذ قرنين ونصف، إذ كانوا يتخذون مدبريهم وأعوانهم من اللبنانيين، فاتخذ هو فرنسيس مسك من بيروت مدبرًا وأعاد الإقطاعيين من مسيحيين ودروز إلى قطائعهم، ولكنه لم يكن ليحترمهم كثيرًا فرأى الدروز منه تغيرًا عليهم، ولا سيما بعد عودة مشايخهم من منفاهم في سنار وغيرها، وهم موغرو الصدور على الأمراء الشهابيين والمسيحيين. ثم رأى الدروز أنَّ النصارى الذين في قطائعهم متغيرون عليهم، ولا سيما في عاداتهم القديمة بالانقياد التام إليهم، فأوجسوا من ذلك خوفًا وأضمروا لهم السوء، على أنَّ الأمير الحاكم لم يكن ليبالي بذلك، ولا سعى برقع الخرق قبل اتساعه؛ فسرت روح التحاسد والتضاغن بين المسيحيين والدروز ونمت بمساعي المفسدين نموَّ الجراثيم (المكروبات) في المستنقعات، وتحولت الأحزاب دينية بحتة بعد أن كانت سياسية مدنية منذ القديم، وجاشت صدور الفريقين بالحقد للانتقام.
وفي أول تموز سنة ١٨٤١م حدث خلاف بين بعض سكان دير القمر من بني البستاني وبين بعض سكان بعقلين على صيد حجل، فدخل الديريون بعقلين ثم جاء الدروز الدير وحاصروها في أوائل أيلول. وفي الثالث منه جاء زحلة رسول من دير القمر يستصرخ سكانها لمعاضدة إخوانهم الديريين المحاصرين، فأرسل الزحليون من فورهم رسلًا مسلحين إلى أسقفهم المطران باسيليوس شاهيات المار ذكره؛ لأنه لم يكن أسقف غيره لبقية الطوائف يقيم في زحلة، وكان هذا في طوافه على الرعية مع الشماس فيلبس النمير، فاستقدم من بر إلياس فوصل زحلة في الرابع من أيلول، وعقد جلسة اجتمع فيها شيوخ البلدة وزعماؤها وأقروا على مفاوضة السيد يوسف حبيش بطريرك الطائفة المارونية، وعاد المطران باسيليوس إلى طوافه متوقعًا الجواب. ففي الثامن من أيلول أرسل إليه الزحليون مخول الجبلي، فعاد مع شماسه المذكور من قب إلياس وبعد المداولة جهز الزحليون نحو خمسمائة فارس وألف راجل ليسيروا إلى دير القمر، ولكنهم علموا أنَّ الدروز واقفون لهم بالمرصاد وقاطعون عن الدير كل طريق، فتغير رأيهم هذا يوم الخميس في الثاني من تشرين الأول، واستبدل بإرسال نحو خمسمائة مقاتل في ذلك اليوم من نخبة أعيانهم، مثل عبد الله أبي خاطر وابن عمه حنا وبطرس أبي ضاهر المعلوف ونسيبه مراد وهبه قيامة وعساف مسلَّم وابن عمه ناصيف وأبي عساف جرجس الحاج شاهين وابن عمه إبراهيم بن أنطون ومخول غره وخليل حجي وناصيف جدعون وأبي شبل ناصيف أبي عقل. وكان حملة الإعلام الزحلية أبو لولو خليل الجريجيري وعبد النور الششم وأبو عيطا النمير ويوسف بشارة الخياط، وكان بين هذا المعسكر بعض نصارى العرقوب الذين التجأوا إلى زحلة، فساروا على طريق المريجات إلى أن وصلوا تجاه عالية في محلة (النقَّارات)، فالتقاهم نحو ألف من الدروز بقيادة الشيخ حسن تلحوق والشيخ يوسف شبلي عبد الملك. فتقابلا وتحاربا يوم السبت في الرابع من تشرين الأول. فثبت الزحليون في مواقف القتال وفرسانهم المذكورون يحمونهم إلى أن تمكنوا من إبعاد الدروز عن الطريق بعد أن قتلوا منهم نحو خمسة وعشرين رجلًا، ولم يقتل من الزحليين إلا أربعة أحدهم إلياس الدويليبي.
فسار الزحليون إلى بعبدا؛ حيث كان العسكر اللبناني مقيمًا هناك، وعدده نحو عشرة آلاف مقاتل مع قواده الأبطال، مثل الأمراء ملحم حيدر، وسلمان سيد أحمد، وأخيه فارس من الشهابيين، وحيدر إسماعيل من بكفيا، وأسعد فارس من بسكنتا، وبشير أحمد وعلي منصور من برمانا من اللمعيين، والمشايخ كنعان بان وكسروان من الخازنين وخليل حمزة من الحبشيين. فانضم إليهم الزحليون واجتمع كبارهم بكبار اللبنانيين يديرون حركة عساكرهم، ويتداولون بالشئون الحاضرة. فعقدوا جلسات متتابعة تباحثوا فيها في إنقاذ دير القمر من الحصار، فقرروا أن ينتخب ثلاثة آلاف مقاتل وقائدهم (عقيدهم) الأميران قيس ملحم الشهابي وسلطان الطرودي من آل فارس اللمعيين من بسكنتا والشيخ نقولا الخازن من كسروان وبشاره طربيه من تنورين، فزحفوا من بعبدا إلى عبيه. وكان سكان الشويفات، قد تعاهدوا من مسيحيين ودروز أن لا يدخلوا في هذه الحرب؛ بل يكونون على حيادة. فهاجم العسكر اللبناني الشويفات والتقاهم سكانها بقوة عظيمة وثبات غريب، فأحادوهم عن الطريق ثم سار شبلي المعلوف بأنسبائه الكفر عقابيين وكثير من الزحليين، يرافقهم الأمير شديد عبد الله مراد اللمعي ويوسف الشنتيري من بكفيا وجميعهم نحو مائة وخمسين مقاتلًا، حتى اجتازوا نهر الغدير بين بعبدا وكفر شيما، فالتقوا بالدروز فحمي وطيس القتال بينهم، فثبت المسيحيون ثبوت الأبطال وأبدى شبلي في ذلك اليوم من البسالة ما يتناقله الشيوخ إلى يومنا، وبقوا إلى عصر ذلك النهار وأزاحوا الدروز عن مركزهم إلى بسابا. ولما كلُّوا أرسلوا الأمير عبد الله اللمعي إلى نسيبه الأمير حيدر إسماعيل قيدبيه لينجدهم، وما بعد عنهم حتى وصل بطرس بك كرم الأهدني بخمس مائة مقاتل إلى بئر الوروار حيث كان عسكر الدروز واقفًا بقيادة خطار بك العماد، فانضم إليهم عسكر بعبدا والتقى الصفان وتطاحنا، فكانت ساعة بيعت فيها الأرواح وزُهِقَتِ النفوس، وثبت المسيحيون في مواقفهم وأصلوا الدروز نارًا حامية، وما آذنت الشمس بالغروب حتى أشرقت شمس انتصار المسيحيين ودحروا خصومهم بعد أن قُتل كثير من الفريقين.
وذهب نحو خمسين مقاتلًا من زحلة ونابيه «المتن» وغزير (كسروان) بقيادة حنا أبي خطار الزحلي، فوصلوا إلى برج خلدة تحت الصحراء، وكان خطار بك العماد قد أرسل ثلاثمائة مقاتل من الدروز إلى صحراء الشويفات، فكمنوا بين أشجار الزيتون الغبياء، فأطلقوا الرصاص من مكامنهم على هذه الشرذمة، فجندلوها قتلى على الحضيض وهي لا تعلم من أين ينصبُّ عليها الرصاص تباعًا. أما قائدها حنا أبو خاطر فأبدى بسالة غريبة، ولما طارده الفرسان همز جواده إلى جهة البحر في محلة الأوزاعي، وأنزل حصانه فيه فسبح إلى أن ابتعد عنه الدروز، فخرج إلى البر ولحق عسكر عبيه بين الناعمة وبعورته المطلة على البحر، فأدركهم وهم ينتظرونه لما قابلوه من بعيد، فرأوه مخضبًا بالدم هو وجواده وقصَّ عليهم ما جرى له، فحمدوا الله على سلامته وأثنوا على بسالته. ثم وصل إلى العسكر عبد الله قادري من زحلة عريانًا، وقد أفلت من بين أيدي الدروز الذين خلعوا عنه ثيابه وأرادوا ذبحه، فساعده أحدهم على الفرار. ثم أخبرهم أنه لم يبقَ أحد غيره من تلك الشرذمة التي كان يقودها حنا أبو خاطر.
وبينما هذا العسكر سائر رأى طلائع الدروز في بيصور فزحف عليها وأحرقها دحر الدروز، فقتل الشيخ بشارة طربيه من تنورين. ثم رجعوا جميعهم إلى عبيه فلبثوا فيها ثمانية أيام لم يتمكنوا في خلالها من الوصول إلى الدير؛ لانتشار عساكر الدروز في كل المعابر والمضايق والطرق، فعادوا إلى بعبدا وتفرق شمل بعضهم.
وما زالت المناوشات تتوالى والنصر يتراوح بين الفريقين حتى تغلب الدروز على المسيحيين لانقسام كلمتهم، فإنهم كانوا حزبين؛ أحدهما يريد إثارة القلاقل وتكدير صفاء الأمن لاستعادة الأمير بشير الكبير حاكمًا، وفريق يميل إلى تأييد الأمير بشير قاسم في ولايته. والدروز متفقون قلبًا وقالبًا على عدم قبولهم بحكم الأمراء الشهابيين ومنحازون إلى إسناد الولاية إلى حاكم غريب غير مسيحي، وعمت المواقع ساحل بيروت والغرب والشحار ودير القمر والمتن. ثم أخمدت نيران الفتنة بإخراج الأمير بشير قاسم من بيت الدين بواسطة أيوب باشا قائد العسكر العثماني والجنرال روز والسيد عبد الفتاح «فتيحه» حمادة الذي تولى وكالة الحكم.
وفي تلك الأثناء نقل مقر الولاية من عكاء إلى بيروت بأمر سلطاني، فسلخت هذه عن أيالة صيداء وتبعت دمشق رأسًا وعزل زكريا باشا الذي خلف عزت باشا، ونصب عوضه سليم باشا وكان هذا رئيس العسكر (سر عسكر).
(١٠) موقعة العريان
ويوم الأربعاء في ٢٩ تشرين الأول ذهبت طليعة إلى تل شيحا تستشرف الدروز، فرأى أحدها محمد سويدان من بدنايل أشباحًا كثيرة، فأسرع إلى الأمير خنجر مذعورًا وهو يقول له: «يا مولاي الدروز مثل الضباب وقد ملئوا السهل بالخيل والرجل.» فركب الأمير برجاله إلى أن وصل إلى باب السوق فلاقاه أحدهم، وقال له: إنَّ ما رآه محمد سويدان هو عجَّال (مواشي) بر إلياس فانثنى الأمير على محمد وأطلق عليه بندقيته، فوقع مضرَّجًا بدمه وتكدَّر وأراد الانصراف من زحلة، فطيَّب أعيانها خاطره وأحضروا له النارجيلة؛ لأنه كان مولعًا بها فسُرِّي عنه.
وكانت بعض فرق الدروز قد دخلت البلد عندما انكسر الحرفوشيون وأخلوا نقطة محافظتهم قصد النهب، فانسحبت بعض نقط زحلة لسد الخرق، فتفرَّقت قواتهم وطمع الدروز، فدخلت شراذم منهم من جهة حوش الزراعنة، فحرقت حارة في بستان عبد الله أبي خاطر الباقي إلى الآن قرب الخان وتقدمت نحو زحلة، فهجم أبو جرجس إلياس رابية الزحلي مع شرذمة، وقتل حامل علم الدروز قرب محل الحمام الآن، وهجم الزحليون عليهم فأعادوهم على أعقابهم. وكانت شرذمة من الدروز قد دخلت البلد من جهة بيت أبي راجي المعلوف، فأحرقت بيت العزر (قرب دير اليسوعيين الآن)، فردَّها الزحليون ناكصة على الأعقاب. وهكذا فعلوا من جميع الجهات التي دخل فيها الدروز البلدة، ورموا كثيرًا من أشلاء القتلى. ولم يقتل في الموقعة الثانية إلا أربعة من زحلة منهم خليل الحاج نقولا، وابن منصور بالش، وعبد الله بن يوسف إبراهيم، وابن الزنكي. وجرح اثنان أحدهما إبراهيم أبو طقة مات بعد أيام، أما من المعلقة فقتل ثلاثة عشر نفرًا؛ لإخلاء الحرفوشيين نقطة المحافظة فيها كما مرَّ.
فتأثر الزحليون الدروز الذين تفرقوا طرائق لا يلوون على شيء، فقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقيل أكثر من ذلك وجرح ثماني مائة، فبقي الزحليون يطاردونهم ويعملون الأسلحة في أقفيتهم إلى قرب بر إلياس وبعضهم لحقهم إلى جديتا وغيرها. ولولا أنَّ الزحليين أوجسوا خيفةً من أنَّ متابعة مطاردتهم ربما تفضي بهم إلى حيث تكثر عليهم النجدات، وخافوا من أن يكون ذلك خدعة لهم لأخرجوهم من البقاع، ففر الدروز إلى وادي التيم مذعورين ومنكلين بمن رأوه في طريقهم من المسيحيين، وكانوا يسلبون من النصارى الذين حضروا معهم هذه الموقعة ما يعجبهم من السلاح والخيل، وبات العريان جريحًا في قرية ظهر الأحمر.
ثم عاد الزحليون ورءوس القتلى على رماح كثير من أبطالهم، ودخلوا البلدة فائزين واحتفلوا بنصرهم بقصف وسرور، وكانوا يعيدون لهذا اليوم الانتصاري في كل سنة حتى سنة الستين. وتناقل الناس نبأ هذه الموقعة وانتصار الزحليين فيها على قلتهم وكثرة الدروز. فلما نمي خبرها إلى إبراهيم باشا المصري قال: «عفارم أولادي، سباع الوادي، لقد شهدت مواقعهم في سورية، وعرفت حميتهم الحربية.»
وفي أثناء هذه الموقعة كان سليم باشا قد خلف زكريا باشا في ولاية بيروت، فلما بلغه خبر محاربة الدروز للزحليين أرسل خمسمائة جندي نظامي ومدفعين بقيادة رشيد باشا لمحافظة زحلة، فبقي القائد على الطريق نحو أربعة أيام متنقلًا بين حمانا والمتين مع أنَّ البعد بين بيروت وزحلة ليس بأكثر من سبع ساعات، فوصلوا زحلة وقد خمدت نار القتال فارتعد عسكره من رؤية جثث القتلى، ونزلوا في المعلقة وتهدد الزحليين وطلب جمع سلاحهم، وبعد أيام عاد رشيد باشا إلى بيروت وأبقى العسكر مع مصطفى باشا للمحافظة؛ لأن العريان كان يريد أن يهاجم زحلة ثالثة، فلم يلبِّ أحدٌ استصراخه لما ناله من الفشل في هذه الموقعة التي ذاع فيها صيت الزحليين، وعرفوا باجتماع الكلمة والتعاضد والعمل بقول الشاعر:
وكان لهم بموقعة بعبدا التي سبقت عبرة وعظة؛ لأنهم خرجوا من البلدة غير متفقي الكلمة فعادوا بخسارة عظيمة من القتلى.
وممن اشتهر في موقعة العريان الأميران خنجر ويوسف ابن الأمير حمد الحرفوشيان وأنسباؤهما، وإلياس هاشم، وشبلي المعلوف من شليفه، وظاهر أبو يعقوب المعلوف من سرعين، وسليمان الحاج سليمان من بدنايل، والحاج علي فرحات من بيت شامة، ومحمد علي حمية نزيل زحلة، وابن عمه حسن حمية من طاريا من عسكر بعلبك، وعبد الله أبو خاطر، وحنا أبو خاطر، وأبو عجاج يوسف أبو خاطر، والخوري بطرس القطيني المعلوف، والخوري حنا رزق الله المعلولي، وإبراهيم أنطون الحاج شاهين، ونسيبه أبو عساف جرجس، وأبو قبلان لحود ثابت البحمدوني مدبر الأمير سلمان الحرفوشي، وعساف مسلم وأخوته، وأبو محمود هيكل مسلم، وناصيف جرجس مسلم، وأبو العماش موسى البحنسي، ومخول غره، وفارس هلال ووالده خليل، وأبو فارس خليل حجي الذي لقب بحامية سيدة الزلزلة، وأبو ناصيف إلياس دموس وأخوه عبد الله وابن عمه يوسف، وخليل موسى الصدي وأخوه رحال، وأبو عبيد البريدي وأخواه إلياس، ومخول ويوسف وفارس الراعي، ومتري إليان، وجرجس الخياط، ورحال المكوي، وفارس طعمة السكاف، ويوسف شمعون، وعبد الله الدويليبي، ويوسف وشاهين مبارك، وإبراهيم أبو طقة، وبطرس نجم أبو ظاهر المعلوف الملقب بحامي سيدة النجاة وأنسباؤه مراد وهبه قيامه، وعبد الله جبور، وجرجس طرزا، وإلياس أبو هرموش، وحنا جدعون، وأبو شديد عقل، والحاج متى وولده يوسف، وطنوس نقولا وأخوه زهران، وفارس الحريك وغيرهم ممن لم تتصل بنا أسماؤهم.
أما القائد فأمر أهل زحلة أن يهدموا الشُّوَن (الحصون) من حول بلدتهم، فالتمسوا منه إبقاءها وقايةً لهم، فأجابهم أنَّ الدولة تقيهم لا الحصون وهدم كل ما بنوه، وكان يضيق عليهم كأنه خصمهم. وأما الأمير أسعد قعدان، فنهض من بكفيا إلى زحلة بأربعمائة رجل، ولما أقبل على البلدة التقته الوجوه والتمسوا منه أن يدخل بجماعته سرًّا خوفًا من مخالفة أمر الباشا قائد العسكر المقيم عندهم، فأجاب الأمير سؤلهم ودخل بمن معه مساءً، وبلغ الباشا ذلك، فأمر برجوع الأمير أسعد وجماعته إلى أوطانهم، فأبقى الأمير أسعد جماعته في البلد سرًّا وأخذ رجالًا من زحلة عوضهم مظهرًا أنهم جماعته الذين دخلوا معه وصحبته الشيخ غندور (السعد)، وأبو سمرا (غانم) وظل سائرًا إلى كسروان. وجاء مثل ذلك في تأريخ أبي سمرا غانم صفحة ١١٥، وأما كتاب «نكبات الشام» فإنه أخطأ في وصف هذه الموقعة في صفحة ٩٥ وفي ما وضع عليه من الاستدركات صفحة ١٢ والصحيح الممحَّص ما رويناه في هذا التأريخ فليعتمد عليه الناقلون والمطالعون والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
أما تفصيل هذه الحادثة فهو أنه كان مصطفى نوري باشا قائد العسكر (سر عسكر ويسميه العامة ساري عسكر). قد جاء بيروت في ٢٤ ك١ سنة ١٨٤١ ومعه عمر باشا النمسوي مع ألف وخمسمائة جندي نظامي، وفي ١٥ ك٢ سنة ١٨٤٢ استقدم إليه أعيان المسيحيين والدروز من جميع الطوائف والجهات، وقرأ عليهم التقليد (الفرمان) المؤذن بتعيين عمر باشا حاكمًا للبنان، فاجتمع في مجلسه الأمير حيدر إسماعيل اللمعي وأميران مسيحيان، فأهدى إلى كل منهم شالًا من الكشمير النفيس ومسعطًا (علبة عطوس) مرصعة بالألماس، وخلع على كل من المشايخ الخازنيين والحبيشيين والدحداحيين، وحنا الإسطنبولي وكيل وممثل بطريرك الموارنة، والسيد طوبيا عون الماروني أسقف بيروت، والسيد باسيليوس شاهيات أسقف زحلة، والسيد أغابيوس الرياشي أسقف بيروت ولبنان الكاثوليكيين، والسيد بنيامين أسقف بيروت الأرثوذكسي، وأعيان زحلة ولبنان، وأربعة مشايخ من الدروز عباءة من الجوخ القرمزي مطرزة بالقصب وعادوا إلى مواطنهم.
فلم يطل العهد على حكم عمر باشا حتى ثار الدروز عليه، فقبض على بعض شيوخهم وسجنهم في بيروت، واستحر بينهم وبينه القتال فتكدر من ذلك مصطفى باشا؛ لأنه كان يميل إلى الدروز بخلاف عمر باشا، فإنه كان يميل إلى المسيحيين. وكان مصطفى باشا قد أساء الظن ببعض أعيان زحلة، فأرسل ترجمانه جبران العوراء إليهم يوم الخميس في ٢٤ أيار سنة ١٨٤٢، ففاوض الأهلين وحرضهم على نبذ ما كان بينهم من الخلاف ثم عاد إلى الوزير.
(١١) زحلة قاعدة إقليم الشوف البياضي
وكانت مرتبات قضاء زحلة بعد تنظيمات شكيب أفندي ١٤٣٥٠ غرشًا المال الأميري و٦١٣٠ الإعانة الجهادية و٥٣١٠ إعانة جهادية المعلقة والمجموع ٢٥٧٩٠ غرشًا.
فأرسل الأمير حيدر قائم مقام النصارى ثلاثة وكلاء من قبله لإدارة شئون زحلة عوض المشايخ الوطنيين، وهم حنا زلزل الكاثوليكي من بكفية وخليل قرطاس الأرثوذكسي من بسكنته وجرجس الحاج نصار الماروني من بكفية أيضًا، وكلهم من قضاء المتن ومقاطعة الأمراء اللمعيين، فكانوا يفصلون الدعاوى ويفضون المشاكل.
وذاعت زحلة شهرةً بعد حرب العريان وفي زمن الأمير حيدر إسماعيل اللمعي؛ لأن كثيرًا من أسرها كانت من عهدته. فقدم إلى زحلة كثير وتديروها واتسعت أبنيتها وأسواقها، وامتدت تجارتها في الأغنام والغلال والصوف، وكان يرد إليها من الأغنام نحو مائة ألف خروف مما يجلبه التجار المواطنون أو الأكراد الغرباء ومعظمها يرسل إلى السواحل، واتسعت تجارتها أيضًا مع مدينة بيروت التي صارت إذ ذاك «ميناء سورية» ومستودع بضائع أوروبة، واقتنى سكان زحلة كثيرًا من القرى والأملاك في بلاد بعلبك والبقاع، فكثر عمرانها وصارت تعرف بقاعدة إقليم الشوف البياضي. وكانت الراحة مستتبة بزمن أسعد باشا والأمير حيدر إسماعيل لاعتدالهما في مشربيهما وموازنتهما بين الحزبين.
ويوم الثلاثاء في ١٥ آب سنة ١٨٤٤م سار السيد باسيليوس شاهيات مع عشرين من وجوه زحلة إلى بيروت، وقابلوا أسعد باشا والي صيداء وبيروت وعادوا بعد سبعة أيام نائلين التفاته.
(١٢) موقعة كفر سلوان وقرنايل
انقطع الزحليون بعد موقعة العريان إلى أشغالهم وتجارتهم وإدارة أملاكهم وتوفير ثروتهم، فطمع بهم الدروز الذين كانوا ينتهزون الفرصة للاستثار منهم. وما ركدت زعازع الفتن الداخلية في لبنان بضع سنوات حتى كانت سنة ١٨٤٥م، فعادت القلاقل والتحزبات بين الدروز والمسيحيين وتحركت دفائن الضغائن وعوامل الأحقاد، فأخذ كل من الفريقين يستعد للقتال، ولا سيما على أثر تولية وجيهي باشا عوض أسعد باشا في أيالة صيداء وبيروت، فصار هذا يشد أزر الدروز لميله الخاص إليهم ويتحامل على النصارى، فزاد ذلك في طنبور التحزب نغمةً جديدة، فكثرت الاختلافات بين الفريقين في قائميتي المقام لاختلاطهما في أكثر القرى، ولعدم إمكان فصل بعضهم عن بعض ليتباعدا.
ولما حمي وطيس الحرب بين الطائفتين في قضائي الشوف والمتن يوم الأربعاء في ١٨ نيسان سنة ١٨٤٥م، تأهب الزحليون لنصرة المتنيين خشية أن يتطرق الدروز إلى بلدتهم المتصلة بالمتن إذا فازوا بالحرب، فنووا أن يوقفوهم عن التغلب على صرود (جرود) المتن فوق زحلة فيتخلصوا من مهاجمتهم، ولسوء الحظ كانت زحلة إذ ذاك قد تشتت كلمتها وفرَّق الطمع وحب الرئاسة بين أعيانها على حد قول الشاعر:
ويوم السبت في ٢١ منه دخلت فئة من الزحليين الراسيين كفر سلوان وأحرقوها وتقدموا إلى قرنايل (المسماة سكَّرة المتن أي مفتاحه)، فلاقاهم الدروز في الطريق وجرت بينهم موقعة رجع فيها الزحليون متقهقرين وفقد منهم ستة أنفار وذلك؛ لأنهم ثملوا بخمرة النصر وانصرفوا إلى اقتسام الأسلاب. والفئة الثانية من الزحليين؛ أي البعلبكية تقدمت إلى جهة المتن وملكت منها جوار الحوز وبزبدين، ودخلت بتخنيه قرع السيف وأحرقوا بعض تلك القرى التي استولوا عليها، فتجمع الدروز عليهم، وردوهم إلى الوراء وفقد منهم بهذه الموقعة عشرة أنفار وخسر الدروز كثيرًا منهم في الموقعتين، وكان الدروز قد استصرخوا بعسكر الدولة، فعزم الوزير وجيهي باشا على النهوض إلى المتن لمنع الحرب وكتب إلى مناصب البلاد من الطائفتين ليستقدمهم إليه إلى خان الحصين فوق بحمدون للمذاكرة بما يوقف تيار الثورة ويخمد نار الفتنة، فوصل الوزير المديرج، وكان قد أرسل ثلاثمائة من عسكره إلى قرنايل بقيادة خورشيد باشا، فمنعوا الزحليين وعسكر النصارى عن الهجوم على الدروز، وأرسل فئة أخرى إلى عين دارة وقب إلياس للضرب على أيدي النصارى.
فاجتمع إليه كثير من أعيان البلاد بينهم وفد من زحلة في المديرج، فأشار عليهم بإيقاف القتال وتفريق الرجال، فاستأذن خليل حجي وتكلم أمامه بجرأة قائلًا: يا مولاي يعيش راسك إنَّ النصارى لا ينفضون حتى يفرَّق شمل الدروز ويعودوا إلى مواطنهم لنكون في مأمن من مهاجمتهم. وصادق على قوله أعيان معظم الوفود المسيحية؛ فلذلك لم يستطع الوزير إخماد نار الفتنة لعدم انقياد زعماء الطائفتين إليه.
ولما اجتمع الزحليون في بلدتهم وأوجسوا خيفةً من هذا الفشل وعلموا أنَّ سببه إنما هو انقسامهم، جمعوا كلمتهم واتفقوا قلبًا وقالبًا وأقسموا الأيمان المغلظة أنهم يكونون جميعهم في المدافعة يدًا واحدة وقلبًا واحدًا وينبذون التضاغن والتحاسد ظهريًّا، متواثقين متعاهدين على الدفاع عن حوزتهم بكل قواهم، وذلك بحضرة المطران باسيليوس شاهيات فباركهم، فاجتمع أكثر من ألف وخمسمائة مقاتل وقيل نحو ألفين وخمسمائة، ومعهم بعض الذين كانوا قد التجأوا إلى زحلة من البقاع والعرقوب في الشوف.
فزحفوا يوم الخميس في ٢٦ نيسان المذكور وجميعهم بقيادة عبد الله أبي خاطر المشهور بدربته وحنكته، فخيم عسكر الزحليين في حمى كفر سلوان والدروز اجتمعوا في قرنايل، فتربص الزحليون متوقعين هجوم الدروز عليهم فلم يفعلوا. وفي صباح اليوم التالي (السبت) في ٢٧ منه اختلف عبد الله أبو خاطر وعساف مسلم على خطة الهجوم، فالأول أحبَّ التريث والتمهل والثاني مال إلى الهجوم، ولما رأى أبو خاطر أنَّ المقاتلين يودون الهجوم أرسل أولًا العراقبة (سكان العرقوب) بقيادة إبراهيم الطحان من دير القمر والبكافنة (سكان بكفيه) الذين كانوا قد انضموا إلى الزحليين بقيادة يوسف الشنتيري، فهجموا على قرنايل من جهتين متخالفتين فدحرهم الدروز ولم يستطيعوا دخول القرية لحصانتها وكثرة الدروز.
ولما رأى القائد العام عبد الله أبو خاطر ذلك، وكان عساف مسلم قد تقدم بنحو خمسين مقاتلًا لنجدة النصارى اخترط هو سيفه، وسار أمام الزحليين الذين نظمهم صفوفًا على خط مستطيل، وأشار إليهم أن لا يطلق الواحد منهم إلا رصاصة واحدة من بندقيته، وهكذا كان فاستمروا في هجومهم هذا وهو أمامهم إلى أن دخلوا قرنايل وأخرجوا الدروز منها، وقتلوا نحو ثلاثمائة بينهم ضابطان من عسكر خورشيد باشا قيل قتلهم الدروز، وقيل الزحليون لأنهم دخلوا بين المتقاتلين.
فيوم الأحد في ٢٩ نيسان سنة ١٨٤٥ جاءها كثير من البقاعيين ملتجئين إليها؛ لأن قراهم التهمتها النار على أثر المواقع الدامية، ويوم الثلاثاء في أول أيار حاصر الدروز قرية جزين، وحضر بعض سكانها إلى زحلة مع المطران يوسف رزق الماروني الذي سافر في اليوم الثالث إلى بيروت. ويوم الأربعاء في ٩ منه جاء كثير من نصارى حاصبيا مدحورين. وكان الزحليون قد أكرموا وفادة من التجأ إلى بلدتهم وسكنوا روعهم بحسن معاملتهم، فجبروا قلوبهم الكسيرة وأراحوا نفوسهم المضطربة.
ويوم الأحد في ١٣ منه حضر إسماعيل بك إلى زحلة وسار إلى حاصبية.
ويوم الاثنين في ٢١ منه ذهب عسكر من زحلة إلى كفر سلوان.
ويوم الأربعاء في ٦ حزيران جاء زحلة الأمير بشير أحمد اللمعي، وسافر بعد يومين إلى حاصبية.
ويوم الأربعاء في ٢٧ منه جاء الخواجة برطاليس. وهكذا كانت زحلة محطًّا لرحال المداولات في الشئون الطارئة إذ ذاك.
وفي أواخر آب سنة ١٨٤٥ قدم نميق باشا رئيس العسكر (سر عسكر) بأربعة آلاف من العسكر النظامي بقيادة داود باشا، فخيم في جسر دير زينون قاصدًا التنكيل بزحلة، فسار شيوخها لمقابلته، فاستأذنوا للدخول عليه فأبى، فتقدم عبد الله أبو خاطر بجرأة ودخل عليه (والقصة مشهورة عند الزحليين)، فاستأذن لهم وقابلوه، ففاوضهم الباشا بشأن كف القتال وجمع السلاح، وطلب منهم مئونة لعسكره وعلفًا لخيولهم؛ لأنه زاحف بهم إلى زحلة، فامتثلوا أمره، واستأذنوا بالعودة، وعند وصولهم البلدة نبهوا أن يُخْبَز كل الطحين الموجود فيها دفعة واحدة لطعام العسكر، ويجمع الشعير الموجود علفًا لخيولهم.
ويوم الأحد في ٢٦ آب دخل زحلة بعسكره الجرار، فلاقاه السكان بالطعام إلى البيادر، وقدموا العلف للخيول. ثم سار بعسكره إلى الحمار فوق المعلقة، وضربوا خيامهم هناك.
فأولم له المطران باسيليوس شاهيات يوم الخميس في ٣٠ آب وليمة شائقة.
ويوم الاثنين في ١٠ أيلول سافر المطران إلى بيروت لمقابلة شكيب أفندي ناظر الخارجية الذين أنفذته الدولة لإصلاح الشئون، وكان قد استقدمه إليه مع غيره من الرؤساء للمداولة بذلك.
ولما ألحَّ الباشا بطلب سلاح الزحليين وضايقهم، كان مشايخهم يختلفون إليه معتذرين وطالبين إبقاء الأسلحة للدفاع عن بلدتهم التي كان الدروز يتهددونها بما لهم عند سكانها من الثارات (ولا سيما في موقعتي العريان وقرنايل المارتي الذكر) فلم يقبل.
ويؤخذ من الإفادات التي تلقيناها ما يثبت أنَّ الدروز لم يأتوا لمحاربتنا إلا مكرهين من أصحاب الإقطاع، فإنهم يجبرونهم على ذلك بضرب العصي. ولا مراء أنَّ لبنان لا يتمتع بالراحة ما دام لزعمائه امتيازات ومعافيات كان يمنحهم إياها أمير الجبل لقاء خدماتهم وينزعها منهم حينما شاء.
ويوم الخميس في ٤ تشرين الأول من السنة المذكورة (١٨٤٥) أحدق العسكر العثماني بزحلة بين فرسان ومشاة من كل جهة، وشرعوا يجمعون السلاح من سكانها، فأبى كثير منهم التسليم، وكانت المداولات بذلك لن تزال جارية مع الحكومة والقناصل. ويوم الأربعاء في ١٠ تشرين الأول سارت بعض العساكر إلى الجبل.
ويوم الجمعة في ١٢ منه استقدم نميق باشا شيوخ زحلة إليه، وكانوا نحو عشرين وقال لهم: كلكم في السجن حتى تقدموا سلاح البلد برمته. لأنه كان قد فهم أنَّ كثيرًا من السكان أخفوا سلاحهم. فاحتج كل منهم لتبرئة ساحة البلدة، فلم يقتنع بذلك فقام أبو عساف الحاج شاهين وقال له: عفوك يا مولاي كيف يمكننا تقديم سلاح البلد ونحن في السجن. قال لهم: إذن ضعوا بنيكم رهنًا عندي حتى تذهبوا وتجمعوا السلاح. فاستقدموا إليه كلًّا من عبيد يوسف البريدي، ومخول الحاج شاهين، ويوسف حجي، وناصيف غرة، وهيكل أبي خاطر، وكانوا في مقتبل عمرهم فأودعهم خيمة مخفورين وأطلق سراح الشيوخ، وكان ذلك يوم الاثنين في ١٥ منه.
وبقي العسكر محدقًا بزحلة إلى أن تم جمع السلاح، فسار الباشا يوم الجمعة في ٢٣ تشرين الثاني إلى جنوبي لبنان. وقد تكبد الزحليون نفقات كثيرة ووقف دولاب أعمالهم مدة، ولكن نجت بلدتهم من التنكيل والتخريب.
وفي هذه السنة كان عبد الله أبو خاطر من زحلة مستشار الكاثوليك في مجلس قائمية مقام النصارى، وشديد عيسى الخوري البحمدوني مستشار الأرثوذكس في مجلس قائمية مقام الدروز (راجع «المحررات السياسية» ١ : ٢١٨).
وفي أوائل سنة ١٨٤٦م اشتد الغلاء في سورية، ولا سيما في زحلة التي أنفقت جميع ما كان مخزونًا في أهرائها (حواصلها) من الحبوب طعامًا للعسكر، فبيع فيها مد الحنطة بعشرين غرشًا والشعير بثلاثة عشرة والذرة بخمسة عشر، وصار جوع ضايق الفقراء.
ويوم السبت في ٢٧ نيسان سنة ١٨٤٦م بدأ المطران باسيليوس شاهيات ببناء كنيسة سيدة النجاة الكبرى في زحلة، وكان الراز (رئيس البنائين) خليل الخرياطي، ووكيل العمل الخوري بطرس القطيني المعلوف. وفي تلك الأثناء ابتاع الآباء اليسوعيون محلًّا في أعلى زحلة يعرف بكرم البالوع، وبنوا ديرهم الصغير وأنشئوا فيه مدارس للذكور والإناث، وذلك بمساعدة الأمير حيدر الحاكم وبعض الزحليين مثل جرجس العن، وحبيب مقصود الذين انتظم في سلك رهبانهم بعد ذلك، وزاد عمران زحلة فصار كرم البالوع الكبير بيوتًا للسكن وهو قرب دير اليسوعيين كما مرَّ، وامتد العمار إلى فوق الطريق الموصل إلى الجبل من جهة البياضة. واتسع البناء فوق الدار الأسقفية وأخذ جانب من الكروم غير ما أُخذ أولًا وبني فيه، ثم تقدم العمار وعطلت التربة فوق حارة دير النبي إلياس المخلصي، وقطعت الكروم التي فوقها على الظهر وعمرت كل تلك الناحية حتى إلى رأس التلة. ومن جهة القاطع ازداد العمار كثيرًا في ناحية الميدان حتى اتصل بالمعلقة، وفي حارة البربارة حتى عين الدوق.
ونهار الجمعة في ١٠ أيار سنة ١٨٤٦م انقض برد كالرصاص فأتلف الكروم والأشجار.
وفي أوائل أيلول من تلك السنة كان السيد أغابيوس الرياشي أسقف جبيل وبيروت الكاثوليكي، وبعض أعيان بيروت في زحلة للمداولة بإدخال الحساب الغريغوري.
ويوم الثلاثاء في ٢٧ تموز سنة ١٨٤٨ جاء زحلة ناصيف منعم المعلوف المؤلف المشهور في الأستانة وأوروبة، ومعه بعض السياح الأوروبيين، فقوبلوا باحتفاء ولم يطيلوا المقام لتفشي الهواء الأصفر في سورية، فساروا إلى بعلبك وانحدروا إلى بيروت.
ويوم الخميس في ٢٠ تشرين الأول سنة ١٨٤٩م جاء مصطفى باشا زحلة مع عسكر لعد الأنفس ولم نقف على إحصائه لزحلة.
وفي ٢٥ كانون الثاني سنة ١٨٥٠م سقط ثلج عظيم لم يسبق له مثيل من زمن طويل، وتوالى سقوطه في شباط فتضايق السكان.
ويوم الاثنين في ٢٥ أيلول من تلك السنة جاء أمين أفندي إلى زحلة، وأمسك بهذا اليوم الأمراء الحرفوشيين في بعلبك وهم أحمد وابنه ويوسف وسلمان وخنجر والبك وشديد وذلك بواسطة مصطفى باشا.
وسنة ١٨٥٢ بنى الروم الأرثوذكس في زحلة كنيستهم الثانية باسم القديس نيقولاوس. وفيها أنجز بناء كنيسة سيدة النجاة، فأرَّخها الشيخ ناصيف اليازجي بقوله وهذا مما لم يطبع في ديوانه:
وفي آذار سنة ١٨٥٤م صار غلاء شديد فبيع مد الحنطة من ٢٢–٢٦ غرش، والشعير باثني عشر غرشًا، والذرة الصفراء من ١٧-١٨ غرشًا. وفي شهر نيسان من تلك السنة فكَّ قسم من قالب عقد سيدة النجاة. وفي يوم الخميس في السادس منه كان سبعة من الفعلة يحفرون أساسًا في شمالي الكنيسة لجهة بيت شبيب في زاوية الحائط، فانهال عليهم التراب وأُخرجوا موتى والذين نعرفهم منهم هم منصور بن فرح النبكي، ونادر بن دعيبس دعيج، وإبراهيم أبو شحُّود. وخليل بن جرجس توما.
ويوم السبت في ٢٤ تموز من تلك السنة سار جمهور من زحلة إلى الزبداني والنبي شيت وسرعين وغيرها تفتيشًا على الأمير حسين الحرفوشي؛ لأنه ضرب أحد سكانها وأجرى أنسباؤه الحرفوشيون بعض تعديات عليهم في زمن حكم الأمير سلمان. وعادوا يوم الاثنين إلى بلدتهم بدون قتال.
ويوم الخميس في ٢٩ تموز جاء المستر ريتشرد وود قنصل إنكلترة في دمشق، وأصلح بين الزحليين، والأمير سلمان الحرفوشي وبعض أنسبائه، وذلك في قرية بدنايل قرب زحلة.
وفي ١١ أيار من هذه السنة توفي الأمير حيدر إسماعيل اللمعي قائم مقام النصارى في صربا (كسروان) عن ٦٥ سنة بمرض الفالج ونقل إلى بكفيه، وأقيم له مأتم حافل حضره وجوه الزحليين برجالهم، ودفن فيها وخلفه بالوكالة ابن أخيه الأمير بشير عساف اللمعي تسعة أشهر، ثم أسندت قائمية المقام إلى الأمير بشير أحمد اللمعي، فهنأه الزحليون حسب العادة، وانقسم المتنيون بل سكان قائمية مقام النصارى إلى حزبين عرفا بالعسافي والأحمدي، حسب انتمائهما إلى أحد الأميرين كما سترى.
وكان الزحليون قد أقاموا عليهم بضعة شيوخ من وجهائهم يديرون شئونهم، وهم حنا فرح المعلوف، وعبد الله أبو خاطر، وعساف مسلم، ويوسف البريدي، وأبو عساف جرجس الحاج شاهين، وخليل حجي، ومخول غره، وناصيف جدعون، فلم يمض على مشيختهم بضعة أشهر حتى أرسل الأمير بشير نقولا الأرقش البيروتي شيخًا لزحلة من قبله. فسكن في بيت إلياس سيف في حارة الراسية، ورفع الأمير يد مشايخها الوطنيين مستاءً مما حصل له من توقيف تشييد دار الحكومة كما مر.
(١٣) حريق بريتان
كان سكان قرية بريتان الشيعيون (المتاولة) يعيثون في بلاد بعلبك والبقاع ويتحاملون على المسيحيين، وكانت قد حدثت نزغة بين الزحليين والأمراء الحرفوشيين، فازداد عيث البريتانيين وعبثهم بالراحة. وبينما كان شاهين مبارك من زحلة مارًّا في أرض بريتان قتله سكانها، فتكدر الزحليون لذلك ورفعوا شكواهم إلى الأمير بشير أحمد قائم مقام المسيحيين الذي كان يقيم في برمانه (من متن لبنان)، فأشار إليهم بالإخلاد إلى السكينة والمحافظة على الراحة، فتدارك عقلاؤهم الأمر وأوقفوا الجهال عن هياجهم، وما كادت السكينة تستتب أثار البريتانيون الأحقاد باعتدائهم على موسى شاهين كرُّوك الزحلي الذي كان ناطورًا (شوباصيًّا) في بريتان، فقتلوه وهو في عنفوان شبابه، فلما نمى إلى الزحليين خبر هذا الاعتداء الفظيع، وكانوا قد تكدروا من تهامل الأمير بشير بطلب دم قتيلهم الأول هاجوا موغري الصدر، وتجمهروا ليلًا على الجسر وسار في مقدمتهم حملة الأعلام. فأرسل شيخ البلدة نقولا الأرقش يتهددهم ويتوعدهم فلم يرعووا، فاستعان بالمطران باسيليوس والشيوخ خشية أن يُلام من الأمير، فنزل المطران إلى المعسكر على الجسر، ولما رآهم في هياج عظيم سكَّن روعهم ونصحهم، فازدادوا لغطًا وحماسةً فعمد إلى ذريعة أخرى دبَّرها لهم قائلًا: إنَّ مطران بعلبك أرسل ينبئني أنَّ من تظنونه قتيلًا من إخوانكم هو حي يرزق في بعلبك وهو في الدار الأسقفية؛ فهدأ روعهم وسكنت عوامل غيظهم. فأرسل نقولا الأرقش رسولًا ليلًا إلى الأمير في برمانه يخبره بما جرى، وأنَّ المطران والوجهاء ساعدوه على رد الثائرين عن الهجوم فأجابه الأمير ليلًا: أن يمنع الزحليين عن الهجوم، وإن ظهر منهم ما يكدر الراحة يقعون تحت القصاص الصارم.
ولكن النواطير (الشوابصة) الذين كانوا في القرى المجاورة حملوا جثة القتيل، وجاءوا بها إلى زحلة ومروا بها صباحًا في وسط البلدة والناس متجمهرون، فساروا بأسلحتهم من فورهم وهم نحو ألف بينهم نحو ثلاثمائة فارس مدججين بالأسلحة يقصدون بريتان. والأرقش أعاد الرسول حالًا إلى الأمير يخبره بما جرى مما جدد ثورة الأهلين، فزحفوا إلى بريتان استثآرًا بقتيلهم، فكتب الأمير إلى الأرقش ما معناه: «بلِّغ محبينا أهل زحلة وقد خرجوا من بلدتهم للقتال أنهم إذا عادوا مكسورين أحرق بلدتهم.» فأرسل إليهم جواب الأمير وهم زاحفون على الطريق، فقرأوه وازدادوا حماسةً ونزلوا على بيادر قرية «طليه» يوم الجمعة في ٢٧ أيار سنة ١٨٥٥، فقدم لهم نصارى تلك الجهات حاجاتهم من أكل وعلف للخيول، وأمر الأمير سلمان الحرفوشي حاكم بعلبك جميع المتاولة أن لا يعترضوا الزحليين ولا يقاتلوهم.
وكان الأمير محمد الحرفوشي مع ألف وخمسمائة مقاتل مسلحين ومحاصرين في بريتان. فقال لقومه: إذا جاءكم الزحليون ثلاث فرق فلا تحاربوهم؛ بل أخلوا لهم القرية، وإن جاءوا جمهورًا واحدًا قاتلوهم.
وسنة ١٨٥٦م شرع المطران متوديوس صليبا الأرثوذكسي المذكور آنفًا ببناء الدار الأسقفية قرب كنيسة القديس نيقولاوس. وجرى بينه وبين الطائفة الكاثوليكية خلاف شديد حل بواسطة عقلاء الطائفتين، ولا سيما أبو عساف الحاج شاهين، وأبو علي المعلوف. وصارت زحلة من هذا الحين مقر كرسي أسقفية أرثوذكسية، واتفق أسقفها هذا مع السيد باسيليوس شاهيات الكاثوليكي على ترقي أبنائها والسعي بعمرانها وتقدمها، فكانا يدًا واحدة في العمل وكان أبناء الطائفتين متعاهدين على الموالاة والمصافاة.
وفيها بدأ السيد باسيليوس شاهيات ببناء كنيسة القديس يوسف في حارة الميدان المعروفة بكنيسة مار يوسف الشير وجعلها أسقفية.
ولما كان اللبنانيون بخصام مستمر مع الأمير بشير أحمد مثل كثير من الزحليين الذين هم من الحزب العسافي المذكور آنفًا، تضايق الزحليون من معاملته ومصادرته، ومن الاضطراب الذي جرى في قائمية مقامه، وكان الأمير بشير قد وُقِّف في ٢٨ أيلول سنة ١٨٥٨ وأقيم الأمير حسن اللمعي وكيلًا عنه، فألف الزحليون وفدًا من أعيانهم ساروا في أواسط كانون الأول سنة ١٨٥٨ إلى بيروت، فقابلوا خورشيد باشا والي الأيالة إذ ذاك، وقدموا له عريضة يطلبون فيها تعيين حاكم عثماني يدير شئونهم لينسلخوا عن لبنان ويتخلصوا من حاكمه الذي كان يساورهم، فاستقبلهم الوزير بكل حفاوة وسكَّن روعهم، وعاهدهم أن لا يحتل مدينتهم احتلالًا عسكريًّا كما كان قد نمى إليهم، فأظهروا له رغبتهم في تفضيل الوالي العثماني المدني على العسكري ويأسهم من التسويف بعدم قبول تظلمهم من الأمير بشير قائم المقام الذي شكوا أمره إلى المراجع العليا مرارًا ولم تسمع شكواهم، فوعدهم الوزير أن يجيب مطاليبهم ويسعى في إسعادهم فودَّعوه شاكرين وضاربين موعدًا لأخذ الجواب النهائي، ثم ساروا لمقابلة القناصل الأجنبية في بيروت وأظهروا لهم رغباتهم المذكورة فمنهم من استحسنها ومنهم من رفضها.
وفي ٢٠ نيسان سنة ١٨٥٩م راجع الوفد الزحلي الوزير طالبًا جواب الأستانة، فأخبرهم أنه لم يرد جواب حتى ذلك الوقت.
وبعد مرور مدة ورد الجواب من الآستانة بإجابة مطاليب الزحليين وقبول انضمامهم إلى ولاية سورية وانسلاخهم عن لبنان، وأرسل الوزير متسلمًا عثمانيًّا لزحلة اسمه صادق أفندي، فسكن دار بني السرغاني، واستقلت زحلة بأحكامها عن لبنان، وأدار المتسلِّم الجديد شئونها فاستاء من ذلك الأمراء اللمعيون، الذين كانوا متسلطين عليها منذ القديم فصارت زحلة محاطة بمبغضيها من كل جهة وأصبح موقفها حرجًا وألقي الخلاف بين أُسرها (عيالها) وتفرَّقت كلمتهم؛ لاختلاف منازعهم ومبادئهم فضعف شأنها وطمع بها أعداؤها وحسادها كل الطمع.
وفي تلك الأثناء كانت الحكومة قد تغيرت على الأمير سلمان الحرفوشي وطاردته للقبض عليه، ففزع إلى زحلة سنة ١٨٥٨ على أثر موقعة الحديدية، واختبأ فيها مدة خفي فيها أمره على الحكومة وكان يتنقل في أحيائها وبيوتها.
ومما زاد في إرهاق زحلة ما كان قد حدث منذ نحو سنتين من رغبة الطيب الذكر البطريرك أكلمنضوس بحوث الكاثوليكي في إدخال الحساب الغريغوري (الغربي) بين رعيته، التي كانت حتى ذلك الحين تابعة للحساب اليولي (الشرقي)، فوزع المناشير على الرعية يحثها على وجوب قبول ذلك، فحدث في الطائفة انقسام شديد وكان من أشد مناوئيه في هذا القصد أربعة أساقفة مقدامهم أسقف الفرزل وزحلة والبقاع السيد باسيليوس شاهيات المشهور بحزمه وإقدامه ونفوذ كلمته لدى الحكومة. فكان هذا الانقسام الطائفي سببًا آخر أضيف إلى ما تقدم من أسباب قلق الزحليين فزاد في الطنبور نغمة.
وفي ١٢ آب سنة ١٨٥٩م التأم المجمع الثامن والعشرون للطائفة الكاثوليكية في محلة عين الدوق من أحياء زحلة، اجتمع فيه الأساقفة الثلاثة بدعوة السيد باسيليوس شاهيات؛ وهم السيد أغابيوس الرياشي مطران بيروت ولبنان، وملاتيوس فندي مطران بعلبك، وتاوضوسيوس القيومجي مطران صيداء ودير القمر. وتفاوضوا مليًّا بشأن الحساب فأقروا على رفضه بتاتًا فنمي الخبر إلى البطريرك، فشكاهم إلى رومية فألغى الكرسي الرسولي مجمعهم هذا، واضطروا بعد مرور مدة أن يتبعوا الحساب المذكور، ولكنهم مع ذلك ضايقوا البطريرك حتى اضطر إلى الاستقالة، كما هو مشهور في تاريخ الطائفة.
(١٤) مذبحة سنة ١٨٦٠م
كان انقسام لبنان إلى قائميتي مقام مسيحية ودرزية واتساع الفتق بين الطائفتين، وعدم رتقه بحكمة وسداد داعيًا إلى نشوب حرب جديدة اضطرمت شرارتها في قرية بيت مري في المتن في أواسط سنة ١٨٥٩م، واتصلت بلبنان وسورية، فحدثت مذابح سنة ١٨٦٠م المشئومة التي يحزننا ذكرها، ولكن المؤرخ مضطر إلى سرد ما جرى ووصف الحقائق التاريخية كما حدثت. ذلك ما حدا بنا إلى ذكر هذه الفاجعة التي ارتعدت لها فرائص الإنسانية جزعًا، وسطرتها الأيام بمداد اللوم والتقريع لمن كانوا السبب في إضرام نارها، سامحهم الله وألهمنا الشفقة والحنان على بني جنسنا في مثل هذا الموقف الخطير، والصبر الجميل في مثل هذا المصاب الكبير.
كان سكان مدينة زحلة قبل شبوب نار هذه الفاجعة متفرقي الكلمة كثيري الخصام، لا يتجاوز عددهم اثني عشر ألف نسمة يتجرَّد منهم نحو ثلاثة آلاف بطل مدرَّب على القتال. وكانوا قد بلغوا مبلغًا عظيمًا من التجارة والثروة والسطوة وموقفهم حرج.
فكانت الطائفة الدرزية تحب الاستثآر منهم لما أجروه مع بني القنطار وحاطوم، ولإبلائهم في موقعة العريان، وفي المعارك الأُخر التي فُصلت في أثناء الكلام عن وقائعها. وكان الأمراء الحرفوشيون وإخصاؤهم الشيعيون، قد تغيروا على الزحليين لحرقهم بريتان وتسليمهم الأمير سلمان الحرفوشي الذي التجأ إليهم، والأمراء اللمعيون قد استاءوا من شنهم الغارة على وكلائهم وعقاراتهم وعدم انقيادهم إليهم كعادتهم وشقهم عصا الطاعة، وقنصل إنكلترة موغر الصدر عليهم لطردهم المرسل الإنكليزي، كما مرَّ إلى غير ذلك مما سبق تفصيله في مواقع مختلفة. فكانت الشئون الخارجية ضدهم من كل جهة، وحالتهم الداخلية مضطربة بانقسام كلمتهم وتفريق مبادئهم وتظاهر أُسرهم بالعداء والتحزب؛ فلذلك كانت هذه الموقعة أشد المواقع التي خذلتهم وفتت في عضدهم ورمتهم بالفشل وأعادتهم بالخيبة، فخسروا كل ما كانوا قد ربحوه من المجد في المواقع الماضية عملًا بقول الشاعر:
ولما امتدت نيران الفتنة في أنحاء لبنان بين الدروز والمسيحيين في هذه السنة، وقرب الدروز من ضواحي زحلة ونواحيها وتأهب الزحليون للدفاع عن مدينتهم، ولكنهم كانوا فرقًا متناوئة وجماهير متخاصمة فكانوا يسيرون بدون قائد عام؛ وقلوبهم متنافرة وكلمتهم غير مجتمعة، وقد فزع إلى زحلة كثير من المسيحيين ممن نشبت عندهم أو في جوارهم الفتن، وكثرت الفتوق ولا سيما من العرقوب والبقاع.
موقعة ظهر البيدر
ذهبت فرقة من مقاتلي زحلة ونزلائها فرسانًا ومشاة نحو ألف، انقسمت فئتين؛ إحداهما هبطت قب إلياس، وهي نحو النصف والثانية صعدت إلى ظهر البيدر لجهة المغيثة، وذلك في أواخر النصف الأول من شهر أيار سنة ١٨٦٠م بعد الظهر، فباتت هذه الفئة في جديتة (قُرب زحلة) وما تنفس صباح اليوم التالي حتى كانوا متوقلين التلال إلى ظهر البيدر، فوصلوا عند ضحى ذلك اليوم إلى قرب خان مراد الكبير؛ حيث كان هناك مضارب الإفرنج الذين يشتغلون بطريق العربة اليومية (الدايلي جنس) بين بيروت ودمشق.
وما كاد يستقر بهم المقام حتى أرسلوا طليعة من أربعة عشر شابًّا مدربين إلى ظهر البيدر ليستشرفوا عسكر الدروز ويعلموا مخيمهم، فلما وصلوا إلى قرب النفق (التونل) الحالي شاهدوا الدروز متأهبين للقتال فوق قرية عين دارة في الصرد (الجرد)، فلما رأى أولئك طليعة الزحليين أرسلوا إليهم فارسًا مغوارًا يستطلع أمرهم، فهاجمته الطليعة وردته على أدراجه. فلما رآه الدروز عائدًا انقسموا إلى فرقتين زحفتا من جهتين متباعدتين على العسكر الزحلي الذي رأوه في محلين، كما سبق أحدهما عند خان مراد والثاني فوق قب إلياس. ولما شاهد معسكر الزحليين من مكانيهما زحف الدروز فئتين سار كل منهما لملاقاة الفئة المتجهة إليه، فخرجت شرذمة قب إلياس إلى قرب عين الحجل في أعلى الربوة وكانوا فرسانًا ومشاةً مدربين؛ فأصلوا نار الحرب ودحروا الدروز إلى جوزات قطلش قرب عين داره، وغنموا علم (بيرق) بني عطا الله شيوخ عين دارة وعادوا به منشورًا، ووراءه بعض سكان العرقوب الذين كانوا في زحلة ولبسهم أشبه بلبس الدروز.
أما الفرقة الزحلية الثانية فكانت قد وصلت إليها النجدات تباعًا من خان مراد، فعزَّزت موقفها وهاجمت فئة الدروز المتجهة إليها فدحرتهم على أعقابهم إلى ما فوق العزُّونية (مقابل عين دارة)، وكانوا نحو خمسمائة مقاتل. وتقدم الشيخ علي بن خطار بك العماد (قائد الدروز وزعيمهم) بنحو مائتي نفر لتخليص علم عين دارة الذي غنمه الزحليون، فأمطرهم الزحليون بالرصاص، فأُصيب الشيخ علي برصاصة في ركبته جندلته عن جواده فخر صريعًا، ولولا مداركة الفرسان له وحملهم إياه لأجهز عليه الزحليون. وكانت الفئة الزحلية الثانية قادمة لنجدة هذه وأمامها علم عين دارة، الذي غنموه يحف به كثير من العراقبة الذين هم أشبه بالدروز في ملابسهم، فتوهمتهم فئة الزحليين هذه أنهم الأعداء فأمطرتهم رصاصًا مصوَّبًا، فقتلت سبعة من العرقوبيين، ولما تقاربوا عرفوا خطأهم وانضم بعضهم إلى بعض. وكان خطار بك العماد مع أربعمائة مقاتل في ظهر البيدر، فلما علم بجرح ابنه قال: «إذا كان قد أصيب بالرصاص من الأمام فلا بأس؛ لأنه يدل بذلك على شجاعته، وأما إذا كان قد أصيب من الوراء فهو جبان.» فطلب خطار بك المبارزة فبارزه أحد أبطال الزحليين بالرصاص والسيف، فلم يظفر أحدهما من رفيقه بطائل، وقصتهما مشهورة يتناقلها الناس إلى يومنا. ثم انتهت هذه المبارزة بالمسالمة وانكف الدروز عن القتال، فجمعوا شملهم وحملوا جريحهم الشيخ علي إلى عين دارة فبريح مسقط رأسه حيث قضى نحبه بعد ثلاثة أيام. وقد قتل من الدروز بهذه الموقعة عدد غفير بينهم نحو ستة وثلاثين من شيوخهم منهم الشيخ حمود عبد الملك وقتل من زحلة عشرة أنفار منهم خليل جرجس إليان وأخوه إلياس، وإلياس صوايا، وإلياس عصفور، وطنوس واكيم، ومخول أسعد أبو حسان بعد قتله اثنين من الدروز، ويوسف شكري من دير القمر بعد قتله أربعة منهم، وذلك قبل أن لفظا أنفاسهما. وكانت هذه الموقعة أهمها عند قلعة ابن عفَّان قرب خان مراد وذلك يوم السبت في ١٤ أيار (شرقي). ولما عاد الدروز لم يلحقهم الزحليون خوفًا من خدعتهم، إذ كانت قد انضمت إليهم النجدات الكثيرة من المتن والشوف ووادي التيم.
موقعة كفر سلوان
وبعد عشرة أيام من ذلك التاريخ استأنف الزحليون القتال، فسار نحو ألف مقاتل إلى حمى كفر سلوان. وكان يوسف بك كرم الأهدني قد أرسل إليهم كتابًا يعدهم فيه أنه مستعد لمعاونتهم وأن يتربصوا مطمئنين، فأرسلوا يستقدمونه من المروج قرب المتين إلى حمى كفر سلوان لمفاوضته، فأرسل يعتذر لموانع أَخرته، ويقال إنَّ ذلك كان بطلب الأمراء اللمعيين لاستيائهم من الزحليين كما سبق. ونشبت الحرب بين الزحليين والدروز، فأحرقوا كفر سلوان وبقوا فيها أربعة أيام، وكان الدروز قد اجتمعوا في قرنايل وأوقفوا القتال. فعاد الزحليون إلى بلدتهم وبقي عبد الله أبو خاطر مع نحو ثلاثمائة مقاتل، فهاجمه الدروز من الصبح إلى المساء وكسروه إلى جهة حجر الأطرش أو درجة الأساكفة فوق عين حزير، فأنجده الزحليون وثبتوا في ذلك الموقف إلى أن عاد الدروز عنهم، فرجعوا إلى بلدتهم، وقد قُتل منهم في ذلك اليوم الذي هو الأربعاء في ٢٥ أيار (شرقي) نحو عشرة منهم حنا المطران، وعيد سعادة، وجرجس البدوي (شمعون)، وخليل الطباع، وقتل من الدروز نحو خمسة عشر نفرًا.
موقعة السهل
ويوم الأربعاء في أول حزيران (شرقي) حدثت موقعة السهل على جسر بر إلياس بين الزحليين والدروز، وكان زعماء الدروز إذ ذاك الشيخ إسماعيل الأطرش من عري (حوران)، وخطار بك العماد الذي قتل الزحليون ولده كما مر والشيخ كنج العماد. أما زعماء زحلة فهم الذين ذكرناهم في ما مضى من المواقع، ولكن الزحليين لم يكونوا لينقادوا إلى زعمائهم في هذه المعارك، لما بينهم من المشاحنات والبغضاء والتحاسد. فسارت فرقة من مقاتلي زحلة دون إرادة الزعماء والقواد إلى جسر بر إلياس يوم الأربعاء في أول حزيران (شرقي)، وبعد أن أبدوا بسالة تذكر اندحروا، وقد قُتل نحو ثلاثة وثلاثين من زحلة والمعلقة وجُرح نحو عشرين، وكان بين قتلى الزحليين مراد بن عبد الله أبي خاطر جمح به جواده، فأدركه الدروز وقتلوه وخليل الجريجيري، وحبيب مرعي المعلوف، ونصر بن أنطون فرح المعلوف وولده يوسف، وصعب بن داود الحاج نقولا، وعازار أبي زهر وغيرهم. ومما يروى أنَّ عبد الله أبا خاطر وأبا علي المعلوف، وهما من أكبر عقلاء الزحليين كانا قد منعا المقاتلين من شهود هذه الموقعة، فلم يسمعوا كلامهما بل غرَّروا بأنفسهم وعادوا بفشل؛ فلذلك لم يشأ عبد الله أبو خاطر مشاهدة ولده قتيلًا لأنه عصاه. ومما يستحق الذكر أنَّ عبد الله شحاده الخوري صعب أنقذ نعمة بن الحاج نصر الصفدي من تحت سيف الدروز الذي كاد يفتك به، وأنقذ أيضًا صليبي أبا خاطر من زحلة وأبا محفوظ من جديته.
وهكذا كانت نيران المواقع قد ازدادت اضطرامًا والخصام اشتد احتدامًا، فتجمع الدروز والعربان والمتاولة والأكراد من أطراف البلاد السورية جماهير غفيرة، وتعاونوا على تدمير زحلة والتنكيل بسكانها والاستثآر منهم متعجبين من بسالتهم الشديدة التي قاوموا بها (مع قلتهم واختلافهم وعدم إنجادهم) تلك القوات العظيمة، وثبتوا أمامها في معارك متعددة ثبوت الأبطال المدربين.
موقعة الفرزل وبساتين الكرك
ويوم الخميس في الثاني من حزيران (شرقي) كان بعض الزحليين والبعلبكيين مجتمعين قرب الفرزل لصد هجمات الدروز الذين زحفوا على أبلح، فمنعهم أهلها عن دخولها فوصلوا الفرزل، وهناك أبدى المسيحيون ولا سيما الزحليين ثباتًا غريبًا وردوا الدروز على أعقابهم وتأثروهم إلى بساتين الكرك بعد أن قتلوا منهم ثلاثة، وأما هم فلم يقتل منهم أحد.
موقعة كساره وحرق زحلة
ويوم الأحد في ٥ و١٧ حزيران وصلت نجدة إلى زحلة من بسكنته نحو أربعمائة رجل بقيادة الأمير أحمد طرودي اللمعي وفارس سبع أيوب، وكان الزحليون قد أعدوا المتاريس وحصنوها وتأهبوا للدفاع ومتاريسهم كانت هكذا (١) متراس بيت القاصوف في أعلى حارة الراسية من الغرب لخفارة طريق صنين والمتن من جهة البياضة (٢) متراس بيت أبي عبيد يوسف البريدي (محل الكلية الشرقية الآن) (٣) متراس آخر فوق مقبرة المعلوفيين في شمالي حارة الراسية على طريق الكروم (٤) متراس فوق بيت أبي علي المعلوف (وهو الآن دار مرسلي الأمركان) (٥) متراس البيادر فوق تل شيحا وقرب عين الدخن (فوق دار الحكومة الآن) (٦) متراس بيت الهندي المسلمين بين متراس بيت أبي علي والبيادر (٧) متراس سيدة النجاة الكاتدرائية (٨) متراس بيت حبيب بك العن (بيت يوسف بالشن الآن) قرب الجسر الكبير في الحارة السفلى (التحتا) (٩) متراس في كنيسة البربارة في القاطع. وكانت هذه المتاريس مرتبة يخفرها الفرسان وعلى كل منهما وكلاء لتوزيع المآكل والذخائر وجميع حامية المدينة نحو ألف وخمسمائة رجل بين فرسان ومشاة.
وهكذا بعد أن أحرق الدروز كثيرًا من أحياء المدينة وبيوتها، ونهبوا ما وجد في طريقهم ونكلوا بالسكان نادى مناديهم بلسان زعيميهم الأطرش والعماد أن لا يبيت رجل منهم في زحلة، وكان ذلك عند غروب الاثنين فأخلوها قاعًا صفصفًا، وكان مشهد أشلاء القتلى والجرحى من الفريقين يفتت الأكباد، ولا سيما حيث كان معظمها مكردسًا في آخر سوق البلاط وفي جعيران على الجسر الكبير، وكذلك منظر الحريق والدمار كان فاجعًا للعيون. وبقي المحاصرون في بيت العن وسيدة النجاة ومار ميخائيل إلى صبح اليوم التالي وكان في مار ميخائيل بولس المنير وأبو أنطون السكاف وغيره وقد أبدوا بسالة وثباتًا، فلما تأكدوا خلو المدينة من الأعداء خرجوا إليها بعيون باكية وأفئدة دامية، وكان الفارُّون قد ساروا في طريق صنين الوعر لا يلوون على شيء، فباتوا في العراء يتضورون جوعًا ويتفجعون أسفًا لما حل بهم من الدمار، وبقي قليل منهم في بسكنته والباقون تفرَّقوا في كفر عقاب وزبوغة ووادي الكرم حيث دير القديس سمعان العمودي مصيف مطارنة بيروت وجبيل الكاثوليكين، وبعضهم سار إلى كفر تيه ومزرعة كفر دبيان والمحيدثة والشوير وبتغرين والخنشارة وغيرها، فنزلوا في هذه الأماكن على الرحب والسعة. ولما ضاقت بهم الأمكنة كانوا ينامون في الفضاء تحت أشجار التوت ويستظلون بها نهارًا. وفي اليوم التالي كان يوسف بك كرم يستشرف زحلة، وهي بهذه الحالة المحزنة من أعالي محلة المشيرفة على طريق صنين فحزن وندم لتخلفه عن نجدتها معتذرًا أنَّ الأمراء اللمعيين هم الذين أخروه.
وكان قد قتل من الدروز نحو مائة وثمانين ومن الزحليين مائة وعشرون وذلك في يوم حرقها. وكان الأمير محمد الحرفوشي عدو الزحليين قد أرسله الأطرش والعماد زعيما الدروز ليخفر وادي قعفرين (قاع الريم) فوق زحلة، وليمنع النجدات عنها من تلك الجهة فدخل المدينة برجاله وحملوا ما تركه لهم الدروز من أسلابها. ومما يروى عن براعة فرسان الزحليين في الحرب أنهم كانوا يحشون «يدكُّون» بنادقهم وخيولهم راكضة بينما كان دروز حوران يوقفونها ليحشوا بنادقهم. ولقد تفانى الزحليون في الدفاع وأبدوا بسالة وجرأة عرفا بها منذ القديم، وهكذا انتهت موقعة زحلة التي انفرد فيها سكانها، ولم ينضم إليهم إلا العراقبة الملتجئون إليها ونجدة بسكنته المذكورة آنفًا. ذلك مع كثرة عدد خصومهم.
ومما يروى عن نية الدروز في مهاجمتها أنهم قصدوا أن يشنوا عليها الغارات الجرَّارة من جهة الغرب بعد أن يستكملوا قواتهم؛ ليجمعوا سكانها في السهل وهناك تلتف حولهم النجدات المتواصلة، فينكِّلون بالزحليين كل التنكيل. ولكن هجوم كلٍّ من حنا أبي خاطر، ونعمان المعلوف، وغيرهما من فرسان زحلة إلى تعنايل فكساره ومقاتلتهم للدروز. وإخلاء أبي عبيد يوسف البريدي المتراس الذي كان في بيته وزحفه بمن فيه إلا القليل إلا القتال في كساره، وقدوم النجدة من بسكنته مساء الأحد كل ذلك رآه الدروز موجبًا لتعجيل هجومهم ثاني يوم الاثنين فانتهزوا هذه الفرصة. ومن تفننهم الحربي والحرب خدعة أنهم عندما اجتمعوا تحت رايات الصلبان فوق أعالي المدينة، ورأوا طلائع الزحليين تستشرفهم اصطفوا صفين متقابلين لأحدهما أعلام الصلبان وللآخر أعلام الدروز وشرعوا يطلقون البنادق كأنهم يتحاربون ليؤكدوا للزحليين أنَّ نجدة يوسف بك كرم قادمة إليهم؛ فلذلك تمكن الدروز من الدخول إلى البلدة من جهة الحاووز لمعرفتهم أنَّ متراس بيت البربدي فارغ من الحامية، وقد اندفقوا من هناك فئتين؛ إحداهما دخلت حارة الراسية والثانية جاءت بطريق عين الدوق إلى القاطع. وبعد أن أخليت أكثر المتاريس كما مرَّ اندفقت جيوشهم الجرارة من جهة عين الدخن (فوق دار الحكومة الآن)، وأحاطوا بزحلة ولا سيما بمتراس بيت العن كما سبق.
وكان زعيمي الدروز الكبيرين الشيخ إسماعيل الأطرش وخطار بك العماد ومع كل منهما قواد وزعماء، فمن قواد اللبنانيين من مشايخ آل العماد أسعد وكنج وملحم بك ومن غيرهم الشيخ محمود العيد، ومن قواد الحوارنة المشايخ واكد حمدان، وهزيمه هنيدة، وجمود الفخر وقبلان، ودعيبس عامر، وسليمان القلص، وحمد وفندي عزام، ويوسف صعرو، وكانوا كلهم في مقدمة الهاجمين على زحلة يوم سقوطها والمحرضين على القتل والنهب منها، وقد اتهموا بالتحقيقات التي ترأسها فؤاد باشا ومعتمدو الدول.
ومن زعماء الزحليين ومقاتليهم الأبطال الذين توفقنا إلى معرفتهم في موقعة ظهر البيدر نعمان المعلوف، وحنا أبو خاطر، ولحود البحمدوني، وأبو دعيبس مخول البريدي، ويوسف خليل حجي، وحبيب لوسيه بالش، وعبد النور الششم، وخليل الطباع، وطنوس القشعمي الحكيم من حمانا، ونعمه صليبي من فالوغا، وهذان كانا في معسكر زحلة.
وفي موقعة حمى كفر سلوان عبد الله أبو خاطر، وعساف مسلم وأخوه خليل، ومراد وهبه قيامه المعلوف، ويوسف الراعي، الذي يروى أنه ارتأى السير بالعسكر الزحلي الجرار والزحف من الحمى على الدروز قبل أن يتضعضع العسكر الزحلي، وينتبه الدروز إليه فلم يوافقه القواد.
وفي موقعة السهل مراد مسلم، وعساف مسلم، وحنا أبو خاطر، ومراد أبو خاطر (الذي قُتل)، وموسى البحنسي، وأبو لولو الجريجيري، وناصيف دموس، وناصيف غره، ولحود البحمدوني، ومخول البريدي، ونعمان المعلوف، وسليمان العريس الفلفلة من المعلقة (الذي قُتل أيضًا).
وفي موقعة كساره والبلد الذين ذكرناهم في غيرها ممن بقوا أحياءً وعبد الله جبور المعلوف، والخوري بطرس القطيني الذي قُتل مع أخويه، كما مرَّ. ومما يستحق الذكر أنَّ الشاب إبراهيم الصفدي لما دخل الدروز متراس بيت أبي علي المعلوف حمل العلم أمام نخبة من الشبان، وصعد معهم إلى المتراس وأنجدوا من كان قربه، فأزاحوهم عنه وكلٌّ من عبد الله أبي شهلا، وحبيب إلياس الأبرص تملصا من بين الدروز، واختبآ إلى أن خرج هؤلاء من زحلة ولم يهتدوا إليهما. والخوري حنا رزق الله المعلولي أظهر بسالة تُذكر في الدفاع ومثله حبيب لوسيه بالش وغيرهم.
وقد عرفنا من قتلى هذه المذبحة على اختلاف مذاهبهم ومواقعها غير من ذكرناهم قبلًا ممن قتلوا يوم الحصار كلًّا من إبراهيم الششم، وابنه خليل وجرجس الششم، وطنوس شحاده الخوري صعب، وديب طنوس لطفي، وإلياس السرغاني، وطنوس الدكاكي، وإبراهيم الصفدي الذي كان طاعنًا في السن، ويوسف داود وأخيه إبراهيم، وحنا نصر الله صويا واثنين من أولاد أم حنا، وإلياس الخوري رزق الله المعلولي، وأنطون بالش وولده طنوس، وزامل أبي زهر، وأبي عبده حميمص، وخليل الكوسي، وخليل مخول الجبلي، وخليل بالش، وهيكل بالش، ويوسف حرو، ومراد العس وأخيه دعيبس، وابن هارون، ومراد غره، ومخول الدواليبي، وأبي يوسف نعمة السكاف من القاطع، وأبي فارس أنطون السكاف، وأبي مخول القاعي، وجرجس وإبراهيم وسمعان من بني الخياط، وفرنسيس فتوش، ودعيبس فتوش، وإلياس مسعود الفران، وأبي شحاده جبور السكاف، ويوسف موسى البخاش، وصليبي البخاش، وخليل يوسف الراعي، ومراد ابن الخوري يعقوب المعلوف، وأبي مراد ظاهر بن حنا فرح المعلوف وولده الشاب يوسف، وإبراهيم بن يوسف فرح الزجال (القوال) وعمه بولس، وأبي جدعون حنا المعلوف وخليل بن جرجس أبي خروبه المعلوف، والشماس نيقوديموس الموصلي الشويري، وسليمان قرطاس من عسكر بسكنته، ويعقوب مقصود من معلقة زحلة، وإلياس يوسف بالش الذي احترق (ولم يسمَّ هناك).
وممن فاتنا ذكرهم من قتلى المواقع الأخرى موسى الدوماني، وجرجس أبو حسان من قتلى موقعة كفر سلوان، وجرجس أبو عبيد، ومخول القاعي وحبيب فليفل، وعبد الله خير، وأبو عيطا النمير في موقعة السهل.
وكانت هذه الموقعة آخر العهد بالخلاف الذي استفحل بين المسيحيين والدروز، فعقبها اتفاق القلوب ومحو الضغائن وإماتة الأحقاد بالتساهل والتصافي عملًا بقول الشاعر العربي وفيه كل الحكمة:
ولن تزال المسالمة ممدودة الظلال والاتفاق مرفوع اللواء بين الفريقين إلى يومنا هذا بفضل حكومتنا العثمانية ورجالها الأُمناء في خدمتها الذين يسعون في جمع القلوب، واجتماع الآراء لرقي الوطن المحبوب الذي يجب أن نتفانى في تعزيزه ورفع شأنه واستعادة مجده القديم الذائع الشهرة ونحن جميعنا إخوان.
وفي أواخر حزيران سنة ١٨٦٠ قدمت أساطيل دولتنا العثمانية وغيرها من الدول ورست في مرافئ سورية ولا سيما بيروت، فأخمدت نيران الفتن. وفي ١٧ تموز وصل فؤاد باشا المعتمد العثماني لتسكين الاضطرابات وتوقيف عواصف الفتن. وفي ٣ آب عقد مؤتمر باريس الدولي الذي اجتمع فيه معتمدو دولتنا العثمانية وبريطانية وفرنسة وروسية وبروسية والنمسة، فأقروا على وجوب تأمين الأهلين بقوات عسكرية كافية تتوزع بينهم وإعانة المنكوبين بالإحسانات، فوصل بيروت في ١٦ آب سبعة آلاف جندي فرنسي بقيادة الجنرال بوفور دوتبول. وفي ٥ أيلول وصل بيروت معتمدو الدول الخمس المشار إليها ليتداولوا مع فؤاد باشا معتمد دولتنا المومأ إليه. وبعد أن طافوا جميعهم الأماكن المنكوبة وجبروا الخواطر الكسيرة وسكنوا القلوب الخافقة وجلًا وحزنًا عقدوا في الخامس من تشرين الأول مؤتمرًا دوليًّا في بيروت حضر خمسًا وعشرين جلسة، وفضَّ في الخامس من آذار سنة ١٨٦١م، فاتفقوا فيه على إصلاح ذات البين وتعمير ما هدم وتعويض الخسائر الفادحة.
وكانت الاكتتابات في جميع أنحاء أوروبة وأميركة قد بدئ بها منذ نمى إلى سكانها نبأ هذه الفواجع، فأرسلت الدراهم المجموعة مع مندوبين ووزعت على المحتاجين بعد تثمين الخسارة وتقدير الحاجة.
فجاء زحلة الأب شارل لافيجري (مؤسس جمعية المدارس الشرقية وهو الذي صار في ما بعد أسقفًا وكردينال، وسعى بمنع النخاسة (بيع العبيد)) مع الأب أغناطيوس اليسوعي، وكان يطوف البيوت ويستقصي أحوال سكانها ويختبر بنفسه حاجاتهم ويوزع الإحسان عليهم حسب الاقتضاء، وهاك تعريب ما ذكره عنها في كتابه «اكتتاب لإعانة مسيحي سورية»: «ثم عدنا إلى زحلة فالتقينا بالعساكر الفرنسية المخيمة في المديرج وقب إلياس، أما زحلة فمبنية على آخر منعطفات جبل لبنان، ومنظرها أشبه بالبلعوم (الزلعوم) وتشرف على سهل البقاع الخصيب، وكان دير اليسوعيين والدار الأسقفية محروقين، فعقدنا في هذه جمعية برئاسة القبطان سوفيش وقدمنا لهم مائة وعشرين ألف فرنك، ثم تركت زحلة في الأحد الأول من شهر كانون الأول سنة ١٨٦٠م خالعًا ثوبي الرهباني ومتنكرًا بزي عامة البلاد متجهًا إلى دمشق …» ا.ﻫ.
وكان العسكر الفرنسي مخيمًا في قب إلياس بجوار زحلة بقيادة المركيز دي بوفور القائد الفرنسي العام، فدخلتها فرقة كبيرة منهم بقيادة الربان سوفيش، وذلك في أول تشرين الأول سنة ١٨٦٠م، وسكنوا في الدار الأسقفية الكاثوليكية بعد أن رمموها وبقوا نحو ثمانية أشهر يساعدون السكان في الترميم ويوزعون عليهم الدراهم، وكان مخايل المعلوف الملقب بأبي علي موكلًا بتقديم حاجاتهم.
وفي تلك الأثناء عاج فؤاد باشا بزحلة واجتمع بأعيانها، وطاف أحياءها وخاطب السكان برقة وشفقة وجبر خواطرهم ووعدهم بالتعويض، وحضهم على ترميم بيوتهم وأمنهم وأمر إذ ذاك. أن تسمَّى زحلة «مدينة» فأطلق عليها هذا اللقب منذ ذلك الحين.
وكان إبراهيم أبو راجي المعلوف ترجمان فرقة الجنرال ديكرو من العسكر الفرنسي وكان عددها ثلاثة آلاف، فسار معهم إلى دير القمر ودفنوا القتلى، وحصل كثير من الزحليين على تعويضات ومسلوبات بواسطته.
فما قدم الشتاء حتى كان الزحليون قد رمموا بعض بيوتهم ملتجئين إليها من صبارة البرد، وكانت الثلوج في تلك السنة كثيرة والبرد قارصًا، ومما يذكر أنَّ أبا حسون الزرزور وزوجته وأولاده الستة قُتلوا تحت أنقاض بيت هدم عليهم فلم يسلم منهم أحد.
ولما رمم المطران متوديوس صليبا الأرثوذكسي كنيسة القديس نيقولاوس عقدًا (قبوًا) على جدرانها القديمة هدمت، ثم أعاد تجديدها وتوسيعها بعد بضع سنوات بمساعدات روسية وإحسانات سكان الإسكندرية التي ذهب إليها بنفسه وجمعها منها.
وكان نابليون الثالث ملك فرنسة قد فاوض السلطان عبد المجيد العثماني بشأن القتلى من الرهبان اليسوعيين في دير زحلة كما مرَّ، فأمر السلطان فؤاد باشا أن يعطيهم تعويضات، فسلمهم أرض تعنايل وكساره في جوار زحلة، وكانت أكثر أرضها مستنقعات؛ فبنوا ميتم تعنايل ونقلوا إليه الأيتام من المعلقة، وأصبحت تلك الأرض بعنايتهم جنات خصيبة. ومن أهم مستنبتاتها الجفنة الأفرنجية التي يباع معظم خمرها في ألمانية وغيرها والفواكه البديعة، وفي هذا الميتم الآن نحو خمسين يتعلمون اللغتين العربية والفرنسية ويمارسون الأعمال اليدوية من صناعة وزراعة.
وكانت الدار الأسقفية الكاثوليكية قد احترقت وفقدت كنيستها جمالها وزينتها، التي كان معظمها قد أُحضر من النمسة بسعي الخوري فيلبس نمير والخوري موسى مقحط اللذين ذكرنا سفرهما إليها، فرممت. ويوم الثلاثاء في ٢٩ نيسان سنة ١٨٦١ وصلت صورة سيدة النجاة من النمسة عوض التي احترقت. ويوم الأربعاء في ٣١ تموز سنة ١٨٦١ نقل المطران باسيليوس من دير النبي إلياس الطوق، حيث كان مقيمًا مدة الترميم إلى داره الجديدة. وكان قد أصدر منشورًا بتاريخ الخميس في ٢٧ أيلول سنة ١٨٦٠ إلى رعيته ليؤرخوا بالحساب الغريغوري (الغربي) فشاع منذ ذلك الحين عند جميع الروم الكاثوليك. وهكذا عادت زحلة في أثناء سنة إلى سابق رونقها مستعيدة حركتها التجارية شيئًا فشيئًا.
ويوم الجمعة في ٣١ أيار سنة ١٨٦١ ترك العسكر الفرنسي زحلة قاصدًا بيروت ومنها عاد إلى بلاده.
وفي ١٧ تشرين الثاني سنة ١٨٦٠ كان فؤاد باشا قد نصَّب يوسف بك كرم قائم مقام النصارى عوض الأمير بشير أحمد إلى غير ذلك.
وهذه خلاصة ما كان من أعقاب حادثة الستين المشئومة لا أعاد الله مثلها على هذه الأمة العثمانية المختلفة العناصر والمذاهب المحتاجة إلى جمع الكلمة والاتحاد، وفي الاتحاد قوة على حد قول الشاعر: